التأصيل المعاصر للتفسير الإشاري
قراءة وصفية نقدية
تأصيلات الدكتور مساعد الطيار نموذجًا
يُعَدّ التفسير الإشاري أحد المسالك ذات الشهرة والتمايز في مدونة التفسير، فهذا المسلك مثّل طريقة متفردة لها نَسَقٌ خاص وسِمات اشتغال مفارقة لما عليه مدار الاشتغال في كتب التفاسير، وهذا يرجع بصورة عامة لقيام هذا المسلك على طريقة مباينة لما هو مطروق في التفاسير من الاهتمام ببيان المعنى المراد من النص، حيث ينحو لذكر إشارات لا تكون هي المراد أصالةً من النص؛ ومن ثم مثّل قبول هذا المسلك والحصاد المترتب عليه بؤرة جدل بين العلماء وتفاوتت أنظارهم حوله وحول طبيعة الشروط المنهجية الضابطة له، وبرغم هذه الطبيعة الجدلية حول المسار الإشاري إلّا أنّ الناظر يلحظ قلة التأصيل المتعلق بهذا المسار بصورة عامة وأننا نفتقد وجود درس تقعيدي موسَّع حوله ينهض بالكشف عن مرتكزاته وبناه ويبين الموقف منه على نحو مدقق، وغاية ما لدينا في هذا الباب هو تأصيلات متفرقة لآحاد العلماء كالغزالي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم.
وفي ضوء ذلك اهتمت بعض الكتابات المعاصرة بمحاولة سدّ هذه الثغرة، وطرح تنظيرات وتأصيلات ضابطة لمسلك التفسير الإشاري، كما نجده في بعض الكتابات في علوم القرآن، ككتاب (مناهل العرفان) للزُّرقاني، وكذا بعض الكتابات المعتنية بالتفسير ومناهج المفسرين ككتاب (التفسير والمفسرون) للذهبي، وغير ذلك.
ونظرًا لأهمية التفسير الإشاري وكثرة الممارسات التي تصدر عنه في واقعنا المعاصر والتي يثور حول الموقف منها جدلٌ كبير؛ فمن المهمّ دَرْسُ التأصيل النظري المعاصر لبيان مدى إمكان الاعتماد عليه كتأصيل ضابط لهذه الممارسة التي لطالما أثارت إشكالًا -ولا تزال- ويحتاجها واقعنا البحثي المعاصر لضبط طرائق النظر إليها بصورة معيارية منضبطة.
وقد آثرنا تقييد الدرس للتأصيل المعاصر لمسلك التفسير الإشاري بطرح الدكتور مساعد الطيار، كونه من المعاصرين البارزين الذين اعتَنَوا بمسألة التفسير الإشاري والكلام عليها، فهو وإن لم يفرد لها تأصيلًا خاصًّا إلّا أنه عقد لها مبحثًا في كتابه: (مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسِّر)[1]، بعنوان: (مسألة في التفسير الإشاري وفوائد الآيات)، كما أفرد لها مقالًا مطوّلًا بعنوان: (الاستفادة من التفسير الإشاري في تدبر القرآن)[2]، فضلًا عن شهرة عناية الدكتور مساعد بأصول التفسير بصورة عامة، وتميُّز طرحه بالتحرير والتقعيد وذيوع تأصيلاته بين الدارسين وكثرة عنايتهم بها، ما يجعل من تقويم طرحه في التأصيل للتفسير الإشاري عملًا مهمًّا في تبين الأطروحات المعاصرة في ذلكم الصدد والموقف منها.
وسيأتي كلامنا مقسومًا لقسمين؛ أحدهما نبين فيه معالم طرح الدكتور مساعد للتفسير الإشاري ومرتكزات تأصيله لهذا المسلك، والآخر لتقويم هذا التأصيل.
وفيما يأتي بيان ذلك:
القسم الأول: تأصيل الدكتور مساعد للتفسير الإشاري؛ عرض وبيان:
يعتبر التفسير الإشاري من المسالك المشكلة في مدونة التفسير بصورة عامة، بل إنه ربما من أكثرها إشكالًا، وهو الأمر الذي يقرره الدكتور مساعد بقوله: «التفسير الإشاري يمثّل جانبًا مشكِلًا في علم التفسير»[3]، وهذا يرجع -كما قلنا- لقيامه على طريقة مخالفة للمعهود في كتب التفسير؛ ومن ثم مثّل مفهومه وشروط قبوله بؤرة جدل بين العلماء.
ويرى الدكتور الطيار أن مصطلح التفسير الإشاري يحظى بواقع تنظيري خامل ذي فراغ كبير لا ينوء بحمل هذه المدونة الواسعة، وأنه باب من العلم لم يلقَ البناء التنظيري اللائق به، وهو ما عبّر عنه بقوله: «هناك بعض المصطلحات العلمية صارت تحمل ظِلالًا خاصَّة، سرعان ما ينقدح في الذهن الجانب السلبي لاستخدام هذا المصطلح، ومن هذه المصطلحات التي يقع فيها ذلك مصطلح (التفسير الإشاري)، والتفسير الإشاري لم يلقَ -حسب علمي- دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال كتب التفسير المعتادة، وكتب التفسير الإشاري»[4].
ومن خلال نظرنا في تأصيل الدكتور مساعد لهذا المسلك فإنه يمكن لنا أن نرتب هذا التأصيل في جملة محاور:
أولًا: موقع المسار الإشاري من مصطلح التفسير:
إنّ لمصطلح التفسير عند الطيار خصوصية معيّنة، قد لا تكون موجودة عند عدد من المنظِّرين لهذا المصطلح، فقد رجّح الدكتور مساعد الطيار أن التفسير مقصور على: «بيان معاني القرآن»[5]، وبالتالي يرى د/ الطيار أن كل ما كان خارجًا عن حد بيان المعنى فهو خارج عن حد التفسير، ومن هنا يرى أن المسار الإشاري خارج عن حد التفسير، ويصرح بذلك بقوله: «وهو في حقيقته خارج عن حدّ التفسير؛ لأنه يأتي بعد بيان الآية أو بعد معرفة ظاهرها»[6].
ويزيد الدكتور الأمر بيانًا في التفريق بين التفسير والإشارة بقوله:
«لا بدَّ من الإشارة إلى أمر مهم في هذا الجانب، وهو بيان الفرق بين التفسير وهذه الإشارات وغيرها من الاستنباطات، فأقول:
أولًا: إن من ضوابط التفسير المهمة (بيان المعنى)، فإذا بانَ المعنى، وتمَّ، فقد انتهى التفسير، وما وراء ذلك فإنه -في الغالب- لا يخرج أن يكون من علوم القرآن التي ترتبط بالآية، أو من الاستنباطات بأنواعها المتعددة.
ثانيًا: إن التفسير يتعلق بظاهر النصِّ، وما خرج عن ظاهره فهو من باب الاستنباط، سواء أكان اعتبارًا أو إشارةً أو قياسًا أو مفهوم مخالفة أو غير ذلك.
ثالثًا: وإن من ضوابط التفسير أيضًا تناسقه مع السياق، وكل معنى صحيح أُلحِق بالآية وهو لا ينتظم مع سياق الآية وله وجه ارتباط بها، فإنه لا يدخل في باب التفسير، وإنما يكون من باب الاستنباط».[7]
ويقول أيضًا في زيادة التجلية لذلك:
«وسأضرب لك مثلَين يُبِينَانِ عن ذلك [يقصد أنّ الإشارة استنباط وأنها خارجة عن حد التفسير]:
المثل الأول: روى الطبري بسنده عن أَبي أُمامة في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]، قال: «هم الخوارج».
وسياق الآية -كما لا يخفى- في اليهود، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[الصف: 5].
والملاحظ أن في فعلِ أبي أمامة أمرين:
الأول: أنه انتزع جزءًا من الآية.
الثاني: أنه حمل هذا الجزء الذي في سياق اليهود على الخوارج.
ولو أردت أن تَسبك المعنى على تفسير أبي أمامة؛ لظهر لك اختلال النظم مع المعنى، فالمعنى -لو كان كلام أبي أمامة تفسيرًا-: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لِم تؤذونني وأنتم تعلمون أني مرسَل إليكم من الله، فلما زاغ الخوارج أزاغ الله قلوبهم...).
ولا يخفى عليك هذا الخلل؛ لو كان أبو أمامة يقصد التفسير (بيان المعنى الظاهر من السياق)، لكنه أراد أن ينبهك إلى أنّ الخوارج شابهوا اليهود في هذه الحيثية، وهي أنهم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وليس مراده أنّ المَعْنِيَّ الأول بهذه الجملة هم الخوارج، وعلى هذا لا يحسن أن تَعُدَّ كلام أبي أمامة من التفسير، بل هو من باب القياس الذي يأتي بعد بيان المعنى الظاهر في السياق.
المثل الثاني: في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين: 15]، فقد ورد عن الإمام الشافعي وغيره: «لمّا حجب هؤلاء في حال السخط، دلَّ على أن قومًا يرونه حال الرضى»، وهذه الآية في عِداد الآيات التي يستدلّ بها أهل السُّنة على رؤية الباري في الجنة، لا حرمني الله وإياكم هذا الفضل العظيم.
وإذا تأمّلت سياق الآيات وجدته في الكفار حيث قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[المطففين: 10-17]، وظاهر معنى الآية في سياقها أن الكفار ممنوعون من رؤية ربهم، وهذا تمام المعنى، فلو فسَّر مفسِّر هذه الآية بهذا القدر لَمَا قصَّر في التفسير، أمّا ما ورد من بيان (مفهوم المخالفة)، وهو الاستدلال بمنع قومٍ على الكشف لقوم، فهذا من باب الاستنباط، وليس من باب التفسير.
ودليل ذلك ما أشرت لك به من أن مفسِّرًا لو لم ينتبه إلى هذا المعنى الدقيق لما كان مقصِّرًا في بيان المعنى من جهة التفسير.
وقد يرِد سؤال عند بعض الناس، ومفاده: ألَا يصح أن نقول: لما أخبر أنّ الكفار يَصْلَون الجحيم دلَّ على أن المؤمنين يدخلون الجنة؟
فالجواب: بلى، لكن هذا المعنى لم يخالف فيه أحد فيلزم التنبيه على دقائق الاستدلال لِمَا وقع فيه الخلاف؛ مثل مسألة الرؤية التي خالف فيها المعتزلة ومَن أخذ بقولهم، والفرق بين الاستدلالين ظاهر»[8].
ومن هنا يظهر بجلاء أن ضم الإشارة إلى التفسير يعتبر تركيبًا مشكلًا عند د/ الطيار، وأن الإشارة ليست تفسيرًا، وإنما هي استنباط، وهو ما يقرره بقوله: «وتعود كثير من التفاسير الإشارية إلى الاستنباط، ومن ثمّ فإنّ حكمها حكم ما سبق من الاستنباطات»[9].
ثانيًا: شروط قبول الإشارات:
إن البحث عن شروط للتفسير الإشاري هو أمر غرضه تقنين هذا الباب، وضبطه -قدر الإمكان-، ومن ثم فهو من الأهمية بمكان.
وللدكتور مساعد صياغة -مستفادة من كلام ابن تيمية[10]- لأمرٍ متعلق بحكْم الاستنباطات والذي أدرج فيه المسلك الإشاري، سمّاها الدكتور الطيار القانون الكلي لصحة الاستنباط من عدمه، فيقول:
«الاستنباطات والفوائد وغيرها مما يربط بنص الآية، من القول بالرأي، فإن كان الاستنباط عن علم، فهو من الرأي المحمود الذي دلّت النصوص على جوازه. وإن كان الاستنباط عن جهل، أو دخل فيه الهوى فحصل فيه تحريف، فإنه من الرأي المذموم، وهذا النوع من الرأي حرام، وهو داخل تحت قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، وغيرها من النصوص الواردة في ذمّ الرأي الذي لا دليل عليه، والله أعلم.
ثم إذا أردنا أن نصوغ قانونًا كليًّا لصحة الاستنباط من عدمه نقول: نحن أمام نصٍّ مفسَّرٍ إمّا تفسيرًا صحيحًا وإمّا تفسيرًا خطأً، ونص ظاهر، ومعلومة مرتبطة بأحدهما.
وربط أيّ معلومة من المعلومات والزعم أن القرآن دلّ عليها، لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: أن تكون المعلومة بذاتها فاسدة باطلة تخالف ما جاءت به الشريعة، وحكم هذه المعلومة واضح، فهي باطلة بذاتها، وربطها بآيات القرآن خطأ بلا إشكال. وقد يكون ربطها بنص ظاهر، أو بتفسير صحيح، أو بتفسير غير صحيح.
الحال الثانية: أن تكون المعلومة بذاتها صحيحة ولا تخالف الشريعة، بل هي مما دلّت عليه الشريعة، وهذه على قسمين:
الأول: أن يكون ربطها بالآية صحيحًا؛ أي: أنّ الآية دلّت عليها دلالة واضحة لا يخالف فيها مخالف.
وقد يكون الربط هنا بنص ظاهر، أو بتفسير صحيح.
الثاني: أن تكون المعلومة صحيحة بذاتها، لكن ربطها بالآية خطأ؛ لأن الآية لا تدل عليها بحال.
فالمعلومة لو حكيت بدون ربطها بالآية لكانت صحيحة لا يخالف في صحتها؛ لكن الذي يُخالف فيه هو كون الآية دلّت عليها.
وقد يكون الربط هنا بنص ظاهر، أو بتفسير صحيح»[11].
ونحن نرى هاهنا أن الدكتور يطابق بين أحكام الإشارة وأحكام الاستنباط مطابقة تامة، بحيث كل ما يقال في الاستنباط يقال في الإشارة من حيث الحكم.
وفيما يتعلق بشروط قبول الإشارات فقد ارتكز الدكتور مساعد على ما ذكره بعض العلماء لا سيما ابن القيم والشاطبي، حيث يقول: «لقد ذكر بعض العلماء ضوابط للتفسير الإشاري؛ منهم ابن القيم (ت: 751)، والشاطبي (ت: 790)، وها أنذا أسوق كلامهما:
قال ابن القيم في تفسير قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}[العاديات: 2]: ...وأضعف منه قول عكرمة: هي الألسنة توري نار العداوة بعظيم ما نتكلم به. وأضعف منه ما ذكر عنه مجاهد: هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة في الحرب.
وهذه الأقوال إنْ أُريد أنّ اللفظ دلّ عليها وأنها هي المراد فغلط، وإن أريد أنها أُخِذَت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب.
وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول:
- تفسير على اللفظ، وهو الذي ينحو إليه المتأخرون.
- وتفسير على المعنى، وهو الذي يذكره السلف.
- وتفسير على الإشارة والقياس، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم.
وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:
- أن لا يناقض معنى الآية.
- وأن يكون معنًى صحيحًا في نفسه.
- وأن يكون في اللفظ إشعار به.
- وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة؛ كان استنباطًا حسنًا»[12].
ثم انتقل للنقل عن الشاطبي بقوله:
«قال الشاطبي: فصل: وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضًا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يُشترط فيه شرطان:
أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية.
والثاني: أن يكون له شاهد نصًّا أو ظاهرًا في محلٍّ آخر يشهد لصحته من غير معارض.
- فأمّا الأول فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيًّا، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيًّا بإطلاق، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلًا؛ إذ ليست نسبته إليه على أنّ مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما، فإثبات أحدهما تحكُّمٌ وتقوُّل على القرآن ظاهرٌ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم مَن قال في كتاب الله بغير علم، والأدلة المذكورة في أنّ القرآن عربيّ جارية هنا.
- وأمّا الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محلّ آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوَى التي تُدَّعى على القرآن، والدعوَى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما موفران فيه. بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر»[13].
ثم ينقل عن الشاطبي شرطًا آخر بقوله: «وقد أشار إلى ضابط آخر عند تعليقه على كلام سهل بن عبد الله في قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}[البقرة: 22]، ويمكن أن يقال: أن لا تُعتبر هذه الإشارات من باب التفسير:
قال: «...وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد، حتى لو فصَّل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أندادًا لا صنمًا ولا شيطانًا ولا النّفْس ولا كذا، وهذا مشكِل الظاهر جدًّا؛ إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانوا يعبدون، ولم يكونوا يعبدون أنفسَهم ولا يتخذونها أربابًا، ولكن له وجهٌ جارٍ على الصحة، وذلك أنه لم يقل إنّ هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو نِدٌّ في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين...»[14].
ولم يعقِّب الدكتور إلا بقوله: «وهذان النقلان يحتاجان إلى تحرير في دمج هذه الضوابط، والنظر في إمكانية إضافة ضوابط أخرى يحتاجها الناظر في كتب التفسير الإشاري، وإنما نقلتها بطولها لكي تطّلع على كلام بعض العلماء وتنظر فيه؛ لتعرف مدى اجتهادهم في ضبط مثل هذه الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم»[15].
وفي ضوء ما سبق يمكننا القول أنّ حاصل الشروط والضوابط المتعلقة بالتفسير الإشاري في نظر الدكتور مساعد يمكن إجمالها فيما يأتي:
- أن لا يناقض معنى الآية بحيث لا يكون خطأً في نفسه.
- وأن يكون في اللفظ إشعار به.
- وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
- وأن يشهد له الشرع بحيث يكون معتبرًا شرعًا.
ثالثًا: الموقف العام من جواز المسلك الإشاري:
اعتنى الدكتور مساعد بالاستدلال لهذا المسار من حال السلف، وأن هذا المسار كان مسلكًا مطروقًا عندهم معروفًا، وقد قدّم لهذا الاستدلال بمقدمة -رآها مهمة- بقوله: من الأمور المستحسنة في العلوم؛ معرفة (المبادئ) من جهتين:
الأولى: الاستخدام التطبيقي للأفكار.
الثانية: ظهور المصطلح بخصوصيته المتعلقة بتلك التطبيقات.
وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات[16].
ويعني بذلك أنه ربما كان الأمر معروفًا عند الصحابة والسلف ولم يسموه بهذا المصطلح الذي اعتمده المتأخرون، ثم يكمل بقوله: ومن أشهر الأمثلة التطبيقة عند السلف؛ ما ورَد من تفسير عمر وابن عباس لسورة النصر، فقد أورَد البخاري بسنده عن ابن عباس قال: «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخِل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم.
قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيتُه دعاني يومئذ إلّا ليريهم منّي، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر: 1، 2]؟ حتى ختم السورة.
فقال بعضهم: أُمِرْنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نُصِرنا وفُتِح علينا.
وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئًا.
فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك قولك؟ قلت: لا.
قال: فما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه الله له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؛ فتح مكة، فذاك علامة أجَلِك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم»[17].
وقد عقّب الدكتور الطيار بقوله: «وهذا المثال من جنس ما نحن فيه، فظاهر الآيات على حسب ما فهم بعض البدريِّين الذين سألهم عمر، ولكن في الآيات إشارة واضحة إلى أمرٍ آخر، وهو التنبيه على قُرب أَجَلِ نبينا محمد.
ويظهر أنّ عمر وابن عباس أَخَذَا ذلك من النظر في عموم الشريعة، حيث يرِد الأمر بالاستغفار في نهايات الأعمال، ولمّا طُلِب من النبي أن يستغفر؛ أشعرَ ذلك بانتهاءِ عمله (وهو مهمة النبوة)، وقُربِ أجَلهِ»[18].
رابعًا: أنواع الإشارة عند الدكتور الطيار:
يتابع الدكتورُ الطيار ابنَ تيمية في تقسيمه للإشارات، فيقول: «مما يحسن التنبه له أنه ليس كل ما نُسِب إلى التفسير الإشاري فإنه باطل محض، بل الإشارات والاعتبارات مثل القياس في الفقه؛ منه ما هو صحيح، ومنه ما هو خطأ، ومنه ما هو باطل. وقد أشار إلى ذلك عدد من العلماء منهم ابن تيمية، ففي معرض ردّه على بعض التفسيرات الخاطئة لاسم الله النور من قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النور: 35]؛ قال: الثاني: أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأوّلوا ذلك بالهادي، وضعَّف ذلك، ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نوَّر قلوب الصادقين بتوحيده، وأسرار المحبين بتأييده، وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته.
وهذا هو معنى الهادي الذي ضعّفه أولًا؛ فيضعفه أولًا، ويجعله من كلام العارفين! وهي كلمة لها صولة في القلوب، وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق، فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في حقائق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد، وبعضها مكذوب على قائله مفترى؛ كالمنقول عن جعفر وغيره، وبعضها من المنقول الباطل المردود.
فإن إشارات المشايخ الصوفية، التي يشيرون بها تنقسم إلى إشارة حالية، وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به، وليس هذا موضعه.
وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال؛ مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه، فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص، مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام، لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك:
- فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح؛ كانت حسنة مقبولة.
- وإن كانت كالقياس الضعيف؛ كان لها حكمه.
- وإن كان تحريفًا للكلام على غير تأويله؛ كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية، فتدبر هذا، فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات»[19].
وفي ضوء ما سبق يمكننا القول أنّ أنواع الإشارة في نظر الدكتور مساعد يمكن إجمالها فيما يأتي:
- إشارات صحيحة مقبولة لا تخالف الشريعة.
- إشارات باطلة مردودة لكونها تخالف الشريعةَ وظاهرَها.
ويرفض الدكتور الطيار أن تجعل كل الإشارات في بوتقة واحدة، وأن يحكم عليها بالردّ والبطلان، بل يرى أنه ينبغي أن يميز بين سقيمها وصحيحها؛ ليقبل ما شأنه القبول، ويرفض ما حقّه الرفض والردّ.
وبذلك نكون قد أنهينا تسليط الضوء على مرتكزات التأصيل الذي طرحه د/ الطيار للمسلك الإشاري، لندلف إلى تقويم هذا التأصيل، وفيما يأتي بيان ذلك.
القسم الثاني: تأصيل الدكتور مساعد الطيار للإشارة؛ نقد وتقويم:
يظهر من خلال ما مرّ أنه يمكننا القول بأن تأصيل الدكتور مساعد بصورة عامة يقوم في كثير من جوانبه على اختيارات معيّـنة ارتضاها د/ الطيار من كلام السابقين في المسألة، وأنه ليس نابعًا من استقراءات موسعة لكتب التفسير الإشاري قام بها الدكتور الطيار، وهو أمر ربما يأتي على خلاف المتوقع في ضوء وجود مدونة تطبيقية واسعة للتفسير الإشاري، سيكون العدول عن دراستها واختيار تقريرات معينة إزاءها مصدر إشكال بلا شك يجعل التأصيل غير ناهض في ضبط النظر للواقع التطبيقي وغير معبر عن تنوعاته وأطيافه، ومِن ثمّ لا يعدم المتأمل له في ضوء الواقع التطبيقي مِن لحظِ إشكالات وتباينات يظهر معها هذا التأصيل عاجزًا عن التعبير عن الواقع التطبيقي واستيعابه.
ومن خلال نظرنا في طرح الدكتور مساعد بَدَا لنا جملة مآخذ؛ أبرزها ما يأتي:
أولًا: عدم وضوح ماهية الإشارة عند الدكتور الطيار:
بالرغم من مركزية هذه النقطة وأهمية تحديدها في أيّ محاولة تأصيلية للمسلك الإشاري، إلا أن مما يلاحظ على طرح الدكتور الطيار هو عدم وضوح ماهية الإشارة على نحو دقيق، ومما يبرز ذلك ما يأتي:
أ- عدم وضوح العلاقة بين الإشارة والقياس والاستنباط؛ تمايزًا وتداخلًا:
مرّ معنا أن الدكتور مساعد استَلْهَم طرفًا من شروط التفسير الإشاري من ابن القيم، وأنه تابَع ابن القيم في اعتبار الإشارة من قَبِيل الاستنباط، إلّا أنه -وفي ذات الوقت- تابَع ابن تيمية في اعتبار الإشارة من باب القياس.
ولم يحرِّر لنا الدكتور الطيار بأيّ وجهٍ ألحقَ القياس بالإشارة، وما العلاقة بين الاستنباط والقياس بحيث ما يلحق قياسًا يلحق استنباطًا، لكن الدكتور الطيار لم يُولِ هذه المواضع القلقة نظرًا ولا اهتمامًا، مما يجعل الأمر قَلِقًا مضطرِبًا، لا سيما وأنه قد عدّد مسالك الاستنباط في كتابه (مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر) ولم يذكر منها القياس، فلأيّ غرضٍ وافَق كلامَ ابن تيمية ونقَلَه مُقِرًّا؟
كلها سؤالات حائرة ما تزال بحاجة إلى جواب شافٍ.
ب- عدم حصول التمايز بين ماهية المفهوم وماهية الإشارة:
إنّ إلحاق الدكتور مساعد الإشارة بالاستنباط هو إلحاق جزء بكلّ، وشكل خاص بشيء واسع، فليس كل ما هو استنباط يكون إشارة، بل الدكتور مساعد نفسه جعل من الاستنباط أقسامًا:
أولًا: الاستنباط من النص الظاهر الذي لا يحتاج إلى تفسير.
ثانيًا: الاستنباط من نص غير ظاهر يحتاج إلى تفسير.
ثالثًا: الاستنباط من ربط آيتين ببعضهما.
رابعًا: الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة.
فهو نفسه يشهد بأنّ الاستنباط فيه أمور مختلفة متباينة، فأيها هو الإشارة بوضوح؟ وهنا يظهر لك أنه لم يحصل عند الدكتور الطيار اشتغال بمحاولة تحرير ماهية الإشارة وَمَيْزِهَا عن سائر ما يدخل في الاستنباط[20].
ثانيًا: إشكالية الشروط عند الدكتور مساعد:
إنّ مَن يطالع تأصيل الدكتور الطيار لمحور شروط الإشارة يتبين سريعًا عدّة إشكالات أهمها:
أ- إقامة الدكتور الطيار للشروط مقام التعريف وتحديد الماهية:
يظهر لنا من خلال هذه الجولة مع الدكتور الطيار أنه يشتغل بتحرير هذا المصطلح لا من ناحية اللغة ولا من ناحية الاصطلاح، ولا وجه ارتباط هذه الدلالة لكلمة الإشارة بما ألحقها به من القياس أو الاستنباط، ووجه الإلحاقات بين هذه التداخلات المصطلحية ونحوها من الخطوات اللازمة في تحرير المفهوم وملحقاته وما يدخل فيه وما يخرج عنه، كأنه رأى أنّ الشروط التي وضعها العلماء كافية في تمييز الإشارة عن غيرها مما يشتبه بها، وهذا موطن غلط لدى كثير من الباحثين، وهو أنهم يظنون أنه بهذه الشروط يتبين الإشارة من غيرها، وهذا ليس بصحيح؛ فهذه شروط قبول لما يمكن أن يكون إشارة أو غيرها، أمّا دخوله في الإشارة فلا بد أن يدخل في حدها، وقد أشار إلى ذلك الزُّرقاني بقوله: (ثم إن هذه شروط لقبوله؛ بمعنى عدم رفضه فحسب، وليست شروطًا لوجوب اتّباعه والأخذ به)[21].
فاستغناء الدكتور الطيار بالشروط عن مسار منهجي مطول من التحليل اللغوي للمصطلح، ودلالته، ومفاهيم العلماء له، ومدى تطوره عندهم، واختلافهم واتفاقهم =يترك فراغًا كبيرًا في ساحة تأصيل د/ الطيار لهذا المسار.
ثالثًا: إشكالية الاستدلال للمسار الإشاري عند الطيار:
استدل الدكتور الطيار لهذا المسار من واقع الصحابة بحديث ابن عباس عند البخاري وقوله في سورة النصر، ونقل في ذلك كلام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: «وفيه جواز تأويل القرآن بما يُفْهَم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك مَن رسَخَت قَدَمُه في العلم، ولهذا قال عليّ -رضي الله تعالى عنه-: أو فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رجلًا في القرآن».
ونرى أن هذا الأمر مشكِل غاية الإشكال، إذ لا نسلِّم بأن هذا من قبيل الإشارة، بل ابن عباس يقرر المعنى الذي أراده الله تعالى من إنزال السورة، وهو الذي فهمه النبي وكبار الصحابة كعمر وأبي بكر، وما هو إلا توغل في بيئة النص بحيث يقع على المعنى المراد بمعايشة سياق النص وسياق بيئته زمانًا ومكانًا، فهذا هو المعنى المراد من السورة.
ولنتأمل صنيع شيخ المفسرين ابن جرير الطبري مع هذه الرواية في سورة النصر، مع التنبه لمنهج هذا الإمام في تحرير المعنى، والقصد إلى المعاني المرادة، وتحرير قول أهل التأويل، حيث لم نجده في هذا الموضع قد استغرب هذا القول، ولا أخرجه عن دائرة المعاني المرادة، ولا نسبه إلى شيء يباين المعنى المراد الذي هو يحرره، بل نرى ابن جرير الطبري يدخله في صميم المعنى المراد، فيقول: فسبِّح ربَّك وعظِّمْه بحمده وشكره، على ما أنجز لك مِن وَعْدِه، فإنك حينئذ لاحقٌ به، وذائقٌ ما ذاق مَنْ قَبلك مِن رُسله من الموت[22]، ثم قال: «وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل»، وأورد الآثار ومنها أثر ابن عباس وغيره مما يقرر ذات المعنى.
فانظر كيف أن الطبري يرى أن دلالة سورة النصر على قُربِ أجَلِ النبي هو قول أهل التأويل الذين يحررون صميم المعنى وصُلبه والمراد من الآيات، فلم يجعلوه شيئًا زائدًا على المعنى، ولا من اللطائف والاستنباطات، التي كانوا يقلُّون منها أصلًا.
إن اعتبار قول ابن عباس هو معنى إشاري فيه دلالة على لبس في تصور المعنى التفسيري، وهو لبس يعين عليه أنّ هذا المعنى معنى سياقيّ بامتياز، وهو النمط الذي قلّت العناية به؛ إذ شاع البيان اللغوي في مدونة التفسير وهيمن عليها كما ذكر بعض الكُتّاب[23]، ومن ثم صار المعنى السياقي أحيانًا يبدو كما لو كان خارجًا عن المراد وحدود البيان اللغوي، وهو غير صحيح.
ومما يلاحظ أن د/ الطيار غفل عن إشكالات مهمة في كلام ابن حجر، كقول ابن حجر «تأويل القرآن»، «بما يفهم من الإشارات»، فهل حرر الشيخ مفهوم التأويل الذي يعنيه ابن حجر؟ وهل حرر العلاقة بين التأويل والإشارة عند ابن حجر؟ وهل الدكتور الطيار يقول بأن الإشارة من باب التأويل؟
لقد أورد الدكتور الطيار كلام ابن حجر بلا كبير تدقيق، وهو إشكال عام في طرح د/ مساعد للتفسير الإشاري كما سنبين في النقطة الآتية.
رابعًا: المظاهر الإشكالية العامة لتأصيل الدكتور الطيار للمسلك الإشاري:
إن المتأمل لهيكل البناء التأصيلي للإشارة عند الدكتور الطيار لا يفوته عدد من الملاحظات العامة المركزية في هذا التأصيل، من أهمها:
أ- حالة الاجترار الغالبة على تقريراته ونقص التحرير:
وإن هذا الملحظ لا تكاد تخطئه عين باصرة -وهو مستغرب في ضوء طرح الدكتور مساعد والذي يقوم على التحرير والتأصيل-، فهو في كل محور ينزع إلى نقل مطول عن ابن القيم أو الشاطبي أو ابن تيمية لا يخرج عن ثلاثتهم إلا فيما استدل به للمسار الإشاري فنقل عن الحافظ، إنني إذ أستنكِرُ هذه الحالة من الاجترار في طرح الدكتور مساعد فإنما أنتقِدُها لسببين:
الأول: عدد من الإشكالات في هذه النقولات لم يفطن لها الدكتور ولم يعقّب عليها.
الثاني: عدم زيادة الدكتور على ما قالوا، لا سيما وأن الإشكال لم يحلّ مع هذه التقريرات، وما زال المأزق قائمًا، وما زلنا لم نحدد ماهية الإشارة بصورة مُرضية.
وتأمل كيف قال الدكتور بعد أن نقَل نقلًا حرفيًّا عن ابن القيم والشاطبي: «وهذان النقلان يحتاجان إلى تحرير في دمج هذه الضوابط، والنظر في إمكانية إضافة ضوابط أخرى يحتاجها الناظر في كتب التفسير الإشاري، وإنما نقلتُها بطولها لكي تطّلع على كلام بعض العلماء وتنظر فيه؛ لتعرف مدى اجتهادهم في ضبط مثل هذه الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم»[24].
وهذا مبين لما ذكرنا من أنه على الرغم من عناية الدكتور الطيار بالاعتماد في تأصيله على كلام ابن القيم والشاطبي كما مر فيما مضى، إلا أنّ نقله لتأصيلهما كان نقلًا حرفيًّا دون العناية بتحرير الأمر وفكّ مساحات الاشتباك وإبراز محالّ النزاع.
إن تقريرات الدكتور الطيار واختياراته التأصيلية في المسار الإشاري غلب عليها الاجترار والنقل عن السابقين بدون تحرير، خاصة وأنّ تأصيلات السابقين لم يتوفر على تحريرها وتدقيقها درس مطوّل.
ب- عدم استيعاب سائر التأصيلات في المسألة:
إنّ من البدهي في التأصيل لأيّ قضية، التعرض للتأصيل السابق فيها ومساجلته وبيان الموقف منه، حتى يتعرف الناظر على الجديد الذي يقدمه التنظير الجديد المطروح، ومع بدهية هذا الأمر وجدنا الدكتور الطيار لم يذكر عددًا من التأصيلات المهمة السابقة عليه والتي أثّرت في بنية هذا المسار نظريًّا، بمعنى أن عددًا من الكتابات قد اقترحت اصطلاحات محددة -سواء أصابت أو أخطأت- لكن الواقع العلمي قَبِلَها ونقَل عنها وصارت هي المعتمَد الذي يتناقله الدارسون في التعامل مع التفسير الإشاري؛ كدراسة (التفسير والمفسرون) للشيخ الذهبي والتي أقام فيها فصلًا حافلًا للتأصيل لهذا المسار، وككتاب الزرقاني (مناهل العرفان)، وعدد من المحطات هيكلت نظريًّا لهذا المسار، فسواء قَبِلْتَ مسلكهم أو رفَضْتَه، فإن الضرورة المنهجية تحتم عليك أن تقف على رؤوس هذه المحطات وتبين موقفك مما طرحوه، أمّا عدم الاعتناء بإيراد هذا التنظير السابق ومناقشته فهو أمر مشكل، وحالَ دون ثراء الطرح عند الدكتور مساعد بلا ريب.
ج- الغياب التام لمدونة المسار الإشاري عن تأصيل الدكتور مساعد:
من الغريب أن يفتتح الدكتور الطيار كلامه بالحث على الدراسات التأصيلية والتطبيقية لهذا المسار، ثم يأتي تأصيله منعزلًا انعزالًا تامًّا عن واقع مدونة الإشارة، بل لا تكاد تصدق أن تأصيل الدكتور في كافة مناحيه، لم ينقل نصًّا واحدًا من التفاسير التي اشتهرت بمسلك الإشارة، بل لما أراد أن يثبت المفارقة بين هذه الإشارات والتفسير راح ينقل أمثلة من تفسير الطبري، والطبري نفسه لم يَقُل إنها من باب الإشارة.
إن هذه الحالة من الانعزال التام لتأصيل الدكتور مساعد عن الواقع التطبيقي يكاد يجعل طرح الدكتور مساعد بلا كثير عائد، ولا عظيم فائد، ويصعب قبوله بصورة عامة؛ لأن التنظيرات البعيدة عن الواقع التطبيقي ومعرفة حيثياته تكون دومًا محلّ ريبة ويتعذر قبولها.
وبالجملة فقد اتسم طرح الدكتور الطيار في مسار الإشارة بالاجترار وضعف التحرير، وعدم بذل الجهد فيما رأى وجوب بذل الجهد فيه، كما اتسم بإهمال ذكر المحطات التأصيلية الكبرى لهذا المسار، كما نأى الدكتور بتأصيله عن واقع المدونة الإشارية نأيًا كبيرًا، كما غابت مفاصل كبرى ومعالم منهجية لهذا المسار عن تأصيل الدكتور، فلم نلمح رؤيته لمنطلقات هذا المسار، ولا مرتكزاته، ولم نر له تعليقات على واقع المدونة الإشارية في كتبها، وهو الذي ينقص من قدر هذه المعالجة في طريق تحرير الإشارة، ويمنع اعتبارها تأصيلًا ضابطًا لهذا المسلك الإشاري أو لبنة رئيسة فيه.
خاتمة:
وبعد هذا التطواف في حقل تأصيل الدكتور الطيار لمسار التفسير الإشاري، تبين لنا عددٌ من الجوانب المضيئة والتي تُسهم في فضِّ بعض الاشتباك في هذا المسار الملغز؛ من محاولته الجادة في الفصل بين التفسير والإشارة، ومن بيان الإشكال المصطلحي في هذا المسار، كما أنه اجتهد في محاولة إلحاق هذا المسار بمشغل بياني مهم وهو الاستنباط، مما يجعل هذا مفيدًا بشكل عام في محاولة تلمُّس مبدئي لبعض ملامح هذا المسار. على أن أطروحة الدكتور لم تتجاوز هذا الحد إلى محاولة ترسُّمٍ دقيقٍ وتحديدٍ لماهية الإشارة، ولم تتجاوز عقبة التوجه التقريري لجهود السابقين في التنظير لهذا المسار، فجاءت أطروحته اجترارية إلى حد بعيد، معتمدة على سياقات نظرية قلقة، وعلى أقوال للسابقين نفتقر إلى حد بعيد لمعرفة سياقاتها وظروفها وملابساتها. كما غابت النظرة التطبيقية في طرح الدكتور الطيار، وهو أمر مشكل إلى حد بعيد يجعل هذه التقريرات والاجترارات تنظيرًا أجنبيًّا عن هذه المدونة المترامية الأطراف، كما لم يتطرق بحث الدكتور إلى عدد من المشكلات الكبرى في مسار الإشارة وأبنيته النظرية عند روّاده الأوائل، وتباين مناهجهم، وتفاوت تطبيقاتهم، وعدم محاولة الوصف النظري لهذه التطبيقات المتنوعة والمتباينة في هذا الحقل، مما يجعل الاعتمادَ على طرح الدكتور الطيار كطرح تحديدي لماهية الإشارة وتأصيلي لهذا المسار =أمرًا غير ذي بال، ويوقع في عدد من الإشكالات المحيرة نتيجة الوهن التنظيري في عدد من الإشكالات من ناحية. ومن ناحية أخرى، غياب التنظير من خلال المدونات الكبرى التطبيقية يجعل هذا التأصيل غير مجدٍ بالصورة المنشودة.
وفي هذا الإطار توصي هذه المقالة بضرورة الولوج إلى ساحة هذا المسار التطبيقية لمحاولة ترسُّم تشكُّلِها، ودوافعها، ومناهج روّادها، ومحاولة ترسّم مصطلحاتها، ومناهجها، وبيان المنطلقات الكبرى لهذه المدونة، ومحاولة تلمُّس البناء الذي قدَّمه روّاد هذا المسار، وبهذا التفحص الواسع، والتبين الدقيق للمصطلحات والمنطلقات والمسالك والمناهج في هذه المدونة يمكننا بعدها محاولة تقييم هذه الأمور في ضوء حيثية علم التفسير، ومدى ارتباط هذا المسار بمسالكه وأدواته وأغراضه بعلم التفسير، وبهذا يمكننا بناء هيكل نظري من جوف هذه المدونة الواسعة التي ما زالت بحاجة لاكتشاف حقيقي عن مبانيها ومساراتها، وعدم الاعتماد على تقريرات شكلية ذوقية تتراكم وتُجتر كلما ذكر هذا المسار المهمل، وقد لا تكون دقيقة بشكل كافٍ للتعبير عن واقع هذه المدونة، والله أعلم.
[1] مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسِّر، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط: الثانية، 1427.
[2] هذا المقال أصله مقالة كتبها الشيخ على الملتقى ثم نشرت ضمن كتابه: (مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير) طبعة مركز تفسير، الطبعة الثانية 2015، (ص2/ 198)، وعنون لهذه المقالة بعنوان: (الاستفادة من التفسير الإشاري في تدبر القرآن).
[3] مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسِّر، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط: الثانية، 1427، للدكتور مساعد الطيار، (ص176).
[4] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، (2/ 198).
[5] يراجع: مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسِّر، (ص51) وما بعدها.
[6] يراجع: مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسِّر، (ص177).
[7] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، (ص200).
[8] مقالات في علوم القرآن (2/ 200) وما بعدها، ولعلك تلاحظ في هذا المثال والذي قبله أن الشيخ لا يفرق بين الإشارة وبين التفسير بالمثال في الآية الأولي، وبين الإشارة والتأويل بمفهوم المخالفة، وهو الذي يظهر إشكالًا عند الشيخ في تحديد ماهية الإشارة كما سنبين.
[9] مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر، (ص177).
[10] أعني ما حرره ابن تيمية في كلام مطول بقوله: «فإن المعاني: تنقسم إلى حق وباطل، فالباطل لا يجوز أن يُفَسَّرَ به كلام الله. والحق إن كان هو الذي دلّ عليه القرآن فُسِّرَ به وإلا فليس كل معنى صحيح يُفَسَّرُ به اللفظ لمجرد مناسبة؛ كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ كما تفعله القرامطة والباطنية؛ إذ دلالة اللفظ على المعنى سمعية، فلا بدّ أن يكون اللفظ مستعملًا في ذلك المعنى بحيث قد دلّ على المعنى به لا يكتفى في ذلك بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى؛ إذ الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها لا يحصي عددها إلا الله. وهذا عند من يعتبر المناسبة بين اللفظ والمعنى، كقول طائفة من أهل الكلام والبيان. وأمّا عند مَن لا يعتبر المناسبة، فكل لفظ يصلح وضعه لكل معنى -لا سيما إذا علم أن اللفظ موضوع لمعنى هو مستعمل فيه- فحَمْلُه على غير ذلك لمجرد المناسبة كذبٌ على الله، ثم إنْ كان مخالفًا لما علم من الشريعة فهو دأبُ القرامطة، وإن لم يكن مخالفًا فهو حالُ كثيرٍ من جُهّال الوُعّاظ والمتصوفة الذين يقولون بإشارات لا يدل اللفظ عليها نصًّا ولا قياسًا». (مجموع الفتاوى 2/ 27).
[11] مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر، ص166 وما بعدها.
[12] التبيان في أقسام القرآن، (ص49).
[13] الموافقات، تحقيق: مشهور سلمان (4: 231-232).
[14] الموافقات، تحقيق: مشهور سلمان (4: 242-243).
[15] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، طبعة مركز تفسير، الطبعة الثانية 2015، (2/ 198).
[16] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (2/ 198).
[17] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير. والدكتور الطيار متابع في ذلك للحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري كما سنبين في المقال التالي، قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: «وفيه جواز تأويل القرآن بما يُفْهَم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك مَن رسَخَت قَدَمُه في العلم، ولهذا قال عليّ -رضي الله تعالى عنه-: أو فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رجلًا في القرآن».
[18] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (2/ 198).
[19] الفتاوى (6/ 377) ولعل سرّ إيراد الدكتور لهذا النقل المطول عن ابن تيمية هو أنه كثيرًا ما يكرر أنه تربى ونشأ على ما يُردَّد من الرفض التام للتفسير الإشاري وما يتعلق به، ويرى الدكتور أن كثيرًا من الوُعّاظ والخطباء يستعملون التفسير الإشاري وهم في الواقع يحذّرون منه، ويرى الدكتور أن ذلك راجع إلى عدم إدراكهم لحقيقة التفسير الإشاري.
[20] إن كثيرًا من الإشكالات تقع حين لا نحرر مفهوم الإشارة وماهيتها، بحيث يفرق بينها وبين غيرها من المصطلحات، ولعلنا نرصد بعض الأخطاء التي وقعت في طرح الدكتور الطيار نتيجة عدم تحديد مفهوم الإشارة؛ منها عدم تمييز الدكتور بين مفهوم المخالفة وبين الإشارة، وأيضًا الخلط بين التفسير بالتمثيل، أو ما نسميه [التأويل بالتضمن] وبين الإشارة، ويقع تداخل واسع بين هذه الأمور وتبقى الإشكالية الكبرى عند التعامل مع مدونة واسعة الأطراف مترامية الأبعاد، كيف يكون العمل بها ونحن ما زلنا في هذا الوهن التأصيلي المعاصر للمسار الإشاري.
[21] مناهل العرفان (2/ 81).
[22] تفسير الطبري =جامع البيان في تأويل القرآن، نشر: مؤسسة الرسالة، بتحقيق: أحمد محمد شاكر، الطبعة: الأولى، 1420هـ-2000م، (24/ 668).
[23] يراجع في ذلك مقالة (تفسير السلف؛ الأهمية والضرورة)، خليل محمود اليماني، مقالة منشورة على موقع تفسير تحت الرابط التالي: tafsir.net/article/5274.
[24] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (2/ 207).
مواد تهمك
- الاستفادة من التفسير الإشاري في تدبّر القرآن
- مقاربة في ضبط معاقد التفسير
- قواعد التفسير وأصوله
- تفسير السلف؛ الأهمية والضرورة: قراءة في أسباب أهمية تفسير السلف، وكيفية توظيفه في حلّ إشكالات علم التفسير
- هل يُعَدُّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟
- كتاب (قواعد الترجيح عند المفسِّرين) للدكتور/ حسين الحربي؛ قراءة نقديّة لمنطلقات القول بالقاعدية