"الإسرائيليات في تفسير الطبري" للدكتورة آمال ربيع؛ عرض وتقويم
"الإسرائيليات في تفسير الطبري" للدكتورة آمال ربيع؛ عرض وتقويم[1]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
فهذا عرض لكتاب «الإسرائيليات في تفسير الطبري؛ دراسة في اللغة والمصادر العِبرية» للدكتورة/ آمال محمد عبد الرحمن ربيع.
وقبل أن أعرض للكتاب أودّ الإشارة إلى أمور:
أولًا: ليس غرضي من عرض الكتاب التقليل من شأنه أو شأن صاحبته، فأنا أقلّ من أن أفعل ذلك، ولكن غرضي التناقش العلمي المحفوف بالأدب وعدم التعصّب، والمجرّد من العاطفة التي تدفع إلى ما لا تُحمد عُقباه، وأسأل اللهَ أن يوفقني وإياهَا وكلّ مسلم للحقّ والصواب.
ثانيًا: الإنصاف عزيز، ولك أن تطالع كتابات كثيرٍ من المعاصرين لترى فيها تسليمهم بالقسمة الثلاثيّة للإسرائيليات من موافقتها للشرع أو عدم موافقتها، أو كونها متوقَّفًا في أمرها، وتقارن هذا التسليم بما يعتري الكثيرَ من الاشمئزاز والنُّفْرة والغضب لمجرد ذكر مصطلح الإسرائيليات، وصيرورتها إلى مصطلح مرادف للأكاذيب والخرافات، وقد ساعد على هذا شدة البُغض لبني إسرائيل ولكلِّ ما يأتي منهم، ولكن قال الله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: 8].
ثالثًا: ينبغي أن تُقْصَى العاطفة في مجال البحث العلمي، وإنما يتعامل الباحث مع النصوصِ وفق أسسٍ وقواعد، وليعلم أنّ ما يكون من المسلَّمات الثوابت عنده قد لا يكون مسلَّمًا ولا ثابتًا عند غيره، وإنّ كثيرًا من الكتابات في هذا الموضوع قد غلبت عليها العاطفة.
رابعًا: إنّ علماءنا مقامهم عالٍ، والبَوْن بيننا وبينهم بعيد شاسع؛ ولذا فعَلى من يتصدى لنقدهم ألَّا يكون سطحيًّا في نقده، غير عميق في تخطئته، فليسوا بمنأى عن النقد، وليسوا بمعصومين من الخطأ، لكن ليس من الإنصاف أن نجرِّدهم من عقولهم ونتصوّر أن لنا عقولًا، أو أن نجرِّدهم من غيرتهم على دينهم، وندَّعي غيرتنا، لقد ردَّد كثيرٌ من الباحثين أنّ الطبري ينكر القراءات المتواترة، ونصبوا أنفسهم في موقف الدفاع عن القراءات أمام المفترِي عليها، وكلّ هذا من السذاجة والتسرّع وقلَّة الوعي بمناهج الأئمة. وقِس على ذلك، فليس من الصواب أن نتعقّب سيبويه بكونه لا يعرف أنّ الفاعلَ مرفوعٌ، ولا أن نتعقّب البخاري بكونه لا يعرف الحديث الموضوع، ولا أن نتعقب حسَّان بأنه لا يعرف أوزان الشّعر، ونحو ذلك من ردود سطحية نُرضِي أنفسنا بها عند عجزنا عن حلّ مشكلة من المشكلات.
وأما الكتاب الذي أعرض له في هذا المقال فهو في الأصل رسالة دكتوراه، وقد أشرف على طباعتها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، وقد بذلت صاحبتها جهدًا كبيرًا، أسأل الله أن يجزيها عنه خيرًا.
قدَّم للكتاب الدكتور عبد الصبور مرزوق، ثم تلا ذلك ذكر الدكتورة الفاضلة لخطة العمل ومنهج الدراسة، وذَكَرَتْ أن منهج الدراسة يختلف عمّا سبقه من وجوه عديدة، أهمها:
أولًا: تعتمد هذه الدراسة على استقراءٍ كاملٍ لتفسير الطبري دون الاعتماد على مواضع بعينها مما اشتهر بورود الإسرائيليات فيه، دون تقرير ما أشير إليه من روايات إسرائيلية في الدراسات السابقة إذا لم يثبت له أصل عِبري.
ثانيًا: الاعتبار بالمتن أولًا لا السند بالنسبة لروايات الطبري، وردّ هذه المتون إلى مصادرها الإسرائيلية، أمّا ما لم نجد له أصلًا -وإن كان الراوي إسرائيليًّا- فلا يدخل ضمن الإسرائيليات في هذه الدراسة، فصحة سند الرواية لا يخرجها عن الإسرائيليات.
ثالثًا: اعتماد منهج مقارنة النصوص ودراستها دراسة لغوية بهدف التأكيد على انتماء روايات الطبري إلى الأصول الإسرائيلية.
رابعًا: تصنيف مجالات ورود الإسرائيليات اعتمادًا على استقراء الروايات الواردة عند الطبري، ومِن ثَمّ التنبيه على أماكنها في تفسيره، وفي نفس الوقت التأكيد على أن مثل هذه الروايات لم تتمكن على الإطلاق من الجانب العقدي أو التشريعي.
خطة البحث:
قسّمت هذه الدراسة إلى بابَيْن اثنين:
الباب الأول: بعنوان (الإطار العام)، وينقسم إلى خمسة فصول:
الفصل الأول: ويشمل تعريفًا بالإمام الطبري -رحمه الله تعالى- صاحب التفسير الذي أُجْرِيَتْ عليه الدراسة.
الفصل الثاني: عالجتْ فيه الباحثة بداية ظهور الإسرائيليات، وموقف الإسلام منها، وتكلمت عن معنى مصطلح (إسرائيليات)، وخالفت فيه مَن سبقها من الباحثين، وتحدّثت عن المواطن التي جاء منها أصحاب هذه الإسرائيليات إلى جزيرة العرب، ثم كيف تسرَّبت هذه الروايات إلى التفاسير في مرحلتي الرواية والتدوين، وتقسيم العلماء للإسرائيليات إلى ما يوافق شريعتنا، وما يخالفها، وما هو مسكوت عنه، كذلك كان الحديث في هذا الفصل عن مواقف أهل العلم من رواية الإسرائيليات، كابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير، وغيرهم، كما تناولت الباحثة قضية لغة المصدر الرئيس للإسرائيليات في التفسير، وهل كانت هناك ترجمة عربية للنصوص العبرية أم لا؟ وهذا المبحث من أهم المباحث التي تفردت بها هذه الرسالة، ثم ختمت الفصل ببيان أثر الإسرائيليات في التفسير بوجه عام.
وفي الفصل الثالث: عرَّفت الباحثة بأهمّ المصادر العبرية التي انتُقِيَت منها الروايات الإسرائيلية للتفسير، مثل بعض أسفار العهد القديم، وكتب التفسير العبرية، وبعض فصول التلمود، والكتب الأخرى.
وفي الفصل الرابع: قامت الباحثة بتصنيف المجالات التي وردت فيها الإسرائيليات عند الطبري، من خلال ما تم استخراجه بناء على استقراء كتاب الطبري.
وفي الفصل الخامس: تناولت الباحثة موقف الطبري مما أورده من الإسرائيليات، وكيف واجهها وتعامل معها في كتابه.
أما الباب الثاني: فقد كان بعنوان (الدراسة النصيّة للإسرائيليات)، وقد قسّمته الباحثة إلى خمسة فصول كما يلي:
الفصل الأول: النصوص المتطابقة.
الفصل الثاني: النصوص المتّفقة في المضمون.
الفصل الثالث: النصوص المجملة في الآثار والمفصلة في الأصول العبرية.
الفصل الرابع: النصوص المفصلة في الآثار المجملة في الأصول العبرية.
الفصل الخامس: الروايات ذات الإضافات والمبالغات.
وقد انتهجت الباحثة في كلّ فصل من الفصول السابقة ما يلي:
1- إثبات نصّ الأثر الوارد عند الطبري كاملًا مع الإشارة إلى موضعه من التفسير.
2- إثبات النصّ العبري من مصدره.
3- ترجمة النصّ العبري إلى العربية.
4- مقارنة النصوص من ناحية الشّكل؛ وذلك بإبراز ما تمَّ أَخْذُه من الأصل العبري للرواية وما تم تركه، وما أُضيف وما حُذف.
5- إبداء الملاحظات اللغوية على النصوص عن طريق الإشارة إلى نماذج من الجُمل في كِلَا النّصين.
ثم أنهت الباحثة الدراسة بخاتمة، اشتملت على أهم النتائج التي توصّلت إليها، والتوصيات التي نصّت عليها.
ثم ذيلتْ ذلك بملحقَيْن:
الملحق الأول: قامت فيه الباحثة بحصر ما تأكّد لديها تمامًا من روايات إسرائيلية في تفسير الطبري، من خلال ذكر موضعه في تفسير الطبري، والمصدر العبري الإسرائيلي.
الملحق الثاني: حصرت فيه الباحثة أبرز رواة الإسرائيليات وفق منهج خاصّ، فقد أوردت من روى أكثر من خمس روايات إسرائيلية، على اعتبار أنّ من كان كذلك فقد دخل إلى قائمة من ينبغي التدقيق والتمحيص لرواياتهم.
الملاحظ العلميّة حول الرسالة:
أهم فائدة في نظري في هذه الرسالة قول الدكتورة الفاضلة: «... الإسرائيليات في جامع الطبري لم نجدها في مجالات العقيدة أو الأحكام أو الشرائع، ولم نجدها في صُلْبِ الدين على الإطلاق، وإنما وجدناها في الجانب القصصي من تفسير القرآن الكريم؛ سواء في قصة الخلق أم في قصص الأنبياء أم الأنساب، وبعض القضايا المتفرّقة ذات الطابع القصصي كذلك، وهي مجالات لا خشية منها على جوهر الدّين»[2]، وهي نتيجة جديرة بالعناية تشير إلى أن الطبري حين إيراد مثل هذه الإسرائيليات كانت له منهجية في إيرادها، وأنه لم ينقل بدون ضوابط وقيود، ولو تَتَبَّعَتِ الدكتورة هذا الخيط لتمسك بآخره لربما تغيّرت أشياء كثيرة.
المآخذ العامة على الرسالة:
1- من أهم المآخذ على هذه الرسالة -غفر الله لكاتبتها- أنّ فكرة بحثها الأساسية وعمادها الذي قامت عليه؛ المقارنة بين الآثار التي أوردها الطبري والمصادر العبرية التي أوردت هذه الإسرائيليات، بهدف -كما ذَكَرَتْ- التأكيد على انتماء هذه الروايات التي أوردها الطبري للأصول الإسرائيلية[3]؛ ولذا فقد استخدمت أمثال هذه العبارات: «ويكفينا في هذا المقام أن نورد سطورًا قليلة من بعض الآثار التي أوردها الطبري؛ إذ فيها الدليل الدامغ على استقائها من المصدر الإسرائيلي»[4]، «...نرجّح أنّ الرواية الواردة في هذا الأثر والتي نقلها الطبري في جامعه هي رواية إسرائيلية مائة في المائة»[5]، وكذا قولها: «...وأما الأثر رقم: 11578 فيعترف صراحة بإسرائيلية الأنساب الواردة فيه»[6]، وأقول: لقد وصل جميع الباحثين إلى هذه النتيجة ولم يختلف فيها اثنان بدون عقد هذه المقارنة فلسنا بحاجة إلى الهدف الذي حَدَّدَتْهُ من هذه المقارنة؛ إذ هو مقرّر سلفًا وغير مختلف فيه، وكذا لسنا بحاجة إلى أمثال عبارات: «الدليل الدامغ، فيعترف صراحة بإسرائيليته، إسرائيلية مائة في المائة»؛ إذ لم يظهر مخالف ينفي كونها من الإسرائيليات حتى يواجه بالدليل الدامغ، وكذا لم ينفِ إسرائيليتها أحدٌ ولو بنسبة 1% حتى يواجه بعبارة إسرائيلية 100%.
ولقد أنفقت الباحثة -جزاها الله خيرًا- جهدًا كبيرًا لتحقيق هذا الهدف المحقَّق سلفًا والمتّفَق عليه مسبقًا.
2- قَصْرُ مصطلح الإسرائيليات على الخرافات والأساطير التي أريد بها تشويه جوهر الإسلام وإضلال المسلمين. وهذا فيه من عدم الإنصاف ما فيه؛ لكون الإسرائيليات منها ما وافق الشرع فهو مقبول، ومنها ما لم يظهر صدقه ولا كذبه، ولكن هذا الذي قَرَّرَتْهُ مُسبقًا ألجأها إلى عدم اعتبار هذه القسمة الثلاثية للعلماء.
3- القول بأنّ القسم الذي يوافق الشرع من هذه الإسرائيليات لا يجوز أن نطلق عليه لفظ الإسرائيليات لأنه قد تمَّت أَسْلَمَتُه[7]. وفيما قالته نظر؛ لأن موافقتها للشرع لا تخرجها عن كونها إسرائيلية، بل هي إسرائيلية في مصدرها وأصلها، ثم إنّ أهل الكتاب لم ينل التحريف كلَّ كتبهم، بل فيها ما هو صحيح يوافق شرعنا، ثم إن القول بهذا يجعل حديث: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، لا فائدة منه. وسبب قولها بهذا: رسوخ فكرة النُّفرة والاشمئزاز من لفظ الإسرائيليات وقَصْرها إيّاها على كلّ كذبٍ وخرافة؛ ولذا تحاول تجريد الإسرائيليات الصحيحة الموافقة للشّرع من هذه التسمية والابتعاد عنها ما أمكن.
4- عدم اعتبار ما لم تجده في مصدر عبري من الإسرائيليات، وهذا يلزم منه اطلاعها على كلّ المصادر العبرية، أو معظمها حتى تحكم بخروج ما لم يكن موجودًا فيها عن مسمَّى الإسرائيليات، وأنَّى لها هذا؟! فضلًا عن مخالفتها ما التزمت به في التمثيل للإسرائيليات بقصة تميم الداري ورؤيته للجساسة وإخباره الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- بذلك[8]، وكذا في التمثيل بالروايات الواردة في قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من أم المؤمنين زينب بنت جحش[9]، فهل يا ترى نجد لهذَين أصلًا في الأصول العبرية؟!
5- النُّفرة والاشمئزاز من لفظ الإسرائيليات جعلها تردّ أشياء، أو توردها في موضع الاستنكار على المفسِّرين الذين نقلوها دون أن تشعر بمجيء الشَّرْع بإثباتها وموافقتها، كما فعلت في (ص: 112)، عندما ذكرت أنّ الآثار في قصة دخول إبراهيم -عليه السلام- وزوجه سارّة مصر وإرادة مَلِكها سوءًا بسارّة مأخوذة من سِفر التكوين، مع أن السُّنة الصحيحة قرّرت هذا كما في صحيح البخاري حديث رقم: 2217، وكذا قولها: «ولا نعرف اسم أبي يونس (متَّى) إلا مما ورد في سفر يونان...»، مع أن السنة الصحيحة جاءت بإثباته كما في البخاري برقم: 4603، وقد قرأتُ حوارًا معها أجراه موقع الشبكة الإسلامية أنكرَتْ فيه ما ثبت في البخاري من أن إبراهيم -عليه السلام- جاء لزيارة ولده إسماعيل -عليه السلام- فلم يجده، فترك له رسالة بأن يغيِّر عَتبة بابه.
6- جعلها العقل هو المعيار والأساس الذي على وفقه ترد الإسرائيليات التي لا نعلم صدقها ولا كذبها. والعقل وحده لا يصلح لمثل هذه المهمّة؛ فإنّ العقول تتفاوت بتفاوت العصور، فهل كان العقل يقبل أن يجري الحجر بثياب موسى -عليه السلام- كما في صحيح البخاري، وهل كانت عقول السابقين تقبل أن يأتي زمان يقطع المسافر فيه ما كانوا يقطعونه في السنين والشهور في ساعات معدودة.
7- السطحيّة في نقد المفسرين الأوائل وبخاصة الطبري، وقد أطلقت عبارات ما كان ينبغي أن تقولها في حقّ إمام كالطبري، ولستُ أدَّعي عصمة الطبري ولا غيره، ولكن عندما ننقد عَلَمًا كهذا بيننا وبينه في العِلْم كبُعد ما بين المشرقَين فلينظر أحدنا ما يقول، فليس عيبًا أن تنقد إمامًا مهما كان، لكن العيب أن نكون سطحيِّين في نقدنا، وأن ننقده بما لا يخفى مثله على أحد من عوام المسلمين، وإليك بعض العبارات الشنيعة:
- «الإعجاز القرآني لم تتحمله بعض العقول ولم تدرك حكمته، فكان المدخل الذي ولجت منه الإضافات المأخوذة من الإسرائيليات، وبهدف استكمال ما تتوق إليه النفس البشرية من تفاصيل لا فائدة فيها سوى إشباع الرغبة في معرفة المزيد من الأخبار على ما نجد عند الطفل حال سماعه قصة مثيرة. ومن هذا المنطلق نقل السلف ما نقلوا، وجمع الطبري في تفسيره ما جمع من روايات وأخبار كان إثمها أكبر من نفعها»[10].
وإذا كان الإعجاز القرآني لم تتحمله عقول السلف والطبري ولم تدرك حكمته، فيا ترى عقول مَن ستحتمله وتدركه؟!
- إن الباحثة ألمحت إلى اتهام الطبري بتهمة عظيمة، ولأنقل لكم كلامها وأنقل ما قال الطبري وأترك الحكم لكم:
تقول -غفر الله لها-: «ولقد انساق ابن جرير وراء ترديد الإسرائيليات التي لو رددها في عصرنا لَلحقَتْ به الاتهامات القاسية. ففي تعليقه على المقصود (بالأرض المقدسة) الواردة في الآية الحادية والعشرين من سورة المائدة يقول: «غير أنها لن تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر؛ لإجماع جميع أهل التأويل والسِّيَر والعلماء بالأخبار على ذلك».
فتحديد الطبري لموقع الأرض المقدّسة بما بين الفرات وعريش مصر لا يختلف كثيرًا عما جاء في سِفر التكوين (15/18)، وهو ما يردده صهاينة العصر الحديث من مزاعم تمتدّ من النيل إلى الفرات»[11].
واسمحوا لي أن أذكر ما قاله الطبري، قال -رحمه الله-: «ثم اختلَف أهل التأويل في الأرض التي عنَاها بالأرض المقدّسة، فقال بعضهم: عنى بذلك الطور وما حوله...، وقال آخرون: هو الشأم، وقال آخرون: هي أرض أريحا، وقيل: إن (الأرض المقدسة) دمشق وفلسطين وبعض الأردن.
...قال أبو جعفر: وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة كما قال نبي الله موسى -صلى الله عليه-؛ لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض لا تدرك حقيقة صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر لإجماع جميع أهل التأويل والسِّيَر والعلماء بالأخبار على ذلك»[12].
فالخلاف بين العلماء في تحديد الأرض المقدّسة لم يخرج عن هذه الأقوال، والطبري صرّح بأنه ليس هناك دليل صريح يعيِّن قولًا من هذه الأقوال، غير أنها لن تخرج عن مجموع هذه الأقوال لكون العلماء مُجمعِين على كونها منحصرة في دائرة هذه الأقوال، فهل يُعاب الطبري بهذا وتلحق به الاتهامات القاسية لو كان في عصرنا، ولا أدري ما هي طبيعة هذه الاتهامات؟ هل سيُتَّهم بالعمالة أو الصهيونية أو...؟ الله أعلم.
ذَكرَت الروايات التي نقلها الطبري في قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من زينب بنت جحش من وقوع إعجابها في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قالت: «ولو لم يكن في تفسيره إلا هذه لكَفَتْه؛ كي يُعاد النظر فيه على الأقل، وليهبط من تلك المنزلة التي أنزلها له السابقون إلى ما يستحق، جزاء ما نقل من افتراء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم»[13].
ولست هنا بصدد إثبات صحّة مثل هذه الروايات أو التسليم بها، لكن في كيفية معالجة الدكتورة -بارك الله فيها- لموقف الطبري، هل وصل الحدّ إلى أن يُرمى الطبري -ذلكم العَلَم الذي لم تَجُد الدنيا بمثله، والذي وهبَ حياته لكتاب الله وسنة نبيّه- بالافتراء والطعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
تلك دعوى جائرة وتهمة باطلة، والذي كان ينبغي أن يُبحث في مثل هذا: لماذا نقل الطبري هذا الكلام وقرّره؟ وأقرب إجابة تجدها أنّ هذا مبنيّ منه على القول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر فيما لا يتعلق بالدعوة والرسالة، وهذا على فرض التسليم بكونها من الصغائر إن كان شيء من ذلك وقع.
ولا شك أن الاعتذار له بمثل هذا يخفّف الحِدّة في الهجوم عليه. وقد تخالفه الباحثة فيما أسّس عليه، لكنها على الأقلّ ستعرف ما بَنى عليه.
8- التقصير في فهم منهج الإمام الطبري:
إنّ الدكتورة الفاضلة -سامحها الله- جعلت للطبري أمام الإسرائيليات ثلاثة مواقف: موقف الإقرار دون نقد، وموقف الاستنكار، وموقف التردد، وسأناقشها -وإن كنتُ لست أهلًا لذلك- في ادّعائها تردُّد الطبري، وسأسوق الأمثلة الواضحة على دعواها ذلك، تقول: «ويبلغ التردّد ذروته في تعليق ابن جرير بعد أن ساق ما يقرب من ثمانية وخمسين أثرًا حول قول الحقّ جلّ شأنه: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]، حيث أورد في هذه الآثار العَجب العُجاب من الإسرائيليات والمبالغات مما ورد في المصادر العبرية في شأن برهان الله ليوسف. فمن قائل: بأن البرهان هو تمثال صورة وجه يعقوب -عليه السلام- عاضًّا على إصبعه، إلى قائل: بأنه تمثال الملك، إلى قائل: بأنه خيال إطفير سيده.
يقول الطبري بعد هذه الآثار: «وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله -جلّ ثناؤه- أخبر عن هَمِّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من الله زجَرته عن ركوب ما هَمَّ به يوسف من الفاحشة».
وإلى هنا يُحمد له حيث لم يقع في ترديد ما سبقت روايته من الإسرائيليات في هذا المقام، ويا ليته اكتفى بهذا لكنه عاد لينقض تلك الإيجابية بإجازته الروايات السابقة فيقول: «...وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملِك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حُجّةَ للعُذر قاطعةً بأيِّ ذلك كان من أيٍّ».
ثم يعود مرة أخرى فيقرّ الالتزام (بما قال الحقّ -سبحانه- والإيمان به وتَرْك ما عدا ذلك إلى عالِمه).
فإذا كان الله -سبحانه- لم يقل بتمثال يعقوب أو صورته أو خيال إطفير أو تمثال الملِك، فكيف يجيز ذلك الطبري». انتهى كلامها[14].
وأقول: سبحان الله! إنّ الطبري لم يخرج عن سنن العلماء في هذا الموضع، فكلّ هذه الإسرائيليات التي ذكرها من القسم الذي لا يصدّق ولا يكذب وتجوز حكايته، والرجل قد نفَى القطع بتعيِين واحد منها، ولكنه مع هذا لا يستطيع هو ولا غيره تكذيب هذه الإسرائيليات ولا تصديقها، فيقول: وجائز أن تكون كذا أو كذا، من باب إمكان وقوع ذلك دون القطع بصدقه ولا كذبه، وسأترك لك عبارته لتتأملها وترى منهجيّته، يقول: «إنّ الله -جلّ ثناؤه- أخبر عن هَمِّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من الله زجَرته عن ركوب ما هَمَّ به يوسف من الفاحشة، وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملِك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حُجّةَ للعُذر قاطعةً بأيِّ ذلك كان من أيٍّ، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وتَرْك ما عدا ذلك إلى عالِمه». فهل صار هذا ترددًا؟!
يا سادة: إنّ الطبري ليس طالبًا مبتدئًا حتى تأتي عبارته الواحدة حاملة للمعنى وضدّه، فَلْنبتعد عن مثل هذه السطحيات في نقده ونقد غيره، وَلْنُتعِب أذهانَنا في فهم مناهجهم بدلًا من التسرّع في إصدار الأحكام والإطلاقات الجائرة عليهم.
لا أقول هذا مُدَّعيًا أني فهمت منهجه في الإسرائيليات، فمثل هذا يحتاج إلى سنين عددًا، ولكن أقول لنفسي ولكلّ مَن أحبَّ العِلم والعلماء: تريَّث في انتقادك وانظر ما تقول.
وأخيرًا: أسأل الله أن يجزي الدكتورة عن رسالتها وتعبها ومعاناتها خير الجزاء، وأن يتقبل مني ومنها صالح القول والعمل.
والحمد لله أولًا وآخرًا
[1] نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 27/10/1428هـ - 7/11/2007م، بعنوان: (عرض لكتاب الإسرائيليات في تفسير الطبري وبيان بعض المآخذ عليه)، ثم نُشِرَت ضمن كتاب (مراجعات في الإسرائيليات) الصادر عن مركز تفسير بذات العنوان، وقد قمنا بإعادة نشرها ضمن ملف الإسرائيليات في كتب التفسير؛ لأهميتها في عرض ومناقشة أحد أبرز الدراسات المعاصرة التي تناولت هذه المرويات في تفسير الطبري، كما قمنا بتعديل فني طفيف في عنوانها فجعلناه: ("الإسرائيليات في تفسير الطبري" للدكتورة آمال ربيع؛ عرض وتقويم). (موقع تفسير).
[2] (ص: 138).
[3] (ص: 8).
[4] (ص: 127).
[5] (ص: 132).
[6] (ص: 133).
[7] (ص: 9، 30).
[8] (ص: 29).
[9] (ص: 163).
[10] (ص: 141).
[11] (ص: 147).
[12] تفسير الطبري (171/6، 172).
[13] (ص: 163).
[14] (ص: 160).
مواد تهمك
- منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل (1-3)
- الإسرائيليات في التفسير
- هل يُعَدُّ تفسير الطبري تفسيرًا بالمأثور؟
- هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
- {فَقَد صَغَت قُلوبُكُما} تفسير الآية الرابعة من سورة التحريم عند الفراهي وإصلاحي
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (1-3)