دراسة لمخطوط مصحف ياقوت المستعصمي بمكتبة الحميدية برقم (5) - تركيا

للقرآن الكريم عدد كبير من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرف بأحد المخطوطات المحفوظة بمكتبة الحميدية بتركيا، والتي كتبها ياقوت المستعصمي وفَرغ منها عام 688هـ، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والأدبية والعلمية المتعلقة بها.

بسم الله الرحمن الرحيم

  بين أيدينا نسخةٌ من نفائسِ محفوظات الديارِ التركيّة في مكتبة حميدية من المكتبة السليمانية بإستانبول المحميّة، كتبها واحدٌ من أشهرِ مَنْ خَطّ قلمُه المصاحفَ، وتناولت الدواة يده من عينِ الزمان، وهو ياقوت المستعصمي، نتعرض لها من جوانب:

الجانب المادي:

1) مكان الحفظ والورق والحجم والخط.

2) الزخرفة والتّذهيب.

3) حالة النُّسخة.

4) الناسخ وتاريخ النسخ.

الجانب الأدبي:

1) الوقفيات والتملّكات.

2) رحلة المخطوط.

الجانب العلمي:

1) أعداد الآيات الواردة في النّسخة المتّفق عليها والمختلف فيها.

2) أسماء السور ومعرفة مختلفها.

3) المكي والمدني من التنزيل.

أولًا: الجانب المادي:

1- مكان الحفظ والورق والحجم والخطّ:
تقع هذه النسخة الفريدة بمكتبة حميدية تحت رقم (5)، في مائتين وثلاثين ورقةً، في ثلاثة عشر سطرًا للصفحة الواحدة، بخطِّ نسخٍ مجوّد واضح، تامّ الضبط بالحركات، مرسومة بالرسم العثماني الذي ثبت عن الصحابة الكرام.

2- الزخرفة والتذهيب:
على الورقة الأولى منه لوحة استهلالية على شكل شمسيّة مربعة الأضلاع، مؤطّرة بالذّهب المضيء، داخلها دائرة ملونة بالحمرة، مزخرفة بالشّكلِ النباتي، حولها مزركشات نباتية مذهّبة على أرضية زرقاء وبداخلها ورود حمراء على أرضية مذهّبة، وكتب عليها بخط ثلث جلي كبير: «قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}».

ثم في الورقة التي تليها لوحة استهلالية مزخرفة بالشكلِ النباتي البديع حيث تداخلت فيها المزركشات النباتيّة بالمقرنصات الهندسية، مطليّة بالزّرقة والذّهب، مسوّرة بتيجان مذهّبة داخلية وخارجية بثلاثة إطارات عريضة، يتوسّطها إطار محشوّ بالزخرفات المزهّرة بالسواد والحُمْرة، ثم بداخلها سورة الفاتحة وأوائل البقرة بخطّ ثلثٍ جلي أسود على أرضية ذهبيّة، بأعلاها اسم السورة وبأسفلها عدد الآيات داخل كتيبتين مزخرفتين.

وعلى هوامش النسخة رسمت الخموس والعشور والأحزاب وأنصافها والأجزاء والسجدات بأشكال مختلفة متعددة مزخرفة بالشكلِ النباتي الملوّن بالذّهب والزرقة، ومكتوب فيها البيان بداخلها بالبياض.

 

وأُطّرت الصفحات بإطار من ذهبٍ، ورؤوس الآيات بشكلِ دوائر مطموسة بالذّهب فيها خمسة خطوط، وفواتح السور داخل كتائب متعددة الشكلِ مختلفة اللّون.

3- حالة النسخة:
بالمجمل فإنّ هذه النسخة الشريفة على أنها من مكتوبات القرن السابع إلا إنها ما زالت تحافظ على أصلِ مادتها ونضارة ورقها ورشاقةِ حبرها وإضاءةِ زخرفتها، فلم تتعرّض لِلْأَرَضَةِ أو الرّطوبة، ولم تتفكّك أو تتمزّق بفعلِ الأيام، بل يحسبها متفحّصها مما خطّته يدُ الأمس، ولكنها أصيبتْ بقليل أثر من رطوبة ظهرت في بعض أوراقها، من غير تأثير على مادة الورق أو الخط وإنما أَثَّرَ على الحبر يسيرًا، فنلاحظ أنّ بعض رؤوس الآيات تعرضت لذوبان تذهيبها مما ظهر على الورقة التي تليها أو وجهها الآخر ولم يؤثر عليها.

4- الناسخ وتاريخ النَّسْخ:
وبآخرها إعلام بأن هذه النسخة كُتِبَتْ من يدِ أبي الدرّ جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي الرومي، المتوفى في 698هـ. المشار إليه أعلاه، وكان من أشهر الخطاطين في تاريخ الإسلام حتى قال عنه الذهبي: «نشأ بدار الخلافة وأحبّ الكتابة والأدب، فلما أخذت بغداد سلم، وحصل خطوطًا منسوبة لابن البواب وغيره، كان يعرفها بخزانة كتب الخلفاء، فجوّد عليها، وقويت يدُه وركبت أسلوبًا غريبًا في غاية القوة، وصار إمامًا يقتدى به»[1]، وتشرّف بنسخ هذا المصحف الشريف قبل وفاته بعشر سنين، سنة ثمان وثمانين وستمائة.

ثانيًا: الجانب الأدبي:

1- الوقفيّات والتملّكات:
ولم تدخل هذه النسخة بحيازة أحد أو جهة؛ بدلالة عدم وجود أي نصّ أو ختم لتملّك أو هبة، إلا ما رسم بأولها من وقف المكتبة الحميدية المسماة باسم السلطان عبد الحميد خان وعليها خاتمه الذي بداخله ما نصه: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله...)، وكان ناظر الوقف السيد علي بهجت. وهذا نصّ الوقف:

«وقف هذا المصحف الكريم والكتاب العظيم من حيث أثاب فضله في الأمان، ودرست سور كماله بألسنة الإتقان، ناصر حزب الدين والإيمان، السلطان ابن السلطان، السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان أحمد خان، لا زال متمسكًا بأحكام القرآن وممتثلًا لأوامر الفرقان، وأنا الداعي لدولته السيد علي بهجت بأوقاف الحرمين الشريفين، غفر له».

2- رحلة المخطوط:
ولقد انتقلت هذه النسخة الشريفة عبر المكانِ والأوان بين العراق إلى بلاد التُّرك حيث انتهى نسخها في مكان موافاة ماشقها المنية في بغداد قبل ختام القرن السابع بعامين، ثم ما زالت متنقلة بين أيدي المعتنين تكلؤها عين الرعاية حتى وصلت بعد قرون إلى الخزانة الحميدية في أوقاف السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد الثالث المتوفى في الألفية الثانية بعد سبع وثلاثين ومائة من الهجرة الشريفة، فانتقلت بين خزانتي بغداد وإستانبول بمسافة أربعمائة وتسع وثلاثين سنة، ثم ما زالت على هيئتها وصورتها في السليمانية حتى الآن ونحن في منتصف القرن الخامس عشر.

ثالثًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات الواردة في النسخة المتّفق عليها والمختلف فيها:
وبالعودة إلى أبي عمرو الداني في كتابه (البيان في عدّ آي القرآن) نجد أنّ المستعصمي اعتمد على قول الكوفيين في عددِ آي القرآن في كلّ السور، مخالفًا الباقين من البصريين والشاميين والمدنيين إلا أن يتفقوا مع الكوفيين ويسلكوا مسلكهم.

فجعل {البقرة} ستًّا وثمانين ومائتي آية، بينما هي عند البصريين سبع، وعند الشاميين والمدنيين والمكيين خمس، وخالف في عدد آي {النساء} جميع الأقوال فجعلها مائةً وسبعين، والأقوال دائرة على أنها ست كما الكوفي، أو سبع كما الشامي، أو خمس كما عند الباقين، والآيات التي أسقط رؤوسها ووصلها بما بعدها هي:

- {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}.

- {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.

- {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}.

- {فإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

- {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}.

- {...إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}.

- {...عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}.

وكذلك في سورة {المائدة} أخذ بقول الكوفيين فجعلها مائةً وعشرين، وهي عند الشاميين والمكيين والمدنيين (وآيتين)، وعند البصريين (وثلاث). وفي سورة {الأنعام} جعلها مائةً وخمسًا وستين آيةً كما الكوفي، وهي ست في البصري والشامي، وسبع في المدنيين والمكي. وفي سورة {الأعراف} جعلها مائتين وستًّا، كما في المدنيين والمكي والكوفي، وبزيادة خمس في البصري والشامي.

وما زال متفقًا مع الكوفي في العدد مخالفًا لغيره حتى بلغ سورة {هود} فخالف الأقوال كلها وجعلها مائةً وعشرين، وهي مائة وإحدى وعشرون آيةً في المدني الأخير والمكي والبصري، واثنتان في المدني الأول والشامي، وثلاث في الكوفي، والآيات التي خالف فيها بالحذف والترتيب:

- {أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} جعلها رأس آية وقد عدها الكوفي ولم يعدها الباقون.

- {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} عدّها المدنيان والمكي ولم يعدّها الباقون.

- {...وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} لم يعدّها المدنيان والمكي وعدّها الباقون.

- {...عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} لم يعدّها المدني الأخير والمكي وعدّها الباقون.

ثم ما زال موافقًا للكوفي حتى خالف الجميع في سورة {فاطر} التي سماها بسورة {الملائكة}، فكتب أنها أربعون آيةً، وهي في المدني الأخير وفي الشامي أربعون وستّ آيات، وعند الكوفيين خمس وأربعون، وبعد عدّ الآيات نجدها وافقت الكوفي، وتبيّن أنّ ما كتب في فاتحة السورة إما خطأ من الناسخ أو أنّ الرطوبة غطت كلمة: (خمس).

ثم في سورة {الصافات} عنونها بمائة وثمانين آية مخالفًا كلّ الأقوال، وبعد التتبع وجدناها مائة واثنتين وثمانين آية، إلا في آية {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} فقد جعل عليها رأس آية ملونًا بالأحمر وأوهم وصلها بالآية الثانية، وهي مائة وإحدى وثمانون آيةً في البصري وأبي جعفر القارئ، واثنتان وثمانون عند الباقين.

حتى إذا ما وصل لسورة {الأحقاف} خالف فيها فكتب في فاتحتها أنها خمسون آيةً، وهي عند الكوفيين ثلاثون وخمس، وعند الباقين وأربع، وبعد عدّ آياتها تبيّن أنها خمس وثلاثون كما عدّها الكوفي.

ثم سورة {الطور} ذكر في فاتحتها أنها أربعون، والآيات الموجودة بين رؤوسها هي تسع وأربعون كما الكوفي والشامي، ولما وصل إلى سورة {الصفّ} ذكر أنها عشرون، والموجود أربع عشرة، وكذلك اتفقت الأقوال.

ثم في سورة {الحاقة} جعلها خمسين على الحقيقة وقد خالف فيها الجميع، وهي إحدى وخمسون عند البصري والشامي، واثنتان وخمسون عند الكوفي والباقين، ومما أسقطه من رؤوس الآيات:

- {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}.

- {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}.

وفي {المعارج} كتب أنها أربعون آيةً مع أن رؤوس الآيات الموجودة أربع وأربعون موافقًا في ذلك الكوفي وغيره في عددها، مخالفًا الشامي الذي عدّها ثلاثًا وثلاثين، وكذا أعاد فكتب أنّ {الليل} عشرون وهي إحدى وعشرون بالاتفاق، وهو الموجود من رؤوس الآيات، وكذا كتب أن سورة {لَمْ يَكُن} خمس آيات ثم جعل الرؤوس ثمانيةً مخالفًا ما كتبه في فاتحتها موافقًا الكوفي وغيره إلا البصري والشامي تسع آيات، وكتب أنّ {الماعون} تسع وجعلها سبعًا، وكذا الكوفي الذي اعتمده والبصري، وستّ عند الباقين.

والذي أراه أنّ الخطأ المكرّر في بعض المواطن من النّاسخ بأنْ يكتب عدد الآيات في فاتحة السورة ويخالفها في الرؤوس سببه ضيق المكان؛ فجعل في وسط الكتيبة آخر كلمات السورة السابقة، فغطت بعض كلمة من العنوان مما أثّر على اختلاف الرقم المكتوب عن الرؤوس الموجودة.

2- أسماء السور ومعرفة مختلفها:
سمى المستعصمي بعض السور بغير أسمائها المشتهرة في المصاحف، مثل سورة {فاطر} سماها بالملائكة، وسورة {غافر} سماها سورة الطّول، وسمى سورة {الزلزلة} بسورة الزلزال، واختار لسورة {البينة} من أسمائها {لَمْ يَكُن}.

3- المكي والمدني من التنزيل:
وأما التصنيف المكي والمدني للسور فلم ينصّ الناسخ عليه في كلّ سورة، وإنما اختار بعض السور فذكر مدنيها من مكيّها، وهي بحسب الترتيب: {آل عمران}، و{يونس}، و{إبراهيم}، و{الحجر}، و{مريم}، و{غافر}، و{فصلت}، و{الملك}، و{ن والقلم}، و{نوح}، و{النبأ}، و{عبس}، و{الانفطار}، و{القارعة}، و{الفيل}، و{قريش}.

ومما اختار النصّ عليه وخالف فيه أقوال العلماء عدّة سور، فقد ذكر في هذه الطائفة أن سورة {الحجرات} مكيّة، وهي مدنيّة بالاتفاق كما ذكر أبو عمر الداني في كتابة البيان[2]، وحُكِي قولٌ شاذٌّ أنها مكية[3].

وكذا {القمر} ذكر أنها مدنية، وهي مكية كما ذكر الداني[4] وغيره.

ثم جعل {المجادلة} مكية، مع اتفاق أهل العلم على مدنيتها، وكذا {الطلاق} و{التحريم}.

وجعل {المدثر} مدنيةً مع أنها مما نزل بمكة باتفاق أهل العلم[5]، وجعل {النصر} مكية.

خاتمة:

هذا وعلوم كتاب الله لا تنتهي وفنونه لا تنقضي وعجائبه لا تخلق على كثرة الردّ، وإنّ عينَ الناقد بصيرة، والناظر لهذه النسخة الشريفة ليستشعر من مسطورها ومنشورها أثرًا يبلغ النظر، وإدراكًا لمرمى الخبر.

وَقِدَمُ هذه النسخة مع المحافظة عليها بهذه الحلّة البهيّة، وتمكّن يدِ ناسخها الشهيرة من إضفاء روحه قبل حِبره وقلمه بعد وجده فيها، ليترجم عن نفاستها وفرادتها، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] تاريخ الإسلام، الذهبي (15/888).

[2] ينظر: أبو عمرو الداني: البيان في عدّ آي القرآن، ص230.

[3] انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن (1/56).

[4] انظر: أبو عمرو الداني: البيان في عد آي القرآن، ص236.

[5] انظر: المصدر السابق، ص7.

الكاتب

حمزة موفق العائدي

باحث شرعي، نال شهادة الليسانس من كلية الشريعة بجامعة دمشق، ويعمل في مجال المخطوطات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))