الإمام ابن أبي حاتم وتفسيره

الكاتب : حسين عكاشة
يُعَدُّ تفسير الإمام ابن أبي حاتم من أجلِّ كتب التفسير بالمأثور، وهذا المقال يعرِّف بالإمام وسيرته، ويسلِّط الضوء على تفسيره، معرِّفًا به وبمكانته وأهم مميزاته.

  الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

وبعدُ: فالإمام أبو محمد عبد الرَّحمن بن أبي حاتم الرَّازي -رحمه الله رحمةً واسعةً- أحد الأئمة الكبار، الذين انتشر ذكرهم في الآفاق، وانتفع المسلمون بمصنَّفاته لأكثر من أحد عشر قرنًا، وقد نشر الله به علم الحافظَيْنِ: أبي حاتم الرَّازي، وأبي زُرْعَة الرَّازي -رحمهما الله تعالى-، وكتابه: «تفسير القرآن العظيم مسندًا عن الرَّسول والصَّحابة والتَّابعين» من أَجَلِّ كتب التَّفسير بالمأثور.

وقد صدرت لهذا الكتاب بعض الطبعات، والتي ستكون محلّ اشتغال لنا في مقالات لاحقة بإذن الله؛ حيث نبيِّن الموقف من هذه الطبعات وما لها وما عليها، إلا أننا أحببنا -قبل الشروع في ذلك- التصديرَ بالتعريف بابن أبي حاتم وتفسيره، وبيان طرف من سيرة هذا الإمام، وبيان أثر رحلات ابن أبي حاتم على رواياته في التفسير، وكذا بيان بعض المناحي المتعلِّقة بتفسيره كطريقة ابن أبي حاتم في إيراد الأحاديث والآثار، وغير ذلك، وفيما يلي بيان ذلك.

تعريفٌ موجزٌ بالإمام الحافظ النَّاقد شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرَّحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرَّازي[1]:
مولده ونشأته:
وُلد ابن أبي حاتم سنة أربعين ومائتين، ونشأ -بفضل الله تعالى- بين أهل العلم والرِّوايات، وتربَّى بالمذاكرة مع أبيه وأبي زُرْعَة الحافظَيْنِ الكبيرَيْنِ، وكانا يُعنيان به، فاجتمع له مع علوّ همته كثرةُ عنايتهما به، قال علي بن أحمد الخوارزمي[2]: «عبد الرَّحمن بن أبي حاتم إمامٌ ابنُ إمامٍ، قد رُبِّي بين إمامَيْن: أبي حاتم، وأبي زُرْعة؛ إمامَي هُدًى». وقال عن نفسه[3]: «لم يدعني أبي أشتغل بالحديث حتى قرأتُ القرآن عن الفضل بن شاذان، ثم كتبتُ الحديث».

رحلاته:
ارتحل ابن أبي حاتم مع أبيه؛ فأدرك عُلُوَّ الإسناد وثقات الشُّيوخ بالحجاز والعراق والشَّام والثُّغور، فترعرع في ذلك، ثم كانت رحلته بنفسه بعد تمكن معرفته.

قال علي بن أحمد الخوارزمي[4]: «إنه استأذن أباه وتشفَّع إليه بأبي زُرْعة أن يأذن له في الرِّحلة، فلم يأذن له حتى أَلَحَّ عليه، ولم يكن لأبي حاتم في هذا الوقت ولد إلَّا عبد الرحمن، وكان له أولادٌ قبله فماتوا، فلم تطب نفسه أن يأذن له، ثم أَذِنَ له، وشرَط عليه إلى وقتِ كذا، وينصرف إليه في وقتِ كذا؛ فرحل ودخل مصر -ومشايخ مصر متوافرون- قال: وعندي أنه كان في اثنتين وستين مثل: يونس بن عبد الأعلى، وبَحْر بن نصر، وابن عبد الحكم، والمُزَنِيّ، والرَّبيع، وغيرهم، ومشايخ إسكندرية: محمد بن عبد الله بن ميمون وغيرهم، فأجهد نفسه في السَّماع ليلحق وَعْد أبيه لا يُخْلِفُه؛ فرُزق السَّماع الكثير، مثل: كُتب ابن وهبٍ بأسرها، وكُتب الشَّافعي -رحمه الله- وحديث سائر الشُّيوخ وفوائدهم، ثم خرج من مصر. سمعتُ أبا بكر المفيد البغدادي يقول: لقد اتفق لعبد الرَّحمن في رحلته من السَّماع في مدةٍ يسيرةٍ ما يعجز عن جمعه غيره أن يكتب في سنين، ودخل بيروت والسَّواحل ودمشق والثُّغور. قال علي بن إبراهيم: كان لعبد الرَّحمن ثلاث رحلاتٍ: رحلة مع أبيه في سنة حجَّ سنة خمسٍ أو ستٍّ وخمسين في رجوعه من الحجِّ ثُمَّ حجَّ ثانية بنفسه مع مشايخ من أهل العلم من الرّي -محمد بن حماد الطهراني وغيره- في السِّتين ومائتين، والرِّحلة الثَّانية: بنفسه إلى مصر ونواحيها والشَّام ونواحيها في الثِّنتين والسِّتين، والرِّحلة الثَّالثة إلى أصبهان إلى يونس بن حَبِيب وأسيد بن عاصم وغيرهما سنة أربعٍ وستين».

شيوخه:
شيوخ ابن أبي حاتم لا يُحْصَون، وقد أَحْصى شيخنا الأستاذ الدكتور رفعت فوزي شيوخَه في كتابه «الجرح والتعديل» فقط، فبلغ بهم (346) شيخًا، وأفردهم في ملحق آخر كتابه «ابن أبي حاتم وأثره في علوم الحديث» (ص351-369)، ولا شك أن له في كتاب «التفسير» شيوخًا آخرين، يحتاج استخراجهم إلى جُهدٍ كبيرٍ.

جدُّه واجتهاده:
تقدَّم ابن أبي حاتم بحُسن فهمه وديانته وجدِّه واجتهاده، قال علي بن أحمد الخوارزمي[5]: «سمعت عبد الرَّحمن يومًا يقول: لا يُستطاع العلم براحة الجسم. وقال: كنَّا بمصر سبعة أشهر فلم نأكل فيها مرقةً، وذلك أَنَّا كنَّا نغدو بالغدوات إلى مجلس بعض الشُّيوخ، ووقت الظُّهر إلى مجلس آخر، ووقت العصر إلى مجلس آخر، ثم بالليل للنَّسْخ والمُعَارضة، فلم نتفرغ نُصلح شيئًا، وكان معي رفيقٌ خراسانيٌّ، أسمع في كتابه ويسمع في كتابي، فما أكتب لا يكتب، وما يكتب لا أكتب، فغدونا يومًا إلى مجلس بعض الشُّيوخ، فقال: هو عليلٌ. فرجعنا فرأينا في طريقنا حُوتًا يكون بمصر يشق جوفه فيخرج منه أصفر، فأعجبنا، فلمَّا صرنا إلى المنزل حضر وقت مجلس بعض الشُّيوخ فلم يمكننا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيامٍ كاد أن يتغير، فأكلناه نيئًا. فقيل له: كنتم تعطونه لمن يشويه ويصلحه؟! قال: من أين كان لنا فراغ! قال علي بن إبراهيم: وكان هذا في الرِّحلة الثَّانية».

عبادته:
كان ابن أبي حاتم مقبلًا على العبادة من صغره ملازمًا للذِّكر والطَّهارة، فكساه الله بها نورًا؛ فكان يُسَرُّ به من نظر إليه[6]، قال علي بن أحمد الفرضي[7]: «ما رأيتُ أحدًا ممَّن عرف عبد الرَّحمن ذكر عنه جهالةً قطّ، وكنت مُلَازِمًا له مدَّةً طويلةً فما رأيته إلَّا على وتيرةٍ واحدةٍ، لم أَرَ منه ما أنكرته من أمر الدُّنيا ولا من أمر الآخرة، بل رأيته صائنًا لنفسه ودِينه ومروءته».

وقال الخليلي في «الإرشاد» (683/2): «وكان زاهدًا يُعَدُّ من الأبدال»[8].

مكانته:
قال مسلمة بن قاسم[9]: «كان ثقةً، جليل القدر، عظيم الذِّكر، إمامًا من أئمة خراسان».
وقال أبو الوليد الباجي[10]: «عبد الرَّحمن بن أبي حاتم ثقةٌ حافظٌ».
وقال الخليلي في «الإرشاد» (683/2): «كان بَحْرًا في العلوم ومعرفة الرِّجال والحديث الصَّحيح من السَّقيم، ويقال: إن السُّنَّة بالرّي خُتِمتْ به».
وقال الرَّافعي في «التَّدوين في أخبار قزوين» (154/3): «من كبار الدُّنيا علمًا وورعًا».

مصنَّفاته:
قال الخليلي في «الإرشاد» (683/2): «له من التَّصانيف ما هو أشهر من أن يُوصف في الفقه والتَّواريخ واختلاف الصَّحابة والتَّابعين وعلماء الأمصار».
«وجمع وصنَّف الكثير حتى وقعَتْ ترجمة مصنَّفاته الكبار والصِّغار في أوراق». قاله الرَّافعي في «التَّدوين» (155/3).
ولقد كان الإمام ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- مُسَدَّدًا في التَّصنيف، ورُزق في مصنَّفاته السَّعد والقبول، وعمَّ النَّفع بها، وما بين أيدينا من مصنَّفاته خير شاهدٍ:
- فكتابه «تفسير القرآن العظيم» أصلٌ لا يُستغنى عنه في التفسير بالمأثور.
- وكتابه «تقدمة الجرح والتعديل» أصلٌ لا يُستغنى عنه في معرفة كبار الحُفَّاظ الأوائل، سِيَرهم وأخبارهم وفضلهم.
- وكتابه «الجرح والتعديل» أصلٌ لا يُستغنى عنه في معرفة الرِّجال، قال ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (357/35): «صنَّف كتاب (الجرح والتعديل) فأكثر فائدته». وقال عنه الذهبي[11]: «كتابٌ نفيسٌ». وقال[12]: «يدلّ على سعة حفظ الرَّجُل وإمامته». وقال ابن كثير: «وهو من أَجَلِّ الكتب المصنَّفة في هذا الشَّأن».
- وكتابه «علل الحديث» أصلٌ لا يُستغنى عنه في معرفة علل الرِّوايات، وتميّز بترتيب الأحاديث على الأبواب.
- وكتابه «المراسيل» أصلٌ لا يُستغنى عنه في معرفة من روى عن شيخٍ لم يسمع منه، وعليه بنَى الحافظ صلاح الدِّين العلائي كتابه «جامع التحصيل في ذكر رواة المراسيل»، ثم الحافظ وليّ الدِّين العراقي في «تحفة التحصيل».
- وكتابه «آداب الشافعي ومناقبه» عجيبٌ في بابه، كثير الفوائد مع صغر حجمه.
- وكتابه «بيان خطأ البخاري» كتابٌ بديعٌ، يَغْفُل عنه كثيرون، وهو كالتحقيق لكتاب «التاريخ الكبير» للإمام البخاريِّ، وفيه فوائد كثيرة.

تلاميذه:
قال الذَّهبي في «سير أعلام النبلاء» (264/13): «روى عنه: ابن عدي، وحسين بن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ بن حيَّان، وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مردك، وأحمد بن محمد البصير الرَّازي، وعبد الله بن محمد بن أسد الفقيه، وأبو علي حمد بن عبد الله الأصبهاني، وإبراهيم بن محمد بن يزداد، وأخوه أحمد، وإبراهيم بن محمد النَّصر آباذي، وأبو سعيد بن عبد الوهاب الرَّازي، وعلي بن محمد القصار، وخَلْق سواهم».

وفاته:
تُوفي الإمام ابن أبي حاتم إلى رحمة الله سنة سبعٍ وعشرين وثلاثمائة.

 التعريف بكتاب «تفسير ابن أبي حاتم»:
«تفسير القرآن العظيم مسندًا عن الرَّسول والصَّحابة والتَّابعين» لابن أبي حاتم من أَجَلِّ كتب التَّفسير بالمأثور، فقد عُني بتفسير القرآن بالسُّنَّة النَّبوية المطهرة، ثم بآثار الصَّحابة الكرام -رضي الله عنهم-، ثم بأقوال التَّابعين -رحمهم الله تعالى- وتابعيهم بإحسانٍ.

أولًا: توثيق نسبة «التفسير» لابن أبي حاتم:
هذا التفسير ثابت النِّسبة للإمام ابن أبي حاتم، ويدلّ على ذلك أمور، مع اتفاق النُّسَخ الخطية على نسبته له:

الأول: أنه رُوي بالإسناد إلى الإمام ابن أبي حاتم:

وممَّن رواه: الحافظ ابن حجر في «المعجم المفهرس» (ص108)، والروداني في «صلة الخَلَف بموصول السَّلَف» (ص173).
وروى الحافظ ابن حجر بإسناده منه أحاديث كثيرة في كتبه، خاصةً في «تغليق التعليق»، و«موافقة الخُبْر الخَبَر».

الثاني: أنه قد نقل منه جماعةٌ من الأئمة مُصَرِّحين به:

منهم: ابن تيمية في كتبه، وابن القيم في كتبه، وابن كثير في «تفسيره»، والزَّيلعي في «تخريج الكشاف»، وابن رجب في كتبه، وابن حجر في كتابه «فتح الباري» وغيره، والسيوطي في «الدُّر المنثور» وغيره، والصالحي في «سبل الهُدى والرَّشاد»، والشَّوْكاني في «فتح القدير»، والألوسي في «روح المعاني»، وصدّيق حسن خان في «فتح البيان»، والقاسمي في «محاسن التأويل»، ورشيد رضا في «تفسير المنار»، والمراغي في «تفسيره»، والطَّاهر بن عاشور في «التحرير والتنوير».

الثالث: أنه قد نسبه للإمام ابن أبي حاتم جماعةٌ كثيرةٌ:

منهم: ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (55/2)، والذَّهبي في «تاريخ الإسلام» (534/7)، وفي «سير أعلام النبلاء» (264/13)، وفي «تذكرة الحفاظ» (830/3)، والصَّفَدي في «الوافي بالوفيات» (136/18)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (113/15)، وفي «طبقات الفقهاء الشَّافعيين» (255/1)، والتَّاج السُّبكي في «طبقات الشَّافعية الكبرى» (325/3)، والزَّرْكَشي في «البرهان في علوم القرآن» (2/159)، وابن قاضي شهبة في «طبقات الشَّافعية» (79/1)، والسُّيوطي في «طبقات المفسِّرين» (ص63)، والدَّاوودي في «طبقات المفسِّرين» (286/1)، وحاجي خليفة في «كشف الظنون» (436/1)، والزِّرِكلي في «الأعلام» (324/3)، وغيرهم.

ثانيًا: عنوان الكتاب:
أكثر ما يُذكر الكتاب مُطلقًا، فيقال: «التفسير»، أو «تفسير ابن أبي حاتم»، أو يقال: «ابن أبي حاتم في تفسيره»، أو نحو هذا، وسمَّاه السيوطي في «طبقات المفسرين» (ص63)، والدَّاوودي في «طبقات المفسرين» (286/1): «التَّفسير المُسْنَد».
وسُمِّي في لوحة عنوان المجلد الأول: «تفسير القرآن العظيم مسندًا عن الرَّسول والصَّحابة والتَّابعين».

ثالثًا: منهج ابن أبي حاتم في تفسيره:
صنَّف ابن أبي حاتم «التفسير» وفق منهجٍ علميٍّ دقيقٍ، بيَّنه في مقدمته (ص14) قوامه:

1- أنه أخرج التَّفسير المُسْنَد مجردًا عن الحروف والرِّوايات وتنزيل السُّور.

2- أنه تقصَّى في تفسير آي القرآن حتى لم يترك حرفًا من القرآن وجد له تفسيرًا إلَّا أخرج ذلك.

3- أنه أخرج تفسير القرآن مختصرًا وحذف الطُّرق والشَّواهد.

4- أنه تحرى إخراج ذلك بأصحِّ الأخبار إسنادًا[13] وأشبهها متنًا.

5- أنه إذا وجد التَّفسير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر معه أحدًا من الصَّحابة ممَّن أتى بمثل ذلك.

6- أنه إذا لم يجد التَّفسير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجده عن الصَّحابة؛ فإن كانوا متَّفقِين ذَكَرَهُ عن أعلاهم درجةً بأصحِّ الأسانيد، وسمَّى موافقيهم بحذف الإسناد.

7- وأنه إذا وجد الصَّحابة مختلفِين ذكَر اختلافَهم، وذكَر لكلّ واحدٍ منهم إسنادًا، وسمَّى موافقِيهم بحذف الإسناد.

8- وأنه إن لم يجد التَّفسير عن الصَّحابة ووجده عن التَّابعين، عمل فيما وجد عنهم مثل ما عمل في تفسير الصَّحابة.

9- وكذا فعل في تفسير أتباع التَّابعين وأتباعهم.

وقد وُفّق الإمام ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- في تطبيق هذا المنهج تطبيقًا دقيقًا، وكلّ مَن طالَع هذا التَّفسير القيِّم يتبين له براعة مصنِّفه؛ فقد أحسن تصنيفه، وجوَّد ترصيفه، وأمعن في جمع رواياته؛ فرحمه الله تعالى من حافظٍ كبيرٍ ومفسِّرٍ قديرٍ.

رابعًا: ميزات الكتاب وخصائصه:
1- أنه مِن أجمعِ كُتبِ التَّفسير بالمأثور وأشملها، فهو يكاد يُفَسِّر القرآن كلمةً كلمةً، فيذكر أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقوال المفسِّرين في كلّ كلمةٍ، وتزداد قيمة الكتاب مع قلَّة الموجود من كتب التَّفسير بالمأثور؛ لذلك فإنّ بعض الرِّوايات التَّفسيرية لم نجدها إلَّا فيه.

2- عُلُوّ إسناده؛ فالإمام ابن أبي حاتم (ت327هـ) قد أدرك الأسانيد العالية، فإذا قورن «تفسيره» بما في أيدينا الآن من التَّفاسير الكبيرة بالمأثور كان في مرتبةٍ عاليةٍ، فهو في مصافِّ «تفسير الطَّبري» (ت310هـ)، و«تفسير ابن المنذر» (ت318هـ) -مع فقدان أكثره- وهو أعلى إسنادًا بكثيرٍ من تفاسير: الثَّعْلبيِّ (ت427هـ)، والواحديِّ (ت468هـ)، والبغويِّ (ت516هـ).

3- حُسْن العرض وجَوْدة التَّقسيم، فلم يكتفِ الإمام ابن أبي حاتم بجمع الرِّوايات وحشدها، بل عرضها عرضًا حسنًا، فيذكر تفسير كلّ آيةٍ مرتبةٍ منسقةٍ على أوجهٍ.

4- أنه عُني بالإشارة إلى اتفاق المفسِّرين، فيقول في غير موضع: «لا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسرين»، ينظر مثلًا (31/1، 34).

5- أنه يُشير أحيانًا إلى ضَعف بعض الرِّوايات، كقوله (28/1): «ورُوي عن عليِّ بن أبي طالب بإسنادٍ لا يُعتمد عليه».

6- أنه يُشير أحيانًا إلى اختلاف الرُّواة في متون الرِّوايات، ينظر (27/1، رقم 12-13).

خامسًا: مكانة «تفسير ابن أبي حاتم»:
لِمَا سبق من ميزات «تفسير ابن أبي حاتم» وغيرها فقد احتلَّ مكانةً مرموقةً بين كتب التَّفسير بالمأثور، وأثنى عليه أهل العلم ثناءً عطرًا، وممَّا قالوه في ذلك:

- قال الإمام الذَّهبي في «تاريخ الإسلام» (534/7): «قلَّ أن يُوجد مثلُّه».

- ونعَته الإمام الذَّهبي في «سير أعلام النبلاء» (264/13) بأنه: «من أحسن التَّفاسير».

- وقال الإمام ابن كثير في «البداية والنهاية» (113/15) عن ابن أبي حاتم: «وله (التَّفسير) الحافل الذي اشتمل على النَّقل الكامل، الذي يُرْبِي فيه على (تفسير ابن جرير) وغيره من المفسِّرين».

- وقال الإمام ابن كثير في «طبقات الفقهاء الشَّافعيين» (255/1)، والعلَّامة ابن قاضي شهبة في «طبقات الشَّافعية» (79/1) عن ابن أبي حاتم: «صنَّف الكتب المهمة، كالتفسير الجليل المقدار».

- وقال الإمام الزَّرْكَشي في «البرهان في علوم القرآن» (159/2): «ثُمَّ إنَّ محمد بن جرير الطَّبري جمع على النَّاس أشتات التَّفاسير وقرَّب البعيد، وكذلك عبد الرَّحمن بن أبي حاتم الرَّازي».

سادسًا: مخطوطات الكتاب:

للأسف لم يصلنا الكتاب تامًّا إلى الآن، فقد فُقِدَ منه جزءٌ كبيرٌ، فيه من أول تفسير الآية الثانية عشرة من سورة الرَّعد إلى آخر تفسير سورة الحجِّ، ومن أول تفسير سورة الرُّوم إلى آخر تفسير سورة النَّاس، إضافةً إلى تفسير أول (39) آية من سورة المائدة، وهذا بيان ما وقفتُ عليه من مخطوطات الكتاب؛ فقد وقفتُ له على أربع نُسخٍ، ونُسخة خامسة لم أقف عليها ذُكرت في الفهارس، وهذا بيانها:

النُّسْخة الأولى: نُسخة محفوظة في دار الكتب المصرية، برقم 15 تفسير:

تقع في مجلدين، هما: الأول والسَّابع؛ بيانهما:

الجزء الأول: يبدأ من أول التَّفسير، إلى تفسير قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 28]، ويقع في (248) ورقة، كُتب بخطٍّ مغربيٍّ قديمٍ، وعلى حاشية الورقة الأخيرة منه كتَب الإمام السُّيوطي: «الحمد لله فرغته اختصارًا... في ذي الحجة سنة 872 كتبه عبد الرَّحمن بن أبي بكر السُّيوطي». وعلى لوحة العنوان خطُّ إسماعيل بن جماعة الشافعي.

الجزء السَّابع: يبدأ من أول تفسير سورة المؤمنون، إلى نهاية تفسير سورة العنكبوت، يقع في(275) ورقة، بخطٍّ مغربيٍّ قديمٍ.

أول نسخة دار الكتب

النُّسخة الثَّانية: نُسخة محفوظة في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة برقمي 49، 50 تفسير:

تقع في مجلَّدين، هما: الجزء الثَّالث والرَّابع؛ بيانهما:

الجزء الثالث: يبدأ من تفسير قوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: 40]، إلى تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: 33]، ويقع في (245) ورقة، بخطٍّ مغربيٍّ، أول (9) ورقات منه كُتبت بخطٍّ مغايرٍ، فكأن الكراس الأول منه فُقِدَ فأُعيد كتابته من نُسخةٍ أخرى، وعلى حاشية الورقة الأخيرة منه كتَب الإمام السُّيوطي: «الحمد لله فرغته اختصارًا في ذي الحجة سنة 872 كتبه عبد الرَّحمن بن أبي بكر السُّيوطي».

الجزء الرَّابع: يبدأ من تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}[الأنفال: 34] إلى تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}[الرعد: 11]، يقع في (260) ورقة، كتب بخطٍّ مغربيٍّ، الورقة الأولى كُتبت بخطٍّ مغايرٍ، وعلى حاشية الورقة الأخيرة منه كتَب الإمام السُّيوطي: «الحمد لله فرغته اختصارًا في ذي الحجة سنة 872 كتبه عبد الرَّحمن بن أبي بكر السُّيوطي».

آخر النُّسخة المحمودية، ويظهر أسفلها خط الحافظ السُّيوطي

النُّسخة الثَّالثة: نُسخة محفوظة في مكتبة آيا صوفيا بإستانبول برقم 175:

الجزء الثَّاني: يحوي كامل تفسير سورتي آل عمران والنِّساء، كُتب بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ، ويقع في (205) ورقة، انتُهي من كتابته يوم الأحد الثَّاني والعشرين من رجب سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة، وهو مجلدٌ نفيسٌ، وعلى حواشيه نقولات كثيرة من «تفسير ابن المنذر»، و«تفسير ابن أبي حاتم».

أول نُسخة آيا صوفيا

النُّسخة الرَّابعة: نسخة محفوظة في دار الكتب الظَّاهرية بدمشق برقم 7312:

الجزء الأول من التَّفسير: يقع في (101) ورقة، ناقص من وسطه ومن آخره، يبدأ بأول التفسير، وينتهي بتفسير آخر سورة البقرة، سقط منه تفسير الآيات (14-193)، كُتب بخطٍّ نسخيٍّ قديمٍ[14].

أول نُسخة الظَّاهرية

والنُّسخة الخامسة: نُسخة محفوظة في المكتبة السَّعيدية بحيدر آباد برقم 122تفسير:

تقع في (292) ورقة، كُتبت سنة 1310هـ[15]. ولم أقف على هذه النُّسخة لأعرف محتواها، ولم تُعتمَد في أيٍّ من طبعتي الكتاب.

فبتأمل هذا الوصف الوجيز للمخطوطات يتبيّن عِدَّة أمورٍ:

الأول: أنَّ جُلَّ الموجود من التَّفسير ليس له غير نسخةٍ واحدةٍ، غير مقدِّمة التَّفسير وتفسير سورة الفاتحة وبعض تفسير سورة البقرة وأول تفسير سورة آل عمران.

الثَّاني: أن مجلدات نسختي دار الكتب والمحمودية الأربع هي في الأصل من نُسخةٍ واحدةٍ، وهي التي اختصر منها السُّيوطي الكتاب، وهذا يعني أن أصل هذه النُّسخة كان في اثنتي عشرة مجلدة، وأن مجلد آيا صوفيا ليس من هذه النُّسخة، وإن كان يُتمّم نقصًا كبيرًا وهو المجلد الثَّاني من نُسخة السُّيوطي؛ فقد كُرِّر بينهما تفسير أول تفسير سورة آل عمران، وفُقد بينهما تفسير (39) آية من أول سورة المائدة.

الثالث: أن نُسختَي الظَّاهرية وآيا صوفيا كانتا في الأصل من نُسخةٍ واحدةٍ، وأن مجلدات هذه النُّسخة أحسن تقسيمًا من مجلدات نُسخة السُّيوطي، وأصغر منها أيضًا؛ فالمجلد الأول من نُسخة السُّيوطي فيه تفسير (28) آية من أول سورة آل عمران زائدة عمَّا في المجلد الأول من هذه النُّسخة، والمجلد الثَّاني من نسخة السيوطي فيه تفسير (39) آية من أول سورة المائدة زائدة عمَّا في المجلد الثَّاني من هذه النُّسخة.

سابعًا: حجم الكتاب وقدر المفقود منه:

اختلف العلماء في ذكر حجم الكتاب، فوصفه الذَّهبي في «سير أعلام النبلاء» (264/13)، وفي «تذكرة الحُفَّاظ» (830/3)، فقال: «عِدَّة مجلدات»، وحددها الذَّهبي في «تاريخ الإسلام» (534/7)، فقال: «في أربع مجلدات كبار». وتبعه الصَّفَدي في «الوافي بالوفيات» (136/18)، والسُّبكي في «طبقات الشَّافعية الكبرى» (325/3)، فقالا: «في أربع مجلدات».

أمَّا السُّيوطي في «طبقات المفسِّرين» (ص63)، وتبعه الداوودي في «طبقات المفسِّرين» (286/1)، فقالا: «اثنا عشر مجلدًا».

ولا شك أن هذا الاختلاف راجع لحجم المجلَّدات، فالنسخة التي وقف عليها الذَّهبي كانت في أربع مجلَّدات كبار، والنُّسخة التي وقف عليها السُّيوطي كانت في اثنتي عشرة مجلدة.

وإذا كان ثلاث مجلداتٍ ممَّا بين أيدينا عليها خطُّ السُّيوطي أنه اختصره -كما تقدم- وهو يوافق قول السُّيوطي في «طبقات المفسّرين»: «لخصته في تفسيري». فعلى هذا فما بين أيدينا يعود لنسخة السيوطي نفسها، التي أصلها اثنتا عشرة مجلدة، فيكون المفقود من التَّفسير قدر سبع مجلَّدات مخطوطة؛ بيانها:

الجزآن الخامس والسادس: وفيهما من أول تفسير الآية الثانية عشرة من سورة الرعد إلى آخر تفسير سورة الحجِّ.

والأجزاء من الثامن إلى الثَّاني عشر: وفيها من أول تفسير سورة الرُّوم إلى آخر تفسير سورة النَّاس.

هذا إضافة إلى تفسير الآيات التِّسع والثَّلاثين من أول سورة المائدة التي فُقدت بين المجلدين الثَّاني والثَّالث من المخطوط، كما تقدم بيانه[16].

***

خلاصة القول: أنَّ الإمامَ عبد الرحمن بن أبي حاتم إمامٌ كبيرُ القدرِ كثيرُ المصنَّفات النَّافعة، ولم يأخذ حقَّه في الدِّراسات والبحوث الحديثة، خاصةً جانب المفسِّر من شخصيته؛ فكتابه «تفسير القرآن العظيم» كتابٌ جليلٌ يدلّ على براعته في التَّفسير، ولا يزال أكثر التَّفسير مفقودًا، ولم يُعتنَ بدراسته العناية الكافية، وأرجو أن يكون هذا المقال قد أشار إلى شيءٍ من الاعتناء بهذا الكتاب الكبير، وأن يبعث على العناية بدراسته، والبحث عن مخطوطاته المفقودة.

واللهَ -سبحانه وتعالى- أسأل أن يمنَّ علينا بنُسَخٍ تامَّةٍ منه، وأسأله -سبحانه- أن يمنَّ علينا بالعثور على بقية مصنَّفات الإمام ابن أبي حاتم أو بعضها؛ إنه جوادٌ كريمٌ، وأن يوفقنا لما فيه رضاه، والحمد لله ربِّ العالمين.

 

[1] مصادر ترجمته كثيرةٌ، منها: «الإرشاد» للخليلي (683/2)، و«تاريخ دمشق» لابن عساكر (357/35- 366)، و«التدوين في أخبار قزوين» للرافعي (153/3-155)، و«سير أعلام النبلاء» (263/13-269)، و«تاريخ الإسلام» (533/7-536)، و«تذكرة الحفاظ» (829/3)؛ ثلاثتها للذهبي، و«الوافي بالوفيات» للصَّفَدي (136/18)، و«طبقات الشَّافعية الكبرى» للسُّبكي (325/3).

[2] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (361/35).

[3] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (360/35).

[4] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (361/35- 362).

[5] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (361/35).

[6] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (359/35).

[7] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (359/35).

[8] لفظ (الأبدال) جاء ذكره في كلام كثير من السَّلَف، يُطلقونه على أهل الصَّلاح والتُّقى؛ لأنهم أبدالٌ عن الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-. وينظر: «جامع المسائل» لابن تيمية (67/2-68).

[9] «لسان الميزان» لابن حجر (130/6).

[10] «تاريخ دمشق» لابن عساكر (363/35).

[11] «سير أعلام النبلاء» (264/13).

[12] «تاريخ الإسلام» (534/7).

[13] تنبيه: قوله: «بأصح الأخبار إسنادًا» لا يستلزم صحة كلّ خبرٍ، قال الإمام النووي في «الأذكار» (ص185): «فإنهم يقولون: «هذا أصحُّ ما جاء في الباب» وإن كان ضعيفًا، ومرادهم أرجحه وأقلُّه ضعفًا». وإنِّما عنى الإمام ابن أبي حاتم أنه طهَّر التفسير من روايات الكذابين والمتروكين، أمثال: محمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن مروان السُّدِّي ونحوهما، وقد روى الإمام ابن أبي حاتم في «التفسير» أحاديث وآثار ضعيفة، على قاعدة «من أسند فقد أحال»، فمثلًا روى في «التفسير» (138/1، رقم 705) عن ابن عباس، قال: «من لبس نعلًا صفراء لم يزل في سرورٍ ما دام لابسها؛ وذلك قول الله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}. ونقل في «العلل» (2473)، وفي «الجرح والتعديل» (325/9) عن أبيه قوله: «هذا حديثٌ كذبٌ موضوعٌ». ففي مقام الرواية والجمع أظهر السَّنَد، وفي مقام النَّقد بيَّن أنه كذبٌ، فعلى من أراد أن يحتج بحديثٍ أو أثر موجود في «تفسير ابن أبي حاتم» البحث عن ثبوته أوَّلًا.

[14] «فهارس علوم القرآن الكريم لمخطوطات دار الكتب الظاهرية» (114/3-115).

[15] ذُكرت في «الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، علوم القرآن- مخطوطات التفسير وعلومه» (42/1).

[16] أمَّا طبعات الكتاب فسأتكلم عنها -بإذن الله تعالى- مفصَّلة في مقالات أخرى لاحقة.

الكاتب

حسين عكاشة

باحث ومحقق للتراث، وله العديد من التحقيقات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))