التفسير الفلسفي للقرآن (4)
منهج التفسير الفلسفي عند أبي يعرب المرزوقي؛ الضوابط والأبعاد.

الكاتب : محمد كنفودي
يُعدُّ أبو يعرب المرزوقي أحد أبرز المعاصرين اشتغالًا بمسألة التفسير الفلسفي للقرآن، فما هي أبرز الضوابط المنهجية والأطر التي يقوم عليها التفسير الفسلفي عنده؟ هذا ما تحاول هذه المقالة الإجابة عليه.

تسهيم:

  يقول أبو يعرب المرزوقي:«دعوى الختم تعني حقيقتها الصادقة أن القرآن صار مكتفيًا بذاته؛ لتضمنه شروط فهمه؛ فعلاقة الجزء بالكلّ، وعلاقة الجزئي بالكلِّي -لأنه بعضٌ من كلّ، وعيّنة من كلِّي- تجعلانه منظومة من المعطيات القابلة للتحليل العقلي الموصل إلى علم اجتهادي نظير لعلم الكون؛ بل أفضل منه وأكثر يقينية؛ لعلّتَين:

1- لأن المدونة متناهية حتى وإن كانت دلالاتها لا متناهية.

2- ولأنها أعدّها الله لكي تساعد على فهم الكون، بخلاف الكون الذي هو شرط مادي للاستخلاف، قد يسّرها الله لمساعدة الإنسان في تحقيق الاستخلاف بصفة الشرط الرمزي»[1].

مقدمة:

  إنّ مما هو متفق عليه بين أهل النظر، أنّ منهج التفسير كلما كان صحيحًا قويمًا معتبرًا محررًا كلما كانت نتائجه كذلك، وكلما كان فاسدًا منحرفًا مفرطًا، كلما كانت نتائجه كذلك سواء بسواء، باعتبار أن منهج التفسير هو الحاكم والمتحكم في عمليات وقيمة الدلالات المتوصّل إليها تفسيرًا وقراءة، فضلًا عن أن المنهج ليس هو من باب ما ينشأ مرة واحدة دفعة واحدة في وقتٍ واحدٍ، وإنما هو بقدر قبوله للتّجويد الدائم، يقبل -أيضًا- الإنشاء الإبداعي استئنافًا، بناءً على مقتضيات ضوابط منهجية محددة، عامّة أو خاصّة[2].

نجتهد في هذه المقالة الرابعة من مقالاتنا حول التفسير الفلسفي للمرزوقي في عرض أهم الضوابط المنهجية التي قدّم في ضوئها أبو يعرب المرزوقي اجتهاده التفسيري الفلسفي المعاصر لنصّ القرآن، ومنها:

أولًا: التفسير الفلسفي وناظم التّعدد الدّلالي اللّانهائي للنصّ القرآني:

تعدّ نصوص القرآن على مستوى ناظم (الدلالة) أو (المعنى)، مفتوحة دومًا على مطلق أزمنة التأويل الإنساني بمختلف أنظمتها المعرفية؛ إذ في كلّ (زمن تأويلي) أو (نظام معرفي) أو (سياق ثقافي) قُرئت، إلا وظهرت ركائز دلالية عدة لم تكن معهودة في سالف الأزمان، تفوق الحصر والعدّ، إلى أنْ يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها، بمعنى أنّ النصّ القرآني وإن كان ثابتًا على مستوى المادة -اللغة- إلا أن معانيه مما هو متحرك وليس بثابت أبدًا[3].

والأسس المنهجية التي بنى عليها أبو يعرب المرزوقي هذا التصور الكلي كثيرة، منها:

1. تعدّ نصوص القرآن من منظور أبي يعرب المرزوقي متجددة دومًا على مستوى الدلالة تجدد آيات ونظام الكون الخِلقي، باعتبار تحقيق نظر الناظر، لا بالنظر إلى ذاتية إنيّتهما؛ إذ قد اعتبر الآيات النصيّة القرآنية من الدرجة الأولى، في حين الآيات الكونية الخِلقية اعتبرها من الدرجة الثانية، وكلاهما يتطلبان تجدّد وتعدّد العمليات التفسيرية، أو قل: التأويلية[4]، ما دام أنهما معًا يدرجان ضمن ما سماه أبو يعرب المرزوقي بـ(الظاهرات القابلة لتعدد التأويلات الإمكانية)، والتي تُنزَّل كلّها على قدم المساواة إلى أن يظهر ما هو أفضل وأحسن قيلًا منها في المجالين معًا، مع توالي الزمن وتطور النظر الاجتهادي[5].

2. دلالات نصوص القرآن ليست أبدًا متناظرة مع المفردات أو التراكيب أو هما معًا، بالنظر إلى أن الأخيرة وإن كانت محدودة أو معدودة نصًّا أو لغة، فالأولى تعدّ نسيجًا أكثر ثراء وتعدُّدًا لا متناهيًا، وهو ما أنضج مناهج التفسير والقراءة، والتي هي في الأخير إمكان من جملة إمكانات اجتهادية متدرجة للوصول إلى تفسير أمثل لنصوص القرآن دون حصول التطابق أبدًا بين الفُهُوم الاجتهادية المقترحة والنصوص القرآنية الثابتة، لكون غاية السبيل إليها لا متناهية أبدًا، ما دام أن (الإمكان) -كما هو معلوم- غير (الوجوب)[6].

3. إنّ مختلف عمليات التأويل أو التفسير المتعلقة موضوعيًّا بنصوص القرآن، لا يتسنى لها التمكن من الإحاطة التامّة بدلالات نصوص القرآن، حتى بالوجه الذي اختارته، وزعْم الإحاطة ممتنع التحقق؛ لامتناع الإحاطة بالغيب المطلق، والقرآن جزء من الغيب الذي يستحيل بموجبه حصر المطلق في النسبي؛ إذ القرآن يتضمن -دومًا- ما هو متعالٍ عن محدودية الفهم الإنساني في مطلق أزمنة التأويل المتتالية[7]. والقول أو الزعم بالعلم المحيط المطابق كليًّا لدلالات نصوص القرآن، أو انتفاء المجهول على مستوى الدلالة، بقدر كون القائل به مكذّبًا بالقرآن، وواقعًا في شراك الوَهم الأكبر، ومناقضًا لقانون العقل، بقدر كونه يؤسس لسلطان الاستبداد المعرفي الذي يحوّل الاجتهادات الفرضية إلى (علم مطلق واجب)، ولا يوجد -حسب أبي يعرب المرزوقي- (علم عقلي اجتهادي نهائي)، بل الكلّ (فرض مؤقت)[8]. ولا يتسنى لمطلق الاجتهادات الإنسانية -بما فيها الصادرة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن تكون حقائق مطلقة[9]، وتلك هي علّة الدعوة إلى الاجتهاد الدائم المستمر[10]؛ ليبقى الفرع فرعًا، والأصل أصلًا، ولا يتحول مع الزمن الفرع بديلًا عن الأصل أو يتقدمه في الاعتبار؛ لذلك فإنّ دلالات نصوص القرآن على درجتين: الأولى: درجة مطلقة لا يعلمها إلا الله تعالى؛ لكونها من الغيب المطلق المحيط المطابق. الثانية: درجة نسبية الفهم الإنساني المؤقت دومًا. والعلم الاجتهادي من أي جهة صدر، وفي أي زمن انبثق، لا يتمكّن من البلوغ إلى حقائق الأشياء أو الظواهر وكنهها كليًّا ونهائيًّا[11].

4. إنّ المعرفة الاجتهادية الإنسانية إذًا تبقى دومًا محدودة ونسبيّة دون الإحاطة أو المطابقة المطلقة بينها وبين موضوعها، ويبقى موضوعها ليس محدودًا على مستوى مَحمولات الفُهوم الإنسانية[12]. وهذا ما ينطبق تمامًا على علاقة المفسِّر بالنص المفسَّر، الذي جعل أبا يعرب المرزوقي يؤكد على أن مدخل (الإعجاز العلمي)، لا يصلح منهجيًّا لتفسير نصوص القرآن كما سيأتي بالنظر إلى اعتبارات عدة، أهمها: تثبيت النسبي باسم المطلق، وإلغاء مفعول مَفهُوم (الاجتهاد المتّصل) أو (المتواصل).

5. إنّ نصوص القرآن لا تحتوي على (المعنى) فقط، بل تشمل -أيضًا- ما سماه عبد القاهر الجرجاني بـ(معنى المعنى)[13]، وهو ناظم منهجي أساسي يعتمده أبو يعرب المرزوقي في سبيل تأسيس منهج التفسير الفلسفي المعاصر، الذي لا علاقة له إطلاقًا بما سُمي في تاريخ الفكر الإسلامي بـ(مقاصد الشريعة)؛ ذلك أن (مقاصد الشارع الحكيم لا يعلمها إلا الله تعالى)، بوصفها من (الغيب المطلق) المحجوب كليَّةً عن نظر الخلق كما سلف القول[14].

وقد توسل المتن اليعربي بمفهوم (معنى المعنى) لتحقيق جملة مَرامٍ، منها:

أ. إنّ مفهوم (معنى المعنى) يعدّ الشّرط الكافي لتجاوز الخطاب الإسلامي المعاصر ضروبَ التعبير اللساني ذي الدلالات الخاصة، أو قل: القومية، إلى التعبير الكوني ذي الدلالات العامة، أو قل: الإنسانية، خصوصًا على مستوى التبليغ[15]، وهو الذي يتوافق مع روح الرسالة الإسلامية ورؤيتها للوجود؛ إِذْ كما ينصّ أبو يعرب المرزوقي أنه لا يمكن أن يكون القرآن رسالة إلى كلّ الناس، ثم تكون دلالاته مقصورة على آليات الإفادة في لسان خاصّ، وهو اللسان العربي الذي أُنزِل به نصّ وحي القرآن[16].

ب. إنّ مفهوم (معنى المعنى) الذي يتوسل به أبو يعرب المرزوقي، هو الذي يشكّل أساس التمييز بين (المعنى المباشر) للنصّ و(المعنى اللامباشر) للنص (معنى المعنى)؛ فالمعنى اللامباشر، لا يكون محددًا مسبقًا، ولا يمكن -أيضًا- أن يكون واحدًا بعينه، بل هو لا متناهٍ بذاته، وليس بحسب المؤولين فحسب[17].

ج. إنّ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، يعدّ من منظور أبي يعرب المرزوقي تعبيرًا غير مباشر؛ لكونه يتعلق بما لا يوصف من قِبَل البشر، وليس تعبيرًا مجازيًّا قابلًا للاستنفاد، بل إنّ معنى معناه اللامباشر يمهّد بدوره لمعنى ثالث، وهو بدوره يمهد لمعنى رابع، وهكذا إلى ما لا نهاية، ليكون كلّ معنى يتحقق إدراكًا موضوعيًّا يمكن أن يكون مادة لإدراك آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية[18].

د. إنّ مفهوم (معنى المعنى) حسب أبي يعرب المرزوقي، ليس من باب التفسير الرمزي القائم على المقابلة بين المجاز والحقيقة، بل إنه من أهم ما يستخدم في سبيل نفي كلّ تشبيه للذات الإلهية؛ فالمعنى يمكن أن يكون أو أن يبدو من باب التشبيه، الذي هو وجه من أوجه (الشرك) مهما كان مجردًا، أما (معنى المعنى) الثاني أو الثالث أو غيرهما، فقائم على التوجه صوب اللامتناهي، قصد التخلّص من المعنى التشبيهي، من باب قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11][19].

وعليه فإن (معنى المعنى) وتواليه اللانهائي يكون هو المنهج الموضوعي للتدليل على مختلف متجليات خصوصية ماهية إنية نصّ وحي القرآن في مطلق الأزمنة، ومن هنا أطروحة أبي يعرب المرزوقي القائلة بأن النص القرآني يحتوي ما لا نهاية من الدلالات، ولا يمكن لأيّ اجتهاد أن يحيط بها كلها في مختلف أزمنة التأويل أبدًا.

ثانيًا: التّفسير الفَلسفي وانتفاء جدوَى منهَج الإعجاز العلمي في تفسير النصّ القرآني:

بدأ تفسير نصوص القرآن بالمعارف العلمية منذ الأزمنة الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي[20]، وتوسّع القول به اليوم أكثر من قِبَل ما يسمى بـ(أهل الإعجاز العلمي) في القرآن[21]، نقلًا عن ما توصل إليه الاجتهاد الغربي من معارف علمية متعلقة بالنظام الخِلقي؛ سواء خَلق الكون أو خَلق الإنسان أو غيرهما، وتحولت مع الزمن إلى شبه مسلَّمات علميّة تخضع لها نصوص القرآن الخبرية الخلقية بمختلف طرق التأويل إخضاعًا[22]، وقد أجمع العديد من الباحثين والمفكرين المعاصرين على عدم جدوى وفاعلية هذا المسلك[23]، من بينهم أبو يعرب المرزوقي، ورفضه لذلك المنهج القائم على الربط والمتابعة تقويلًا وتسويغًا، تجده قائمًا على الأسس الآتية:

1. إنّ مطلق ما يتوصل إليه الاجتهاد الإنساني في مختلف المراحل التاريخية يعدّ مجرد تصورات افتراضية نسبية إمكانية، لا تبلغ حدّ الإطلاق أو الإحاطة أو الوجوب؛ بالنظر إلى أن ما حواه قول وخَلق الله تعالى دائمًا يتضمن نسبةً من التعالي والتجدد بتجدّد الزمن، ولا يستنفد إطلاقًا؛ لكونه من (الغيب) الذي لا يحيط به إلا الله تعالى؛ وحصر أو تفسير نصوص القرآن بالمعارف العلمية المتوفرة في السياق الغربي مهما بلغت نسبَة علميّتها، يفضي إلى تجفيف نصوص القرآن على مستوى الدلالة أو الخبر، فضلًا عن الزعم أو ادّعاء الإحاطة المحجوبة بالغيب عن علم واجتهاد الناس الآخرين في عموم الأزمنة السالفة تحديدًا[24].

2. إنّ ترسيخ المنهج القائم على جعْلِ المعارف العلمية المتوصّل إليها اجتهادًا مقياسًا كليًّا عامًّا لحقائق النصوص القرآنية الخبرية، التي هي من طبيعة متعالية عليها، بحكم خصائص إنيتها، دون أن تكون منافية لها أحيانًا؛ لأنها تدعو إلى طلبها بأسبابها وعدم إطلاقها، لتبقى مفتوحة للتجويد الدائم في إطار التوجهات والسنن المبثوثة[25]، يؤدي -أيضًا- إلى توقف أو تعطيل آلية الاجتهاد المتصل المأمور به نصًّا، ينتج عنه كذلك جعل محمولات نصوص القرآن تابعة تبع الفرع للأصل لما يكتشفه هذا أو ذاك من العلماء، والأصل أن يحدث العكس؛ أن يكون الاجتهاد الإنساني مسترشدًا بما ترمز إليه نصوص القرآن، وأن يكون تابعًا تبعية الفرع للأصل[26]، فضلًا عن أن القرآن -كما يلحّ أبو يعرب المرزوقي- لا يتعين منهجيًّا أن يؤوّل في ضوء العلم الوضعي؛ لأنه ما بعده وما بعد غيره مطلقًا[27].

3. إنّ تأويل الرموز القرآنية المتعلقة بالخلق الخبري بمختلف ما ظفر به أهل (الإعجاز العلمي في القرآن) من معارف علميّة معاصرة، قائم على ناظم عدم فقههم بأن العلم الإنساني اليوم -كما ينصّ أبو يعرب المرزوقي- هو من (أساطير الآخرين)؛ فـ(أساطير الأولين) كانت علمًا في عصرهم من جنس ما يتوسل به أهل (الإعجاز العلمي) اليوم، إلا أن الناس اليوم اعتبروها (أساطير الأولين)، وسيأتي زمان تصبح المعارف العلمية اليوم، التي عُدّت علمًا قائمًا من (أساطير الآخرين)، فتتحول نصوص القرآن بالتبع مجرد (أساطير)؛ سواء كانت (أساطير الأولين)، أو (أساطير الآخرين)، أو (أساطير ما بينهما) أو غيرهما[28]. ومن المعلوم أنّ كلّ ما يتعلق بما هو (أسطوري) منفي عن القرآن نصًّا[29].

وعليه فإنّ الاستعانة في تفسير نصوص القرآن الخبرية أو الخِلقية أساسًا بالنظريات العلمية الغربية أو المعاصرة، بقدر ما يؤسطِر النص القرآني ويسيّجه بسياجات دوغمائية مغلقة، ينفي غيبه المستقبلي أساسًا، فيتحول بالتبع إلى مجرد نصّ تاريخي، وهذا منافٍ لخصائص القرآن؛ ولذلك اجتهد أبو يعرب المرزوقي في سبيل بيان تهافت هذا المسلك بأساليب شتى.

ثالثًا: التّفسير الفلسفي ومنهجُ الفَرض والافتراض أو الاستنتاج في قراءة النص القرآني:

إذَا كان من أهمّ ما يدلّ على سلامة منهج تفسير نصوص القرآن الاجتهاد المتعدد والمتواصل في سبيل البحث عن نسَق القرآن الكلي أو الجزئي، ما دام أنه عبارة عن وحدة تامّة كاملة لا تتجزأ، بحيث إنّ أمارة وحدتها موجودة في كلّ آية على حدة؛ مما يجعل الآية الواحدة قطعة من الكلّ تعرّف بموقعها ومنزلتها فيه. فتكون كلّ آية إذًا متضمنة لكلّ القرآن[30]، فإنّ المنهج الذي يتناسب مع ذلك كله، هو ما سماه أبو يعرب المرزوقي بـ(منهج الفرض) أو (الافتراض) و(الاستنتاج)، الذي ينتسب تاريخيًّا على مستوى التأسيس المنهجي إلى ابن خلدون [ت: 808هـ][31]؛ لذلك يتعيّن التحوّل أو الانتقال من منهج (الجمع) و(الوصف) و(الاستقراء) إلى (منهج الفرض) أو (الافتراض) و(الاستنتاج) لفهم نصوص القرآن على نحو أنسب وأمثل[32]. ويقصد به أبو يعرب المرزوقي بوصفه أساس المعرفة الاجتهادية التي يكون موضوعها الآيات النصية القرآنية تحديدًا[33]، هو أنّ القرآن يعدّ جملة من (الظاهرات) التي قد تظهر مبعثرة الجزئيات أو المكوّنات، والتي يتعيّن طلب نظام عِقدها الكلي أو العام، من وراء ما تتّصف به من تبَعثُر أو تفكك؛ إذ التوصل إلى نظامها الماوراء يكون سبيله منهج (الفرض) أو (الافتراض) و(الاستنتاج)[34]، ومختلف الفرضيات المقترحة تعدّ عقلية لا تجريبية، وحقائق نسبية لا مطلقة، فضلًا عن أنها من باب الشروط القبلية[35]. ومدار الفرضيات هو كلّ مقوّمات التاريخ الإنساني ومحدداته؛ من حيث إستراتيجيته وسياسته بعلمه المتعالي من قيم الرسالة الإسلامية التي أنزلت لهذا الشأن أو الغاية[36] فتكون إذًا النظرية الاجتهادية التي يقوم عليها التفسير الفلسفي لأبي يعرب المرزوقي قائمة في صلبها على تحديد المبادئ الفرضية التي يبدعها الاجتهاد الفعلي، ليعبّر بها عن فهمه لموضوعه.[37].

ومما يدل على بعض ما سلف، تجد أن الله تعالى في القرآن قد أمر بالنظر في آيات الأنفُس والآفاق، من باب الدعوة إلى الاختبار الموضوعي العلمي[38]. والقصد الأخير من كلّ ما سلف، هو أن مطلق الاجتهادات يبقى الصالح منها دائمًا مجرد (فرضية)، ولا يصبح حقيقة نهائية أبدًا؛ إذ كلّ شيء وجودي يتضمن وجهًا من أوجه (الغيب المطلق) المجهول، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في مطلق أزمنة الاجتهاد والتأويل الممكنة في تاريخ الفكر الإنساني أو الإسلامي[39].

رابعًا: التّفسير الفَلسفي ومنهج التّفسير الطّبيعي للنصّ القرآني:

وضع اسبينوزا[40] منهجًا لتفسير النصّ التَّوْراتي قائمًا على أنّ تفسير النصوص التوراتية الدينية لا يختلف عن تفسير الظاهرات الطبيعية الخِلقية على المستوى المنهجي في كتابه: (رسالة في اللاهوت والسياسة)[41].

وفي هذا السياق العام تجد أنّ أبا يعرب المرزوقي قد انصهر منهجه في نفس مسلك هذا النَّسَق التفسيري؛ إذ قد شدّد على القول بأنّ أمور (الشريعة النصيّة) من جنس أمور (الطبيعة الخِلقية) على كلّ المستويات، وبالتحديد المستوى المنهجي والدلالي، بالنظر إلى الأسس الآتية:

1. إنّ معطيات الكون الطبيعي الخِلقي، إذا كانت قائمة الذات وجودًا وإدراكًا، فكذلك معطيات النصّ الشرعي المنزل وجودًا وإدراكًا[42]؛ لذا فإنّ منهج فهم معطيات الطبيعة الموضوعية هو نفسه بالتمام والكمال منهج فهم أو قراءة النصوص الشرعية سواء بسواء، ما دام أنهما من طبيعة واحدة مصدرًا ودالًّا، والاجتهاد فيهما ينصبّ على البحث عن نسقهما الواحد الجامع؛ إذ الأمر الخِلقي الطبيعي لا ينفصل عن الأمر الخُلقي الشرعي، للتخلص من (التنافي بين أمور الشرائع وأمور الطبائع)، فضلًا عن طلب نظام عقدهما الرباني من وراء ما تتصفان به من تبعثر الجزئيات الظاهرة[43]، وصلب منهج قراءتهما معًا قائم على (الفرض) أو (الافتراض) و(الاستنتاج)، لا على (الجمع) أو (الوصف) و(الاستقراء) كما سبق تفصيل القول في ذلك.

2. إذا كانت كلّ الظاهرات الطبيعية قابلة للتأويل المتعدد واللامتناهي، وكلّ تفسير أو تأويل لها لا يبلغ مرتبة الاجتهاد الحاسم والنهائي، أو قل: المطابق، ولا يستنفدها، أو قل: لا يأتي عليها تجفيفًا، بل يعدّ مجرد تفسير أو تأويل أو فرض مؤقت إلى أن يظهر أفضل منه وأحسن قيلًا[44]، فتكون بالتبع كلّ التأويلات أو الفهوم ممكنة ومقصودة، أو على الأقل معتبرة، وتعددها وتكوثرها مقصود، أو على الأقل معتبر، إلا أنّ كلّ ما يقدم من اجتهادات تأويلية لرموز الظاهرات الطبيعية يبقى الصالح منها مجرد فرضية، ولا تتحول إلى حقيقة مطلقة ونهائية؛ إذ ما وراءها أو فوقها دائمًا غيب مطلق، أو هو من المتعالي الذي يستعصي عن الإحاطة الاجتهادية البشرية، فكذلك هي أمور الشريعة النصيّة سواء بسواء[45].

3. إنّ التفسير الفلسفي لنصوص القرآن بمنهج قراءة الظاهرات الطبيعية أو الكونية، الذي يشدد عليه أبو يعرب المرزوقي، يأتي في سياق مقتضيات مفهوم (الإبداع الجذري)، بمعنى أن يكون بعيدًا عن الملاحقة أو المتابعة لما يتوصل إليه الاجتهاد الغربي المعاصر من تفسيرات للظاهرات الطبيعية، فيسقط ذلك على نصوص القرآن المتعلقة بها حصرًا، كما ينهج أرباب (الإعجاز العلمي في القرآن)؛ إِذْ من شأن هذا المسلك القائم على تسويغ المسبقات التي أُحْكِم بناؤها خارجًا عنه أن يُعمِي النظر التفسيري عن كشف النَّسَق القرآني في تعاليه المجرد عن الظرفيات، وتلاحمه مع غايات الظاهرات الطبيعية توحدًا[46].

خامسًا: التّفسير الفلسفي ومنهج الاكتفاء البيَاني الذّاتي للنصّ القرآني:

يعدّ هذا المنهج ذا ارتباط وثيق وعضوي بالمنهج السالف الذكر، أو هو من متجلياته الأساسية، والقائم على أن ما يحكم تفسير الظاهرات الطبيعية هو نفسه ما يحكم النصوص القرآنية على المستوى المنهجي تحديدًا بسواء بسواء؛ فإذا كان وجود الظاهرات الطبيعية قائمة الذات موضوعيًّا وجودًا وإدراكًا، فكذلك نصوص القرآن الشرعية[47]، ويقصد به أبو يعرب المرزوقي أن القرآن بوصفه نصًّا خاتمًا، يقتضي أن يكون مكتفيًا بذاته على مستوى (البيان) و(التبيين المبين الذاتي) دلالة وحكمًا؛ لتضمنه الشروط الذاتية والموضوعية الكافية لفهمه حقّ الفهم[48]، بعيدًا عن مطلق (الوسائط من المعينات الخارجية المُحمّلة)، سواء كانت مذهبية أو تاريخية أو غيرهما.

ومن أهم الشروط التي يتأسس عليها (منهج الاكتفاء البياني الذاتي) لنصوص القرآن من المنظور اليعربي، نذكر ما يأتي:

1. إنّ مدونة نصّ القرآن إذا كانت متناهية على مستوى الآيات أو الوحدات النصيّة، فهي علامة من منظور أبي يعرب المرزوقي دالّة على أنها منظومة معطيات قابلة للتحليل الموضوعي الداخلي، للوصول إلى علم اجتهادي نظير علم الكون، بل أفضل وأيقن منه، لكون مدونة نصّ القرآن متناهية، عكس مدونة الكون، فهي غير متناهية؛ وذلك ينعكس على نسَب اليقين المتوصل إليه اجتهادًا[49].

2.إنّ نصّ القرآن إذا كان وحدة كلية لا تتجزأ، والتي تنعكس أجزاؤها على كلّ آية من آيات القرآن كله؛ لتكون الآية الواحدة متضمنة لكلّ القرآن، فمراعاة علاقة الجزء بالكلّ، أو علاقة الجزئي بالكلي، من شأنه أن يفضي إلى دلالات نصوص القرآن بصورة موضوعيّة داخلية، بعيدًا عن أي إسقاط أو تسويغ أو تقوّل أو تأويلٍ مُفرَطٍ[50].

3. إنّ نصّ القرآن إذا كان قد حدد الأفق المبين المطلق للوجود الإنساني، فإنه بالتبع يتضمّن ذاتيًّا كلّ ما من شأنه أن يبلغ إلى الإبانة أو الكشف النسقي الداخلي عن المعنى المبتغى؛ إذ الأمر الناظم الكلي مشعر بتحديد شروط أو ضوابط الفهم الجزئية[51].

خاتمة:

بِناءً على ما تقدّم؛ فإن اجتهاد أبي يعرب المرزوقي كان منصبًّا رأسًا على وضع تأسيس لمجموعة من الضوابط المنهجية الجديدة، التي تمكّن من تقديم تفسير فلسفي معاصر لنصوص القرآن الحكيم؛ سواء مأصولة في التراث الإسلامي العربي عمومًا، والتفسيري منه خصوصًا، أم كانت منقولة عن الفكر الغربي الحديث والمعاصر.

الكلمات المفتاحية:

- مفهوم (أزمنة التأويل)، ويقصد به كلّ المراحل التاريخية التي تم فيها تفسير وإعادة تفسير نصوص القرآن، منذ أن اكتمل تنجيم نزول القرآن، بانتهاء (زمن النزول) بموته -عليه الصلاة والسلام- وإلى اليوم.

- مفهوم (معنى المعنى)، ويقصد به المعنى الثاني أو الثالث أو غيرهما من المعاني المتوالية، الذي مهّد لبنائه معنى سابق، ثانٍ أو ثالث أو رابع وهلمَّ جرًّا.

- مفهوم (المأصول)، ويقصد به ما تم تأسيسه في سياق تاريخ الفكر الإسلامي، بالنظر إلى علاقة المرحلة المتأخرة بالمتقدمة على مستوى الزمن، أو في علاقة الخلَف بالسلَف.

- مفهوم (التأويل المُفرط -البعيد- الغريب)، ويقصد به منهج من مناهج النظر التفسيري للنصّ القرآني، يأتي بدلالات ومعانٍ لا تتوافق مع النصّ المقروء سياقًا ومقصدًا.

 

[1] الجلي في التفسير، تونس، الدار المتوسطية للنشر، ط1، 2010م، ج1، ص221.

[2] من الضوابط المنهجية العامة أو الكلية التي اعتمدها أبو يعرب المرزوقي اجتراحًا، تجد ما يمكن تسميته بمفهوم (الرؤية)، الذي يتأسّس منهج التفسير الفلسفي المعاصر عليه، خصوصًا الشقّ الأول من المفهوم الذي سماه بـ(إستراتيجية القرآن التوحيدية)، والشقّ الثاني الذي وسمه بـ(منطق السياسة المحمدية). الجلي في التفسير، ج1، ص49، 242. ج3، ص186.

[3] الجلي في التفسير، ج1، ص229. ج3، ص152، وفلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، بيروت، لبنان، دار الهادي، ط1، ص148.

[4] الجلي في التفسير، ج1، ص221، وفلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، ص105، 320، وحرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة، ص238.

[5] وحدة الفكرين الديني والفلسفي، بيروت، لبنان، دار الفكر المعاصر، ط1، 2001م، ص23.

[6] الجلي في التفسير، ج1، ص195، وتحديات وفرص، وفرص محاورات في أحوال الفكر والسياسة عند العرب والمسلمين، أبو يعرب المرزوقي، دمشق، سوريا، دار فرقد، ص167.

[7] الجلي في التفسير، ج1، ص17، 48.

[8] حرية الضمير والمعتقد في القرآن والسنة، قراءة نقدية لأسس الفكر الكلامي وبعض أنصاره الجدد، أبو يعرب المرزوقي، تونس، الدار المتوسطية للنشر، ط1، 2008م، ص238، والثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني، تونس، الدار المتوسطية للنشر، ط1، 2010م، ص20، 21، ووحدة الفكرين الديني والفلسفي، ص23.

[9] الجلي في التفسير، ج1، ص52.

[10] تحديات وفرص، ص167.

[11] شروط نهضة العرب والمسلمين، لبنان، بيروت، دار الفكر المعاصر، ط1، 2001م، ص223، 224.

[12] الجلي في التفسير، ج1، ص16، 17، 214.

[13] أسس عبد القاهر الجرجاني المفهوم كما هو معلوم في كتابيه: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز.

[14] الجلي في التفسير، ج3، ص100.

[15] الجلي في التفسير، ج1، ص172، 263.

[16] الجلي في التفسير، ج1، ص172.

[17] في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، بيروت، لبنان، دار الطليعة، 2000م، ط1، ص32، 33.

[18] الجلي في التفسير، ج1، ص265، 266.

[19] الجلي في التفسير، ج2، ص164.

[20] من بين أهم التفاسير التراثية التي سلكت ذلك المسلك تجد: مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير لفخر الدين الرازي.

[21] من بين أهم التفاسير الحديثة والمعاصرة التي سلكت ذلك المسلك تجد المصنفات الآتية: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الطنطاوي جوهري. القرآن محاولة فهم عصري، مصطفى محمود. التوحيد، عبد المجيد الزنداني. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان. فضلًا عن مختلف كتابات زغلول النجار وغيرهم.

[22] مما يدل على ذلك، تأمل الآيات الآتية: [الذاريات: 47-49]، [الطور: 5]، [الرحمن: 17، 18]، [القيامة: 38]، [المؤمنون: 12-14].

[23] من بينهم محمد عابد الجابري الذي يرفض تفسير القرآن بذلك، ويعتبره مجرد (تشويش وتشويه). انظر: مواقف إضاءات وشهادات، ع31، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2004م، ص39-47.

[24] الجلي في التفسير، ج1، ص16، 17.

[25] الجلي في التفسير، ج2، ص67، 176.

[26] الجلي في التفسير، ج3، ص67. يقول أبو يعرب المرزوقي: «فالسذاجة المعرفية هي الظنّ بأن الحقائق العلمية -النسبية- يمكن أن تكون مقياسًا للحقائق القرآنية -المطلقة-، التي هي من طبيعة متعالية عليها دون أن تكون منافية لها؛ لأنها تدعو إلى طلبها بأسبابها وعدم إطلاقها حتى تبقى مفتوحة للتجويد الدائم في إطار التوجهات والسّنن، وهو معنى الاجتهاد المتصل؛ لذلك فالسّنن أو الحقائق القرآنية، ليست قوانين علمية، بل هي توجهات وجودية أو مسارات للتكون الخَلقي والخُلقي تحدد شروط البداية والغاية دون تعيين كمّي، بل هي تقتصر على التّعيين الكيفي المحدد لدلالات الأشياء، من حيث هي آيات على الحكمة الإلهية». الجلي في التفسير، ج2، ص66، 67.

[27] فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، ص202.

[28] الجلي في التفسير، ج2، ص176. ينصّ أبو يعرب المرزوقي، أن فلك بطليموس قد صار من أساطير الأولين، وكان العلماء يتصورونه علمًا مطلقًا، فأوّلوا القرآن في ضوئه. وكلّ خرافات التصوف وإخوان الصفا والفلاسفة، ليست في الحقيقة إلا تأويلًا للنصوص القرآنية في ضوء فلك بطليموس، والآن تبيّن أن فلك بطليموس من أساطير الأولين. وسيأتي يوم يتبين فيه أن فلك كوبرنيكوس من أساطير الأولين، رغم كونه اليوم من علم المتأخرين؛ إنّ العلم المطلق هو ما جاء به القرآن، الذي لا يتغير مع العصور، فيكون علمًا في كلّ عصر. الجلي في التفسير، ج2، ص176.

[29] تأمل النصوص القرآنية الآتية: [الأنفال: 31]، [الفرقان: 5]، [الأنعام: 26].

[30] الجلي في التفسير، ج2، ص141.

[31] الجلي في التفسير، ج1، ص207، 208. بوصف ابن خلدون -كما ينص أبو يعرب المرزوقي- قد وضع في المقدمة فرضيات قبل أن يمتحنها تمحيصًا في كتاب التاريخ.

[32] الجلي في التفسير، ج1، ص17، 20، 231.

[33] الجلي في التفسير، ج1، ص48، 214، 10.

[34] الجلي في التفسير، ج1، ص10، 21.

[35] الجلي في التفسير، ج1، ص207، 208.

[36] الجلي في التفسير، ج1، ص21، 22.

[37]الجلي في التفسير، ج1، ص11.

[38] الجلي في التفسير، ج1، ص10. يعدّ قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت: 53] من أهم النصوص القرآنية التي يتوسل بها أبو يعرب المرزوقي في سبيل إنجاز تفسيره الفلسفي المعاصر، كما يورد النصّ القرآني في سياقات عديدة، أهمها سياق الاستدلال على جدوى منهج (الفرض) أو (الافتراض) و(الاستنتاج). الجلي في التفسير، ج1، ص10.

[39] تحديات وفرص، ص167، ووحدة الفكرين الديني والفلسفي، ص23، والثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني، ص21، والجلي في التفسير، ج1، ص14، 17.

[40] اسبينوزا، هو باروخ اسبينوزا (1632-1677)، فيلسوف يهودي ولد في هولندا، ينحدر من عائلة من اليهود البرتغاليين الذي هاجروا إلى أمستردام بسبب الاضطهاد، وهو أحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر، وأحد رواد (التنوير الراديكالي)، يعده البعض ديكارتيًّا، حيث انتهج منهج الشك الديكارتي الذي أرساه في (المبادئ الأولى) وطبّقه على النصوص المقدسة وعلى العقائد، إلا أنه في الفلسفة قد خالف ديكارت؛ فقد تجاوز ثنائيات ديكارت حول الجسد والروح والمادة والفكر، وطرح فلسفة تقوم على وجود جوهر واحد هو الطبيعة أو الله -هما عنده نفس الشيء- وهو جوهر لا مُتَناهٍ له حالتان، وهما: الامتداد، والفكر. والجوهر وحالتاه اللانهائيتان هو (الطبيعة الطابعة)، وتتعدد حالاته الجزئية وهي (الطبيعة المطبوعة)؛ كذلك فقد خالف ديكارت في المنهج، حيث رأى ضرورة بدء الفلسفة من الجوهر والاستنباط منه بصورة هندسية وليس البدء من الذات كما تفترض فلسفة ديكارت. النتائج التي خلص إليها حول الوحي وحول تاريخ الأسفار المقدسة وكتابها أدى لحرمان الكنيسة له واعتباره مطرودًا وملعونًا بسبب هرطقاته، من أشهر كتبه كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) وكتاب (الأخلاق)، وهو مترجم للعربية، ترجمه: جلال الدين سعد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ط1، 2009م، واسبينوزا من أكثر الكُتّاب الذين اختلف فيهم الباحثون والفلاسفة، فثمة من يجعله أقسى الملحدين، وثمة من يجعله متصوفًا من طراز رفيع.

[41] يقول اسبينوزا  في سياق بيان منهج تفسير نصّ التوراة: «إنه لا يختلف في شيء عن المنهج الذي نتبعه في تفسير الطبيعة، بل يتفق معه في جميع جوانبه، فكما أن منهج تفسير الطبيعة يقوم أساسًا وقبل كلّ شيء على ملاحظة الطبيعة، وجمع المعطيات اليقينية، ثم الانتهاء منها إلى تعريفات الأشياء الطبيعية، فكذلك يتحتم علينا في تفسير الكتاب أن نحصل على معرفة تاريخية مضبوطة... إنّ هذه الطريقة ليست هي اليقينية فحسب، بل هي الطريقة الوحيدة الممكنة». رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة: فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، لبنان، ط 2008م، ص224، 225.

[42] شروط نهضة العرب والمسلمين، ص11، 238.

[43] وحدة الفكرين الديني والفلسفي، ص23، إصلاح العقل في الفلسفة العربية، ص16، 17، والجلي في التفسير، ج1، ص10، 21.

[44] تحديات وفرص، ص167، ووحدة  الفكرين الديني والفلسفي، ص23، وفي العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، ص32، 33.

[45] إصلاح العقل في الفلسفة العربية، ص16، 17، وشروط نهضة العرب والمسلمين، ص233، 334، ووحدة الفكرين الديني والفلسفي، ص23.

[46] الجلي في التفسير، ج1، ص16، 17. ج2، ص66، 67، 176، وفلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، ص202، 203.

[47] شروط نهضة العرب والمسلمين، ص11، 238.

[48] الجلي في التفسير، ج1، ص203، 212.

[49] الجلي في التفسير، ج1، ص221.

[50] الجلي في التفسير، ج2، ص141. ج1، ص221.

[51] الجلي في التفسير، ج1، ص203.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))