موت النبي، نهاية حياة محمّد وبدايات الإسلام
لـ ستيفن ج. شوميكر
موت النبي؛ نهاية حياة محمّد وبدايات الإسلام[1][2]
لـ ستيفن ج. شوميكر[3]
بول نوينكيرشن[4]
قبل الخوض في تفاصيل النصّ الـمُراجَع، علينا أنّ نشيرَ إلى أن المؤلِّف (ستيفن شوميكر)، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة (أوريجون)، ليس مختصًّا في الدراسات الإسلامية، بل في تاريخ المسيحية القديمة عامّةً والتقاليد المبكّرة لمريم العذراء على وجه الخصوص[5]. هذه معلومة مهمّة نظرًا لاستخدام (شوميكر) منهجية نقدية قوية مُستمَدّة من النقد الكتابي وقلّما استُخدمتْ في الدراسات الإسلامية.
ومن المهم أن نؤكّد على حقيقة مفادها أن كتاب (موت النبي) يتبع بصورة جليّة مسار الدراسة الشهيرة (الهاجريون) لـ(باتريشا كرون)[6] و(مايكل كوك)[7] المنشورة عام 1977م، والتي كانت الأُولى من نوعها؛ إِذْ ألقَت الضوء على بدايات الإسلام عبر استخدام مصادر غير إسلامية معاصرة. ورغم أن (الهاجريون) قدّمت رؤية جديدة بحقّ للفترة التكوينية للإسلام، إلا أنّ أحد أوجه القصور -كما وُضّح عدّة مرات (ص: 1)- هي أنّ كلًّا من (كرون) و(كوك) لم يكونَا ناقدين بالقدر الكافي للمصادر غير الإسلامية التي رجعَا إليها[8].
من هنا يأتي (شوميكر) ليعيد فتح تحقيق سَلَفَيْه بتحليل وتقييم المصادر الثلاثة -كلٌّ على حِدَة- المستخدمة في (الهاجريون) التي تتحدّث عن النبي (محمّد) -الذي تفيد المصادر بأنه توفي عام 632م- وأفادت أنه كان على قيد الحياة أثناء غزو (فلسطين) عام 634م. ويضيف المؤلِّف إلى تلك الوثائق المبكرة ثمانية مصادر قديمة أخرى.
الفصل الأول من الكتاب يهدف إلى الفحص الناقد لكلّ تلك المصادر، خاصةً بالاعتماد على كتاب: Robert G. Hoyland (روبرت ج. هويلاند) Seeing Islam as Others Saw It (الإسلام كما رآه الآخرون) (صدر الكتاب في نيوجيرسي، 1997م)، الذي يترجم ويعلّق على أغلبها. ويصرّ (شوميكر) على حقيقة أنّ تلك الوثائق مستقلّة بعضها عن بعض، مما يعني أنها ليست ذات مصدر مشترك. يريد المؤلِّف أن يوضح أنّ العديد من النصوص الأقدم من التقليد الإسلامي (المتمثّل في السيرة والحديث) والتي ليست جزءًا من (التاريخ المقدس) تحتفظ بدلائل مبكّرة عن حياة النبي أكثر من الـمُعتقد. وعلى الرغم من أنّ القراءة الأُولى للفصل الأوّل قد تقنع القارئ بوجود مرويات عن وفاة محمد عام 634م، ولكنها مُحيت لاحقًا من المصادر المعتمدة، فإنّ نظرة فاحصة ستثير مزيدًا من الشكوك والارتباك. ونصف الوثائق الـمُحققة لم تتكلّم بإيضاح عن مشاركة النبيّ في غزو الشرق الأدنى. على سبيل المثال، مخطوطة (تعليمات يعقوب - Doctrina Iacobi) (634م) نصّت فقط على «أنّ نبيًّا قد ظهر، وجاء بالسارسين...»، بينما كتاب: (حوليّات عربستان) (حوالي 660م) يقول نصًّا: «وكان محمد قائدهم [أي أبناء إسماعيل]... وذهبوا إلى أرض البيزنطيين...». علاوة على ذلك، فإنّ المصادر الأربعة الأقدم -وصولًا إلى القرن السابع الميلادي- كانت مختزلة وغامضة فيما يتعلّق بهذا الأمر.
لذلك بالنسبة إليّ، فإنّ تلك النصوص لا يمكن أن تقدّم توضيحًا دامغًا أنّ (محمدًا) قادَ فتوحات الشرق الأدنى بنفسه، أو حتى على أنه كان ما يزال حيًّا في هذا الوقت. وهناك فرق بين القول بأنّ العرب -الذين كان قائدَهم محمدٌ- زحفوا إلى (فلسطين)، وبين الكتابة عن وجود محمد بنفسه معهم. ورغم ذلك، فإنّ الأهمية التي لا تخضع للجدال لبعض هذه الوثائق المبكرة للغاية وغيرها، تكمن في شيء آخر، تحديدًا في الطريقة الإسكاتولوجية التي تصوِّر الحركة الجديدة بقيادة (محمد). وهكذا، فقد أشار المصدر الأول إلى نبيّ السارسين الذي «بشَّر بوصول الممسوح القادم، المسيح»، كما صوّر المصدر الثاني محمدًا «أنه تحقيق للآمال اليهودية عن انتظار المسيح»، (ص: 28). بناءً عليه، يمكننا إضافة مقطع من كتاب (فصل الخطاب) ليوحنّا بن الفنكي (686م- 687م تقريبًا) الذي ذكره (شوميكر) باختصار (ص: 211)، والذي يتحدث عن (محمد) بصفته موجِّهًا أو مرشِدًا (بني هاجر) أو (الهاجريّون) (المهديّون)[9]. جديرٌ بالذِّكْر أنه بدلًا من ترجمة الكلمة السريانية إلى مجرّد (موجِّه)، فإنه بإمكاننا هاهنا أن نتساءل عمّا إذا كنّا أمام اقتباس من الكلمة العربية (مهدي) بمعنى (المخلِّص الآخِروي) الـمُتوقع مجيئه في آخر الزمان[10]. إذا كانت تلك هي حقيقة الأمر، فربما يكون لدينا إثبات مُوغِل في القِدَم على أنّ محمدًا كان يَعُدّه بعضُهم هذا المخلِّصَ أثناء حياته.
يركّز الفصل الثاني على إشكالية استخدام المصادر الإسلامية التقليدية -التي ترجع لِمَا بعد القرن الهجري الأوّل- لتسليط الضوء على حياة محمد. وبرغم أن هذا الموضوع ليس بجديد، بل ونُوقش بإسهابٍ بشكلٍ أو بآخر في دراسات سابقة، إلا أنّ (شوميكر) نجح في العرض الواضح لجدال أكاديمي غربي معقَّد حول أصالة الأخبار والأحاديث وأسانيدها. ومن وجهةِ نظرٍ مختلفة (ص: 80- ص: 90) يصرّ (شوميكر) على حقيقة أن سيرة ابن هشام (ت: 218هـ، 833م) على سبيل المثال هي على صعيد انعكاس لتصوّر المسلمين عن حياة نبيّهم بعد وفاته بقرنٍ أكثر من كونه مصدرًا تاريخيًّا، وعلى صعيد آخر فإنّ الطريقة التي صُوّر بها تحمل «تأثير النماذج النبوية من التقليد الكتابي» (ص: 114). يشير (شوميكر) إلى أنّ حياة (محمد) كما وردَت في السيرة مبنية بصورة مباشرة على حياة (موسى)، (يشير إلى كتاب: The Eye of the Beholder [عين الناظر] لـ"أوري. روبين"). ويمكننا أيضًا أن نضيف أنّ بعض مراحل حياته كانت مستوحاة من قصة (إشعياء) من العهد القديم. فعلى سبيل المثال: الوحي الأول لمحمد، الذي بدأ بـ«جاءني جبريل وقال لي: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟»، يبدو جليًّا استناده إلى إصحاح (إشعياء) [40، 6]: «صوتٌ قَائِل: نَادِ. فقال: بِمَاذَا أُنَادِي؟». وبالرغم من هذه الملاحظات، فإنّ المؤلِّف يتولّى مهمّة فحص الطريقة التي يتصوّر بها هذا النصّ وغيره من النصوص (روايات الزهري المذكورة في [مصنّف عبد الرزاق] وفي [طبقات ابن سعد]، وغيرهما) وفاة محمد.
وبرغم الأهمية البالغة لِمَا يلي، خاصّةً فيما يخصّ الروايات المختلفة المتعلّقة بعُمْر النبيّ وسَنَة وفاته (يتراوح بين الستين والخمسة والستين عامًا)، والتي عُرضت بالتوازي مع النقوش المكتوبة (ص: 114- 115)، إلا أنّ استبعاد (شوميكر) للأحاديث الشيعية كان مؤسفًا. فبالتركيز على النصوص السُّنِّيَّة فحسب، فإنّ المؤلِّف يسلك درب القصور المؤسِف في الدراسات الإسلامية الغربية التي كانت منذ نشأتها تميل بقوة إلى: إمّا رفض المواد الشيعية باعتبارها من إنتاج (الزنادقة)، أو تجاهلها كليًّا. الأمر مؤسِف؛ إِذْ إِنّ بعض المصادر الشيعية العتيقة مثل: (كتاب [سُليم بن قيس]) -الذي عُرف أيضًا باسم (كتاب السقيفة)- الذي كُتِب جزء منه أثناء أول عقدين من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، ويقدِّم رؤى مثيرة للاهتمام ومختلفة وموغِلة في القِدَم عن موت (محمد). وبالفعل، الفصل الثاني من الكتاب مُكرَّس بالكامل لهذه المسألة بالتحديد، ومن خلاله يمكننا أن نعرف على سبيل المثال أنه كانت هناك مؤامرة لمنع النبي من كتابة وصيته الأخيرة، وأنه مات مسمومًا في نهاية المطاف[11].
الفصل الثالث بالنسبة إليّ هو الأكمل والأعمق في الكتاب؛ فهو يعالج قضيةً طالما أُهملت رغم أهميتها البالغة، وهي مكانة وأهمية الآخرة الوشيكة في الإسلام المبكّر، وبذلك يفتح ملفًّا قديمًا ومنسيًّا بغير حقّ يعود تاريخه إلى بدايات الدراسات الغربية للإسلام التي بدأها باحثون مثل: Paul Casanova (بول كازانوفا)[12] أو Snouk Hurgronje (سنوك هرخرونيه)[13]، (ص: 120- 124)، ويقارن (شوميكر) هذه المجموعة الصغيرة الأُولى من دارسي الإسلاميات بعددٍ كبيرٍ من أتباع (ث. نولدكه) الذين تجاهلوا البُعد الأخروي للقرآن كي يركِّزوا على (محمد) كمصلح اجتماعي على سبيل المثال. وكي يفعل ذلك، يلجأ (شوميكر) إلى القرآن -وهو كتاب يحتوي على تعاليم (محمد) الأوّلية- على نحو مذهل: باستخدام طرق النقد الكتابية التي تتضمّن على سبيل المثال محاولة العثور على (التموضع الاجتماعي Sitz im Leben) في مقاطع عديدة منه من أجلِ تحديد الحقبة الزمنية التي تنتمي إليها (ص: 136- 138). يتخلى المؤلِّف بطريقة مقبولة عن الثنائية التقليدية التي تَعتبر السور إمّا مكية وإمّا مدنية، وبدلًا من ذلك يقرّ بأنّ المقاطع المتعلّقة بالآخرة هي قديمة بالتأكيد وتعكس مرحلة بدائية من حركة (محمد)، (ص: 160). ويقترح بعد ذلك تسلسلًا زمنيًّا رباعيًّا مثيرًا للاهتمام لتفسير تطوّر الخطاب القرآني الأخروي الذي سألخصه في النقاط الآتية بإيجاز:
1- تناقش الآيات الأقدم من القرآن نهاية العالم الوشيكة، وتنطوي على أنّ موعدها الحتمي سيكون في حياة (محمد) كما في (سورة الأنبياء، آية 1)، أو (سورة النحل، آية 1)، أو (سورة الكهف من الآية 31 إلى الآية 44)، -وآخر مثالين بنفس ترتيبهما يتشابهان مع الآية 15 من الإصحاح الأول من إنجيل مرقس[14]، والآيات 13 إلى 21 من الإصحاح 12 من إنجيل لوقا[15][16]-، وتتحدّث عن العلامات الفلكية التي ستحدُث أو التي حدثَت بالفعل وتمثِّل نذيرًا بحلول النهاية، وتردُّ على المكذِّبين بالساعة (كما في سورة الصافات، من الآية: 170- 179).
2- يغيِّر القرآنُ خطابَه بعض الشيء برفضه إعطاء جواب حاسم عن موعد الساعة، مُقرًّا بأنّ عِلم موعدها عند الله (راجع الآيات 187 من سورة الأعراف، و31 من سورة سبأ)، وهذه الآيات أيضًا تتشابه مع مقطع من العهد الجديد كما في الآية 36 من الإصحاح 24 من إنجيل (متّى)، التي تقول أنّ الله وحده يعلم متى تأتي الساعة[17].
3- لتبرير عدم قيام الساعة بعدُ، تمّت إضافات لاحقة للنسخة النهائية من القرآن، تفيد بأنّ هناك فرقًا كبيرًا بين الوقت الأرضي والسماوي (انظر سورة الأنبياء، آية 47)، وهي تقنية استُخدمت أيضًا في التقليد المسيحي.
4- وآخِرًا، يقترح (شوميكر) النظر في مجموعة أخرى من الإضافات للقرآن تتألّف في الإدراج المتأخّر “a posteriori” لكلمتي (لعلّ) و(عسى أن) للنصّ المعتمد “canonical text”. وعند إضافة تلك الكلمات إلى بداية آية كانت تقول قديمًا: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ وفقًا لإقرارها بالنهاية الوشيكة سابقًا، فإنها تضفي الشك وتحيِّد اليقين بالاقتراب الوشيك نحو افتراض ﴿...لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [سورة الأحزاب، آية 63].
لا شكّ أن هذه الطريقة مقنعة للغاية للنظر في تطوّر خطاب القرآن حول نهاية العالم من مرحلته البدائية خلال حياة (محمد) حينما كانت دعوته «مدفوعة إن لم تكن محدّدة بالإيمان بقيام الساعة الوشيك» (ص: 188)، إلى مرحلة تم فيها تحرير نسخة القرآن (غالبًا أثناء حكم "عبد الملك بن مروان" كما يلاحظ "شوميكر")، فلأنّ النبيّ توفي قبل قيام الساعة، كان لا بدّ من إضافة بعض التعديلات في النصّ الذي سيصبح نصًّا ثابتًا لا يتغيَّر “Qurʾānic text ne varietur”. تمثِّل تداعيات هذا التطور أهمية كبيرة، سواء على تحوّل الدعوة الدينية الآخِروية التي لا تشهد النهاية، والتي عليها إعادة النظر في طبيعة الدعوة بعد موت نبيّها، أو على تاريخ النصّ القرآني. وكِلا الأمرين من دون شكّ، يحتاجان لمعالجة جادّة. ومع ذلك، فإنّ تلك الملاحظات حول التطوّرات النصّية قد تكون واعدة، إلا أنها تفشل في تفسير سبب ترك الفئة الأُولى من الآيات على حالها في القرآن، وسلامتها من التحرير أو الإضافات من النوع الرابع.
يسعى الفصل الرابع لفحص طبيعة دعوة محمد الأُولى، ويقوم (شوميكر) بذلك على مرحلتين؛ الأولى تتألّف من التركيز على العناصر اليهودية كما وردَت في المصادر غير الإسلامية المبكّرة (كما في «تاريخ [سيبيوس] المنحول» أو «أسرار الحاخام [شمعون بن يوحاي]» الذي يتحدث عن جماعة المؤمنين بـ«محمد» بوصفها «نوعًا من الحركات اليهودية المسيحانية»). أو المصادر الإسلامية، مثل: («دستور المدينة» الذي يُدرج فيه جماعات يهودية بين جماعة «محمد» الآخِروية)، ثم مراجعة جوانبها المسيحية لاحقًا. ينجح المؤلِّف في المهمّة الثانية عبر ملاحظته أن القرآن يتحدّث عمومًا عن المسيحيين بإيجابية رغم احتوائه على مقاطع رافضة للثالوث بصورة حاسمة، والتي يعدّها إضافات لاحقة ترجع إلى حقبة (المروانيين). كذلك يعود (شوميكر) إلى بعض المصادر المسيحية التي تعود للقرن السابع الميلادي، ليشير إلى أنها لا تحمل أثرًا لخطاب جدليّ موجَّه إلى (الهاجريين)، بل إنها تتحدّث عنهم بطريقة جيدة، حتى تذكر أنّ الأشخاص الراغبين في الانضمام إلى جماعة المؤمنين يمكنهم الحفاظ على إيمانهم.
كلّ هذه العناصر جعلَت (شوميكر) يصف دعوة (محمد) الأُولى بأنها (غير مذهبية -non confessional) (أو بدلًا من ذلك "عقائدية - inter-confessional" ص: 203)، و(لا طائفية – nonsectarian)، و(مسكونية – ecumenical) (ص: 205). تلك الصفات والأفكار التي تحملها، والـمُستمدة من كتابات (فرد دونر) وبالأخصّ كتاب (محمد والمؤمنون)[18]، الذي يقتبس (شوميكر) منه بصورة متكررة، هي صفات وأفكار إشكالية. ومن بين أسباب أخرى لا يسعنا مناقشتها باستفاضة هنا، فإنّ اعتبار حركة المؤمنين هذه (مسكونية) هو أمر إشكالي؛ لأنها «بحكم الأمر الواقع - De Facto» ستقتضي ضِمنًا أنها أحادية ومتجانسة "monolithic" ومركزية، وهذه ليست حقيقة بأيّ حال من الأحوال، ولأنّ القرآن بكلّ ما فيه من جدالات (خاصّة ضد اليهود) لا يمكن اعتباره نصًّا مسكونيًّا[19]. علاوة على ذلك، فإنّ ثنائية (شوميكر) (اليهود/ المسيحيون) تتجاهل للأسف عناصر ممكنة أخرى للدعوة المبكّرة، بالأخصّ وجود اليهود المسيحيين.
الجزء الثاني من الكتاب يقدّم حُجّة أكثر إقناعًا في إظهار أنّ (القدس) -المدينة الأبوكاليبتيكية بامتياز- كانت المحور الرئيس لحركة المؤمنين الشباب، ليس كجزء من توسّع الإسلام (وهي مفارقة تاريخية واضحة)، ولكن لإنقاذها من أيدي البيزنطيين وانتظار يوم الحشر هناك. يعود (شوميكر) مجددًا إلى تاريخ (سيبيوس) ليثبت أن تحرير الأرض المقدسة كان يُعتقد أنه محور رسالة (محمد)، قبل أن ينظر في القرآن الذي تغيب عنه القدس بشكلٍ واضح، (ص: 217- 219). وبسبب هذه الحقيقة البسيطة، تضعف هنا حُجَج المؤلِّف، ورغم إغراء رؤية الآية 114 من سورة (البقرة) بمثابة إشارة إلى أنقاض هيكل (القدس)، إلا أنها لا تُعَدّ دليلًا دامغًا. قد أميل لرؤية أن غياب (القدس) عن القرآن -وهي مدينة ذات دلالة واضحة في الإسلام المبكّر (ص: 221- 234)- دليلٌ معاكسٌ على أهميتها الأساسية (على سبيل المقارنة، لم يُذْكَر أيٌّ من معاصري (محمد) -العائلة أو الأصدقاء أو الأعداء- في القرآن باستثناء (زيد بن حارثة) الذي كانت أهميته شديدة الضآلة، إن لم نقل أنها معدومة في الإسلام المتأخر).
يختتم (شوميكر) بقوله إنّ انتقال القداسة الجغرافية من (القدس) إلى (مكة والمدينة)، الذي حدث ربما في خلافة (عبد الملك بن مروان)، يكشف عن رغبة في إظهار هوية دينية أصيلة ومستقلة: «إنّ إِرْجَاء الساعة لفترة طويلة أدّى إلى تحويل إيمان المؤمنين الأوائل باليوم الآخر إلى طائفة توحيدية نقلت التاريخ المقدّس لأسلافها من اليهود والمسيحيين إلى مشهد (الحجاز) الجديد»، (ص: 251).
وعلى الرغم من ذكره لـ(قبة الصخرة) وربطها بمعبد القدس، (ص: 233- 236)، إلا أن المؤلِّف لم يُشِر للأسف ولو لمرّة واحدة إلى بحثه الفذّ (“Christmas in the Qur.an: The Qur.anic Account of Jesus’ Nativity and Palestinian Local Tradition) (عيد الميلاد المجيد في القرآن: الرواية القرآنية لـ(يسوع). الميلاد والتقاليد الفلسطينية المحلية). (Jerusalem Studies in Arabic and Islam 28 (2003), pp. 11- 39). ربما يرجع ذلك لكون البحث يناقش بحُجّة مقنعة حقيقة أنّ النموذج المعماري لـ(قبة الصخرة) مأخوذ من كنيسة (كرسي مريم) التي تقع في المنتصف بين (القدس) و(بيت لحم)، وليس (معبد القدس).
إنّ كتاب (موت النبي) لـ(ستيفن شوميكر) من وجهة نظري أحد أكثر الكتب الموصَى بها بالنسبة لكلٍّ من المبتدئين الذين سيجدون نظرة عامة مفيدة على المناقشات الغربية بشأن بدايات الإسلام، بالإضافة إلى العديد من النقاط المثيرة للاهتمام لمزيد من الاستطلاع، وكذلك للباحثين الأكثر تقدّمًا في دراسات الإسلام الذين بإمكانهم الاستفادة من المناقشات المثيرة التي تقدمها فرضيات المؤلّف ومنهجيته. وبرغم بعض أوجه قصوره كما ذُكر في هذه المراجعة، فإنّ دراسة (شوميكر) نجحت في تقديم صورة معقولة عن تحوّل حركة المؤمن المرتكزة حول الإيمان بإله واحد وبالآخرة الوشيكة إلى دين عالمي مؤسّسي بعد وفاة النبي (محمد) بعدة عقود وتداعيات ذلك الأمر. ومن بين أكثر تلك التداعيات إثارة للاهتمام هي مسألة تشكيل القرآن. إن حركة إسكاتولوجية مثل حركة المؤمنين الذين كانوا بانتظار أن يشهدوا يوم القيامة في مستقبل قريب لم يكن لديهم الوقت الكافي ولا الحاجة إلى تشكيل كتاب نهائي وثابت. لم يُقر كتاب مقدّس إلا حين لم تَقُم الساعة في حياة «محمد»، وبالتالي لزم إعادة النظر في طبيعة الدعوة. أصبح لزامًا بعد ذلك إعادة النظر في طبيعة وعِلّة وجود عناصرها في ضوء السياق التاريخي لظهورها (مع استبعاد التقسيم المكي/ المدني لتبنّي تقسيم أكثر نقدية لا يسمح بالحديث عن المقاطع التي ترجع إلى (محمد) فحسب، ولكن أيضًا لما قبل وبعد محمد)، وللقيام بذلك باستخدام وتطوير المنهجية الـمُقترحة في الفصل الثالث، (والتي لا تحدد (التموضع في السياق الاجتماعي الثقافي Sitz im Leben) فقط للنصوص، بل (التموضع في الكتاب Sitz im Buch) على سبيل المثال).
[1] هذه الترجمة هي لعرض كتاب: (The Death of a Prophet. The End of Muhammad’s Life and the Beginnings of Islam) ، المنشور في مجلة:Studia Islamica 111 ، عام 2016، ص317- 323.
[2] ترجم هذا العرض: أمنية أبو بكر، مترجمة، لها عدد من الأعمال المنشورة.
[3] ستيفن شوميكر Stephen J. Shoemaker: حاصل على الدكتوراه من جامعة ديوك بنورث كارولينا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أستاذ الدراسات الدينية بجامعة أوريجون، تخصّصه الأساس في التاريخ المسيحي وتاريخ الإنجيل بصورة خاصّة، له دراسة حول تاريخ التقاليد المبكّرة حول العذراء مريم بعنوان:The Ancient Traditions of the Virgin Mary’s Dormition and Assumption (Oxford University Press, 2002) (التقاليد المبكّرة حول رقاد العذراء وصعودها)، كما له اهتمام بالتاريخ الإسلامي كذلك، وله كتاب شهير في هذا السياق هو:The Death of a Prophet: The End of Muhammad’s Life and the Beginnings of Islam (University of Pennsylvania Press, 2011)، موت النبي: نهاية حياة محمد وبداية الإسلام، وصدر له مؤخرًا كتاب حول تاريخ القرآن، بعنوان:Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study (University of California Press, 2022). ، خَلْق القرآن: قراءة نقدية تاريخية. (قسم الترجمات)
[4] باحث بمعهد اللاهوت التاريخي بجامعة برن السويسرية، تتركَّز اهتماماته في مسألة الآخرة في القرآن، حيث دارت حولها أطروحته للدكتوراة، كما يهتم بالتفاسير الإسلامية الكلاسيكية وبالتناص بين القرآن والكتاب المقدس. (قسم الترجمات)
[5] أول كتاب لشوميكر كان عنوانه: Ancient Traditions of the Virgin Mary’s Dormition and Assumption (Oxford University Press, Oxford-New-York, 2002
[6] باتريشيا كرون (1945م- 2015م): هي مستشرقة أمريكية من أصل دانمركي، وتعدّ أهم روّاد التوجّه التنقيحي، وصاحبة أفكار ذائعة الصيت حول تاريخ الإسلام المبكّر وتاريخ الإسلام؛ حيث تشكّك في كون القرآن الذي بين أيدينا يعود إلى القرن السابع الميلادي، كما تشكّك في كون الإسلام قد نشأ في مكة الحالية، لها عددٌ من الكتب المهمّة، على رأسها الهاجريزم مع مايكل كوك (1977م)، وهو مترجَم للعربية، حيث ترجمه: نبيل فياض، بعنوان: (الهاجريون: دراسة في المرحلة التكوينية للإسلام)، وصدر عن المركز الأكاديمي للأبحاث، بيروت، 2015م، وكتاب: تجارة مكة (1987م)، وهو مترجَم للعربية أيضًا، حيث ترجمته: آمال محمد الروبي، وصدر عن المركز القومي للترجمة، مصر، 2005م. وقد أثارت كتُبها انتقادات كبيرة من مستشرقين ومؤرِّخين، الذين اعتبروا إقصاء المصادر العربية تمامًا في كتابة تاريخ الإسلام هو أمرٌ في غاية التعسّف. (قسم الترجمات)
[7] مايكل كوك (1940م-): مؤرخ أمريكي، بالأساس درس التاريخ والدراسات الشرقية في كينجر كوليدج، كامبريدج، ثم في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) بجامعة لندن، وهو أستاذ قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون منذ 2007م، من أهم كتبه بالإضافة لكتابه الشهير مع باتريشيا كرون (الهاجريون): كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي)، وهو مترجَم للعربية، حيث ترجمه: رضوان السيد وخالد السالمي وعمار الجلاصي، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في طبعة أُولى عام 2009م، وفي طبعة ثانية عام 2013م، كما تُرجِم مؤخرًا كتابه: (أديان قديمة وسياسة حديثة، الخلافة الإسلامية من منظور مقارن)، ترجمه: محمد مراس المرزوقي، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، عام 2017م، كما تُرجِم كتابه حول النبي محمد والقرآن للعربية، بعنوان: (محمد نبي الإسلام)، ترجمة: د/ نبيل فياض، دار الرافدين، الطبعة الأولى، بيروت، 2017. (قسم الترجمات)
[8] أخذ بعض الدارسين ومنهم من تنتمي كتاباته للتيار التنقيحي -بريمار على سبيل المثال- موقفًا نقديًّا تجاه المصادر غير العربية وتجاه فرضية إمكان الاعتماد المطلق عليها في بناء سردية موثوقة عن الإسلام المبكِّر، حيث شكّك بعضهم في أسبقية المصادر المسيحية والسيريانية، أو كونها متحرّرة من الضغوط الدينية والأيدولوجية، أو كونها هي ذاتها ليست جزءًا من (تاريخ خلاص)، انظر: تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، ألفريد لويس دي بريمار، ترجمة: عيسى محاسبي، دار الساقي، بيروت، ط1، 2009، ص32- 34. (قسم الترجمات)
[9] Alphonse Mingana, Sources Syriaques—Volume I (Otto Harrassowitz, Leipzig, 1908), p. 146 (Syriac text); Hoyland, Seeing Islam, p. 197 and id., “The Earliest Christian Writings on Muḥammad: An Appraisal”, in Harald Motzkie ed., The Biography of Muḥammad. The Issue of the Sources (Brill, Leiden-Boston-Köln, 2000), p. 284.
[10] في الشيعة الاثني عشرية، المهدي هو اسم أُطلق على الإمام الثاني عشر والأخير، محمد بن حسن العسكري، الذي يُعتقد بأنه اختفى في الغَيبة الكبرى (نحو: 329هـ/ 941م) ولن يعود إلّا في آخر الزمان.
[11] See Amir-Moezzi, Le Coran silencieux, pp 27- 61 (and specifically p. 39 footnote 43). On the subject of Muḥammad’s death as seen through both Sunni and Shia sources, see Hela Ouardi, Les derniers jours de Muhammad (Albin Michel, Paris, 2016).
[12] بول كازانوفا PAUL CASANOVA(1862- 1921): مستشرق فرنسي، وُلِد بالجزائر، دَرَسَ في فرنسا ودَرّس في الكوليدج دي فرانس، كما درس فقه اللغة العربية في جامعة القاهرة -وقت كان اسمها الجامعة المصرية-، له عديد الكتابات والترجمات والتحقيقات حول التاريخ الإسلامي: تاريخ ووصف قلعة القاهرة، 1894، عقيدة الفاطميين السرية في مصر، 1921، كما ترجم وحقّق خطط المقريزي، وله كتاب بعنوان:Mohammed et la fin du monde, étude critique sur l'Islam primitif(محمد ونهاية العالم، مدخل نقدي لبدايات الإسلام). (قسم الترجمات)
[13] نشر (بول كازانوفا) كتابه: (Mohammed et la fin du monde. Étude critique sur l’islam primitif) سنة 1911، (Paul Geuthner, Paris).
نشر (سنوك هرخرونيه) كتاب: (Mohammedanism:Lectures on Its Origin, Its Religious and Political Growth and Its Present State ) (المحمدية: محاضرات عن أصلها ونموّها الديني والسياسي وحالتها المعاصرة) سنة 1916، G.P. Putnam's Sons, London
[14] النص الذي يشير إليه الكاتب هو: «وَيَقُولُ: قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ». (قسم الترجمات)
[15] من أجلِ نظرةٍ أحدث على بعض المتشابهات بين القرآن (وإسكاتولوجيته) والعهد الجديد (بالآرامية)، راجع: Emran Iqbal El-Badawi, The Qurʾān and the Aramaic Gospel Traditions (Routledge, London and New York, 2014)، «القرآن والتقاليد الإنجيلية الآرامية» لـ(عمران بدوي).
[16] النص الذي يشير إليه الكاتب هو: «وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟ وَقَالَ لَهُمُ: انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا قَائِلًا: إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلًا: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلَّاتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، اسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي! فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا للهِ». (قسم الترجمات)
[17] النصّ الذي يشير إليه الكاتب هو: «وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ، إِلَّا أَبِي وَحْدَهُ». (قسم الترجمات)
[18] Fred M. Donner, Muhammad and the Believers. At the Origins of Islam (Harvard University Press, Cambridge MA and London, 2010)
[نشرنا عرضًا لكتاب دونر بعنوان: (عرض كتاب: محمد والمؤمنون، حول نشأة الإسلام) جاك تانوس، ترجمة: مصطفى هندي، (قسم الترجمات)].
[19] لمطالعة النظرة الناقدة لمن يعتبرون دعوة (محمد) المبكرة (مسكونية)، راجع: (بين المؤمنين) لـ(باتريشا كرونه) تابلت (2010)، عبر الرابط: http://www.tabletmag.com/jewish-news- and-politics/42023/among-the-believers، المنشور يوم 26 مايو 2016.