ميراث مالك عن جدّه
مصحف ابن أبي عامر

في هذه المقالة يدرس مايكل كوك المصحف الذي ورثه الإمام مالك عن جدّه، وهو مصحف معاصر للمصاحف العثمانية، يحاول كوك كشف العلاقات بين هذا المصحف والمصاحف المعروفة منطلقًا من دراسة ابن رشد (الجدّ) له.

ميراث مالك عن جدّه

(مصحف مالك بن أبي عامر)[1][2]

  شاع بين الناس ذِكرُ ابنِ رشد الحفيد (ت.595/ 1198)، المعروف عادة في الغرب بـ(Averroes). ولعلّنا لا نعدو الحقّ إن قلنا: إنّ شهرته قد فاقت شهرة جدّه وسميِّه: ابن رشد الجد (ت.520/ 1126)[3]. والأخير كذلك كان فقيهًا مالكيًّا من قرطبة، وشهرته -التي لم تبلغ باريس خلافًا لحفيده- قائمة في الجملة على كتابه المبسوط: «البيان والتحصيل»، وفيه إيراد وشرح لمتن مالكي قرطبي متقدّم، وهو المستخرجة للعتبي (ت.255/ 869)[4]. وقد نقل العتبي -في بعض قوله- عن العالِم المالكي المتقدِّم عبد الرحمن بن القاسم العتقي (ت.191/ 806)[5] خبرَ مصحفٍ كان قد أظهر ابنَ القاسم وأصحابَه عليه شيخُهم نابه الذِّكْر مالك بن أنس المدني (179/ 795)[6]. وينبئنا ابنُ القاسم أنّ هذا المصحف كان لجدّ مالك، وأنّ مالكًا حدّثهم أنه كُتِب على عهد الخليفة عثمان (خلافته من: 23- 35/ 644- 656)[7].

فأمّا جد مالك فهو مالك بن أبي عامر الأصبحي، وقد بلغنا أنه يعتزي إلى قبيلة من عرب الجنوب[8]، غير أنه صار من بعدُ حليفًا لبني تيم من قريش[9]. وقد عاش حياته في المدينة، ولم يكن من التقدّم بحيث يُعَدّ من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، غير أنه روى بعض ما يذكره عن الخليفة عمر بن الخطاب (خلافته من 13- 23/ 634- 44)[10]، وبلغ أشدّه في عهد عثمان ليُفرض له من بيت المال[11]، ثم كان ممن حملوا جثمان الخليفة المقتولِ إلى قبره[12]. وقد رُوي أنه مات في العام الذي اجتمع فيه الناس على خلافة عبد الملك بن مروان، وهو 74هـ/ 693- 694م[13]. وذكر مالك أنه كان مِن بين مَن يقرؤون القرآن في زمن عثمان، وأنّ عثمان كان يُكَتِّبه المصاحف[14]. وأخصّ من ذلك ما رُوي من سُهمته في جمع عثمان للقرآن، إِذْ كان واحدًا من الكَتَبة الذين يُملى عليهم[15].

وعودًا إلى روايتنا عن مصحف مالك، فقد مضى ابن القاسم فساق لنا أمرين من تفاصيل صفته المادية[16]. فقد كان محلَّى بالفضة، وأغشيته من كسوة الكعبة[17]. ثم ساق لنا ثلاث عشرة قراءة وقف عليها هو وأصحابه في طائفة من نصوص ذلك المصحف[18].

ولعلّنا بحاجة إلى النظر في مزيد من الروايات عن هذا المصحف قبل الأخذ في معالجة قراءاته تلك، وقد وقفتُ على عدد منها، والظاهر أنّ مزيدًا منها لمّا أقف عليه. وأَولى هذه الروايات تطالعنا في كتاب العتبي نفسه، وفيها يُسأل مالك عن حلية المصاحف، فيجيب باستحسانها، ثم يؤيّد قوله بأنّ له مصحفًا كان لجدّه الذي كَتبه حين كتب عثمان المصاحف، وأنّ له حلية كبيرة من الفضة، وهو على حاله يوم دخل في ملكه، ما زاد في حليته شيئًا[19]. وأمّا ما دون ذلك من الروايات التي وقفت عليها فهي في مصنفات عالم أندلسي آخر، وهو أبو عمرو الداني (ت.444هـ)[20]. وفي إحداها -كما في الرواية التي ساقها لنا ابن رشد- يبرز مالك مصحفًا آل إليه من جدّه الذي كتبه يوم كتب عثمان المصاحف، لكننا نقف هذه المرة على أمر آخر من هيئة المصحف الداخلية، فخواتيم السور فيه مُعلَّمة، وفواصل الآيات فيه موسومة[21]. وثم رواية أخرى فيها الأمر نفسه، مع ذكر ما ثبت من تحلية المصحف بالفضة[22]. وتُظهرنا رواية ثالثة -مرة أخرى- على أنّ مالكًا قد عرض المصحف على أصحابه، وأنّ جدّه قد كَتبه أيامَ كتب عثمان المصاحف، وفيها كذلك سوق الاختلافات الأربعة المذكورة في رواية العتبي، على حين أُشير إلى ما بقي من صور القراءات [الثلاث عشرة] بعبارة عامة[23].

ومن هنا يسعنا العودة إلى ابن رشد. فإنه أضاف -بعد فراغه من الفقرة التي نقلها عن المستخرجة- تعقيبًا شخصيًّا، وأول ذلك أنه نظر في القراءات الواردة في هذا النقل، وانتهى إلى أن الاختلاف فيها هيّن؛ إِذْ لا أثر له في المعنى القرآني[24]. ثم أقبل على حلية المصحف، فذكر ما يعلمه من عدم الخلاف في إباحة استعمال الفضة لهذا الغرض[25]. وأمّا بقية قوله فكانت في استعمال الذهب، وليس بنا حاجة إلى الوقوف عندها[26].

على أنّ شاغلنا في هذا المقام هو القراءات التي وقف عليها ابن القاسم، وقد أوردناها في قائمة ستأتي لاحقًا[27]. وقد اقتصر ابن القاسم على ذِكر الصور التي رآها هو وأصحابه في مصحف مالك[28]. غير أنه يومئ، دون تصريح، في كلّ موضع ذكره إلى وجه من الاختلاف عن القراءة الأخرى المشهورة. وقد أوردت القراءة الأخرى بين قوسين؛ ابتغاءَ بيان وجه المخالفة. وسيظهر عمّا قريب مغزى الخط المرسوم بين مجموعتين من القراءات، الأولى من رقم 1: 9، والثانية من 10: 13.

(1) سورة (البقرة: 132): "وَأَوْصَى" (لا "وَوَصَّى").

(2) سورة (آل عمران: 133): "سَارِعُوا" (لا "وَسَارِعُوا").

(3) سورة (المائدة: 53): "يَقُول" (لا "وَيَقُول").

(4) سورة (المائدة: 54): "يَرْتَدِدْ" (لا "يَرْتَدَّ").

(5) سورة (التوبة: 107): "الَّذِينَ" (لا "وَالَّذِينَ").

(6) سورة (الكهف: 36): "مِنْهُمَا" (لا "مِنْهَا").

(7) سورة (المؤمنون: 85- 89): "لله" في الآيات الثلاث (لا "لله" "الله" "الله").

(8) سورة (الشعراء: 217): "فَتَوَكَّلْ" (لا "وَتَوَكَّلْ").

(9) سورة (غافر: 26): "وَأَنْ" (لا "أَوْ أَنْ").

(10) سورة (الشورى: 30): "فَبِمَا" (لا "بِمَا").

(11) سورة (الزخرف: 71): "تَشْتَهِي" (لا "تَشْتَهِيهِ").

(12) سورة (الحديد: 24): "فَإِنَّ اللهَ هُوَ" (لا بحذف "هُوَ").

(13) سورة (الشمس: 15) "وَلَا" (لا "فَلَا").

وتنتظم كلّ واحدة من هذه القراءات وجهًا من وجوه الرسم العثماني، غير أنّ أيًّا منها، كما سنقف عليه، لا يباين المعهود من وجوه الخلاف المروية في المصنفات الإسلامية القديمة. وإذن، ليس ثم جديد أو باعث على الدهش هنا، ولا سبب يحملنا على مخالفة قول ابن رشد بأنه لا أثر لهذه القراءات في المعنى. على أنّ سبر هذه القراءات جملةً [لا أفرادًا] مؤذن بظهور أحجية تدعو إلى النظر.

ولقد أتى أوان شروعنا في المقصود. إنّ نسخة المصحف السائدة -عند أكثرنا اليومَ- هي المصحف المصري، ولو أننا قارنّا القراءات التي ساقها ابن القاسم من مصحف مالك بالمصحف المصري السائد ألفينا النصين مختلفين في غالب الحال، مع استثناء يتبدى في القراءات (7) و(10) و(12) و(13)[29]. وأوّل ما يظهر من تفسيرات هذا الأمر قريب المأخذ، فإن المصحف المصري يتبع التقليد الكوفي لقراءة حفص عن عاصم[30]، ويلزم عن ذلك أنه موافق للمصحف الكوفي[31]؛ وإذن فإنّ مواضع الاتفاق بين مصحف مالك والمصحف المصري هي مواطن اتفاقه مع المصحف الكوفي. وليس من الجلي لأول وهلة علة وقوع هذا الوفاق في الأجزاء الأخيرة من القرآن [دون سواها][32].

وثمة يسعنا -دون أنّ نشارك في الأمر- الرجوعُ إلى ابن رشد. فقد عقد في شرحه مقارنةً بين القراءات التي رواها ابن القاسم و«ما ثبت بين اللوحَين عندنا في المصاحف»[33]. ولم يكن التقليد السائد في القراءة في غرب العالم الإسلامي، حيث عاش، سوى التقليد المدني، أعني قراءة ورش عن نافع[34]، وهو بطبيعة الحال مرتبط بالمصحف المدني[35]. وهكذا، فقد قاس ابن رشد، في واقع الأمر، ما رواه ابن القاسم من القراءات إلى المعهود عنده من المصحف المدني. وبأثر من هذا أثبت الموافقة في كلّ قراءة من التسع الأُول، لكنه حين أتى إلى الأربع الأخيرة وقف على الخلاف. ولم يَعْدُ في هذا الصواب، ذلك أنّ ما رواه ابن القاسم من القراءات في المواضع التسعة الأولى يوافق نظائره في تقليد المصحف المدني، وسواءٌ أكان وقوفك على هذا التقليد في المصنفات القديمة [عن المصحف المدني] أم في المصحف المغربي الحديث. وأمّا المواضع الأربعة الأخيرة ففي نقيضٍ من ذلك، إِذْ تخالف القراءاتُ المرويةُ فيها المصحف[36]. غير أنّ ما يسترعي النظر هو اجتماع هذه المخالفة للمصحف المدني في الأجزاء الأخيرة من القرآن، بل هي أكثر من مواطن الاتفاق مع المصحف الكوفي التي ذكرناها آنفًا.

ولقد آن رجوعنا إلى ابن القاسم لنتساءل عن علّة اقتصاره على ما رواه من القراءات. وفي هذا ثمة فرضيتان ظاهرتان. فأبلغهما حظًّا من إثارة الاهتمام القولُ بأنه إنما أخبرنا بالقراءات التي تخالف المألوف لديه[37]. وإذا صحّ ذلك لَزِمَنَا أن نعيِّن المصحف الذي ساد في موطنه، وهو دائر بين فلسطين، حيث محلّ ميلاده في الرملة، أو مصر، حيث سكن ثم قضى[38]. وعلى هذا، يجوز لنا الإرهاص بأنّ المصحف المعهود عنده هو إمّا الشامي، أو لعلّه المدني[39]. على أنه لو كان المدني لغاب داعيه إلى ذِكْر القراءات التسع الأولى، وكذا الحال لو كان الشامي؛ لعلّة جلية، وهي أنّ المصحف الشامي يوافق المدني في هذه المواضع كافة[40].

وربما يحدونا ذلك إلى اختيار فرضية أبسط وإِنْ تكن أقلّ إثارة للاهتمام، وتلك هي أنّ ابن القاسم إنما روى المواطن التي علم هو وأصحابه أنّ بها اختلافًا، دون أن يُعنى بنظائرها في قراءة بلده. على أن هذه الفرضية لا تخلو -كسابقتها- من الإشكال، إِذْ يدور الرقم الإجمالي للمواضع التي رُويت فيها قراءات مختلفة عن المصاحف القديمة (تلك التي للمدينة، والشام، والكوفة، والبصرة، وعلى نحو هامشي لمكة) على نحو جلي وموثوق حول الأربعين[41]. فلم اقتصر ابن القاسم -والحال هذه- على ثلاثة عشر منها؟ وكيف كان اختياره لها؟

وربما أفادنا في هذا المقام التماس العون من علم الأعداد، فخلافًا عن الاثني عشر، ليس لرقم «ثلاثة عشر» صدى في الثقافة الإسلامية، وعلى ذلك فإنما قدّم لنا ابن القاسم قائمة لها هيئة اثني عشر عنصرًا جرى إضافة الثالث عشر لها فكرة لاحقة. ولو صح ذلك فأظهر مرشحٍ لهذه الإضافة هو العنصر التاسع؛ ذلك أن ابن القاسم زاده في آخر الأمر على خلاف ترتيب الآيات [في القائمة][42]. والحقّ أن أَولى العناصر بهذا الظنّ هو السابع؛ إِذْ يشبه أن تكون قراءة المدنيين فيه معيارية، وخلافها ليس مقصورًا على البصريين وحَسْب، بل قيل: إنه [أي هذا الخلاف] جرى إضافته[43]. فلو أزلناه لاستوت لنا قائمة ذات اثني عشر عنصرًا بها اختلاف القراءات. وإنما سوغ لنا هذه المناورة ما يجده القرّاء المعتمدون في مصنّفات المصاحف الإسلامية لفورهم من إلف هذه القائمة. فلقد ذاع ذِكْرها، في أغلب المواطن، بوصفها قائمة بمواضع الخلاف بين مصحف العراق والحجاز[44]، أو بالأحرى بين المدنيين والبصريين[45]، ثم هي ترِد كذلك في سياق آخر، لكن على حال تبدو فيه ثانوية[46]. وإذن تشي استعانة ابن القاسم وأصحابه بهذه القائمة بأن المصاحف التي عليها مدار تفكيرهم إنما كانت في المقام الأول مصحفي المدينة والبصرة[47].

ثم إنّ مرجعنا أخيرًا إلى ابن أبي عامر، مفترضين -ولا ريب- أنّ المصحف كان ملكًا له. ولقد وقفنا على أن القراءات في مصحفه توزّعت بين مجموعتين رسمت بينهما خطًّا[48]. ففي المجموعة الأولى (1: 9) ثمة اتفاق تام مع المصحف المدني، ولا يخالف ذلك عمّا نتوقعه في شيء؛ أن كان مالك بن أبي عامر مدنيًّا. غير أن المفارقة تظهر في المجموعة الثانية (10: 13)، إِذْ تخالف كلّ قراءة منها المصحف المدني، وهذا الانقسام لا يقع اتفاقًا، ولا تفسير له عندي إلا أن يكون المصحف -الذي أظهر مالك بن أنس أصحابه عليه- مركّبًا، فهو مدني حتى الآية (26) من سورة غافر، وغير مدني من الآية (30) من سورة الشورى[49].

وإذن فنحن مضطرون إلى استنتاج أنّ المصحف الذي رآه ابن القاسم كان في نحوٍ من أربعة أخماسه مدنيًّا، وغيرَ مدنيٍّ في الخُمس الأخير. كيف وقع ذلك؟ لا سبيل لنا إلا التخمين، وعسى أن تكون أظهر الاحتمالات أن نسخة بالية من مصحف المدينة قد ذهب منها الخُمس الأخير أو نحو منه حين كانوا ينسخونها، فالتُمس إتمام هذا القدر المفقود من مصدر آخر، فكأنهم استعانوا في ذلك بمصحف من خارج المدينة. ولا مرية في أن هذه المصاحف كانت تصل المدينة الفينةَ بعد الفينة، ومن ذلك ما يكون في الحج. وربما يبعث على العجب، ولا ريب، أن يُقْدِمَ بعض المشاركين بقوة في نسخ المصاحف كمالك بن أبي عامر -على فرض أنه كان من نسّاخه حقًّا- على الخلط بين مصحفين على هذه الشاكلة، بيد أن من العسير أن نرى وجهًا آخر يفسّر تركيب هذا المصحف.

ولئن تمثَّل الخمسُ الأخير من مصحف مالك غيرَ مدني، فما الأصل الذي يرجع إليه؟ لا يخفى أنه غير شامي؛ إذ الشامي لا يخالف المدني في أيّ موضع من الأربعة الأخيرة (10: 13) (وكذا الحال في المواضع التسعة الأولى 1: 9). وعلى ذلك ربما كان هذا الأصل كوفيًّا أو بصريًّا، بل ربما كان مكيًّا، فمن أسفٍ ألا سبيل توقفنا على تعيين واحدٍ منها[50].

ولقد يجدر بنا -وقد أشرفنا على خاتمة البحث- أن نتوفر على مسألتين. فأمّا أُولاهما فعن المنزلة التاريخية التي ينبغي أن نبوِّئها تلك الروايات عن مصحف جدّ مالك. ولعلّنا نُفيد -في أدنى الأمر- من الطابع المركّب لهذا المصحف في تخصيص الاحتمالات، فمن العسير -من جهةٍ- أن نقف على علّة تبعث واضع هذه الروايات -فيما بين زمان ابن القاسم وزمان العتبي- على أن يتجشم عبء تصور مصحف مركّب؛ إذ لم يكن من شواغل العلماء المعروفة يومئذ مسألة يجيب عنها هذا المصحف [المركّب]. فمن الراجح، والحال هذه، أنّ مالكًا إنما أبرز لأصحابه مصحفًا قديمًا. على أنّ الطابع المركّب نفسه -من جهة أخرى- يجعل من المرجوح انتساخه زمانَ جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه[51]. ولئن جاز تصور وقائع قد يحدث فيها هذا الاحتمال[52]، فإنّ الأكثر قبولًا في العقل أن نفترض مضيّ عدد كافٍ من السنوات حتى بَلِيَ الجيلُ الأول من المصاحف على الأقل.

وأمّا الثانية فعن الصفة التي ينبغي أن نضفيها على التراث العلمي للمسلمين، ذلك الذي ندين له بكلّ ما نعلم عن مصحف مالك. من الجلي أن لهذا التراث مقدرة فائقة على البحث العلمي الدقيق، ففيه رواية الدقائق النصِّية والمقارنة بينها في دقّة وإحكام[53]. على أن هذا غاية سعيه، فلم يمض أحدٌ من العلماء الذين عرضنا لهم لينتهي من المعلومات المروية بعناية إلى خلاصة لا إبهام فيها عن الطبيعة المركّبة لمصحف مالك، أو ليتساءل عن علّة هذا الوضع الفريد وسبيل وقوعه[54]. وبعبارة موجزة فإنّ لدينا هنا شاهد صدق على جوانب القوة وكذا القصور في التراث الفيلولوجي عند المسلمين[55].

الملحق الأول:

ثبَت الاختلافات:

1- سورة (البقرة: 132): "وَأَوْصَى" (لا "وَوَصَّى").

وجه الاختلاف: زيادة الألِف.

المصحف المصري: "وَوَصَّى".

المصحف التونسي: "وَأَوْصَى".

مصاحف المدينة والشام: "وَأَوْصَى". وفي سائر المصاحف: "وَوَصَّى" (م، ص109).

نافع وابن عامر: "وَأَوْصَى"، وقرأ باقي السبعة: "وَوَصَّى" (س، ص171).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

2- سورة (آل عمران: 133): "سَارِعُوا" (لا "وَسَارِعُوا").

وجه الاختلاف: حذف الواو.

المصحف المصري: "وَسَارِعُوا".

المصحف التونسي: "سَارِعُوا".

مصاحف المدينة والشام: "سَارِعُوا"، وفي سائر المصاحف: "وَسَارِعُوا" (م، ص109).

نافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: "سَارِعُوا"، وقرأ باقي السبعة: "وَسَارِعُوا" (س، ص216).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

3- سورة (المائدة: 53): "يَقُول" (لا "وَيَقُول").

وجه الاختلاف: حذف الواو.

المصحف المصري: "وَيَقُول".

المصحف التونسي: "يَقُول".

مصاحف مكة والمدينة والشام: "يَقُول". وفي سائر المصاحف: "وَيَقُول" (م، ص110).

ابن كثير ونافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام: "يَقُول"، وقرأ باقي السبعة: "وَيَقُولُ/ وَيَقُولَ" (س، ص245).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

4- سورة (المائدة: 54): "يَرْتَدِدْ" (لا "يَرْتَدَّ").

وجه الاختلاف: زيادة الدال.

المصحف المصري: "يَرْتَدَّ".

المصحف التونسي: "يَرْتَدِدْ".

مصاحف المدينة والشام: "يَرْتَدِدْ". وفي سائر المصاحف: "يَرْتَدَّ" (م، ص110).

نافع وابن عامر: "يَرْتَدِدْ"، وقرأ باقي السبعة: "يَرْتَدَّ" (س، ص245).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

5- سورة (التوبة: 107): "الَّذِينَ" (لا "وَالَّذِينَ").

وجه الاختلاف: حذف الواو.

المصحف المصري: "وَالَّذِينَ".

المصحف التونسي: "الَّذِينَ".

مصاحف المدينة والشام: "الَّذِينَ". وفي سائر المصاحف: "وَالَّذِينَ" (م، ص111).

ابن كثير ونافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: "الَّذِينَ"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحفهم: "وَالَّذِينَ" (س، ص318).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

6- سورة (الكهف: 36): "مِنْهُمَا" (لا "مِنْهَا").

وجه الاختلاف: زيادة الميم.

المصحف المصري: "مِنْهَا".

المصحف التونسي: "مِنْهُمَا".

مصاحف المدينة ومكة والشام: "مِنْهُمَا". وفي سائر المصاحف: "مِنْهَا" (م، ص111).

ابن كثير ونافع وابن عامر بما في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام: "مِنْهُمَا"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحف البصرة والكوفة: "مِنْهَا" (س، ص390).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

7- سورة (المؤمنون: 85- 89): "لله" في الآيات الثلاث (لا "لله" في الآية الأولى، ثم "الله" في الأخريين).

وجه الاختلاف: غياب الألِف في الموضعين.

المصحف المصري: "لله" في الآيات الثلاث.

المصحف التونسي: كالمصحف المصري.

مصاحف البصرة: "لله"، "الله"، "الله". وفي سائر المصاحف: "لله" في الآيات الثلاث (م، ص112).

أبو عمرو: "لله"، "الله"، "الله"، وقرأ باقي السبعة: "لله" في الآيات الثلاث (س، ص447).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

8- سورة (الشعراء: 217): "فَتَوَكَّلْ" (لا "وَتَوَكَّلْ").

وجه الاختلاف: وضع الفاء موضع الواو.

المصحف المصري: "وَتَوَكَّلْ".

المصحف التونسي: "فَتَوَكَّلْ".

مصاحف المدينة والشام: "فَتَوَكَّلْ". وفي سائر المصاحف: "وَتَوَكَّلْ" (م، ص113).

نافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: "فَتَوَكَّلْ"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحفهم: "وَتَوَكَّلْ" (س، ص473).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

9- سورة (غافر: 26): "وَأَنْ" (لا "أَوْ أَنْ").

وجه الاختلاف: حذف الألف.

المصحف المصري: "أَوْ أَنْ".

المصحف التونسي: "وَأَنْ".

مصاحف الكوفة: "أَوْ أَنْ". وفي سائر المصاحف: "وَأَنْ" (م، ص111. وانظر الحاشية 43 فيما سبق).

ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: "وَأَنْ"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحف أهل الكوفة: "أَوْ أَنْ" (س، ص569).

ابن رشد: «مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا».

10- سورة (الشورى: 30): "فَبِمَا" (لا "بِمَا").

وجه الاختلاف: زيادة الفاء.

المصحف المصري: "فَبِمَا".

المصحف التونسي: "بِمَا".

مصاحف المدينة والشام: "بِمَا". وفي سائر المصاحف: "فَبِمَا" (م، ص114).

نافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: "بِمَا"، وقرأ باقي السبعة: "فَبِمَا" (س، ص581).

ابن رشد: «خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا».

11- سورة (الزخرف: 71): "تَشْتَهِي" (لا "تَشْتَهِيهِ").

وجه الاختلاف: حذف الهاء.

المصحف المصري: "تَشْتَهِيهِ".

المصحف التونسي: كالمصحف المصري.

مصاحف المدينة والشام: "تَشْتَهِيهِ". وفي سائر المصاحف: "تَشْتَهِي" (م، ص114).

نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: "تَشْتَهِيهِ"، وقرأ باقي السبعة: "تَشْتَهِي" (س، ص588).

ابن رشد: «خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا».

12- سورة (الحديد: 24): "فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ" (لا بحذف "هُوَ").

وجه الاختلاف: زيادة هُوَ.

المصحف المصري: إثبات لفظ "هُوَ".

المصحف التونسي: بغير لفظ "هُوَ".

مصاحف المدينة والشام: بغير لفظ "هُوَ"، وفي سائر المصاحف: إثبات لفظ "هُوَ" (م، ص115).

نافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: بغير لفظ "هُوَ"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحف أهل مكة والعراق: بإثبات لفظ "هُوَ" (س، ص627).

ابن رشد: «خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا».

13- سورة (الشمس: 15): "وَلَا" (لا "فَلَا").

وجه الاختلاف: وضع الواو موضع الفاء.

المصحف المصري: "وَلَا".

المصحف التونسي: "فَلَا".

مصاحف المدينة والشام: "فَلَا"، وفي سائر المصاحف: "وَلَا" (م، ص:116، 119).

نافع وابن عامر بما في مصاحف أهل المدينة والشام: "فَلَا"، وقرأ باقي السبعة بما في مصاحفهم: "وَلَا" (س، ص689).

ابن رشد: «خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا».

تنبيهات:

- يرجع تاريخ المصحف التونسي الذي استعَنّا به آنفًا إلى عام 1969م.

- رمزنا بـ(م) إلى المقنع للداني، وقد نقلنا عنه أخبارَ ما كُتب في مصاحف الأمصار.

- رمزنا بـ(س) إلى السبعة في القراءات لابن مجاهد (ت.324/ 936)، وهو الذي تولى اعتماد القراءات السبع. وقد سقت المعلومات منه لأظهر الصِّلة الوثيقة بين قراءة المصر -من الأمصار- ومصحفه، على أنّ الداني تمسّك بامتناع استنباط مواضع اختلاف المصاحف من اختلاف القراءات وحده (المقنع، 121). هذا ويمثّل نافع المدينة (انظر الحاشية 32 فيما مضى)، وابن عامر (ت.118/ 736) الشام، وابن كثير (ت.120/ 727) مكة، وأبو عمرو (ت.145/ 770) البصرة، وعاصم الكوفة (انظر الحاشية 28 فيما سبق)، وبقي من السبعة قارئان، كلاهما كوفي، ولم يُذكرا في معرض كلامنا.

الملحق الثاني:

نصّ كلام ابن رشد في البيان (17/ 33- 35) في صفة مصحف مالك المكتوب على عهد عثمان:

قال ابن القاسم: وأخرج إلينا مالك مصحفًا لجده، فحدّثنا أنه كتب على عهد عثمان بن عفان، فوجد حليته فضة وأغشيته من كسوة الكعبة، فوجدنا في البقرة: ﴿وَأَوْصَى﴾، وفي آل عمران: ﴿سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وفي المائدة: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفيها أيضًا: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾، وفي براءة: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وفي الكهف: ﴿لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهُمَا مُنْقَلَبًا﴾، وفي قد أفلح: كلّها الثلاث ﴿لله﴾، وفي طسم "باخع" ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾، وفي "حم عسق": ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، وفي الزخرف: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾، وفي الحديد: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾، وفي الشمس وضحاها: ﴿فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، وفي الطَّوْل: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَنْ يظْهرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَاد﴾.

قال الإمام القاضي: ما ذكر ابن القاسم في هذه الحكاية من أنه وجد في المصحف الذي أخرج إليهم مالك لجدّه المكتوب على عهد عثمان، في البقرة، وفي آل عمران، وفي المائدة، وفي براءة، وفي الكهف، وفي قد أفلح، وفي طسم، وفي الطَّول هو كلّه مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف، وأمّا الذي ذكر أنه وجده في حم عسق، وفي الزخرف، وفي الحديد، وفي الشمس وضحاها، فهو خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف؛ لأن الذي ثبت عندنا في حم عسق: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، وفي الزخرف: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ﴾، وفي الحديد: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾، وفي الشمس وضحاها: ﴿فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾، ولا تأثير في هذا الاختلاف. إِذْ لا يتغير بشيء منه المعنى ولا اختلاف أحفظه في إجازة تحلية المصحف بالفضة، وأمّا تحليته بالذهب فأجيز وكُرِه، وظاهر ما في الموطأ إجازته، وقد أقام إجازة ذلك بعض العلماء من حديث فرض الصلاة قوله فيه: (فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ)، والمعنى في إقامة ذلك منه خفيّ وقد يبثه في موضعه، وبالله التوفيق.

 

[1] العنوان الأصلي للمقالة هو:

A koranic codex inherited by Malik from its grandfazer

المنشورة في:

Graceo-Arabica, vols vII-vIII, 1999, 2000

[2] ترجم هذه المقالة، الدكتور/ محمود عبد العزيز، مدرس بقسم الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، له عدد من الكتب والترجمات المنشورة.

[3] انظر ترجمته في: ابن رشد، البيان والتحصيل، تحقيق: محمد حجي وآخرين، بيروت، (1984- 1991)، (1/ 11: 19) من مقدمة المحقق وما أحال إليه من مصادر متعددة. وقد لفتتني إلى هذا الكتاب ماريبل فييرو (Maribel Fierro). وإني لأشكر لها ولمايكل ليكر (Michael Lecker) تعليقاتهم على مسودة هذه المقالة.

[4] انظر عنه: السابق (19- 20).

[5] On whom see The Encyclopaedia of Islam, second edition, Leyden and London 1960- , 3:817, art. "Ibn al- Kasim" (1. Schacht).

[6] On whom see ibid., 6:262- 5, art. "Mālik b. Anas" (J. Schacht).

وقد رُوي أنّ ابن القاسم تتلمذ لمالك عشرين سنة. (عياض، ترتيب المدارك، تحقيق: أحمد بكير محمود، بيروت، د.ت. (1- 2/ 436).

[7] ابن رشد، البيان، (17/ 33). وقد أثبتنا هذه الفقرة كلّها مع تعليق ابن رشد عليها في الملحق الثاني.

[8] وقد ساق نسبَه الكامل مفتخرًا بعضُ قرابته. انظره في: ابن سعد، الطبقات الكبير، تحقيق: سخاو وآخرين، لَيدن (1904- 1921)، (5/ 45). ويمتد نسبه في هذه الرواية من بعد قحطان إلى إبراهيم عليه السلام.

[9] ابن سعد، الطبقات، (5/ 45). والبخاري، التاريخ الكبير، حيدر آباد (1360- 1378)، القسم الرابع من الجزء الأول (ص305)، رقم 1297. والبخاري، التاريخ الصغير، تحقيق: محمد إبراهيم زايد، حلب والقاهرة، (1976- 1977)، (1/ 169). وثم رأي آخر أقل إطراء اتخذه ابن إسحاق (ت.150/ 767)، إِذْ عدّه مولى لبني تيم لا حليفًا لهم.

(see M.J. Kister, “The massacre of the Banü Qurayza: a re- examination of a tradition", Jerusalem Studies in Arabic and Islam, 8 (1986), 77- 9, citing ‘Iyād, Madarik, 1- 2:104.3, 106.3, 107.6)

ويومئ كيستر (Kister) إلى أنه ثمة ريبة كذلك في أن تكون العائلة من قبيلة ذي أصبح صليبة، لا أنهم كانوا مجرد موالي لها. وإنما لفتني إلى هذه المقالة مايكل ليكر.

[10] مالك، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة (1951)، (ص9، الحديث 13)، (ص81، الحديث 31). وابن سعد، الطبقات، (5/ 45).

[11] ابن حبان، الثقات، حيدر أباد، (1973- 1983)، (5/ 383). والمزي، تهذيب الكمال، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت، (1985- 1992)، (27/ 149). وفي بعض أحاديث الموطأ أنه كان يطلب من عثمان أن يفرض له والصلاة توشك أن تبدأ، لكنا لا نعلم ما آل إليه الأمر. (ص158، الحديث 45)، وله أحاديث أخرى عن عثمان (السابق، ص104، الحديث 8، و ص981، الحديث 42. ومسلم، الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، (1955- 1956)، (ص206، الحديث 9).

[12] ابن سعد، الطبقات، (3/ 55). والطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: مايكل يان دي خويه وآخرين، ليدن (1879- 1901)، (1/ 3048). وعياض، ترتيب المدارك (1- 2/ 107).

[13] المزي، التهذيب، (27/ 149). وكذا ذُكر في تاريخ وفاته أنه سنة 112 (انظر: عياض، المدارك، 1/ 107)، ولا شك في خطئه كما قال المزي، (التهذيب، 27/ 150 الحاشية رقم 1)، من أجل هذا قيل: إنّ عمر بن عبد العزيز (ت.101هـ) قد استشاره (عياض، المدارك، 1/ 107)، وربما كان ذلك إبّان ولايته على المدينة المنورة بين 87- 93هـ/ 705- 711م (خليفة بن خياط، التاريخ، تحقيق: أكرم ضياء العمري، النجف، 1967، ص315).

[14] ابن أبي داود، المصاحف، تحقيق: جفري، ضمن كتابه: «مادة لتاريخ النص القرآني» (Materials for the history of the text of the Qur'an)، ليدن (1937)، (ص26). وقارن بالبخاري، التاريخ الكبير، رقم 1582، والمزي، التهذيب، (27/ 149).

[15] ابن أبي داود، المصاحف، (ص21). وعياض، المدارك، (1/ 107). على أنّ في الاسم المذكور عند أبي داود إشكالًا؛ إِذْ ورد فيه «مالك بن أنس». وفسّر ابن أبي داود ذلك بأنه جدّ الإمام مالك، وعلى الرغم من ذلك ليس ثمة سبب يحملنا على الظنّ بأنّ اسم أبي عامر كان أنسًا (ولعلّ مما يجدر ذكره ما رُوي من أنّ اسم أبي عامر عمروٌ. انظر: المزي، التهذيب، 27/ 149). وثم رواية مغايرة عند الداني (المقنع في رسم المصاحف، تحقيق: أوتو برتزل، إسطنبول، 1932، ص8)؛ وليس فيها ذكر اسم الكاتب، لكن يرد اعتقاد بعض الرواة اللاحقين أنه أنس بن مالك القشيري. ويورثنا هذا حيرة أشد، فلا نكاد نقف على ذكرٍ لهذا الصحابي نزيل البصرة، وليس ثمة داعٍ إلى حمل هذا على التماثل (انظر -مثلًا-: المزي، التهذيب، (3/ 378).

[16] ابن رشد، البيان، (17/ 33).

[17] إنما اقتبست هذا لأشير إلى الغشاء الذي استعمل في تغليف اللوحَين اللذَين أحاطا بالمصحف.

[18] السابق.

[19] السابق، (18/ 275). وليس من الجلي تمامًا الراوي المباشر عن مالك. وثم رواية مشابهة عند السيوطي عن الوليد بن مسلم الدمشقي (ت.195هـ). السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: سعيد المندوه، بيروت، 1996، (3/ 458).

[20] . For whom see El-, 2:109f, art. “Dāni" (by the editors).

[21] الداني، البيان في عدّ آي القرآن، تحقيق: غانم قدوري الحمد، الكويت 1994، (ص130). وذلك نقلًا عن أشهب (ت.204هـ) صاحب الإمام مالك. والفضل في وقوفي على هذه الطبعة المحقِّقة لماريبل فييرو. وقد نُقلت هذه الرواية عن المخطوط في: نولدكه وآخرين، تاريخ القرآن، الطبعة الثانية، ليبزج (1909- 1939)، (3/ 259). ونصه: «فَرَأَيْنَا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر، ورأيته معجوم الآي بالحبر». ولبيان طبيعة ما عساه أريد هنا من الشريط الفاصل بين السورتين انظر على سبيل المثال:

B. Moritz, Arabic palaeography, Cairo 1905, plates 1- 2.

وثمة سلسلة واضحة وردت في:

F. Déroche, The Abbasid tradition: Qur'ans of the 8th to 10th centuries AD, London 1992, 65

غير أن القطعة هنا متأخرة عن الزمان الذي نحن فيه، والسلسلة فيها لا تعم السطر كلّه. وأمّا استخدام النقط لتمييز فواصل الآيات فقد ظهر بالفعل في المخطوطات المدونة بالخط الحجازي. (السابق، 22).

[22] الداني، المحكم في نقط المصاحف، تحقيق: عزة حسن، دمشق 1986، (17). وهو من رواية عبد الله بن عبد الحكم (ت.214/ 829) مِن أصغر أصحاب مالك، وأنا مدين لشهاب أحمد بفضل حصولي على نسخة من هذه الفقرة.

[23] الداني، المقنع، (120). وقد نسب الداني هذه الرواية لا إلى ابن القاسم وحده، بل كذلك إلى اثنين من كبار أصحاب مالك، وهما أشهب وابن وهب (ت.197/ 814).

[24] ابن رشد، البيان، (17/ 34). وفي الجملة فإن الاختلافات المنقولة عن مصاحف الأمصار العثمانية الأولى التي جُعلت للناس إمامًا يسيرة، وقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام (ت.224/ 838) أنّ هذه الاختلافات لا تعدو الحرف الواحد، ولا يُستثنى من ذلك سوى زيادة ﴿هُوَ﴾ في سورة الحديد (آية 24). (فضائل القرآن، بيروت، 1991، 200).

[25] ابن رشد، البيان، (17/ 34). وانظر في تحلية المصحف على سبيل المثال: أبو عبيد، الفضائل، (242). وابن أبي داود، المصاحف، (152). وثم موضع آخر في المستخرجة نقف فيه على عدم إنكار مالك هذا الصنيع [ابن رشد، البيان، (1/ 240). وانظر الحاشية رقم (17) فيما سلف].

[26] ابن رشد، البيان، (17/ 34)، وقارن مع ما ورد فيه أيضًا (1/ 240)، و(18/ 275). وإحالة ابن رشد إلى الموطأ هي -فيما أرى- على تعقيبات مالك في خاتمة باب «بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا» من كتاب البيوع (مالك، الموطأ، 636: «مَن اشترى مصحفًا أو سيفًا أو خاتمًا وفي شيء من ذلك ذهبٌ أو فضة...». ولم أقف على هوية العالم الذي لم يسمِّه ابن رشد ووُصف استنباطه [في المسألة] بالخفاء، والحديث الذي ساق ابن رشد بعضه [في هذا المقام] هو حديث الإسراء، كما ذكر المحقق (انظر رواية مسلم له، الصحيح، ص148، رقم 263).

[27] صححتُ موضعين أراهما من خطأ النص المطبوع؛ وأوّلهما اقتباس آية سورة الشورى رقم (30) (ابن رشد، البيان 17/ 34)، ولا ريب أنه ينبغي إعادة نقطها لتصير ﴿فَبِمَا﴾. والثاني هو الواو الزائدة في نقل آية المائدة رقم (54): (و﴿مَنْ يَرْتَدِدْ﴾... السابق، 17/ 33). ولو صح اعتداد هذين الموضعين قراءتين رواهما ابن القاسم لكان أمرًا يسترعي النظر دون ريب، بيدَ أني لم أقف لهما على ذكر في كتب القراءات (انظر -مثلًا- المصنَّف الجامع لأحمد مختار عمر وعبد العال سالم مكرم، معجم القراءات القرآنية، الكويت 1988، (2/ 218)، و(6/ 91). ويشبه أن يكون من الحصافة اعتدادهما من خطأ النسّاخ؛ إِذْ لم يجر لهما ذكر في رواية الداني عن هذا المصحف (انظر الحاشية رقم 20 فيما سبق)، ويقوّي ذلك القولَ بأنهما لم يظهرا في النسخة -أو النسخ- التي كانت بين يديه. ومع ذلك فلم يزل ثمة ريبة مزعجة في أمر الواو الزائدة، إِذْ ورد ذكرها في طائفة من المواضع في النسخة التي بين أيدينا من المصاحف لابن أبي داود (42، 43).

[28] وقد سمى السورة في كلّ موضع، وأورد قدرًا كافيًا من النصّ تتميز به الآية. غير أنه سمى طائفة من السور بأسماء تخالف ما نعهده الآن، فقد أشار إلى سورة «المؤمنون» بـ«قد أفلح»، وإلى سورة «الشعراء» بـ«طسم باخع»، وإلى سورة «غافر» بـ«الطَّوْل»، وإلى سورة «الشورى» بـ«حم عسق»، وإلى سورة «الشمس» بـ«الشمس وضحاها». واختياره المستمر في هذا المقام هو الكلمات التي تفتتح السورة (كما في سور: المؤمنون والشعراء والشورى) أو تلك التي أتت في مقدمتها (ومثال ذلك لفظ «باخع» الذي يفرق بين سورة الشعراء وغيرها من السور الوارد في مفتتحها «طسم»، ولا سيما سورة «القصص»، وإنما ورد في الآية الثالثة من السورة، ومثل ذلك لفظ «الطَّوْل» في سورة «غافر»). وإنما قُصد من زيادة لفظ «وضحاها» في حالة سورة «الشمس» الفرق بينها وبين سورة «التكوير»، ومطلعها: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾. ولم يذكر السيوطي في بحثه عن الأسماء المختلفة للسور مما سبق سوى اسم «الطَّوْل». (الإتقان 1/ 135). وقد ساق ابن القاسم الآيات مرتبة، إلا ما كان في الآية (26) من سورة «غافر» فقد جاءت في نهاية كلامه، وقد رددتها إلى موضعها الصحيح في القائمة.

[29] انظر تفصيل ذلك في الملحق الأول.

[30] أي: قراءة حفص بن سليمان الكوفي (ت.190/ 805) عن عاصم بن أبي النجود الكوفي (ت.127/ 745).

[31] يتبع المصحف المصري في معظم المواضع المصحف الكوفي، حتى في مواطن انفراده، ولا يُستثنى من ذلك سوى الآية (35) من سورة يس.

[32] ولولا القراءتان رقم (7) و(11) لكانت هذه النتيجة المركّبة أدعى إلى الدهش. والحقّ أن كلّ واحدة من هاتين القراءتين شاذة على نحوٍ ما، فالقراءة رقم (7) يتفق فيها الكوفيون والمدنيون قِبل ما يبدو انفرادًا بصريًّا مُضافًا (انظر الحاشية رقم 41 فيما يأتي). وأمّا القراءة رقم (11) فإنما صدر الاختلاط فيها عن مصدر كوفي داخلي، فعلى الرغم من ورود النص في المصحف الكوفي ﴿تَشْتَهِي﴾ فقد قرأ حفص ﴿تَشْتَهِيهِ﴾ كقراءة المدنيين، وتلك الأخيرة هي القائمة في المصحف المصري (انظر الملحق الأول).

[33] ابن رشد، البيان، (17/ 34).

[34] أعني قراءة عثمان بن سعيد المصري، الملقب بورش (ت.197/ 812)، عن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني (ت.169/ 785).

[35] ولو كان لنا أن نحكم بما وقفنا عليه من الأدلة في إفريقية لقلنا: إنّ التقليد المدني لم يبسط سيادته التامة على المغرب، بل كان للتقليد العراقي (والبصري منه غالبًا) حضور ظاهر في القرون الأولى (انظر: هند شلبي، القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس الهجري، دون بيان موضع النشر، 1983، (ص:88، 90، 176، 192، 200، 207 وما بعدها).

[36] انظر تفصيل ذلك من المصدرين في الملحق الأول.

[37] وربما وسعنا القول بأنه كان شديد المعاهدة لهذا المصحف، فقد رُوي أنه دأب في الثامنة عشرة من عمره على ختم القرآن كلّ يوم، وربما كلّ ليلة أيضًا (عياض، ترتيب المدارك، 1/ 439).

[38] السابق، (ص:433، 446). وقد كان له شيوخ مصريون وشوام قبل أن يرتحل إلى المدينة ليأخذ العلم عن مالك (السابق 436).

[39] وإنما أُمسك عن الاختيار لعدم وقوفي على التقليد السائد في مصر قبل حلول المذهب المالكي. وربما تكشف البرديات طرفًا من هذه المسألة.

[40] انظر تفصيل ذلك في الملحق الأول.

[41] انظر القوائم في الداني، المقنع، (108- 116). ونولدكه، تاريخ القرآن، (3/ 11- 14). وأمّا ظلال الاختلافات التي خرجت عن هذا المركز فانظرها في السابق، (3/ 15- 19).

[42] انظر الحاشية رقم (26) فيما سبق.

[43] انظر: أبو عبيد، الفضائل، (ص178). والداني، المقنع، (ص16، 112). ونولدكه، تاريخ القرآن، (3/ 13). وتعزو بعض الروايات إدراج ألفين في سورة المؤمنون (85- 89) إلى عبيد الله بن زياد، وقد ولي البصرة سنة 55/ 674، وقُتل سنة 67/ 686، على حين تنسب الأخرى ذلك الأمر إلى نصر بن عاصم الليثي، الخارجي البصري، والعالم بالقرآن (ت89/ 707). وقد راعت الداني هذه الرواياتُ (المقنع 112).

[44] وهذه النقاط الاثنا عشر تؤلّف تمام القائمة التي نقلها أبو عبيد عن إسماعيل بن جعفر في الفضائل، (ص196)، والداني في المقنع، (ص116). وثمة قائمة أخرى رواها [عمرو بن عثمان] الحمصي (ت209/ 824)، وهي في ابن أبي داود، المصاحف، (ص42)، و (39) أيضًا.

[45] في المنزلة شبه الهامشية للمصحف المكي انظر: نولدكه، تاريخ القرآن، (3/ 10 وما بعدها). والقول بعدم تمثيل الكوفيين للعراق يجليه ما ثبت من التغاضي عن مواطن الخلاف بينهم وبين البصريين والمدنيين كليهما في قائمتنا (انظر أبو عبيد، الفضائل، 199). وحري بي أن أذكر أني عددت الموضع التاسع "أو أن" من قراءة البصريين والكوفيين، خلافًا للداني (المقنع 114)، والحجة في ذلك ابن أبي داود (المصاحف، 40). وانظر أيضًا: نولدكه، تاريخ القرآن، (3/ 14). وقد عزا أبو عبيد تلك القراءة إلى العراقيين كافة من غير فصل (الفضائل، 197).

[46] وُجدت هذه القائمة في أخبار الاختلاف بين مصحف المدينة ومصحف عثمان الأصلي [الشخصي] (ابن أبي داود، المصاحف، 37، 41). وهي جِد لائقة بهذا الدور، فالحقّ أن هذه الروايات تجعل من مصحف عثمان نصًّا عراقيًّا (قارن مع الحاشية 48 فيما يأتي). وأقلّ مناسبة من ذلك انطباق هذه الخطة نفسها على خبر المصحف الشامي (السابق، 42)، فهي قاصرة، قطعًا، عن انتظام تمام مجموع المواضع التي يخالف فيها المصحف الشامي العراقيين، وكذا عن المجموعة الفرعية التي يخالف فيها المدنيين.

[47] [والقول] بإلحاق العنصر السابع بالقائمة مفضٍ إلى تأكيد هذا، ذلك أن القراءات المباينة في المسألة بصريةٌ على الخصوص (انظر الحاشية 41 فيما سبق).

[48] وما أثبته هنا في كدٍّ وأناة كان جليًّا قريبًا للداني، فقد اقتصر، في بعض ما رواه عن مصحفنا هذا، على القراءات الأربع الأخيرة، ثم زاد القول بأن بقيتها موافق لما رُوي عن مصاحف المدينة (المقنع، 120. وقارن مع الحاشية 20 فيما سلف).

[49] ولو شئنا أن نعين -لا خبط عشواء- الفيصل بين القسمين، لجاز أن يكون الآية (46) من سورة فصلت، فعندها يتم الجزء الرابع والعشرون من القرآن، ويبدأ الخامس والعشرون، ويتميز الخُمس الأخير من القرآن. على أن الظاهر أن العادة لم تجرِ بوضع علامة مادية لتقسيم القرآن أخماسًا. وقد روى ابن أبي داود تقسيمًا نظريًّا للقرآن إلى أخماس (المصاحف 121، 126)، كما وُضعت علامات لتمييزها في طائفة من المصاحف القديمة. انظر:

 (F. Déroche, “A propos d'une série de manuscrits coraniques anciens", in id. (ed.), Les manuscrits du Moyen- Orient, Paris 1989, 110).

غير أن هذه التقسيمات، فيما يبدو، لا تعدو الدُّربة الحسابية، وعلى ذلك فالراجح أن مواضع الفصل في مصحف مالك قد وقعت اتفاقًا.

[50] ثم احتمال آخر بأن يكون أصله مصحفَ عثمان الخاصّ المسمى بالإمام، وذلك موقوف على تسليمنا بالروايات الواردة في قراءاته، والتي تظهره مصحفًا عراقيًّا (انظر ابن أبي داود، المصاحف، 37، 38، 41. والداني، المقنع، 114، 120. ولا جرم أن هناك أطروحة ظاهرة مفادها أن وجود هذه الروايات يعني أن أحدًا ما في زمانٍ ما قد توهّم، فرأى بعضَ المصاحف العراقية مصحفَ عثمان). وثم روايات أخرى عن قراءات مصحف عثمان تشير إلى أنه كمصحف المدينة (السابق، 109، 110، 115. وكل ذلك عن أبي عبيد، وقد ضربت الذِّكْر صفحًا عن القراءات الواردة في الآيات (85- 89) من سورة المؤمنون؛ أن لم تكن بها سمة مائزة). وانظر: نولدكه، تاريخ القرآن، (3/ 11- 14). وانظر نقاشًا حديثًا لروايات بقاء مصحف عثمان في المصدر السابق (6- 8). وقد ثبت قول مالك بأنه «ذهب» في مصدر بالغ القِدَم، وهو الجامع لابن وهب.

(see the volume Die Koranwissenschaften in the edition of M. Muranyi, Wiesbaden 1992, 254 line 6)

وقد ورد في بعض الروايات أنه تمزّق حين قُتل عثمان (ابن شبة، تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، بيروت، 1990، ص7).

[51] ومهما يكن تاريخ وقوعه على وجه التعيين. فمن اللافت حقيقة أن التراث العربي الغني بالحوليات لم يحوِ، فيما يبدو، تاريخًا لجمع القرآن، أعني خبرًا من قبِيل: «وفي هذا العام جمع عثمان القرآن...»، فقد تُركنا لاستنباط التاريخ من إشارات عارضة وردت في الأخبار المختلفة التي تحكي هذا العمل، لننتهي إلى نتائج متباينة.

[52] ومن هذا القبِيل التصوّر الآتي: رام مالك بن أبي عامر أن يجعل لنفسه مصحفًا شخصيًّا، وذلك في زمان جمع القرآن، من أجل ذلك استعار المصحف الذي خُصّت به المدينة، لكنه انتُزع منه قبل فراغه من النّسخ لبعض الأغراض الرسمية؛ فاستعار مصحف البصرة ليتم مصحفه.

[53] ومما يُعجب له أنّ الروايات التي بين أيدينا من مصنَّفين مختلفين تُظهرنا على تفاصيل متماثلة جوهريًّا في نصّ هذا المصحف، وتلك حقيقة لا يقتصر معناها على أن الداني وابن رشد ومن سبقهم قد أحسنوا تلقي دقائق الأمور، بل فوق ذلك أنّ نسّاخ كلٍّ منهما عبر القرون لم يفسدوا نصيهما بوجهٍ يُؤبه له.

[54] وعلى المنوال نفسه، فقد أحصى العلماء المسلمون القراءات الواردة في المصاحف القديمة، لكنهم لم يعمدوا قط إلى استنباط قول صريح في أمرين: أن مصحف الشام مأخوذ عن المدينة، على حين أن مصحف الكوفة مأخوذ عن مصحف البصرة (انظر: سلالة المصاحف المذكورة في نولدكه، تاريخ القرآن، 3/ 15. على أن الأسس التي بُني عليها القول باعتماد المصحف البصري على مصحف المدينة مبهمة عندي). ولو أن أحدًا من علماء المسلمين نظر في هذه المسائل، فإن تأملاته لم تجد سبيلها إلى الاتجاه السائد في التصنيف.
[للكاتب مقالة حول علاقة مصاحف الأمصار ببعضها حاول فيها افتراض علاقات بين هذه المصاحف وَفقًا لخصائصها واعتمادًا كذلك على افتراضات الداني، وهي مترجمة للعربية، بعنوان: «مصاحف الأمصار؛ قراءة في المصاحف المنتسخة في صدر الإسلام»، ترجمة: مصطفى الفقي، منشورة ضمن ملف (مخطوطات القرآن في الدراسات الغربية المعاصرة)، على قسم الاستشراق بموقع تفسير، قسم الترجمات].

[55] ومن جهة المقارنة فالظاهر أن علماء المسلمين قد فاقوا نظراءهم في الهند القديمة، وقد كان بوسع هؤلاء نقل الأصداء المختلفة للنصّ في دقة بالغة، لكنهم لا يرقون إلى مضاهاة المسلمين في ذلك. وعلى مثال ذلك كان للمسلمين قدم السبق على الدرس العلمي الأوروبي في القرون الوسطى وما يسبقها، كما يمكن مقارنتهم بأندادهم في الصين إبان هاتين الحقبتين. لكنهم من جهة أخرى تأخروا عن علماء فقه اللغة في أوروبا ما بعد النهضة، وكذا في الإمبراطورية الصينية الحديثة. ولو كان موضوعي في مجال البحث العلمي في الصين أو أوروبا في القرن الثامن عشر؛ فالظاهر أن ما انتهيت إليه من النتائج سيوافق توقعات العلماء في ذلك الزمان.

المؤلف

مايكل كوك - Micheal cook

أستاذ قسم دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون، وهو مؤرّخ أمريكي، بالأساس درس التاريخ والدراسات الشرقية في كينجز كوليدج، كامبريدج، ثم في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) بجامعة لندن.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))