مصاحف الأمصار
قراءة في المصاحف المُنتَسَخة في صدر الإسلام
.jpg)
قراءة في المصاحف المُنتَسَخَة في صدر الإسلام[3]
1- مقدّمة:
هل من الممكن تحديد أرومة مصاحف الأمصار المنتسخة في صدر الإسلام؟ في دراسة سابقة، قدّمتُ بعض الملاحظات الأوّلية حول هذا السؤال في أحد الهوامش[4]، معتمدًا بقدرٍ كبيرٍ على القراءة التي قدّمها نولدكه في العام 1860[5]. ومنذ ذلك الحين، أدركتُ أنّ الأمر ليس واضحًا بما يكفي. ومن هنا، تأتي تلك الورقة الراهنة.
تتحدّث المصادر الإسلامية عن عملية جمعِ نصّ رسمي معتمَدٍ للقرآن إبّان حكم الخليفة عثمان بن عفان (حكم: 23- 35/ 644- 656)، ومن ثمّ تعميم هذا النصّ وإرساله إلى الأمصار. وقد أورد العالم الأندلسي أبو عمرو الداني (ت. 444/ 1053) روايتَيْن لعملية توزيع هذا النصّ على الأمصار[6]. وبحسب أولى الروايتين، نسخ عثمان أربع نُسَخ من هذا النصّ (جعله على أربع نسخ) وأرسل نُسخة إلى الكوفة، وأخرى إلى البصرة، وثالثة إلى الشام[7]، وأبقى واحدة لديه (وأمسك عند نفسه واحدة). وبحسب الداني، هذه الرواية هي الرواية الأصح وهي ما تبنّاه كثير من الأئمة. وفقًا للرواية الثانية، انتسخ عثمان سبع نُسَخ وليس أربعًا، وأرسل النُّسَخ الإضافية إلى مكة واليمن والبحرين، ولكن الداني لا يرجّح هذه الرواية.
وقبل أن نشرع في معالجة هاتين الروايتين، يجدر بنا أن نلاحظ إشكاليتَيْن تكتنفان مثل هذه المرويات؛ أولًا: من غير الواضح تمامًا ما إذا كانت تلك النُّسَخ الأربع (أو السبع) تتضمن أم تستبعد من بينها المصحف الإمام (وهو النصّ الذي انتُسخت منه جميع النُّسَخ الأخرى سواء بشكل مباشر أو غير مباشر). ومع ذلك، تَشِي العبارة القائلة إنّ عثمان أمسك عند نفسه واحدة بأنّ المصحف الإمام كان من بين هذه النُّسَخ. أمّا الإشكالية الثانية فهي أنّ تلك الروايات لا تخبرنا ما إذا كانت هذه النُّسْخة التي أمسكها عثمان عند نفسه هي نسخة شخصية خاصّة به، أم أنها هي ذاتها نسخة المدينة (التي تكافئ نُسَخ الكوفة والبصرة والشام). تَشِي الصياغة الظاهرة للروايات بالاحتمال الأول، ولكن عند أخذ حالة التكافؤ بين النُّسَخ في عين الاعتبار نصبح أمام الاحتمال الثاني.
عند هذه المرحلة، دَعُونا نبسّط الأمور من خلال وضع افتراضات ثلاثة؛ أولًا: سوف نؤجّل النقاش حول الرواية الثانية التي أوردها الدّاني لنبدأ بالرواية الأولى جريًا على ترجيحه. ثانيًا: سوف نفترض أن هذه النُّسَخ الأربع تتضمّن المصحف الإمام. ثالثًا: لنفترض أنّ النُّسْخَة التي أمسكها عثمان عند نفسه هي نُسْخة المدينة (أو هي نُسْخَة تلعب دورًا مزدوجًا). وطبقًا لهذه الافتراضات الثلاثة، نحن معنيّون عند هذه النقطة بأربع نُسَخ فقط أُرْسِلَتْ إلى الأمصار. ويمكننا أن نرمز إلى تلك النُّسَخ بالحروف الآتية:
حرف (ش) ويرمز إلى النسخة المرسلة إلى الشام، حرف (مـ) ويرمز إلى النسخة التي أمسكها عثمان في المدينة، حرف (ب) ويرمز إلى نسخة البصرة، وحرف (ك) يرمز إلى نسخة الكوفة.
بالطبع، لم يبقَ أيّ مصحف من هذه المصاحف الأربعة إلى اليوم. ومع ذلك، فنحن لدينا روايات مفصّلة حول الاختلافات النصّية التي تميّزَتْ بها كلُّ نسخة من النُّسَخ الأربع (أو المصاحف المحلية المنتسخة منها)[8]. يُورِد الدّاني هذه الروايات في أحد الأبواب المخصّصة لمناقشة هذا الموضوع[9]؛ حيث يحصي الداني ستّةً وثلاثين موضعًا في القرآن تحدُث فيها مثل هذه الاختلافات، وفي كلّ موضع من هذه المواضع يخبرنا الداني بالقراءات المحلية للآية[10]. لا يُعَدّ هذا العدد كبيرًا بالقياس إلى نصّ طويل بحجم القرآن؛ إِذْ إنّ الكلمات التي تقع فيها مثل هذه الاختلافات تشكّل أقلّ من كلمة واحدة من كلّ ألفي كلمة. كما لا يتعدّى عدد القراءات المختلفة في أيّ موضع من المواضع المذكورة القراءتين، ويلهج كلّ مصحفٍ محليّ بقراءة منهما أو بالأخرى. لا ينفرد أبو عمرو الداني بذكر هذه المعلومات؛ فعلى سبيل المثال، نعثر على هذه المرويات بشكلٍ أساسي في مصنفات ابن أبي داود (ت. 316/ 929)[11]، وأبي عبيد القاسم بن سلام (ت. 224/ 838)[12]، ويعاد إنتاج هذه الروايات في المصنفات الحديثة التي تعالج تاريخ القرآن[13]. ثمة بعض التناقضات التي تظهر بين مختلف المصادر، ولكنّنا نحتاج إلى النظر إليها باعتبارها ذات صلة بنقاشنا. ولنشرع الآن في معالجتها نسخةً فنسخة.
2- مصحف أهل الشام:
تسير الأمور على نحو مبسّط في حالة مصحف الشام[14]. ثمة مجموعة واحدة من المواضع (عددها ستة عشر موضعًا) التي انفرد بها مصحف الشام (وهذا يعني أنّ تلك المواضع غير مقروءة هكذا في مصاحف أهل المدينة والبصرة والكوفة)، كما توجد مجموعة ثانية من المواضع (وعددها ثلاثة عشر موضعًا) اتفق فيها مصحف الشام مع مصحف المدينة مخالفًا مصاحف البصرة والكوفة[15]، ولم يحدث أبدًا أن وافق مصحف أهل الشام مصاحف البصرة أو الكوفة وخالف المصحف المدني[16]. وعلى هذا النحو، بإمكاننا أن نميّز مصحف أهل الشام من خلال تحديد المواضع التي انفرد بها (مؤجِّلِين النقاش حول المواضع التي وافق فيها مصحف المدينة مخالفًا لمصاحف الكوفة والبصرة إلى حين مناقشة مصحف أهل المدينة)، وهذه المواضع هي[17]:
- (ش: 1) سورة البقرة: آية (116) ← {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا} (بدلًا من: وقالوا، بالواو).
- (ش: 2) سورة آل عمران: آية (184) ← {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} (بدلًا من: بالبينات والزبر والكتاب)[18].
- (ش: 3) سورة النساء: آية (66) ← {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} (وفي سائر المصاحف: إلا قليلٌ، بالرفع).
- (ش: 4) سورة الأنعام: آية (32) ← {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} (وفي سائر المصاحف: وللدّار الآخرة)[19].
- (ش: 5) سورة الأنعام: آية (137) ← {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهِمْ شُرَكَآئِهِمْ} (وفي سائر المصاحف: شركآؤهم).
- (ش: 6) سورة الأعراف: آية (3) ← {قَلِيلًا مَا يَتَذَكَّرُونَ} (وفي سائر المصاحف: تذَكّرون أو تذّكّرون، بالتاء من غير ياء)[20].
- (ش: 7) سورة الأعراف: آية (43) ← {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} (وفي سائر المصاحف: ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ).
- (ش: 8) سورة الأعراف: آية (75) ← {وَقَالَ الْمَلَأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} (وفي سائر المصاحف: قَالَ الْمَلَأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ).
- (ش: 9) سورة الأعراف: آية (141) ← {وَإِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (وفي سائر المصاحف: وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ).
- (ش: 10) سورة يونس: آية (22) ← {هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (وفي سائر المصاحف: يُسَيِّرُكُمْ).
- (ش: 11) سورة الإسراء: آية (93) ← {قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي} (في مقابل: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي)[21].
- (ش: 12) سورة الزمر: آية (64) ← {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ} (وفي سائر المصاحف: تَأْمُرُونِّي).
- (ش: 13) سورة غافر: آية (21) ← {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ} (وفي سائر المصاحف: أَشَدَّ مِنْهُمْ).
- (ش: 14) سورة الرحمن: آية (12) ← {وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ} (وفي سائر المصاحف: ذُو الْعَصْفِ).
- (ش: 15) سورة الرحمن: آية (78) ← {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (وفي سائر المصاحف: ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
- (ش: 16) سورة الحديد: آية (10) ← {وَكُلٌّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} (وفي سائر المصاحف: وكلًّا وعد الله).
ويمكننا في المرحلة الحالية أن نتغاضَى عن السؤال المهم حول ما إذا كان أيٌّ من هذه القراءات يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة.
3- مصحف أهل المدينة:
تختلف حالة المصحف المدني عن حالة مصحف الشام؛ ففي حين انفرد مصحف الشام بستة عشر موضعًا مختلفًا، لم ينفرد مصحف المدينة بقراءةٍ ما، حيث نجده في كلّ موضع موافقًا لمصحف الشام أو مصحف البصرة. وهكذا، بإمكاننا أن نميّز مصحف المدينة بذكر الثلاثة عشر موضعًا التي خالف فيها مصحف البصرة، وهذه المواضع هي[22]:
- (مـ: 1) سورة البقرة: آية (132) ← {وَأَوْصَى بِهَا} (في مقابل: وَوَصَّى بِهَا).
- (مـ: 2) سورة آل عمران: آية (133) ← {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (في مقابل: وَسَارِعُوا، بالواو).
- (مـ: 3) سورة المائدة: آية (53) ← {يَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا} (في مقابل: وَيَقُولُ، بالواو).
- (مـ: 4) سورة المائدة: آية (54) ← {مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ} (في مقابل: مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ، بدال واحدة).
- (مـ: 5) سورة براءة: آية (107) ← {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} (في مقابل: وَالذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا، بإثبات الواو).
- (مـ: 6) سورة الكهف: آية (36) ← {خَيْرًا مِّنْهُمَا مُنقَلَبًا} (في مقابل: خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا).
- (مـ: 7) سورة الشعراء: آية (217) ← {فَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (في مقابل: وَتَوَكَّلْ، بالواو).
- (مـ: 8) سورة غافر: آية (26) ← {وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادُ} (في مقابل: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[23].
- (مـ: 9) سورة الشورى: آية (30) ← {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (في مقابل: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).
- (مـ: 10) سورة الزخرف: آية (68) ← {يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (في مقابل: يَا عِبَادِ، بغير ياء)[24].
- (مـ: 11) سورة الزخرف: آية (71) ← {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} (في مقابل: مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ).
- (مـ: 12) سورة الحديد: آية (24) ← {فَإِنّ اللهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (في مقابل: فَإِنّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
- (مـ: 13) سورة الشمس: آية (15) ← {فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} (في مقابل: وَلَا يَخَافُ، بالواو)[25].
ومرّة أخرى، يمكننا تأجيل السؤال عمّا إذا كان يمكن قراءة أيٍّ من هذه المواضع بشكل صحيح أو خاطئ.
4- مصحف أهل البصرة:
على نحوٍ بارز، يُعَدّ مصحف أهل البصرة مرآة لمصحف المدينة. ومثلما هي الحال مع المصحف المدني، لم ينفرد مصحف البصرة بقراءةٍ ما[26]، وفي كلّ موضع نجده موافقًا إمّا لمصحف المدينة أو لمصحف الكوفة، ولكن لم يحدث أن وافق مصحف البصرة مصحف الشام مخالفًا مصحف المدينة (تمامًا مثلما اتفق مصحف المدينة في كلّ المواضع إمّا مع مصحف الشام أو مصحف البصرة، ولكنه لم يحدث أن اتفق مع مصحف الكوفة مخالفًا مصحف البصرة). لسنا بحاجة إلى سرد المواضع التي اختلف فيها مصحف البصرة مع مصحف المدينة لأنّنا أتينا على ذِكْرها لدى مناقشة مصحف المدينة، كما أنّنا لن نسرد المواضع التي خالف فيها مصحف البصرة مصحف الكوفة لأنّنا سوف نذكرها عندما تحين مناقشة مصحف الكوفة.
ومع ذلك، ثمة استثناء هنا يشوب صفو تحليلنا للموضوع. في الواقع، تمدّنا المصادر بقراءة واحدة انفرد بها مصحف البصرة:
- (ب: 1) سورة المؤمنون: الآيات (85- 89) ← لله ... الله ... الله (في مقابل: {لله} لثلاثتهن) .
وبعيدًا عن كون هذا الموضع ربما هو الموضع الوحيد الذي انفرد به مصحف البصرة، تأتي المصادر على ذِكْر عدد من الروايات التي تخبرنا أنّ الأَلِفَيْن اللذَيْن زِيدَا في كلمة (الله) قد أُضيفَا في وقتٍ لاحق[27]. يرفض الداني هذه الروايات بشيء من التحفّظ، والحقيقة القائلة بأنّ تلك الروايات تنسب هذه الإضافة إلى ثلاثة أشخاص مختلفين لا تَشِي بكثير من الثقة فيها. ولكن الروايات توافق الدليل النصِّي؛ لذلك سوف أتجاهل هذه القراءة.
5- مصحف أهل الكوفة:
إذا كان مصحف أهل البصرة مرآة للمصحف المدني، فإنّ مصحف أهل الكوفة مرآة لمصحف الشام وإنْ كان ذلك من الناحية النوعية لا الكمّية[28]. وهذا يعني أن قراءات مصحف الكوفة إمّا قراءات انفرد بها أو وافق فيها مصحف البصرة، ولكن لم يحدث أن وافق مصحف الكوفة مصحف المدينة أو مصحف الشام مخالفًا مصحف البصرة. (الاستثناء الوحيد المعتبر لتلك القاعدة هو القراءة المذكورة في مناقشة مصحف البصرة وقمنا باستبعادها بوصفها إضافة لاحقة، وإذا ما قبلناها، فسوف يوافق مصحف الكوفة في هذه الحالة مصاحف المدينة والشام ويخالف مصحف البصرة[29]. وعلى هذا النحو، يمكننا أن نميّز مصحف الكوفة من خلال سرد القراءات التي انفرد بها وتأتي في ستة مواضع (بخلاف الستة عشر موضعًا التي انفرد بها مصحف الشام)، وهذه المواضع كما يأتي[30]:
- (ك: 1) سورة الأنعام: آية (63) ← {لَئِنْ أَنْجَانَا}[31] (في مقابل: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا).
- (ك: 2) سورة الأنبياء: آية (4) ← {قَالَ} (في مقابل: قُلْ).
- (ك: 3) سورة المؤمنون: آية (112) ← {قُلْ} (في مقابل: قَالَ)[32].
- (ك: 4) سورة المؤمنون: آية (114) ← تمامًا كما هو الموضع السابق.
- (ك: 5) سورة يس: آية (35) ← {عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ} (في مقابل: عملتهُ أيديهم)[33].
- (ك: 6) سورة الأحقاف: آية (15) ← {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (في مقابل: حُسْنًا).
نلاحظ أنّ ثمة مواضع ثلاثة مما سبق ذِكْره تُعَدّ ذات أهمية هامشية، وهي المتعلّقة بحالة التناوب بين لفظتي (قَالَ وقُل)، وهي في الأساس ليستْ أكثر من مسألة اختلاف في التلفظ بهما. ومرّة أخرى، بإمكاننا تأجيل السؤال عمّا إذا كان يمكن تصنيف هذه القراءات صحيحة أو خاطئة.
6- سحائبُ صيف:
في غالبية المواضع الستة والثلاثين التي يقع فيها الاختلاف بين المصاحف يكون الأمر واضحًا لا لبس فيه. ولكن في بعض المواضع، كما رأينا من قبل، نشهد بعض اللَّبْس الذي قمتُ بإيجاد مخرج له بطريقة أو بأخرى. وتنقسم هذه المواضع، من حيث تأثيرها على البيانات المعروضة آنفًا، إلى نوعين[34]:
أولًا: ثمة بعض المواضع التي ستغيّر نوعًا ما العدد الدقيق للقراءات المنفردة أو المشتركة بين المصاحف التي حدّدناها سابقًا، ولكنها لن تؤثّر على العلاقات البنيوية بينها كما رأيناها. أحد الأمثلة على هذه المواضع هي قراءة {أَوْ أَنْ} في الآية (26) من سورة غافر (مـ: 8)، وهو ما قُمنا بمعالجته بذِكْر اشتراك أهل البصرة وأهل الكوفة في القراءة ذاتها، بينما الخيار البديل هو معاملة هذا الموضع بوصفه قراءة منفردة لأهل الكوفة. ومثال آخر هو قراءة كلمة (تأتهم) في الآية (18) من سورة محمد (والتي سنذكرها لاحقًا كقراءة مكية في المصحف المكي: 7) التي استبعدنا نسبتها إلى مصحف الكوفة، والخيار البديل في هذه الحالة هو إضافتها إلى القراءات التي انفرد بها المصحف الكوفي.
ثانيًا: هناك موضعان سيقوِّضان العلاقات البنيوية التي وجدناها إذا عُولِجَا بطريقة مختلفة. أوّلها: قراءة {الله} بدلًا من {لله} في آيات سورة المؤمنون (85- 89) (ب: 1)، وإذا ما كان علينا قبول هذه القراءة في مصحف البصرة؛ فإنّ ذلك سوف يعني أنه انفرد بقراءة وحده. والموضع الثاني هو قراءة: {فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} من سورة الشمس: آية (15) (مـ: 13)، فإذا لم ننسب هذه القراءة إلى مصحف الشام أيضًا؛ فإنّ ذلك يعني أنّ مصحف المدينة قد انفرد بقراءة وحده. وبالتالي، من الأمور المشجعة أن نجد سببًا كافيًا لرفض البديل غير المرغوب فيه في الحالة الأولى، وسببًا قويًّا لرفضه في الحالة الثانية كذلك.
7- بناء أرومة لمصاحف الشام، والمدينة، والبصرة، والكوفة:
دعونا أولًا نصطلح على بعض المصطلحات الفرعية للمصاحف الأربعة. سوف ندعو مصحفَا الشام والكوفة بـ«مصاحف الأطراف»، ومصحفَا المدينة والبصرة بـ«مصاحف المركز»، ومصحفَا الشام والمدينة بـ«المصاحف الغربية»، ومصحفَا البصرة والكوفة بـ«المصاحف الشرقية».
وباستخدام تلك المصطلحات، يمكننا تلخيص النّمَط المستخلص من البيانات المعروضة أعلاه كما يأتي: قراءات كلّ مصحف من مصاحف الأطراف إمّا قراءات منفردة أو متطابقة مع قراءات مصاحف المركز، كلٌّ بحسب نطاقه الجغرافي. وقراءات كلّ مصحف من مصاحف المركز ليست قراءات منفردة؛ ولكنها إمّا توافق قراءات مصاحف الأطراف، كلٌّ بحسب نطاقه الجغرافي، أو توافق المصحف المركزي الآخر. السؤال المطروح إذن هو: أيّ أصل من الأصول العديدة التي يمكن تصوّرها للمصاحف السابقة تلائم هذه الحقائق المذكورة؟ والإجابة هي أنه توجد أربعة أصول مختلفة، يُحَدَّد كلٌّ منها على نحو فريد بمجرّد أن نختار مصحفًا ما للبدء به:
قد تبدو هذه النتائج محبطة، وهي كذلك إلى حدّ ما. ولكنها تصل بنا إلى شيء أيضًا. لا تقل عدد الأصول المحتملة التي يمكن تصوّرها للمصاحف الأربعة، حتى على الافتراض الذي افترضناه بدءًا، عن ستّين احتمالًا[35]، ولكن تلك البيانات السابقة أسدَت إلينا معروفًا بتقليص تلك الاحتمالات الستّين إلى أربعة فحسب.
فهل من الممكن أن نطمح إلى ما وراء ذلك بالسعي إلى ردّ تلك الأصول الأربعة المحتملة إلى أصل واحد فقط؟ يعتقد نولدكه أنّ ذلك ممكنٌ بالطبع: فبعد أن يقدّم حجاجًا مختصرًا للغاية ومتبصرًا في آنٍ، يختار نولدكه النمط (ب) بوصفه الأكثر احتمالًا[36]. ولكن لماذا يختار النمط (ب) تحديدًا؟ بالطبع لدى نولدكه أسبابه الخاصة، ولكنها غير واضحة إلى حَدٍّ ما[37]. لذلك نقدّم أسبابنا الخاصّة كما نراها.
يعتمد إحراز المزيد من الفهم المتقدّم لهذه النقطة على القدرة على تحديد المواضع التي تبدو فيها إحدى كتابات المصاحف صحيحة والأخرى خاطئة، بينما المواضع التي تبدو متكافئة لن تساعدنا على الإطلاق. المشكلة هنا أنّ غالبية الاختلافات التي نتعاطَى معها تنتمي إلى هذا النوع المحايد الذي يصعب معه الجزم بخيار ما يمكّنُنا من أن ندّعي بكلّ وضوح أنّ: «الله لم يَقُل ذلك مطلقًا، بل قال ذلك فحسب»[38]. وأنا لن أحاول مناقشة كلّ موضع على حِدَة، أو أيّ موضع بالتفصيل، وعلى القارئ المهتم أن يتوجّه إلى السياقات القرآنية ليتوصّل إلى استنتاجاته الخاصّة. وفيما يأتي، سوف أنتخب ببساطة بعض المواضع التي أعتقد أن ثمة ما يدعو إلى تفضيل أحد الاختلافات فيها على الآخر.
ولنبدأ بالقراءات التي انفرد بها مصحف الشام. ثمة أمران تجدر ملاحظتهما. أولًا، لا يوجد موضع بعينه يدرك فيه المرء أنّ قراءة الشام هي القراءة الصحيحة. ثانيًا، يبدو أن نصف المواضع التي انفرد بها مصحف الشام خاطئة. ينطوي هذا القول على حكم ذاتي subjectivity نوعًا ما، ولكن قائمتي الخاصّة من الاختلافات الشامية الخاطئة إلى حدّ ما ستشمل: (ش: 3)، (ش: 5)[39]، (ش: 9)، (ش: 11)، (ش: 13)، (ش: 14)، (ش: 15)، (ش: 16).
ثم ننتقل إلى المواضع التي خالف فيها مصحف المدينة مصحف البصرة. هنا، للأسف، لا أحدس، في أيّ موضع من مواضع الخلاف، وجود قراءة صحيحة والأخرى خاطئة.
وأخيرًا، نأتي إلى القراءات التي انفرد بها مصحف الكوفة. هنا، الأمر أخفّ مما هو عليه في حالة مصحف الشام؛ إِذْ تميل الاختلافات إلى أن تكون محايدة أو هامشية. الموضع الوحيد الذي يمكن أن يساعدنا في تلك المواضع هو الآية (15) من سورة الأحقاف (ك: 6)، إذ تبدو قراءة: {إِحْسَانًا} الكوفية هي القراءة الأفضل.
وبعبارة أخرى، إذا ما افترضنا أنّ النصوص القرآنية بدأتْ صحيحةً ثم وقع الاختلاف بينها عند نَسْخ المصاحف، يمكننا أن نستنتج بشيء من الثقة أنّ مصحف الشام نُسِخَ عن مصحف المدينة، وفي الوقت ذاته نقترح أن يكون مصحف البصرة نُسِخَ عن مصحف الكوفة. سيؤدِّي الاستنتاج الأول إلى استبعاد النمط (أ)، أمّا الاقتراح الثاني الأقلّ تأكيدًا من شأنه أن يستبعد جميع الأنماط ما عدا النمط (د). باختصار، بقي لدينا الأنماط (ب)، و(ج)، و(د)، مع إعطاء الأولوية للنمط (د). ولكن هناك مشكلة أخرى. افترضنا أنّ النصّ بدأ صحيحًا ثم جرى عليه الاختلاف، ولكن من الممكن أيضًا، بالنسبة إلى المصاحف الأربعة، أن يكون بدأ مختلفًا ثم خضع لتصحيحات معقولة (بالإضافة إلى بعض الاختلافات العشوائية) عن طريق الْكَتَبة، والقراءات الخاطئة التي أشرتُ إليها ليست في النهاية سوى قراءات يمكن لفقيه اللغة أن يتعاطى معها، وبالتالي قد لا تكون مهمّة للغرض الذي نسعى إليه. وإذا ما أخذنا هذا الاحتمال بعين الاعتبار فلا يزال لدينا أربعة أصول محتملة.
ثمة احتمال آخر، وإن كان بعيدًا ربما. إذا كانت لدينا قراءات من مصاحف غير عثمانية في المواضع محلّ بحثنا، فلربما تساعدنا هذه القراءات على تحديد أحد الاختلافَين في الموضع الواحد كقراءة أصلية والآخر كقراءة ثانوية. وأنا لا علم لي بمثل هذه القراءات، ولكن ربما يكون لدَى مخطوطات صنعاء الأقدم ما تقدّمه في هذا الشأن[40].
8- هل يوجد مصحف إمام دون المصاحف الأربعة؟
افترضنا حتى هذه اللحظة أنّ المصحف الإمام كان من بين المصاحف الأربعة التي تعرّضنا لها، وأنّ المصاحف الباقية منتسخة منه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ولكن ماذا إن لم يكن الأمر كما افترضنا؟ دَعُونا نقلّب هذا الاحتمال على وجهين: أولًا، من الناحية النظرية، وثانيًا، عند الأخذ بعين الاعتبار البيانات التي يقدّمها لنا أبو عمرو الداني وغيره من المصادر الأخرى فيما يتعلّق بالاختلافات النصّية في المصحف الذي يدعونه «الإمام».
بالطبع لن نستفيد شيئًا جديدًا إذا أقحمنا مصحفًا إمامًا افتراضيًّا -ولنسمّه (س)- فوق أيّ نمط من الأنماط التي تعرّضنا لها آنفًا. وإذا أقررنا وجود أحد هذه الأنماط الأربعة، فلا شَكّ أننا سنميل إلى افتراض أنّ أول نسخة في أعلى السلسلة منسوخة من مصحف سابق عليها نوعًا ما، ولكن لن يكون لدينا أيّ معلومات إضافية عن هذا المصحف الأقدم.
في أيّ موضع ينبغي أن نضع المصحف الإمام المفترض حتى يشكّل فارقًا؟ بالطبع في الموضع الذي يسمح لنا ببناء نمط لأصل المصاحف يكون فيه (س) متبوعًا مباشرة بالمصاحف المنسوخة عنه[41]. فكم عدد المصاحف الفرعية التي يمكن أن يحتوي عليها مثل هذا النّمط؟ لا توجد طريقة يمكن من خلالها لأربعة أو حتى ثلاثة مصاحف محلية أن تتفرّع على الفور من (س)؛ لأنه في هذه الحالة، يمكننا أن نتوقّع العثور على مصحف مركزيّ واحد على الأقلّ يحتوي على قراءات منفردة، ومصحف واحد على الأقل من مصاحف الأطراف يوافق مصاحف المجموعة الجغرافية الأخرى. ولكن النّمط المزدوج ملائم تمامًا. فمن أصل واحد وستّين نمطًا يمكن تصوّرها من هذا النوع[42]، هناك ثلاثة أنماط ممكنة:
هل يمكننا استبعاد أيٍّ من هذه الأنماط بافتراض أنّ القراءات التي فضلناها سابقًا من المرجح أن تكون هي القراءات الأصلية؟ لا تساعدنا المرتبة المتدنية لمصحف الشام في الإجابة على هذا السؤال، ولكننا إذا كنّا على استعداد لتقبل أولوية المصحف الكوفي كما نعتقد، فيمكننا أن نستبعد النمطين: (هـ) و(و).
فما هي إذن القراءات المنسوبة في المصادر لدينا إلى «الإمام مصحف عثمان» كما يحلو للداني أحيانًا أن يسميه في مصنفه[43]؟
توجد هنا مشكلتان أساسيتان. أولًا، لا تمدّنا المصادر بقراءات المصحف الإمام سوى في عدد محدود جدًّا من المواضع، وعادة مواضع الخلاف بين مصحف المدينة ومصحف البصرة. ثانيًا، تمدّنا المصادر المختلفة بمعلومات مختلفة بل متناقضة.
تبعًا لذلك، يعرض لنا الداني ثماني قراءات منسوبة للمصحف الإمام. يُسنِد خمسًا من بينها إلى أبي عبيد الذي يخبرنا أنه رأى بنفسه المصحف الإمام أو كما يقول في أحد المواضع «الذي يُقال له الإمام»[44]. من بين هذه القراءات الخمس، ثمة قراءات ثلاث يعتمد فيه المصحف الإمام قراءة المصاحف الغربية في الآية (132) من سورة البقرة (مـ: 1)، والآية (54) من سورة المائدة (مـ: 4)، والآية (71) من سورة الزخرف (مـ: 11). وفي قراءة أخرى، لا يوافق المصحف الإمام ما انفرد به مصحف البصرة من زيادة حرف الألِف في الآيات (85- 89) من سورة المؤمنون (ب: 1). كما يظهر في موضع آخر عدم اتفاق المصحف الإمام مع ما انفرد به مصحف الشام في الآية (12) من سورة الرحمن (ش: 14). وبعبارة أخرى، تتفق مواضع المصحف الإمام بحسب رواية أبي عبيد دائمًا مع مصحف المدينة، وتخالف في موضع واحد مصحف الشام. وهذا يعني أنّ المصحف الإمام لا يمكن أن يكون هو (س) في النمط (ز)، كما لا يتناسب مع النمطين (هـ) و(و)؛ نظرًا لأنّنا نتوقّع عندئذ أن يوافق مصحف الشام في النمط (هـ) تارة أو مصحف البصرة في النمط (و) تارة أخرى، على الرغم من ضآلة عدد قراءاته المتاحة لدينا بحيث لا تمنحنا هذه الثقة. أمّا قراءات المصحف الإمام الأخرى، فيسندها الداني إلى مصادر أخرى. إحدى هذه القراءات المنسوبة إلى المصحف الإمام هي قراءة (أَوْ أنْ) في الآية (26) من سورة غافر (مـ: 8)[45]، وهذا يجعل المصحف الإمام موافقًا لمجموعة المصاحف الشرقية (أو أقلّ احتمالية لموافقة مصحف الكوفة وحده). وثمة إحالة أخرى من المصحف الإمام على قراءات المصاحف الشرقية للآية (24) من سورة الحديد (مـ: 12) والآية (15) من سورة الشمس (مـ: 13)[46]. وهذه القراءات الشرقية يمكن أن يتضاعف عددها إذا ما أخذنا في اعتبارنا البيانات التي أوردها ابن أبي داود والتي تظهر موافقة المصحف الإمام مصحف البصرة في جميع المواضع[47].
في كلامٍ آخر، التقليد منقسم حول طبيعة نصّ المصحف الإمام ما إذا كان ينتمي إلى المصاحف الشرقية أو إلى المصاحف الغربية، وينشأ شكّ قويّ عند النظر في ذلك إِذْ إننا يجب أن نكون حذِرِين عندما نتعاطى مع المصاحف المحلية العادية التي حددتها الأجيال اللاحقة عن طريق الخطأ بأنها المصحف الإمام. وفي الواقع، ثمة رواية تفيد بأن المصحف الإمام فُقِد عند مقتل عثمان[48]. وباختصار، لا يمكن للبيانات المتاحة لنا حول نصّ المصحف الإمام أن تساعدنا مطلقًا.
9- المصحف المكيّ:
ولنرجع الآن إلى الرواية الثانية التي لا يرجحها الداني حول توزيع مصاحف الأمصار، وهي رواية تضيف ثلاثة مصاحف أخرى إلى النسخ الأربع الأولى، وتنصّ على أنّ هذه المصاحف أُرْسِلَتْ تحديدًا إلى مكة، واليمن، والبحرين. وعند الحديث عن الاختلافات بين المصاحف المحلية، لا تأتي المصادر على ذكر أيّ معلومات عن مصحف اليمن ومصحف البحرين. ولكن تلك المصادر ذاتها درجت على حشد المعلومات عن مصحف أهل مكة[49]. ولنسمه المصحف (ة)، ونرى العلاقة بينه وبين المصاحف التي ناقشناها آنفًا.
ولنبدأ بمناقشة العلاقة بين المصحف المكي ومصاحف الأطراف. ونلاحظ هنا أن مصحف مكة يحافظ على مسافة بينه وبين كِلا المصحفين: الشامي والكوفي. ثمة موضع واحد يوافق فيه مصحف مكة القراءة التي انفرد بها مصحف الشام في الآية (93) من سورة الإسراء {قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي}، في مقابل: (قُل) (ش: 11)، وهو موضع لا يعنينا كثيرًا. وهناك موضعان آخران مشكوك فيهما ربما يشترك فيهما (ة) مع قراءات انفرد بها (ك)؛ الموضع الأول هو الآية (26) من سورة غافر (مـ: 8)، حيث يوجد سبب وجيه لاعتقاد أن هذه القراءة تخصّ مصحف البصرة أيضًا. أمّا الموضع الثاني فهو الآية (18) من سورة محمد (ة: 7)، حيث القراءة الكوفية مشكوك فيها هنا.
ما هي العلاقة إذن بين (ة) ومصاحف المركز؟ عندما يختلف مصحف المدينة مع مصحف البصرة، عادةً ما يوافق مصحف مكة مصحف البصرة. وهكذا توجد تسعة مواضع على الأقل يوافق فيها (ة) مصحف البصرة مخالفًا مصحف المدينة. ومع ذلك، يوافق مصحف مكة مصحف المدينة في موضعين مخالفًا مصحف البصرة: في الآية (53) من سورة المائدة (مـ: 3) والآية (36) من سورة الكهف (مـ: 6). وهناك موضعان مشكوك في كونهما يعودان للمصحف المكي: الآية (26) من سورة غافر (مـ: 8)، حيث يوجد بعض الشك فيما يتعلّق بانتمائها إلى مصحف أهل البصرة، وفي الآية (68) من سورة الزخرف (مـ: 10)، حيث يوجد شكّ في كونها كذلك في مصاحف أهل مكة[50].
وأخيرًا، ثمة سبعة مواضع (أو خمسة على الأقل) انفرد بها المصحف المكي، وهي كما يأتي[51]:
- (ة: 1) سورة التوبة: آية (100) ← {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (في مقابل: تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ)[52].
- (ة: 2) سورة الكهف: آية (95) ← {قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} (في مقابل: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)[53].
- (ة: 3) سورة الأنبياء: آية (30) ← {أَلَمْ يَرَ} (في مقابل: أَوَلَمْ يَرَ).
- (ة: 4) سورة الفرقان: آية (25) ← {ونُنْزِلُ الْمَلائِكَةَ تَنْزِيلًا} (في مقابل: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا).
- (ة: 5) سورة النمل: آية (21) ← {أَوْ لَيَأْتِيَنَّنِي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} (في مقابل: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).
- (ة: 6) سورة القصص: آية (37) ← {قَالَ مُوسَى} (في مقابل: وَقَالَ مُوسَى).
- (ة: 7) سورة محمد: آية (18) ← {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ إِنْ تَأْتِهِمْ بَغْتَةً} (في مقابل: تَأْتِيَهُم)[54].
ولا يبدو أن إحدى هذه القراءات تحظى بأولويةٍ ما.
ماذا يمكننا أن نستنتج مما سبق؟ حقيقة أنّ مصحف أهل مكة يوافق مصحفَي المركز تعني أنه لا يمكن أن يكون منسوخًا بشكل حصري من أحدهما. كما أنه لا يزال بعيدًا عن كونه منسوخًا من مصحف الشام أو مصحف الكوفة؛ لأنه يوافق عادة المصحفين الآخرين مقابلهما. بعبارة أخرى، لا يمكن أن نضع مصحف مكة ضمن أيّ نمط من الأنماط السبعة المحتملة كمصحف منسوخ عنهم. كما أنه لا يمكن أن ينطبق على المصحف (س) في هذه الأنماط؛ لأنّ فرص اتفاق نسختين مستقلّتين عن مصحف مكة مقابل قراءاتهما المنفردة ضئيلة للغاية. في الحقيقة، النمط الوحيد الممكن لجمع مصحف مكة مع المصاحف الأربعة الأخرى هو النمط الآتي: