افتنان القرآن
بيان مراعاة القرآن لمعهود العرب في بناء الخطاب
يشيع في الدراسات الاستشراقية القول بفوضويّة القرآن وعدم انتظامه، لكونه ينتقل بشكلٍ فجائي من موضوع لآخر دون رابط منطقي يعلِّل هذا الانتقال. وهذا الموقف ناشئ عن تصوّر بلاغي يوناني يتصوّر أن النصّ المنسجم لا بد له من مقدمة وعرض وخاتمة، ولا بد فيه من وحدة الموضوع.
على أن المفسرين المسلمين القدامى قد أدركوا في الواقع هذه (العادة القرآنية) في الانتقال بين المعاني والموضوعات، وسعوا إلى البحث في عللها، دون أن يَحُول هذا الإدراك بينَهم وبين القول بانسجام النصّ القرآني ووحدته وانتظامه؛ بل إنّ هذه العادة القرآنية -أعني الانتقال بين الموضوعات والمعاني- لا تختصّ في نظر البلاغيين القدامى بالقرآن الكريم وحده، بل تتسم بها حتى القصائد الشعرية وسائر أنماط القول العربي، كما سيبينه البحث بحول الله.
لكن هذا الوعي لم يتبلور في تصوّر مكتمل واضح المعالم، وإنما اكتُفي بالإشارة والإلماع إلى هذه المسائل، ومعالجتها في مواضع متفرّقة ومبثوثة في مجالات معرفية مختلفة تتصل بالنصوص؛ كالبلاغة والنقد الشعري وكتب الإعجاز والتفسير وعلوم القرآن.
وتأتي هذه الدراسة لإبراز كيفية معالجة القدامى لسمة الافتنان، انطلاقًا من رصدهم لحضورها في الكلام العربي وخاصّة الشعر، ثم تتبع مظاهر رصدهم لها وتجلياته في القرآن، وكيفيات معالجتهم لها، وطرائق بحثهم فيها، إلى جانب تقويم هذا الرصد ومعرفة حدوده وآفاقه؛ مع التركيز على إسهامِ واحدٍ من كبار المفسرين القدامى، وهو الفخر الرازي -رحمه الله-.