إلماحات لغوية من تفسير (اللباب) لابن عادل

يُعَدُّ كتاب (اللباب في علوم الكتاب) لابن عادل الحنبلي من التفاسير التي أَوْلَت الجانب اللغوي للقرآن الكريم عناية كبيرة، وهذه المقالة تستعرض بعض الإلماحات اللغوية من هذا التفسير بعد تمهيد يُعرِّف بالكتاب ومؤلِّفه.

إلماحات لغوية من تفسير (اللباب) لابن عادل[1]

  يُعَدُّ كتاب (اللّباب في علوم الكتاب) لابن عادل الحنبلي موسوعةً في تفسير القرآن الكريم؛ حيث ضَمّ الكثير من أقوال العلماء في علوم القرآن متضمّنًا آراء المفسِّرين واللغويين والفقهاء والأصوليين. وقد أَوْلَى اللغةَ عنايةً كبيرةً؛ حيث عرض لمعاني المفردات والقضايا النحوية ووجوه الإعراب، منطلقًا مِن تمكُّنٍ كبيرٍ من أصول النحو السماعية والقياسية.

وفي السطور الآتية سنعرض بعض الإلماحات اللغوية التي يسمح المقال والمقام بعرضها، بعد تمهيد نتعرّف من خلاله على المؤلِّف والمؤلَّف.

ترجمة المؤلِّف:

هو عمر بن عليّ ‌بن ‌عادل ‌الحنبلي الدمشقيّ الحنبلي النعماني.

لم تذكر كتب السِّيَر والأعلام والتراجم تاريخًا لمولده أو وفاته، لكن من خلال ما ورد عنه من معلومات من خلال أساتذته وتلاميذه يُستنبط أنه عاش بين القرنين السابع والثامن الهجريّيْن.

تتلمذ ابن عادل على بعض علماء عصره، مثل: محمد بن عليّ بن ساعد (714هـ)، ووزيرة بنت عمر بن المنجا (716هـ)، وابن الشحنة النجار (730هـ).

ومن تلاميذه: عليّ بن أبي بكر الهيثمي (807هـ)، والقاضي جمال الدين البساطي المالكي (828هـ).

مؤلّفاته:

يبدو أنّ ابن عادل وقف حياته على تأليف سِفره العظيم (اللّباب) الذي جمع فيه خلاصة عِلْمه، ويبدو أنه أنفق فيه كثيرًا من وقته؛ حيث لم تُعرف له مؤلّفات إلّا (اللّباب)، وذُكر أنّ له حاشية على كتاب (المحرّر) في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لأبي البركات عبد السلام ابن تيمية.

وقد أصبح ابن عادل مضرب المثل في جودة التفسير؛ ففي قصيدة لمدح أبي الوفا الشافعي، يقول صاحبها:

له الباع في التفسير ضاهَى ابنَ عادل ** وحيث رَوى الأخبار تدعوه يحصب

كما أنّ هناك قصيدة لابن شهاب يَضرب فيها المثل في التفسير بابن عادل، قال فيها:

إذا فسّروا والتفّتِ الساق بينهم ** ودارَتْ رحاهم في دقيق التشاغبِ

فما عدلوا منه بمثل ابنِ عادل ** ولا فخروا بالفخر عند الثعالبي[2].

تعريف عامّ بكتاب (اللّباب في علوم الكتاب):

هذا كتاب لو يُباع بوزنه ** ذهبًا لكان البائعُ المغبونا

أَوَما من الخُسران أنك آخذ ** ذهبًا وتعطي جوهرًا مكنونا

بهذين البيتين وصف أحد النُّسّاخ كتاب (اللباب في علوم الكتاب) لمؤلِّفه ابن عادل الحنبلي.

والمطّلع على هذا الكتاب الذي يُعَدّ موسوعة في تفسير القرآن الكريم يُدرك جيدًا قيمة هذا الوصف؛ فدونك كتابًا جمعَ من علوم اللغة والشريعة خلاصتها ولبابها، ثم سبك كلّ هذا تفسيرًا وشرحًا وتوضيحًا لكلمات القرآن ومعانيه؛ كلمةً كلمة، ومعنًى معنى؛ حتى اقتضت طباعته أن يأتي في عشرين مجلدًا، كلّ مجلد مكوّن من نحو 600 صفحة[3].

لقد ضمّ الكتابُ الكثيرَ من أقوال العلماء في علوم القرآن؛ حيث عرض لبيان معاني المفردات والقضايا النحوية ووجوه الإعراب، منطلقًا مِن تمكُّنٍ كبيرٍ من أصول النحو السماعية والقياسية؛ حيث انتشرت هذه الأصول في ثنايا التفسير انتشارًا كبيرًا حتى تخاله أحد مصنفات علم النحو؛ فتجده يتكئ في ترجيحاته على السماع (قرآنًا وحديثًا نبويًّا ومأثورات العرب الشِّعْرية والنثرية)، ثم تجد فيه تخريجات كثيرة تراعي القياس والاستصحاب، كما يلجأ إلى التعليل والتأويل[4] في كثير من مباحث الكتاب.

والتفسير -رغم ما كُتب عنه- قَمِينٌ بعدد من الدراسات البحثية المتخصّصة في مختلف مجالات البحث الشرعي واللغوي.

ولعلّ العنوان الذي اختاره الشيخ ابن عادل وهو (اللباب في علوم الكتاب) ذو دلالة مهمّة؛ فاللباب في اللغة هو الخالِص من كلّ شيء، فالكتاب أراده مؤلِّفه أن يكون خالصًا في علوم القرآن متضمنًا آراء المفسِّرين واللغويين والفقهاء والأصوليين.

والمطالع للتفسير يلاحظ أنّ مؤلِّفه اعتمد كثيرًا على تفسير الرازي، والسمين الحلبي، والبغوي، والقرطبي.

ورغم ضخامة حجم الكتاب فإنّ مؤلِّفَه بدأه بمقدّمة مقتضبة جدًّا لا تتجاوز عدّة أسطر، هي البسملة وخطبة الحاجة، ثم قال: «وَبعْدُ، ‌فَهَذا ‌كتابٌ ‌جمعتُه من أَقوَال العُلمَاء في علوم القرآن وسمّيته: اللُّبَاب في عُلُوم الكتاب. وَمِنَ اللهِ أسأَل العون، وبلوغ الأمل، والعصمة من الخَطَأ والزّلل»[5].

إشارات لغوية من اللباب:

إنّ تفسيرًا بحجم اللباب وثرائه اللغويّ لَتقصُر دون الإحاطة بالجوانب اللغوية فيه المجلداتُ؛ فما بالك بهذه الصفحات المعدودات؟!

ولذا فسأكتفي ببعض الإشارات اللغوية من هذا السِّفر العظيم، لعلّها تكون فاتحات شهية للاغتراف منه والإقبال عليه بحثًا ودراسة وتدبرًا لكلام الله تعالى.

إنّ المطالِع لـ(اللباب) سيجد نفسه أمامَ نحويّ متخصّص له منهجه في التقعيد؛ حيث يشير للقاعدة وتطبيقاتها المختلفة حسب ورودها في كتاب الله تعالى؛ فنجده يقول مثلًا: «وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى»[6].

 وابن عادل في مجال التقعيد ليس مجرّد ناقلٍ أو مطبّق لما قاله النّحاة على القرآن الكريم، بل له اختياراته الخاصّة التي قد يخالف فيها النحاة؛ فنجده مثلًا يتحدّث عن الجُمَل التي لا محَلّ لها من الإعراب، فيقول: «والجُمَل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك -وإنْ توهّم بعضهم ذلك- وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها»[7].

فهو هنا اختار مذهبًا قد يكون تفرّد به في عدد الجُمَل التي لا محلّ لها من الإعراب؛ حيث قصرها على أربع فقط في حين نجد مِنَ النحاة مَن أوصلها إلى اثنتي عشرة جملةً (مثل أبي حيان في "ارتشاف الضرب")، ومنهم مَن جعلها سبع جملٍ (كابن هشام في "مغني اللبيب"، والسيوطي في "همع الهوامع")، ومنهم من جعلها تسع جملٍ (كابن أُمّ قاسم في "توضيح المقاصد والمسالك").

كما أنّنا نجد أنفسنا أمامَ نحوي يهتم بعلَلِ الإعراب والبناء، وهو ما لا يراعيه إلّا نحوي أصولي؛ فعند تفسيره قوله تعالى: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}[البقرة: 71]، قال: «واختُلف في علّة بنائه [أي: الآنَ]؛ فقال الزَّجَّاج: لأنّه تضمّن معنى الإشارة؛ لأنّ معنى أفعل الآنَ، أي: هذا الوقت.

وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظٍ واحد، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع ولا يُصَغَّر.

وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف، وهو الألِف واللام كـ(أمس)، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه، ولم يُعْهَد مُعرّفٌ بـ(أل) إلّا معربًا، ولزمَت فيه الألف واللام كما لزمَت في (الّذي والّتي) وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأنّ التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتَى بمثل لفظه...»[8].

إنّ المطالِع لـ(اللباب) لا يخفى عليه اهتمامه بتوظيف المباحث اللغوية في تفسيره، ومن أبرز الإشارات والإلماحات اللغوية التي عرض لها وهي شديدة الوضوح في تفسيره ما يتعلّق بالجانب الصرفي من خلال منهجه في الاشتقاق، والجانب النحوي عنده وتتبّعه للأوجه المختلفة في المسألة الواحدة، ويظهر جليًّا موقفه من بعض أصول النحو؛ حيث عُرف باعتداده بالسماع، الذي انعكس على موقفه من القراءات القرآنية؛ حيث اتسق موقفه منها مع موقفه من السماع، كما تميّز بربطه بين الإعراب والمعنى... إلخ.

وفيما يأتي عرض لهذه التطبيقات اللغوية في تفسير (اللباب):

اهتمامه باشتقاق الكلمة ووزنها وعلاقتهما بمعناها:

يلاحَظ عند ابن عادل أنه يحرص على تتبّع اشتقاقات الكلمة وتصريفاتها وأوزانها الصرفية وعلاقة كلّ هذا بالمعنى، ويتّضح هذا مثلًا في حديثه عن الاستعاذة؛ حيث تتبّع تصريفات كلمة (الشيطان) فقال:

«وَاخْتلَف أهل اللُّغَة فِي اشتقاقه:

فَقَالَ جمهورهم: هُوَ مُشْتَقّ من: (شطن - يشطن) أَي: بَعُدَ؛ لِأَنَّهُ بعيد من رَحْمَة الله تَعَالى؛ وَأنْشَد:

نأت بسعاد عَنْك نوى شطون ** فَبَانَت والفؤاد بهَا رهين

وَقَالَ آخر:

أيما شاطن عَصَاهُ عكاه ** ثمَّ يُلقى فِي السّجْن والأكبال

 

وَحكى سِيبَوَيْه -رحمه الله-: (تشيطن) أَي: فعَلَ فِعل الشَّيَاطِين، فَهَذا كُلّه يدلّ على أَنه من (شطن)؛ لِثُبُوت النُّون، وَسُقُوط الألِف في تصاريف الكَلِمَة، ووزنه على هَذا: (فَيْعَال).

وَقيل: هُوَ مُشْتَقّ من (شاط - يشيط) أَي: هاج، وَاحْتَرَقَ، وَلَا شكّ أَن هَذا الْمَعْنى مَوْجُود فِيهِ، فَأخذُوا بذلك أَنه مُشْتَقّ من هَذِه الْمَادَّة، لَكِن لم يُسمع في تصاريفه إِلَّا ثَابت النُّون، مَحْذُوف الْألِف، كَمَا تقدّم؛ ووزنه على هَذا (فَعْلَان)، وَيَتَرَتَّب على القَوْلَيْنِ: صرفه وَعدم صرفه إِذا سُمّي بِهِ، وَأمّا إِذا لم يُسَمّ بِهِ، فَإِنَّهُ متصرّف أَلْبَتَّة؛ لِأَن من شَرطِ امْتنَاع (فَعْلَان) الصّفة أَلّا يؤنَّث بِالتَّاءِ، وَهَذا يؤنث بهَا؛ قَالُوا: (شَيْطَانَة).

قَالَ ابن الْخَطِيب: و(الشَّيْطَان) مُبَالغَة في الشيطنة؛ كَمَا أَن (الرَّحْمَن) مُبَالغَة في الرَّحْمَة. و(الرَّجِيم) في حق الشَّيْطَان (فَعِيل) بِمَعْنى (فَاعِل).

إِذا عرفتَ هَذا، فَهَذه الكلمة تَقْتَضِي الفِرَار من الشَّيْطَان الرَّجِيم إِلَى الرَّحْمَن الرَّحِيم»[9].

تتبّع الأوجه النحوية الكثيرة للمسألة الواحدة:

حرص ابن عادل على تتبّع الأوجه الكثيرة الواردة في المسألة النحوية تتبّعًا يدلّ على كثرة اطّلاعه وتنوّعه، وهو في هذا لا يكتفي بمجرّد النقل؛ بل يحلّل كلّ وجه؛ فيَقبَل هذا ويَرُدّ هذا، ويحشد الأدلة على صحة هذا، وهكذا؛ فهو ناقل بصير.

ومن الأمثلة على ذلك تتبّعه للأقوال الواردة في الاستثناء في قول الله تعالى عند الحديث عن خلود أهل الجنة وأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}[هود: 107، 108]؛ حيث ذكر فيه ستة عشر وجهًا وردَت عن النحاة، عازيًا كلًّا منها لصاحبه، وهو ما يضيق المقام عن ذكرها هنا[10].

اعتداد ابن عادل بالسماع:

يُعَدّ السماع عمّا ورَدَ عن العرب في عصور الاحتجاج أحد أهم المصادر التي اعتمد عليها النحاة في تقعيدهم. وقد اعتمد ابن عادل على السماع في كثير من توجيهاته النحوية للآيات، وإذا تعارض السماع مع القياس؛ فإنّه يقدّم السماع وينتصر له؛ فنجده عند توجيهه لقراءة حمزة بجرِّ {وَالْأَرْحَامِ} في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}[النساء: 1]، بالعطف على الضمير دون إعادة حرف الجرّ (وهي مِن أشهرِ قضايا الخلاف بين البصريين والكوفيين) يقول مدافعًا عن هذه اللغة: «وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ‌ولا ‌التفات ‌إلى ‌أقيسة ‌النحاة عند وجود السماع»[11].

ويرجّح السماع في موضع آخر فيقول: «والمصير: اسم مصدر مِن (صار - يصير)، أي: رجع، وقد تقدَّم في قوله: {الْمَحِيضِ}[البقرة: 222]، أنَّ في المفعل من الفعل المعتلِّ العين بالياء ثلاثة مذاهب، وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيُبنَى اسمُ المصدر منه على مفعَل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو: ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِبًا، أو يُكْسَرُ مطلقًا، أو يُقْتَصَرُ فيه ‌على ‌السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها»[12].

موقفه من القراءات القرآنية:

يُعَدّ القرآن الكريم وقراءاته هو المصدر الأول من مصادر أدلة النحو الإجمالية؛ حيث هو أفصح اللغات وأصحها على الإطلاق، لكن رغم ذلك نجد بعض البصريين لهم موقف مخالف من بعض القراءات المتواترة التي تعارضت مع أقيستهم وقواعدهم، وهو ما لا يسمح المقام لاستقصائه هنا.

أمّا ابن عادل فموقفه من القراءات موقف أثير، متوافق مع نظرته للسماع بصورة عامة التي عرضنا لها منذ قليل؛ فالمطّلع على تفسيره يجد له اهتمامًا كبيرًا بالقراءات تخريجًا وتوجيهًا ودفاعًا حتى عن بعض الشواذ منها، وإقرارًا في أكثر من موضع بأنّ «القراءة سُنّة مُتّبَعَة»، ودفاعًا عن أئمة القراءات.

ومن مواقفه تجاه القراءات:

- الحرص على تخريج القراءة:

حرص ابن عادل على تخريج القراءة القرآنية على أحسن الوجوه النحوية، ومن ذلك توجيهه القراءة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}[البقرة: 173]؛ حيث يقول: «قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ}؛ الجمهور قرؤوا {حَرَّمَ} مشدَّدًا مبنيًّا للفاعل، {المَيْتَةَ} نصبًا على أنَّ (مَا) كافَّةٌ مهيِّئة لـ(إنَّ) في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعِلُ {حَرَّمَ} ضميرُ الله تعالى، و{المَيْتَةَ} مفعولٌ به.

 وابن أبي عَبْلَة برفع (المَيْتَةُ) وما بعدها، ‌وتخريج ‌هذه ‌القراءة ‌سهلٌ؛ وهو أن تكون (مَا) موصولةً، و(حَرَّمَ) صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: (حَرَّمَهُ)، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم (إنَّ)، و(المَيْتَةُ) خبرها»[13].

ويكون معنى الآية الكريمة على هذه القراءة: إنّ الذي حرّمه اللهُ عليكم هو الميتةُ والدّمُ ولحمُ الخنزير.

- ترجيح القراءة على أقيسة النحاة عند التعارض:

إذا تعارضَت أقيسة النحاة -خاصّة البصريين- مع القراءة المتواترة؛ فيكون التقديم والانتصار للقراءة عند ابن عادل، ويتّضح هذا من موقفه من قراءة حمزة -التي مرّت بنا منذ قليل- جرّ (الأَرْحَام) في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}[النساء: 1]؛ حيث يقول: «فحمزة أحد القراء السبعة، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ‌ولا ‌الْتِفَات ‌إلى ‌أقيسة ‌النحاة عند وجود السماع، وأيضًا فلهذه القراءة وجهان:

أحدهما: ما تقدّم من تقدير تكرير الجر، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.

والثاني: فقد ورد في الشِّعْر وأنشد سيبويه:

فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا ** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب»[14].

واستطرد بذِكْر شواهد شِعرية أخرى على صحة هذه اللغة التي وردَت بها القراءة.

- عدم ترجيح قراءة على أخرى بناء على التوجيه اللغوي:

إذا وردَ في الآية قراءتان متواترتان فإنّ منهج ابن عادل عدم ترجيح إحداهما على الأخرى بناء على التوجيه اللغوي، وقد نصّ على هذا أكثر من مرّة، خاصّة مع القراءات السبعية.

من ذلك قوله عند عرضه للقراءات الواردة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4]: «وقد رجّح كلّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحًا يكاد يُسقط القراءات الأخرى، وهذا غير مرضيّ؛ لأنّ كلتيهما متواترةٌ، ويدلّ على ذلك ما روي عن ثعلب -رحمه الله تعالى- أنه قال: إذا ‌اختلف ‌الإعراب ‌في ‌القرآن عن السّبعة، لم أفضّل إعرابًا على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى كلام الناس، فضّلت الأقوى»[15].

بين الإعراب والمعنى:

حرص ابن عادل على مراعاة العلائق بين الإعراب والمعنى؛ فيجعل الإعراب متوقفًا على المعنى؛ فالمعنى عنده هو الأصل الذي يتبعه الإعراب؛ فعند إعراب {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[آل عمران: 15]، ذكر لها أربعة أوجه إعرابية وردَت فيها إلا أنه ضعّف أحدها اعتمادًا على المعنى؛ حيث يقول: «أحدها: أنه في محلّ نصب على الحال من {جَنَّات}؛ لأنه -في الأصل- صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالًا.

الثاني: أنه متعلّق بما تعلّق به {لِلَّذِينَ} من الاستقرار، إذَا جعلناه خبرًا، أو رافعًا {جَنَّاتٌ} بالفاعلية، أمّا إذا علّقته بـ{خَيْرٍ} أو {أَؤُنَبِّئُكُمْ} فَلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار.

الثالث: أن يكون معمولًا لـ(تَجْرِي)، وهذا لا يساعد عليه المعنى»[16].

فهو ردَّ الوجه الثالث لعدم قبوله من حيث المعنى.

 وعند تفسيره قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}[النساء: 12]، يقول: «اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه، ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى (الكَلالَة) واشتقاقها؛ ‌فإنَّ ‌الإعراب ‌متوقف على ذلك»[17].

وهكذا يجعل الإعراب فرعًا عن المعنى، حسب ما هو مستقرّ عن كثير من النحاة.

خاتمة:

كانت هذه رحلة سريعة في أعماق بحر عميق الأغوار، مترامي الأجراف؛ حيث مررنا في هذه الرحلة بتعريف عامّ بابن عادل وبكتابه (اللباب)، ثم عرّجنا على بعض الإشارات والإلماحات اللغوية التي بدأناها بالجانب الصرفي من خلال منهجه في الاشتقاق، ثم انتقلنا للجانب النحوي عنده وتتبعه للأوجه المختلفة في المسألة الواحدة، ثم عرضنا لموقفه من بعض أصول النحو؛ حيث عُرف باعتداده بالسماع، الذي انعكس على موقفه من القراءات القرآنية؛ حيث اتسق موقفه منها مع موقفه من السماع، ثم ختمنا بربطه بين الإعراب والمعنى.

وبعد نهاية الرحلة يمكن أن نؤكّد أن هذا السّفر غنيّ باللآلئ التي تنتظر غوّاصِين مَهَرَة في مختلف مجالات الغوص في علوم الشريعة والعربية للكشف عن نفائسها، والاغتراف من مَعِين كتاب الله تعالى الذي لا يَخلق على كثرة الردّ.

 


[1] المقال منشور بمجلة (الوعي الإسلامي)، العدد 675- ذو القعدة 1442هـ = يونيو/ يوليو 2021م، لكن دخل عليه بعض التصرّف ليتّسق مع سياسات النشر لدى موقع تفسير للدراسات القرآنية. (الكاتب).

[2] انظر ترجمته في: كشف الظنون (2/ 1543)، هدية العارفين (1/ 794)، والأعلام (5/ 58). وكذلك مقدمة المحققين لتفسيره: (اللباب) (1/ 20) وما بعدها.

[3] طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق كلّ من: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوّض، شارك في تحقيقه برسائل علمية كلّ من: الدكتور/ محمد سعد رمضان حسن، والدكتور/ محمد المتولي الدسوقي.

[4] هناك رسالة دكتوراه بكلية اللغات والآداب بالجزائر بعنوان: (التأويل النحوي عند ابن عادل في تفسيره: اللباب في علوم الكتاب).

[5] اللباب في علوم الكتاب (1/ 79).

[6] اللباب في علوم الكتاب (1/ 339).

[7] اللباب في علوم الكتاب (1/ 336).

[8] اللباب في علوم الكتاب (2/ 172).

[9] اللباب في علوم الكتاب (1/ 97، 98).

[10] انظر: اللباب في علوم الكتاب (10/ 570).

[11] اللباب في علوم الكتاب (6/ 146).

[12] اللباب في علوم الكتاب (4/ 530).

[13] اللباب في علوم الكتاب (3/ 170).

[14] اللباب في علوم الكتاب (6/ 146).

[15] اللباب في علوم الكتاب (6/ 146).

[16] اللباب في علوم الكتاب (5/ 85).

[17] اللباب في علوم الكتاب (6/ 223).

الكاتب

رمضان فوزي بديني

حاصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم - جامعة القاهرة، وله عدد من المشاركات العلمية والإعلامية.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))