تفسير المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي
تحرير مصادر الكتاب وأهميته في تحقيقه
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنّ لتفسير (المحرّر الوجيز) للإمام ابن عطية (ت: 541هـ) أهميةً لا تخفى على الدارِسين والمتخصّصين؛ فصاحبه مِن أبرزِ العلماء المؤسِّسين، وأحد الروَّاد الكبار في صناعة العلم بما أودعه من تحرير وإبداع في تفسيره الفريد.
وقد حَظِي هذا التفسير مؤخرًا بتحقيقات عديدة، وفي هذه المقالة سنعالج قضية تتصل بالكتاب وتحقيقه، وهي أهمية ضبط وتحرير مصادر الكتاب، ونبيِّن ما لهذا الأمر من أثرٍ في حُسْن تحقيق الكتاب وإخراجه على الوجه اللائق، لا سيما وأنّ التعامل مع هذه القضية في جميع تحقيقات تفسير ابن عطية لا يزال يمثّل إشكالًا كما سيظهر، وذلك بعد تمهيد نعرِّج فيه على طبعات تفسير ابن عطية ونبيِّن فيه بإيجاز فكرة تحرير المصادر وأسباب أهمية العناية بها.
تمهيد:
طُبع تفسير ابن عطية عدّة طبعات، وفيما يأتي بيان هذه الطبعات مرتّبة حسب تاريخ نشرها:
- طبعة المجلس العلمي بفاس في المغرب، سنة 1395هـ- 1975م، في (15) مجلدًا.
- طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بدولة قطر، الطبعة الأولى سنة 1398هـ- 1977م، تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، والسيد عبد العال السيد إبراهيم، في (15) مجلدًا.
- طبعة دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، سنة 1413هـ- 1993م، في (6) مجلدات.
- طبعة دار ابن حزم، بيروت- لبنان، سنة 1423هـ- 2002م، في مجلد واحد.
- طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بدولة قطر، الطبعة الثانية، سنة 1428هـ- 2007م، في (8) مجلدات، تحقيق: الرحالة الفاروق، وعبد الله بن إبراهيم الأنصاري، والسيد عبد العال السيد إبراهيم، ومحمد الشافعي.
- طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، تحقيق: أحمد صادق الملاح، وهي من أول التفسير إلى الآية 93 من سورة آل عمران، سنة 1431هـ- 2010م، في مجلدين.
- طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بدولة قطر، الطبعة الثالثة، سنة 1436هـ- 2015م، في (10) مجلدات، تحقيق: مجموعة من الباحثين بإشراف إدارة الشؤون الإسلامية.
- طبعة دار الفكر العربي، ودار الكتاب الإسلامي، بالقاهرة، في (15) مجلدًا، تحقيق وتعليق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، والسيد عبد العال السيد إبراهيم، ويبدو أن هذه الطبعة مصورة من الطبعة القطرية الثانية.
ومن المعلوم أنّ التحقيق عملية يكتنفها العديد من الصعوبات والمشاقّ لِمَن رامها بحقّها، وأدَّى أمانتها على وجه صحيح، بداية من دراسة النُّسَخ المخطوطة وترتيبها ومقابلتها وتوثيق نصوصها وخدمتها بما يناسبها وغير ذلك من أمور معلومة.
وقد لاحظنا إشكالات عديدة في كافة تحقيقات وطبعات تفسير ابن عطية فيما يتعلّق بتوثيق بعض النصوص التي لها صلة بمصادر ابن عطية[1].
وتتلخّص فكرة تحرير مصادر الكتاب في أنّ المؤلِّفين المتقدِّمين لا يحدِّدون مصدر نقولاتهم بدقّة في كتبهم كما يحدّده المعاصرون لاختلاف طريقة التأليف ومنهجها، فنجد الواحد منهم عند نَقْلِه عن غيره يقتصر على اسمه فقط دون تحديد الكتاب، أو يقتصر على الكتاب دون تحديد مؤلِّفه، وأحيانًا يصرّح بعنوان الكتاب ومؤلِّفه إلى غير ذلك من طرُقهم في النقل.
ولا شكّ أنّ طريقة المتقدِّمين في النقل بحاجة إلى أن يكون محقّق الكتاب في غاية الدقّة وذروة الانتباه وأن يتّسم بالتأنِّي والحذر وطول النَّظَر في طريقة المؤلِّف وعبارته حتى يكون توثيقه سليمًا؛ لأنّ التواني والتقصير في هذه القضية يكون له انعكاسات سلبية على تحقيق الكتاب فيخرج التحقيق على وجه غير لائق، وتصل انعكاساته أحيانًا إلى تكوين معلومات خاطئة عن الكتاب، وفيما يأتي بيان ذلك من خلال تتبّع طبعات تفسير ابن عطية.
لتفسير ابن عطية أهميةٌ كبيرةٌ ومكانةٌ عظيمة بين مؤلَّفات التفسير، ومن خلال معايشتي لهذا التفسير وجميع التحقيقات التي ظهرتْ له لاحظتُ عِدّة إشكالات وأخطاء في هذه التحقيقات فيما يتعلّق بتوثيق المصادر التي يذكرها ابن عطية وينقل عنها في ثنايا تفسيره، وفيما يلي بيان لهذه الأخطاء مع التمثيل عليها من واقع هذه التحقيقات، مكتفيًا بمثالٍ واحد لكلّ خطأ منها:
- أولًا: تحرير نسبة المصدر للمؤلِّف:
إنّ المتأمل لكتب التراث وطريقة مؤلِّفيها في كتابتها يلحظ أنّ لكلّ مؤلِّف طريقة خاصّة في تعامله مع المصادر، وإنّ مِن أوجبِ الواجبات على مَن تصدَّى لتحقيق كتاب أن يتعرَّف على طريقة مؤلِّفه ويعيد النظر فيها المرّة تلو الأخرى حتى يتمرَّس عليها ويفهم مراد المؤلِّف فلا يفسِّره على غير قصده ويبني على ذلك تصوّرات غير صحيحة، يقول الدكتور/ عبد الله عسيلان: «دراسة لغة المؤلِّف أمر ضروري للمحقّق في هذه المرحلة؛ ذلك لأنّ هذه الدراسة ستعينه في مسيرته التقويمية لتصحيح ما قد يعِنّ له من اضطراب في النصّ أو خطأ في بعض ألفاظه وعباراته، وتقتضي هذه الدراسة أن يتعرّف المحقّق على خصائص أسلوب المؤلِّف وطرائقه في التعبير عمّا يسطره من عِلْم، وما المألوف لديه من عبارات وألفاظ يجري بها قلمه في ثنايا كتابه الذي يعمل على تحقيقه»[2].
ومن النصوص التي وقع في توثيقها إشكالٌ بسبب عدم تحرير نسبة المصدر لمؤلِّفه، قول ابن عطية: «وجاء قوله: {زَوْجَيْنِ} بمعنى العموم، أي: مِن كلِّ ما له ازدواج، هذا معنى قوله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ}[هود: 40]، قاله أبو عليّ وغيره. ولو قدّرنا المعنى: احمِلْ مِن كلّ زوجين حاصلين اثنين؛ لوجب أن يحمل مِن كلّ نوع أربعة، والزوج يُقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}[الأنعام: 143، الزمر: 6] ثم فسّرها، وكذلك هو في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}[النجم: 45]. قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يُقال في كلام العرب للاثنين: زوجٌ، ومن ذلك قول لبيد:
من كلّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّه .. زَوجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرَامُهَا»[3].
فقد علَّق المحقق في طبعة قطر الثالثة على هذا النصّ بما يفيد نفي توفّر كتابٍ لأبي الحسن الأخفش بعنوان (الحجة)، ثم وثّق النصّ من (معاني القرآن) للأخفش، يقول المحقّق تعليقًا على كتاب (الحجة) المذكور في النصّ: «غير متوفر، وذكر نحوه في معاني القرآن للأخفش (1/ 148)، ولفظه: وقد يُقال أيضًا: هما زوج؛ للاثنين. ثم استشهد بالبيت»[4].
وأمّا في الطبعة المغربية وطبعة دار الكتب العلمية، فلم يوثّق المحقِّق هذا النصّ أصلًا[5]، ولم يوثّقه كذلك في طبعة قطر الثانية، وطبعة دار ابن حزم، ولكن النصّ المثبَت في الطبعتين الأخيرتين فيه زيادة هاء تعود على الأخفش فتثبت له كتابًا بهذا الاسم، فالنصّ عندهم: «قال أبو الحسن الأخفش في كتابه الحجة...»[6].
(مخطوطة تفسير ابن عطية، نسخة نور عثمانية، لوحة: 386)
(مخطوطة تفسير ابن عطية، نسخة المسجد النبوي، لوحة: 130)
وقد نظرتُ في عدّة مخطوطات من تفسير ابن عطية فلم أجد فيها زيادة الهاء المذكورة في تلك الطبعات، ولم ينسب أحدٌ كتابًا للأخفش باسم (الحجة) كذلك[7].
والصواب أن ابن عطية قد نقل هذا النصّ من كتاب (الحجة) لأبي عليّ الفارسي (ت: 377هـ)، ولم يقصد أن ينسب كتاب (الحجة) للأخفش، وهذا النصّ أورده أبو عليّ في (الحجة) منسوبًا للأخفش، يقول أبو عليّ: «قال أبو الحسن: وقد يقال للاثنين: هما زوج، قال لبيد: من كل مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّه .. زَوجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرَامُهَا. انتهى كلام أبي الحسن»[8]، وأبو الحسن هاهنا هو سعيد بن مسعدة البلخي (ت: 215هـ) المعروف بالأخفش الأوسط، وقد نقل عنه ابن عطية أيضًا مواضع أخرى غير هذا الموضع بواسطة كتاب (الحجة) لأبي عليّ[9].
ومن الطرق التي يدرجُ عليها ابن عطية كثيرًا عند نقله من المصادر أن ينقل النصّ منسوبًا لأحد السابقين من كتاب ليس من تأليفه وينسب النصّ لصاحبه ويعزوه للمصدر الذي نقل عنه، وهو ما يمكن أن نسميه بالمصدر الوسيط، فنجد ابن عطية مثلًا يقول: «...نصَّ عليه ابن الماجشون في الواضحة»[10]، وكتاب (الواضحة) إنما هو لعبد الملك بن حَبِيْب (ت: 238هـ) وليس لابن الماجشون.
ويقول ابن عطية أيضًا: «...وهذا هو ظاهر قول مالك -رحمه الله- في المدونة»[11]، و«قاله مالك وابن القاسم في المدونة»[12]. وكتاب (المدونة) إنما هو لعبد السلام بن حبيب الشهير بسَحْنُون (ت: 240هــ)، وليس لمالك ولا لابن القاسم.
ويقول: «وقال ابن القاسم في الموازية...»[13]، وكتاب (الموازية) لمحمد بن إبراهيم الشهير بابن المواز (269هـ) وليس لابن القاسم، وغير ذلك من الأمثلة العديدة التي يدرجُ فيها ابن عطية على هذه الطريقة.
ومن هنا تتضح أهمية تحرير نسبة المصدر للمؤلِّف عند توثيق النصّ أثناء التحقيق، ويتبيَّن أنّ الغفلة عن تحرير نسبة المصدر والتقصير فيها يوقع في العديد من الأخطاء والأوهام.
- ثانيًا: تحرير المصادر المتعدّدة لمؤلِّف واحد:
ينقل المؤلِّف أحيانًا عن بعض العلماء ممن لهم كتاب واحدٌ فيسهل حينئذ الرجوع إلى موضع النصّ لتوثيقه[14]، ولكن عندما ينقل المؤلِّف عن بعض مَن لهم مؤلّفات عديدة، فهنا تزداد المشقّة في تحديد مصدر النقل، فعلى المحقّق أن يتنبَّه لمثل هذا وأن يرجع لجميع كتب المؤلِّف ويفحص المواضع التي هي مظنّة وجود النصّ المدروس، وأن يفحص كلّ نصّ منها إن وجده في أكثر من كتاب للمؤلِّف حتى يحدِّد الكتاب الذي نقل منه المؤلِّف بدقّة، يقول الدكتور/ رمضان عبد التواب: «ومِن أهم مسائل تحقيق النصّ مراجعته على مصادره التي استقى منها المؤلِّف مادته العلمية. وهذا أمر سهل إذا نَصَّ المؤلِّف على اسم كتاب بعينه أو نصَّ على اسم مؤلِّف لم يترك لنا إلّا كتابًا واحدًا كسيبويه مثلًا، أمّا إذا لم ينصّ على ذلك، أو نَصّ على اسم مؤلِّف له أكثر مِن تأليف؛ فإنّ العثور على النصّ في موضعه يصبح مهمّة شاقّة»[15].
ومن النصوص التي وقع في توثيقها إشكال بسبب عدم تحرير المصادر المتعدّدة للمؤلّف الواحد قول ابن عطية: «قال ابن المنذر: أجمع كلُّ مَن أحفظُ عنه من أهل العلم أن الذمّي لا يُعْطَى من زكاة الأموال شيئًا، ثم ذكر جماعة ممَّن نصَّ على ذلك، ولم يذكر خلافًا»[16].
ومن المعلوم أن لابن المنذر عدّة كتب، المطبوع منها هو: (تفسير ابن المنذر، والإجماع، والإشراف على مذاهب العلماء، والإقناع، والأوسط)، وقد وثَّق المحقّق هذا النصّ في طبعة قطر الثالثة من كتاب (الإجماع) لابن المنذر، فقال: «في كتاب الإجماع (1/ 48)، ونقله النووي في المجموع (6/ 228) عنه، ثم ذكر فيه خلافًا عن ابن سيرين والزهري»[17]، وأمّا في بقية طبعات تفسير ابن عطية فلم يوثّق المحقّق هذا النصّ[18].
ويلحظ في هذا النصّ أنّ ابن عطية نسبه لابن المنذر دون تحديد كتاب معيّن له، وعند الرجوع إلى المؤلَّفَات المطبوعة لابن المنذر، يتبيّن أنه قد أورد هذا النصّ في كتابَيْن، وهما: (الإجماع) و(الإشراف)، قال ابن المنذر في (الإجماع): «وأجمعوا على أنّ الذمّي لا يُعطى من زكاة الأموال شيئًا»[19]، وقال في (الإشراف): «أجمع كلُّ مَن نحفظُ عنه من أهل العلم على أنّ الذمّي لا يُعطى من زكاة الأموال شيئًا. وممَّن حفظنا ذلك عنه: ابن عمر، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأبو عبيد، والنعمان»[20].
وبتأمُّل النصّ الذي نسبه ابن عطية لابن المنذر ومقارنته بالنصّيْن اللذَيْن ذكرهما ابن المنذر في (الإجماع) و(الإشراف) يتبيّن بوضوح أن ابن عطية قد نقل النصّ من كتاب (الإشراف) وليس من (الإجماع)، هذا بالإضافة إلى قرينة ظاهرة تؤيّد ما ذكرناه، وهو أن النصّ الذي نقَله ابن عطية فيه إشارة إلى ذِكْر ابن المنذر لجماعة نصُّوا على هذا الإجماع، وبالنظر في نصّ ابن المنذر في (الإجماع) يتّضح أنه لم يَعْزُ هذا الإجماع لأحد أصلًا، أمّا نصّه في (الإشراف) ففيه عزو إلى جماعة كما أشار ابن عطية.
وثمّة قرينة أخرى تعزّز ما ذكرناه، وهو أنه من خلال استقرائنا لتفسير ابن عطية ودراسة النصوص التي نسبها لابن المنذر تبيَّن أنه لم ينقل عن ابن المنذر في تفسيره إلا من كتابه (الإشراف)، وقد صرَّح ابن عطية بنقلِه عن (الإشراف) مرارًا في غير هذا النصّ الذي ذكرناه[21].
ومن هنا تتضح أهمية تحرير المصادر المتعدّدة للمؤلِّف الواحد، وضرورة التأنِّي والبحث في تحديد المصدر الذي ينقل عنه المؤلِّف، وعدم الاكتفاء بظاهر النِّسْبَة، وأنّ الغفلة عن ذلك تتسبّب في تصوّرات خاطئة عن المؤلِّف بنسبة مصادر له مع أنه لم ينقل منها، وتنفي عنه مصادر اعتمد عليها، وغير ذلك من الأوهام المترتّبة على ذلك.
- ثالثًا: تحرير موضع العزو عند توثيقه:
عندما ينسب المؤلِّف نصًّا لأحد المصادر فلا بد من الرجوع إلى هذا المصدر والتدقيق في النصّ الذي عزاه إليه المؤلِّف، فالمؤلِّفون تتفاوت طريقتهم في نقل النصوص تباينًا كبيرًا، بل تتباين طريقة المؤلِّف الواحد في كتابه بين مصدر وآخر، فينقل النصّ أحيانًا بألفاظه تمامًا كما ذكره صاحب المصدر، وينقل النصّ أحيانًا بمعناه، ويتصرّف فيه أحيانًا فيختصره، وغير ذلك من طرق كثيرة يظهر فيها إبداع كلّ مؤلِّف وطريقة استفادته من المصادر[22].
ولذا فإنّ على مَن رام تحقيق كتاب أن يكون حصيفًا يقظًا لكلّ نصّ يعزوه المؤلِّف لمصدر معيّن، وأن يجتهد في تحديد مكان النصّ في المصدر المنقول عنه، ولا شك أنّ هذه عملية شاقّة وتستغرق وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا، وتستوجب البحث في جميع مظانّ النصّ في المصدر بدقّة، فإذا استفرغ الباحثُ جهده ولم يصل إلى موضع النصّ في المصدر فإن الأمانة العلمية والتحقيق السليم يقتضيان أن يصرّح بعدم وقوفه على النصّ، وأن يصف ما وصل إليه، ثم يكمل عملية التوثيق بطرقها المعروفة لدى المحقّقين.
ومن النصوص التي وقع في توثيقها إشكال بسبب عدم تحرير موضعها بدقّة قول ابن عطية: «ويحتمل أن يريد: وما رميت الرعب في قلوبهم إِذْ رميت حصياتك، ولكن الله رماه، وهذا أيضًا منصوص في المهدوي وغيره»[23].
فقد وثَّق المحقق هذا النص في طبعة قطر الثالثة من كتاب التحصيل للمَهْدَوِيّ (3/ 164)[24]، وأمّا في بقية طبعات تفسير ابن عطية فلم يوثّق المحقق هذا النصّ[25].
وعند النظر في الموضع الذي وثَّق منه المحقّق هذا النص من كتاب (التحصيل) للمهدوي يتبيَّن عدم وجود النصّ عند المهدوي في التحصيل في الموضع الذي وثَّق منه المحقّق، ولم نجده كذلك في أيّ موطن آخر من (التحصيل) ولا في بقية مؤلَّفات المهدوي المطبوعة[26]، مما يجعل توثيق النصّ من (التحصيل) في هذا الموضع خطَأً بيِّنًا.
ومن خلال استقرائنا لتفسير ابن عطية وتدقيق النظر في النصوص التي عزاها إلى مصادرها وقَفْنا على أكثر من مائتَي (200) نصّ غير موجود فيما بين أيدينا من المصادر المطبوعة، فهذه ظاهرة في تفسير ابن عطية تستوجب التنبيه عليها عند تحقيق نصّ الكتاب؛ لما لها من فوائد مهمّة تقتضي دراسة هذه النصوص والبحث في أسباب فقدانها من المصادر، وغير ذلك من مجالات بحثية ضرورية؛ كتكملة النصوص المفقودة في المصادر، وبناء بعض المصادر المفقودة، ومعرفة العديد من المحطّات المهمّة في تاريخ التأليف في التفسير وغير ذلك، وهذا كلّه لا يمكن معرفته حال إغفال التنبيه عليها عند تحقيق الكتاب، ورحم اللهُ إمامَنا الشافعي؛ فهو القائل: «مَنْ تعلَّم علمًا فليُدقِّقْ فيه؛ لئلا يضيعَ دقيقُ العلم»[27].
ومن هنا تتبيّن أهمية تحرير مواضع العزو عند توثيقها من المصادر، وأنّ عدم التدقيق في ذلك -فضلًا عن خطئه- فإنه يفوِّت معرفة العديد من الفوائد المهمّة.
وختامًا:
فإنّ تحرير مصادر المؤلِّف من الأمور الدقيقة التي ينبغي التنبّه لها عند تحقيق كتب التراث ليخرج التحقيق على أتمّ وجه وأكمله، ولتجنّب ما يمكن حدوثه من أخطاء أو أوهام تحرِّف قصد المؤلِّف، ويتسبب التقصير فيها في تفويت كثير من الفوائد العلمية، وقد بينَّا أهمية هذه القضية وأثرها على التحقيق، وكشفنا اللثام عمّا يمكن أن ينعكس جرّاء التواني فيها.
ونودّ أنْ ننبّه هاهنا إلى أنّ قَصْدنا من هذه المقالة تتميم التحقيق وتكميله ليخرج تفسير ابن عطية وغيره من كتب التراث على وجه لائق، ولم نُرِد التقليل من جهود أحد، ولكن يأبى الكمال إلا أن يكون لله وحده سبحانه وتعالى، ونرجو أن تقوم إحدى الجهات العلمية بإعادة التحقيق لهذا التفسير العظيم والمهم لابن عطية منتبهين لما قد ذكرناه في هذه المقالة، بالإضافة إلى بعض الأمور الأخرى التي سنبيّنها تباعًا في مقالات أخرى بمشيئة الله سبحانه، كما نرجو من المعتنين بتحقيق كتب التراث أن ينتبهوا لتلك القضية لتخرج مؤلَّفَات التراث في أبهى حُلّة.
وصلى اللهُ وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] وقد لاحظنا هذه الإشكالات كذلك في عدد من الرسائل العلمية التي حُقّق فيها تفسير ابن عطية بعدّة جامعات، ولكن أغفلنا الإشارة إلى هذه الرسائل لعدم توفّرها مطبوعة.
[2] تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، أ.د/ عبد الله عسيلان، مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1415هـ- 1994، ص170- 171.
[3] تفسير ابن عطيَّة (5/ 306).
[4] تفسير ابن عطيَّة (5/ 306)، حاشية رقم (1).
[5] تفسير ابن عطيَّة، ط: المغربية (9/ 146)، ط: دار الكتب العلمية (3/ 171).
[6] تفسير ابن عطيَّة، ط: قطر الثانية (4/ 576)، ط: دار ابن حزم، ص945.
[7] ينظر ترجمته في: أخبار النَّحْويين البصريين للسيرافي (1/ 40)، وطبقات النَّحْويين واللغويين للزُّبَيْدِيّ (1/ 73)، والفِهْرِس لابن النديم (1/ 84)، ومعجم الأدباء للحموي (3/ 1374- 1376)، وإنباه الرواة للقفطي (2/ 14)، وغيرها.
[8] الحجة للقرّاء السبعة (4/ 325)، وقد وقع وهمٌ كثير كذلك في تحقيق كتاب (الحجة) لأبي عليّ الفارسي، فقد خلط المحقّق في العديد من المواضع بين الأخافش الثلاثة الذين ينقل عنهم أبو عليّ، (من أمثلة ذلك ينظر: الحجة للفَارِسِيّ، دار المأمون للتراث- دمشق/ بيروت، ط:2، 1413هـ- 1993م، تحقيق: بدر الدين قهوجي وبشير جويجابي 2/ 385؛ فقد أثبته المحقق للأخفش الأصغر وإنما هو للأوسط)، وترك المحقّق كثيرًا من المواضع غُفْلًا دون تحديد بأيّ الأخافش.
[9] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (2/ 424).
[10] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (3/ 108).
[11] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (6/ 702).
[12] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (2/ 92).
[13] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (7/ 179).
[14] وهذا إذا انتفى نقل المؤلّف للنصّ عن طريق مصدر وسيط أو غير ذلك من المحتملات العديدة والتي يلزم للبتّ فيها والترجيح بينها دراسة متأنية وتدقيق كبير في النصّ وما يحتفّ به من قرائن أخرى.
[15] مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، د/ رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 1406هـ- 1985م، ص99.
[16] تفسير ابن عطية (2/ 235).
[17] تفسير ابن عطية (2/ 235)، الحاشية رقم (2).
[18] ينظر: تفسير ابن عطيَّة، ط: قطر الثانية (2/ 86)، ط: المغربية (2/ 336)، ط: دار الكتب العلمية (1/ 367)، ط: دار ابن حزم، ص250.
[19] الإجماع لابن المنذر، دار المسلم للنشر والتوزيع، تحقيق ودراسة: د/ فؤاد عبد المنعم أحمد، ط1، 1425هـ- 2004م، ص48.
[20] الإشراف لابن المنذر، مكتبة مكة الثقافية، الإمارات، تحقيق: صغير أحمد الأنصاري أبو حماد، ط1، 1425هـ- 2004م، (3/ 99).
[21] ينظر: تفسير ابن عطيّة (1/ 706)، (2/ 17)، (2/ 68).
[22] وهذا من المجالات المهمّة التي قلّما طرَقَها الباحثون في مختلف العلوم الإسلامية.
[23] تفسير ابن عطيَّة (4/ 527).
[24] ينظر: تفسير ابن عطيَّة (4/ 527)، الحاشية رقم (6).
[25] ينظر: تفسير ابن عطيَّة، ط: قطر الثانية (4/ 157)، ط: المغربية (8/ 34)، ط: دار الكتب العلمية (2/ 511)، ط: دار ابن حزم، ص786.
[26] المؤلفات المطبوعة للمهدوي سوى التحصيل، هي: الهِدَايَة في القراءات السبع، وشرح الهداية، وظاءات القرآن، وبيان السبب الموجب لاختلاف القراءات، وهجاء مصاحف الأمصار.
[27] مناقب الشافعي للبيهقي، مكتبة دار التراث- القاهرة، ط1، 1390هـ- 1970م، (2/ 142).