تفسير القرآن بالقرآن من خلال كتاب (أضواء البيان) للشنقيطي
عرض وتقويم

يُعد تفسير (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) أحد التفاسير المعاصرة البارزة، وتحاول هذه المقالة عرض فكرة إيضاح وتفسير القرآن بالقرآن ومكوّناتها المنهجية في هذا التفسير، وكذلك تعمل على تقويم هذه الفكرة ونقدها.

  لا شَكّ أنّ تفسير القرآن الكريم كان من أهم المشاغل التي اهتمّت بها الأمة الإسلامية منذ فجر الإسلام، ولقد قام العمل التفسيري -عَبْر تاريخ التفسير- على تعدّدية في الموارد أثناء التفسير دَرَجَ عليها علماءُ التفسير سَلَفًا وخَلَفًا، ثم ظهرتْ فكرةُ تفسير القرآن بالقرآن والإعلاء من شأن هذا التفسير، حتى أضحتْ هذه الفكرة هي الأصح والمقدَّمة والأقدس في أذهان كثير من المعتنِين بالقرآن وتفسيره، وقد انخرط فيها بعضُ المفسِّرين محاوِلين إنجاز تفسير للقرآن بالقرآن، فهل يَسْلَم هذا النظر لأصحابه؟ وهل هناك تفسير يمكن وَصْفُه بأنه تفسير وبيان للقرآن من خلال القرآن؟ هذا وغيره من التساؤلات سنحاول أن نُجِيب عليها في هذه المقالة، وسنتأطّر في معالجتنا بمحاولة تقويم جُهْد بعض مَن حاولوا السَّيْر التطبيقي مع هذه الفكرة؛ وهو الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-، وذلك من خلال تفسيره الشهير: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، وسيأتي كلامنا مقسومًا لقسمين؛ أحدهما لعرض فكرة تفسير القرآن بالقرآن ومكوّناتها المنهجية عند الإمام الشنقيطي. والثاني لتقويم هذه الفكرة، وذلك بعد تمهيد نعرِّف فيه بتفسير العلّامة الشنقيطي[1]. ونسأل اللهَ الإخلاص والتوفيق والسداد.

تمهيد: كتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)؛ عرض وتوصيف:

- وصف الكتاب:

- كتاب (أضواء البيان) من الكتب الشهيرة التي تُعْنَى -بحسب عنوانها ومقصدها الرئيس- بتفسير القرآن بالقرآن، وقد طُبِع الكتاب مرارًا، وغالب طبعاته في تسعة أجزاء، سبعة منها من تأليف العلّامة الشنقيطي نفسه؛ وهي من سورة الفاتحة إلى آخر سورة المجادلة، حيث وافته المنية قبل إتمامه، فقام بتأليف (تتمة أضواء البيان) تلميذُه فضيلة الشيخ/ عطية محمد سالم، وهي تستغرق الجزأين الأخيرين من الكتاب، وذلك من أول سورة الحشر إلى آخر القرآن الكريم.

- ومن الجدير بالذِّكر أنني سأعتمد في هذا التوصيف -وخلال هذه المقالة- على طبعة (دار الحديث- القاهرة/ مكتبة العلوم والحِكم- المدينة المنورة) سنة 1426هـ- 2006م، وهي طبعة مكوّنة من عشرة أجزاء، التفسير في تسعة أجزاء منها، بالإضافة إلى الجزء (العاشر) وهو ملحق زائد على التفسير يحوي مؤلَّفَيْن من مؤلَّفات الشيخ الشنقيطي، وهما: (دفعُ إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)، و(منعُ جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز)، ولا يتعلّق الكلام في هذه الورقة البحثية بهما كما هو بَيِّن.

- ويتضمّن الجزء الأول مقدّمة للشيخ عطية سالم، ثم متن الكتاب الذي بدأ بمقدمة للعلّامة الشنقيطي بَيَّنَ فيها منهجه في الكتاب، ثم التفسير من الفاتحة إلى آخر النساء. بينما انتهي الجزء الثاني عند آخر يونس، والثالث إلى آخر سورة بني إسرائيل (الإسراء)، ووصل الجزء الرابع إلى نهاية سورة الأنبياء، والخامس اشتمل على سورتي الحجّ والمؤمنون [وهو أكبر الأجزاء السبعة]، ووصل السادس إلى آخر الصافات، والسابع -كما أشرنا- انتهى عند آخر المجادلة، وهذا آخر ما كتبه العلّامة الشنقيطي -رحمه الله-.

- سبب تأليف الكتاب:

إضافة لأهمية خدمة القرآن الكريم وبيان معانيه فقد بَيَّنَ الشنقيطي -رحمه الله- في المقدّمة أنَّ من أهم المقصود بتفسيره أمران: «أحدهما: بيان القرآن بالقرآن؛ لإجماع العلماء على أنّ أشرف أنواع التفسير وأجلّها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إِذْ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله -جل وعلا- من الله -جل وعلا-... وثانيهما: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبيَّنة في هذا الكتاب، فإنّنا نبيّن ما فيها من الأحكام وأدلّتها من السُّنّة وأقوال العلماء في ذلك، ونرجّح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل...»[2].

وبذلك نكون قد أَنْهَيْنَا هذا التعريف المختصر بالعلّامة الشنقيطي -رحمه الله- وبتفسيره (أضواء البيان)، لندلف لغرضنا الرئيس من المقالة وهو تقويم فكرة تفسير القرآن بالقرآن عنده.

بَيَّنَّا قبلُ أنّ الشنقيطي لم يُكمل التفسير وأنه توقف عند آخر سورة المجادلة، وأنّ مَنْ أكملَ التفسير مِن بعدِه هو تلميذه عطية محمد سالم، ونحن سنقتصر بطبيعة الحال في تقويمنا لفكرة تفسير القرآن بالقرآن عند الشنقيطي على تفسير الشيخ الشنقيطي فقط دون تتمة الشيخ عطية سالم؛ اكتفاءً بالأصل عن الفرع، وفي الأصل الغَناء والكفاية.

ولكي يتسنى لنا تقويم فكرة تفسير القرآن بالقرآن عند الشنقيطي فلا بد أولًا من بيان هذه الفكرة عنده وإيضاح مرتكزاتها، ثم التعرّض لها بالنقد والتقويم، وبيان ذلك على قسمين:

القسم الأول: تفسير القرآن بالقرآن من خلال كتاب (أضواء البيان)؛ عرض وبيان:

- من خلال مقدّمة المؤلِّف -رحمه الله- فقد بَيَّن الخطوات المنهجية التي سيسير عليها خلال صفحات الكتاب؛ التي كان أبرزها بيان القرآن بالقرآن، وهذا المقصد يَشِي به بوضوح -للوهلة الأولى- العنوانُ الذي اختاره للكتاب، حيث قال في آخر مقدّمته: «...وسمّيته: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»[3]. كما ألزمَ نفسَه أنه لن يبيّن القرآن إلّا بقراءة سَبْعيّة سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبيَّنة نفسها، أو آية أخرى غيرها، ولن يعتمد على البيان بالقراءات الشاذّة، وربما ذكر القراءة الشاذّة استشهادًا للبيان بقراءة سبعية، ونبّه أنّ قراءة أبي جعفر ويعقوب وخَلَف ليست من الشاذّ عنده ولا عند المحقّقين من أهل العلم بالقراءات.

كما أنه سيعمد إلى بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبيَّنة في هذا الكتاب، فإنه سيبيّن ما فيها من الأحكام وأدلّتها من السُّنّة وأقوال العلماء في ذلك، ويرجّح ما ظهر له أنه الراجح بالدليل، من غير تعصّب لمذهب معيّن ولا لقول قائل معيّن؛ لأنّ النَّظَر -بحسب تعبيره- ينبغي أن يكون إلى ذات القول لا إلى قائله؛ لأنّ كلّ كلام فيه مقبول ومردود إلّا كلامه -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أنّ الحقَّ حقٌّ ولو كان قائله حقيرًا... وقد تضمّن هذا الكتاب -كما نصَّ المؤلّفُ- أمورًا زائدة على ذلك؛ كتحقيق بعض المسائل اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب، والاستشهاد بشِعْر العرب، وتحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية، والكلام على أسانيد الأحاديث[4].

- ثم تطرّق العلّامة الشنقيطي -رحمه الله- بعد ذلك إلى ذِكْرِ أنواع البيان التي تضمّنها الكتاب، التي هي بمثابة المنهج الذي سيسير عليه في إيضاح القرآن بالقرآن؛ فذكرَ نحوًا من عشرين نوعًا مبينًا لها وداعِمًا بالأمثلة من آيات الذِّكْر الحكيم؛ وقد صرّح -رحمه الله-: «أنّ أنواع البيان المذكورة في هذا الكتاب المبارك كثيرة جدًّا. وقد أردنا أن نَذْكُرَ في هذه الترجمة جُمَلًا من ذلك؛ ليعلم بها الناظر كَثْرَة ما تضمّنه هذا الكتاب المبارك من أنواع بيان القرآن بالقرآن، ويكون على بصيرة في الجملة من فائدته قبل الوقوف على جميع ما فيه»[5].

وفي بيان هذه الأنواع يقول الشنقيطي[6]:

- «اعلم -وفّقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه- أنّ من أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك[7]:

1- بيان الإجمال الواقع بسبب اشتراك؛ سواء كان الاشتراك في اسم أو فعل أو حرف.

- ومثال الإجمال بسبب الاشتراك في اسم: قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة: 228]؛ لأنّ القرء مشترك بين الطُّهْر والحيض، ...وتدلّ له [أيْ أنّ المراد بالقرء الطُّهر] قرينة زيادة التاء في قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}؛ لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار؛ ...لأن العرب تقول: ثلاثة أطهار، وثلاث حيضات...

- ومثال الإجمال بسبب الاشتراك في فعل: قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}[التكوير: 17]؛ فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره...

- ومن أمثلة الاشتراك في حرف: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}[المائدة: 6]؛ فإن لفظة (مِن) مشتركة بين التبعيض وابتداء الغاية...، وسيأتي تحقيق هذا المبحث وإيضاحه بالسُّنّة في سورة المائدة...

2- ومن أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك: بيان الإجمال الواقع بسبب إبهام في اسم جنس جمعًا كان أو مفردًا، أو اسم جمع أو صلة موصول أو معنى حرف...

3- ومن أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك: أن يُذكر شيء في موضع ثم يقع عنه سؤال وجواب في موضع آخر، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، فإنه لم يبيّن هنا ما المراد بالعالمين، لكنه وقع سؤال عنه وجواب في موضع آخر، وهو قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}[الشعراء: 23- 24].

4-ومن أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يكون الظاهر المتبادر من الآية بحسب الوضع اللغوي غير مراد، بدليل قرآني آخر على أنّ المراد غيره، مثاله قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة: 229]، فإنّ ظاهره المتبادر منه أن الطلاق كلّه محصور في المرّتين، ولكنه تعالى بيّن أن المحصور في المرتين خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرّجعة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة: 230].

5- ومن أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، ويكون في نفس الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول، ...ومن أمثلته قول بعض أهل العلم: إنّ أزواجه -صلى الله عليه وسلم- لا يدخلن في أهل بيته في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب: 33]، فإنّ قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأنّ الله تعالى قال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ}[الأحزاب: 28]، ثم قال في نفس خطابه لهنّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}، ثم قال بعده: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}[الأحزاب: 34]، وأجمع جمهور الأصوليين على أنّ صورة سبب النزول قطعيّة الدخول فلا يصحّ إخراجها بمخصّص.

6-ومن أنواع البيان التي تضمّنها أيضًا أن يذكر وقوع شيء في القرآن، ثم يذكر في محلّ آخر كيفية وقوعه، كقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة: 51]، فإنه لم يبيّن هنا كيفية الوعد بها هل مجتمعة أو مفرّقة؟ ولكنه بيّنها في الأعراف بقوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}[الأعراف: 142].

7- ومن هذا القبيل أن يَذْكُرَ وقوع أمر من غير تعرُّض إلى كونه وقع أولًا بتنجيز أو تعليق، ثم يبيّن ذلك في موضع آخر، ومثاله قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}[البقرة: 34]، فإنه لم يبيّن هنا هل ذلك الأمر وقع أولًا بتنجيز أو تعليق، وقد بيّن في (الحِجر) و(ص) أنه وقع أولًا معلّقًا، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 29، ص: 72]...».

وقد تابع الشنقيطيُّ في بيان هذه الأنواع، وختمها بالإشارة إلى كثرة أنواع بيان القرآن بالقرآن غير ما ذَكَرَه، حيث قال: «هذا الكتاب المبارك تضمّن أنواعًا كثيرة جدًّا من بيان القرآن بالقرآن غير ما ذكرنا، تركنا ذِكْر غير هذا منها؛ خوف إطالة الترجمة، والمقصود بما ذكرنا من الأمثلة مُطْلَق بيان كثرة الأنواع التي تضمّنها واختلاف جهاتها...»[8].

 ومن خلال النظر في طرح الشنقيطي لفكرة تفسير وبيان القرآن بالقرآن والأنواع التي ذكرها يتبيّن لنا أنّ هذه الفكرة تدور عنده على تفسير القرآن الكريم من خلال القرآن الكريم ذاته، وأنّ هذا اللون من التفسير ليس منحصرًا في صورٍ قليلة كما قد يُتَصَوَّر، وإنما له العديد من الصور؛ كالعموم والخصوص، والتقييد والإطلاق، بيان اللفظ المشترك بأنواعه، وبيان الأمر والنهي...إلخ، وتأمّل كيف يقول العلّامة الشنقيطي: «ومن أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أنّا إذا بينّا قرآنًا بقرآن في مسألة يخالفنا فيها غيرنا، ويدّعي أنّ مذهبه المخالف لنا يدلّ عليه قرآن أيضًا، فإنّا نبيّن بالسُّنّة الصحيحة صحةَ بياننا وبطلان بيانه، فيكون استدلالنا بكتاب وسُنّة...»[9]، فهذا النصّ يبرز بجلاء نزع الشنقيطي لوجود بيان للقرآن يتم الاعتماد في إنتاجه على القرآن وحده؛ إِذ اللجوء للسُّنّة النبوية لا يكون قرينًا للقرآن ذاته في إنتاج هذا النمط من البيان، وإنما للفصل وتأكيد صحّة بيان بعينه حال التنازع لا أكثر.

إنّ الناظر في كلام الشنقيطي وصور البيان التي ذكرها يجد أنّ الآي محلّ البيان يجري الاعتماد في بيانها عنده على النظر في النظير القرآني لها أو حديث القرآن المتّصل بها في مواضع أخرى من القرآن بِغَضّ النظر عن صور هذا الاتصال التي يرى الشنقيطي أنها كثيرة ومختلفة الجهات، وهو ما يبيّن أن حاصل الأمر عنده يتبلور في وجود بيان للقرآن يستقلّ أَخْذُه وتحصيلُه من خلال القرآن نفسه بلا استثمار لأيّ مورد خارج القرآن نفسه.

ومن الجدير بالذِّكْر أنّ وجود صور وأنواع معيّنة لبيان القرآن بالقرآن هي فكرة برزت كذلك لدى بعض الكَتَبَة من معاصري الشيخ الشنقيطي، حيث نجد الدكتور/ محمد حسين الذهبي (ت: 1398هـ- 1978م) يعرِض لها في كتابه: (التفسير والمفسرون) مبينًا أنّ الناظر في القرآن يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وأن ما أُوجِزَ في مكان في القرآن قد يُبْسَط في مكان آخر، وما أُجْمِلَ في موضع قد يُبَيَّن في موضع آخر، وما جاء مطلقًا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عامًّا في آية قد يدخله التخصيص في آية أُخرى. ومن ثم يقول بعد ذلك: «ولهذا كان لا بد لمن يعترض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولًا، فيجمع ما تكرّر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما جاء مسهَبًا على معرفة ما جاء موجَزًا، وبما جاء مُبيَّنًا على فهم ما جاء مُجْمَلًا، وليحمل المُطْلَق على المقيَّد، والعام على الخاصّ، وبهذا يكون قد فَسَّر القرآن بالقرآن»[10].

والمتأمّل في هذه الأنواع السّالفة التي ذكرها الشنقيطي لبيان القرآن بالقرآن يجد أنّ معظمها يمكن أنْ يرجع إلى الصور المحدودة التي ذكرها الذهبي اختصارًا، غير أن الشنقيطي قام بتحليلها وتفكيكها (تفتيتها) إلى مكوناتها الأوّلية، وتوسّع فيها حتى بَدَتْ كأنها كثيرة ومتعدّدة.

وتجدر الإشارة هاهنا لأمرين:

الأول: لا أزعم أن الشنقيطي استقى هذه الصور التي ذكرها من الذهبي أو أنه تأثّر بالذهبي في ذلكم السياق؛ فإنّ الشنقيطي تُوفي قبل أن يفرغ الذهبي من تدوين كتابه بعامَيْن تقريبًا. لكن فكرة وجود بيان للقرآن من خلال القرآن بذات النّسق الذي برز عند الشنقيطي والذهبي بحاجة للبحث عن جذورها وعوامل التأثير والتأثّر فيها عندهما، وأخصّ بالذِّكْر مقدمة ابن تيمية لشهرتها في التأصيل لوجود تفسير يمكن انتزاعه من القرآن بشكلٍ خاصّ كما هو مشتهر، وكذا استحضار أثر الدرس الأصولي وكلامه على كيفيات بناء الأحكام في القرآن الكريم وعلاقات السُّنّة بالقرآن في محاولة الإفادة في بناء صور بيان القرآن بالقرآن.

الثاني: بَيَّن الشيخ الشنقيطي أنّ فكرة تفسير القرآن بالقرآن تُعتبر أشرف أنواع التفسير وأجلّها؛ إِذْ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله، من الله سبحانه وتعالى، وهذا يوحي -بناءً على كلامه- أنّ التفسير المستمَدّ من القرآن ذاتِه هو تفسيرٌ صافٍ وبعيدٌ عن ساحة الرأي والاجتهاد، وهذا أمر مهم في سياق نظرنا لفكرة بيان وتفسير القرآن بالقرآن عنده.

وبذلك نكون قد أنهينا الحديث عن ملامح فكرة بيان وتفسير القرآن بالقرآن عند الشنقيطي لندلف لتقويم هذه الفكرة وبيان الموقف منها.

القسم الثاني: تفسير القرآن بالقرآن من خلال كتاب (أضواء البيان)؛ نقد وتقويم:

إنّ الناظر والمتأمّل لفكرة وجود بيان مستقلّ للقرآن يمكن انتزاعه من خلال القرآن وحده يجد أنها فكرة خاطئة من رأسها؛ وذلك أنها تقوم على تصوّر مصادِم جذريًّا لطبيعة العملية البيانية التفسيرية من حيث هي؛ فتقرير المعنى التفسيري عبارة عن عملية تحليلية تركيبية بالأساس كما أثبتته بعض الكتابات[11]، وهذه العملية تحتاج لعدد من الموارد الداخلية والخارجية حتى يتم النهوض بها وتقرير معطياتها، وهذه الموارد كما ذكرَتْ بعض الكتابات، هي[12]:

النظائر القرآنية - القراءات القرآنية - اللغة - الأحاديث النبوية - الأخبار التاريخية - السياقات القرآنية.

وتُعَدّ اللغة والسياق من الموارد الثابتة في كلّ ممارسة تفسيرية[13]، فنحن لا نستطيع الانفكاك عن هذين المورِدَيْن في صناعة التفسير بحالٍ كما هو بَيِّن؛ فالمفسِّر لا بد أن يعرف دلالات اللغة ولا بد أن يكون لديه تصورٌ ما للسياق؛ ومن هاهنا فإنّ بعض المواضع في القرآن التي يُتصوَّر أنّ بيانها يجري من خلال القرآن فقط هو تصوُّر غير صحيح؛ ذلك أنّ بيان هذه المواطن لا ينفكّ عن توظيفٍ لدلالات اللغة، فمعرفة هذه الدلالات ضرورة للقيام بالعملية البيانية وفقًا لهذا التصور، ولا شك أن تقرير هذه الدلالات يحتاج لشواهد اللغة كما لا يخفى من شِعْرٍ وغيره حتى ينضبط لنا تصوّر هذه الدلالات ومعرفة الصحيح منها من الغلط، وهو ما يجعل استناد فكرة البيان على النصّ القرآني فقط في هذه المواضع كما يقرّر هذا التصوّر هو أمر غير صحيح في ذاته ولا يمكن التسليم به.

وفي ضوء ذلك فإنّ اصطلاح بيان القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالقرآن هو اصطلاح مشكل وغير صحيح، ويصادِم طبيعة العملية البيانية التي تعتمد بطبيعتها توظيفًا تركيبيًّا لبعض الموارد ولا يوجد منها ما يستقلّ أَخْذُهُ من القرآن وحده كما تُصَوِّر لنا فكرةُ تفسير وبيان القرآن بالقرآن.

ويجدر الإنباه هاهنا لما يأتي:

أولًا: بالرغم من كثرة الأنواع التي ذكرها الشيخ الشنقيطي تمثيلًا لبيان القرآن وإيضاحه بالقرآن، إلا أنّ هذه الأنواع إنْ دلّتْ على شيء فإنما تدلّ على أنّ غاية هذه الفكرة التي ذكرها من بيان القرآن بالقرآن هي أنها مجرّد محاولة لتفسير جوانب معيّنة من النصّ القرآني، وبالتالي فلن تستوفي هذه الطريقةُ التفسيرَ السردي الكامل للنصّ القرآني كلّه من أوّله إلى آخره آية آية كما هو الحال في الممارسة التفسيرية التقليدية. وهذا ما وقع في كتاب (أضواء البيان) بالفعل؛ حيث تجاوَزَ كثيرًا من آيات القرآن، ولم يعرِض إلّا لآياتٍ مختارة من كلّ سورة كما سيأتي معنا، وعليه فهذه الفكرة لا يمكن اعتبارها بمثابة منهج لتفسير النصّ القرآني بالأساس أو ادّعاء الاستعاضة بها عن نسق التفسير التراثي، هذا بافتراض صحّة الفكرة وهي غير صحيحة كما أسلفنا.

ثانيًا: تبنّت بعض الكتابات محاولة جعل فكرة تفسير القرآن بالقرآن منهجًا متكاملًا لتفسير النصّ القرآني، وليس مجرّد محاولة لتفسير بعض الآيات القرآنية فحسب كما عند الشنقيطي، وقد كشفَت بعض الكتابات عن غلط منطلقات هذا التوجّه، وبيّنَت أعطابه المنهجية، وناقشتْ دلائله ومستنداته، وبيّنَت آثاره، ونادت بضرورة تجاوزه كلية[14].

ثالثًا: ما بينّاه من الغلط المنهجي لفكرة بيان القرآن وتفسيره بالقرآن قد يشكل لدى بعضهم؛ خاصةً في ضوء التأصيل الشهير لابن تيمية في مقدّمته في أصول التفسير، والتي ذكر فيها أهمية الرجوع -في طلب التفسير- للقرآن أولًا، فإنْ تعذَّر رجَعْنا للسُّنّة، فأقوال الصحابة، ولكن هذا التأصيل التيمي الشهير تأصيل غير صحيح، يقول الباحث/ خليل محمود اليماني في مناقشته له: «البحث عن المعنى بانفراد في القرآن أولًا ثم في السُّنّةِ ثانيًا كما يطرح ابن تيمية يكاد يكون خارج دائرة التصوّر أصلًا؛ فدائرة النصّ على المعنى في القرآن مثلًا تكاد تكون منعدمةً، اللهم إلا من مواضع قليلةٍ جدًّا، وليس في داخل القرآن تطبيقيًّا كبير تبيين لمعاني الآي[15]، وإنما بناء المعنى التفسيري يتّخذ إطارًا تركيبيًّا على الحقيقة في تقريره، حيث يفعّل المفسِّر في الموطن الذي يفسّره القرآن ذاته؛ بما يحمله من نظائر وآيات أخرى متقاطعة في ذات الموضع، كما يفعّل السُّنّة واللغة والسياق...إلخ من الأدوات التي يحصّل المعنى من خلال توظيفها مجتمعة كلّها أو بعضها ويقرّره عبرها، وأمّا أن تستقلّ بتقرير المعنى أداة واحدة فَلا، وكذا أن يكون هناك مصدر يجري انتزاع التفسير منه بانفراد[16]، وبالتالي فتصدير طرق التفسير تجريديًّا على هذا النحو وأن يُقال للمفسِّر: اطلب التفسير أولًا من القرآن، فإن لم تجد فاطلبه من السُّنّة، وهكذا هو محض تنظير، لا واقع له في ميدان التفسير، ولا يتّسق مع ممارسته العملية التطبيقية، بل يُفْضِي لأغلاط في تصوّر هذه الممارسة»[17].

رابعًا: تلك الصور الكثيرة التي ذكرها العلّامة الشنقيطي -رحمه الله- هي في الحقيقة ليست تفسيرًا للقرآن بالقرآن، ولا يمكن اعتبارها كذلك، وكون الشيخ اعتبرها من بيان القرآن بالقرآن فإنّ ذلك ربما يرجع لأنه لا ينظر إلى مرحلة إنتاج المعنى التفسيري من حيث هو في تلكم المواضع، وما يكون فيها من معالجة المفسِّر لكافة الموارد التفسيرية المتاحة لديه بحيث تتداعى تلك الموارد وتختلط في ذهنه وتنصهر، ثم تستوي على سُوقها ليتبلور لنا -في النهاية- المعنى التفسيري الصحيح الذي تولّد بعد معاناة هذا العَنَت الشديد وتلك المشقّة البالغة. ولكن الشيخ يتعامل مع معانٍ منتَجة سلفًا في هذه المواضع يحاول الموازنة بينها ببعض الآليات والمقرّرات لا غير؛ فالشيخ الشنقيطي يُورد كثيرًا من الآيات ولا يُورد لها مماثلًا أو مفسِّرًا ومبيِّنًا من آيات القرآن، ومن ذلك عند قول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196]، يقول مباشرةً: «اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة، فقال قوم: هو صدّ العدوِّ المحرِمَ ومنعه إياه من الطواف بالبيت. وقال قوم: المراد به حبس المحرِم بسبب مرض ونحوه. وقال قوم: المراد به ما يشمل الجميع مِن عدوّ ومرض ونحو ذلك»[18]. ثم أفاض الشيخ في بيان معنى الإحصار المراد في هذه الآية من أقوال علماء اللغة وأقوال علماء السَّلَف من الصحابة والتابعين وغيرهم، وبَيَّن الأحكام الفقهية المتعلقة بها، وذلك في نحو 12 صفحة تالية، ولم يذكر أيّ آية من القرآن تكون تفسيرًا للقرآن بالقرآن في هذا الموضع. ومثلها عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الكهف: 23، 24]، وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}[المائدة: 96]...إلخ. وهذا الصنيع من الشيخ الشنقيطي يبيّن عدم تركّز النظر عنده على عملية توليد المعاني في المواضع التي يعتبرها من بيان القرآن بالقرآن، ولو أنّ الشيخ نظر لعملية توليد المعنى في هذه المواطن التي يعتبرها بيانًا قرآنيًّا خالصًا لَبانَ له بجلاء غلط فكرة تفسير القرآن بالقرآن بالأساس ولَظهر له أن الأمر ليس كذلك، وأن هذه المواطن قام بيان معانيها عبر اللجوء لموارد متنوّعة -وكثير منها خارج الفضاء القرآني- وأنه لا يوجد ما يمكن اعتباره بيانًا يمكن انتزاعه باستقلال من خلال القرآن واعتباره تفسيرًا وبيانًا للقرآن من خلال القرآن، وسيأتي معنا مزيد بيان لذلك.

خامسًا: فكرة تفسير القرآن بالقرآن تثمر بطبيعة الحال لدى من يتعاطاها أنه يقدِّم تفسيرًا بعيدًا عن الرأي والهوى، وهذا غلط محض؛ لأنّ عملية استثمار النصّ القرآني ذاته وتثوير معطياته الداخلية -كما يحاول أصحاب هذه الفكرة- هي عملية اجتهادية بالأساس وتتباين فيها وجهات النظر، ومن ثَمّ فإنّ هذه الفكرة تسمح على الحقيقة بتوليد هدف غير واقعي ولا حقيقي أبدًا للممارسة التفسيرية التي تظلّ اجتهادية ومعبِّرة عن رأي صاحبها لا غير، فالقرآن -كما قيل- خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلّم به الرجال[19].

وفي ضوء ما بينّا من إشكال وغلط الفكرة الرئيسة التي صدر عنها الشيخ الشنقيطي في تفسيره، فإنّ هذا أورث تفسير الشنقيطي عددًا من الإشكالات، وقبل أن نلج إلى بيان أهمّها، نؤكّد على أن ذلك لا يعني التقليل من قَدْرِ المؤلِّف، وإنما كلّ الناس يُؤخَذ من كلامه ويُترَك إلا صاحب القبر الشريف -صلى الله عليه وسلم-، وفضيلة الشيخ العلّامة الشنقيطي -رحمه الله- يؤكّد هذا الأمر بقوله: «...ونرجّح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل، من غير تعصّب لمذهب معيّن ولا لقول قائل معيّن؛ لأنّنا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله، لأنّ كلّ كلام فيه مقبول ومردود إلا كلامه -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أنّ الحقَّ حقٌّ ولو كان قائله حقيرًا»[20].

كما نشير أننا سنذكر أهمّ الملحوظات في تفسير الشنقيطي المتّصلة بسبب غلط الفكرة والمنطلق الذي صدر عنه، وغيرها أيضًا مما ظهر إبان نظرنا في هذا الكتاب، وهذه الملحوظات كالآتي:

1- لم يوضح العلّامة الشنقيطي -رحمه الله- أيَّ معيارٍ سيختار بناءً عليه الآيات التي سيتعرّض لتفسيرها ويعتبر أن هناك بيانًا قرآنيًّا لها، وبأيّ مقياس سيترك ما سواها من آياتٍ، وهذا أحد الإشكالات المنهجية البارزة عنده، كما أنّ الناظر يلحظ أنّ هناك آيات قد نجد غيرَه من المفسِّرين يَذْكُر لها نظائر في القرآن الكريم لبيان معناها؛ فمثلًا في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه: 132]، ففي حين نجد الإمام ابن كثير يذكرُ آياتٍ -بحسب اجتهاده- توافق هذه الآية، نجد الشيخ الشنقيطي لم يتعرّض لتفسيرها أصلًا. وهناك كثير من المواضع على هذا المثال.

وكذلك يتعرّض أحيانًا لبيان بعض المبهمات التي لم يَرِد بيانها في أيِّ موضع من آيات القرآن، مع أنّ هذا ليس من تفسير القرآن بالقرآن في شيء، بل لا بد فيه من الاعتماد على مورد خارجي عن السياق القرآني، وغالبًا ما يكون مصدره الروايات الإسرائيلية، وهو ما أضفى على الكتاب تناقضًا ظاهرًا بين تنظيره وتطبيقه -كما سيأتي-، ومثال ذلك حين تعرّض لبيان نوع الشجرة التي نادى الله -سبحانه- عندها موسى؛ وذلك في الكلام على قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}[مريم: 52]، حيث قال: «قيل: هي شجرة عوسج. وقيل: شجرة عليق. وقيل: شجرة عناب. وقيل: سمرة»[21].

2- من أهم ما يُلاحظ على صنيع الإمام الشنقيطي في الكتاب التناقض الواضح الذي جلبه عليه طبيعةُ الموضوع نفسه (أعني فكرة تفسير وبيان القرآن بالقرآن)، ففي ضوء عدم معقولية هذه الفكرة في ذاتها وأنّ الممارسة التفسيرية تحتاج بطبيعتها لعدد من الموارد التي يكون بعضها خارج الفضاء القرآني بالأساس، فكان لا بد للشيخ الشنقيطي أن يلجأ إلى هذه الموارد الأخرى كما يظهر تطبيقيًّا في كتابه بوضوح؛ لكنه بهذا اللجوء الاضطراري صار متناقضًا مع نفسه وصار كتابه -تطبيقيًّا- غير منسجم مع عنوانه الذي وضعه عليه، وهذا ليس في مساحة قليلة من تفسيره بل يكاد يأتي هذا التناقض على تفسيره كلّه. وتأمَّل كيف يقول الشيخ الشنقيطي: «واعلم أنّ مما التزمنا في هذا الكتاب المبارك أنه إذا كان للآية الكريمة مبيِّن من القرآن غير وافٍ بالمقصود من تمام البيان، فإننا نتمم البيان من السُّنّة... فمثل هذه المسائل نبيِّنها بيانًا تامًّا بالسُّنّة تبعًا للبيان القرآني»[22].

بل إنّ فضيلة الشيخ لم يبيِّن بالسُّنّة فقط[23]، بل بَيَّن بغيرها من موارد التفسير التي لا بد أن يلجأ إليها ضرورةً عند التطبيق، وهذا ما ترتّب عليه تناقضه الواضح مع فكرة الكتاب الرئيسة على طول الكتاب وامتداده، ومن ذلك:

أ- بيانه بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وهذا كثير جدًّا، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة: 105]: «قد يتوهّم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؛ لأنّ مَن ترك الأمر بالمعروف لم يهتدِ، وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الآلوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود...»[24].

ب- وكثيرًا ما يفسِّر بأقوال العلماء ابتداءً؛ وينصّ على ذلك صراحةً لإيضاح ما هو بصدد إيضاحه من آيات، وهذا كثير أيضًا في (أضواء البيان)؛ ومن عباراته -رحمه الله-: «فمن العلماء من قال/ في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير/ قال جمهور علماء التفسير/ ذهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة»...إلخ.

ويلحظ المطالعُ هذا الأمرَ من بدايات صفحات التفسير؛ فمثلًا عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30]، يقول -رحمه الله-: «في قوله: {خَلِيفَةً} وجهان من التفسير للعلماء:

أحدهما: أن المراد بالخليفة أبونا آدم -عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام؛ لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره. وقيل: لأنه صار خلفًا من الجنّ الذين كانوا يسكنون الأرض قبله، وعليه فالخليفة: فَعِيلة بمعنى فاعِل. وقيل: لأنه إذا مات يخلفه مَن بعده، وعليه فهو من فَعِيلة بمعنى مفعول. وكون الخليفة هو آدم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية.

الثاني: أن قوله: {خَلِيفَةً} مفرد أريد به الجمع، أي: خلائف، وهو اختيار ابن كثير...»[25].

ج- ويفسِّر باللغة كثيرًا، وبشِعْر العرب، وقد استشهد الشيخ -رحمه الله- بمئات الأبيات من الشِّعْر خلال تفسيره، ومثال ذلك عند تفسيره للآية الأولى من سورة الأنعام حيث يقول: «في قوله تعالى: {يَعْدِلُونَ}، وجهان للعلماء:

أحدهما: أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف، والميل عنه، وعلى هذا فقوله: {بِرَبِّهِمْ} متعلّق بقوله: {كَفَرُوا}، وعليه فالمعنى: إنّ الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحقّ إلى الكُفْر والضلال، وقيل على هذا الوجه: إنّ (الباء) بمعنى (عن) أي: يعدلون عن ربهم، فلا يتوجّهون إليه بطاعة ولا إيمان.

والثاني: أن (الباء) متعلقة بـ{يَعْدِلُونَ}، ومعنى {يَعْدِلُونَ}: يجعلون له نظيرًا في العبادة؛ من قول العرب: عدلت فلانًا بفلان، إذا جعلته له نظيرًا وعديلًا. ومنه قول جرير:

أثعلبة الفوارس أم رياحًا .. عدلت بهم طهية والخشابا

...وعِدْلُ الشيء في اللغة مِثْلُه ونظيرُه، قال بعض علماء العربية: إذا كان من جنسه، فهو عِدْل -بكسر العين- وإذا كان من غير جنسه فهو عَدْل -بفتح العين- ومن الأول قول مهلهل:

على أن ليس عِدلًا من كليب .. إذا برزت مخبأة الخدور

على أن ليس عِدلًا من كليب .. إذا اضطرب العضاه من الدبور

على أن ليس عِدلًا من كليب .. غداة بلابل الأمر الكبير»[26].

د- ويفسّر بأسباب النزول كذلك، ومثاله عند قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196]: «...وعلى هذا القول أنّ المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصّة، فمن أُحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلّل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحلّلًا بعُمْرَة، وحُجّة هذا القول متركّبة من أمرين:

الأول: أنّ الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، نزلتْ في صَدِّ المشركين النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه وهم مُحْرِمون بعُمْرة عام الحديبية عام ستٍّ بإطباق العلماء.

وقد تقرّر في الأصول أنّ صورة سبب النزول قطعيّة الدخول، فلا يمكن إخراجها بمخصّص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه...»[27].

هـ- ويفسّر بالإسرائيليات! مع موقفه المتشدّد منها الذي هو مبنيّ في الغالب على الرّفض والردّ والبطلان التام، لكنه أحيانًا لا يصرّح أنها من الإسرائيليات، بل يقول: «وجاء في آثار/ ويُقال...»، أو يُوردها في خلال كلامه -رحمه الله- دون أيّ إشارة، وأحيانًا يتعقّبها بالردِّ والبطلان كما فعل في قصة فتنة سليمان -عليه السلام- في سورة (ص)، وأحيانًا لا يتعقّبها.

- ومما أَوْرَدَه من الإسرائيليات، عند تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}[النحل: 72]: «وقال المناوي في شرح حديث: (أحد أبوي بلقيس كان جنيًّا)، قال قتادة: ولهذا كان مؤخّر قدميها كحافر الدابة، وجاء في آثار: أنّ الجنيَّ الأمُّ، وذلك أنّ أباها -مَلِك اليمن- خرج ليصيد فعطش، فرُفِع له خباء فيه شيخ فاستسقاه، فقال: يا حسنة اسقي عمّك؛ فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت، فخطبها من أبيها، فذكر أنه جِنِّي، وزوَّجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها. فأتت منه بولدٍ ذَكَرٍ، ولم يُذْكِر قبل ذلك، فذبحته فكرب لذلك، وخاف أن يسألها فتَبِينَ منه. ثم أتت ببلقيس فأظهرَت البِشْر، فاغتمّ فلم يملك أن سألها، فقالت: هذا جزائي منك! باشرتُ قتل ولدي من أجلك! وذلك أنّ أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول: إنّ الولد إذا بلغ الحلم ذبحك، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها، ويصفون مُلْكَها، وهذا فراق بيني وبينك؛ فلم يرها بعد...إلى غير ذلك من الروايات»[28]، ثم كان تعقيبه -رحمه الله- ليس قاطعًا في ردّ هذه الروايات، بل جعل الظاهر -فقط- عدم ثبوتها، فقال: «الظاهر أن الحديث الوارد في كون (أحد أبوي بلقيس جنيًّا) ضعيف، وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت»[29].

- وفيما كان من شأنِ السامري في سورة (طه)، قال العلّامة الشنقيطي عند تفسير الآيتين (87، 88)[30]: «وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحليّ في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة؛ لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه. والسامري يريد تدبير خطّة لم يطّلعوا عليها؛ وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس، أخذ السامري ترابًا مسّه حافر تلك الفرس، ويزعمون في القصة أنه عايَن موضع أثرها ينبت فيه النبات، فتفرّس أن اللهَ جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحليّ في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة، وقال له: كن عجلًا جسدًا له خوار؛ فجعله الله عجلًا جسدًا له خوار، فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[طه: 95- 96]»[31].

قلتُ: ليس في الآية السابقة [طه: 96] ما يشير إلى ما فَسَّر به، ولكن الشيخ -رحمه الله- لم يجد بُدًّا إلا بتفسير الآية بالروايات الواردة عن أهل الكتاب، دون أن يتعقّبها بشيء؛ لأنه إنْ لم يفعل فلن يجد في تفسيرها ما يشفي عليلًا أو يروي غليلًا من أيّ مصدرٍ آخر، كما بينه بحث " الإسرائيليات بين ضرورة التوظيف وإمكان الاستغناء؛ قراءة تحليلية لمقولات المفسرين في جواب السامري في سورة طه".

3- بيَّن الشيخ الشنقيطي -كما مَرّ- أنه سيعالج جانب الأحكام الفقهية ويبيّن الراجح منها، وقد توسّع التفسير في ذلك جدًّا وكذلك في المناقشات العقدية وطول المساجلة للمخالفين من الفِرَق الكلامية وغيرهم، أو في مخالفة بعض أهل العلم في بعض المسائل، وكذا كثرت استطراداته في عرضِ أو مناقشةِ قضايا المنطق والاستدلال، أو في بيان النَّسْخ والإحكام، وكذلك في تحقيق بعض المسائل اللغوية، والكلام على أسانيد الأحاديث، والكلام على توجيه القراءات...إلخ، (ومع أنّ الشيخ قد بَيّنَ منذ البداية أن كتابه سيحتوي على بعض ذلك؛ من بيان الأحكام وأدلّتها والترجيح بينها...)، إلا أنّ كلّ هذا ليس من مسلك إيضاح القرآن بالقرآن؛ كما أنّ الشيخ أطال في عرض هذه المسائل إطالة كبيرة، ومن ثم كانت سببًا رئيسًا في مخالفة الكتاب تطبيقيًّا لفكرته من بيان القرآن بالقرآن، بل وأدّت لهذا التبايُن الواضح بين طول السور وعدد آياتها من جهة وبين حظّها من التفسير في (أضواء البيان) وعدد الصفحات الذي شغلته فيه من جهة أخرى؛ فمثلًا سورة آل عمران على طُولها لم تستغرق من صفحات الكتاب إلا 24 صفحة فقط، من (1/ 208- 232)، بينما سورة الحج على قصرها نسبيًّا بالنسبة لآل عمران قد استغرقت نحو 466 صفحة، من (5/ 5- 471)، وهو ما يقارب تفسير السور الستّ الطوال من البقرة إلى آخر الأعراف حيث استغرقت كلّها نحو 477 صفحة! كما نجد تفسير سورة القصص التي تضارع سورة الحجّ طُولًا أو تزيد، لا يتجاوز تفسيرها 4 صفحات فقط.

وكذلك التباين بين طول السورة وعدد الآيات التي تعرّض لها الشيخ بالتفسير والإيضاح؛ فسورة آل عمران مثلًا التي تبلغ 200 آية، لم يُفَسَّر منها سوى 38 آية فقط، بما يساوي نسبة 19% من عدد آيات السورة، وسورة القصص التي تبلغ 88 آية، لم يفسّر منها إلا 7 آيات فقط، بما لا يرقى لنسبة 8% بل أقَلّ.

وهذا الأمر أثّر بطبيعة الحال على هيكلة أجزاء الكتاب نفسِه، وجعلها تبدو هيكلة غير منسجمة تمامًا مع طول أو حجم السور الكريمة؛ فقد كان من عادة جُلّ المفسِّرين -غالبًا- أن يطيلوا النّفَس في الأجزاء الأولى من القرآن الكريم، ثم يُحيلوا بعد ذلك على السابق من التفسير؛ فتكون الإطالة في السابق والإيجاز في اللاحق، غير أنّنا نجد (أضواء البيان) لا يسير على مثل هذه الهيكلة، بل لا يسير على وتيرة واضحة أصلًا؛ فحيث نجد السور السبع الطوال: (البقرة - آخر التوبة؛ بإجمال الأنفال مع التوبة، وهذا يفوق ثلث القرآن تقريبًا) تستوعب من أضواء البيان نحو 564 صفحة، بينما سورة الحج وحدها تستوعب 466 صفحة، مع أنها بعد هذه السور في ترتيب سُوَر القرآن.

وبينما نجد مثلًا سور (آل عمران، الأعراف، التوبة، يونس، هود، يوسف) تستغرق نحو 150 صفحة، نجد في المقابل سورة (مريم) وحدها يقارب تفسيرها كلّ هذه السور مجتمعة، فتفسيرها استغرق نحو 134 صفحة، ومعلوم أنها بعد هذه السور في ترتيب سُوَر القرآن!

وهذه الهيكلة المضطربة والمشكِلة والتي لا علاقة بينها وبين طول السّور أو قِصَرِها، ولا بين تقدُّمِها في ترتيب المصحف أو تأخُّرِها =لا نكاد نجدها (على حدِّ عِلمي واطلاعي) في أيّ تفسير آخر.

4- التكلُّف أحيانًا في تفسير القرآن بالقرآن، بما لا يُعَدُّ تفسيرًا أصلًا؛ حيث يُورد الشنقيطي -رحمه الله- النصّ بلفظه ومعناه دون زيادة بيانٍ للقرآن بالقرآن، مثاله عند قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}[الجاثية: 6]، حيث يقول: «وما ذكره -جل وعلا- في آية الجاثية هذه، ذكره في آيات أُخَر بلفظه؛ كقوله تعالى في البقرة: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[البقرة: 252]، وقوله تعالى في آل عمران: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران: 108]»[32]، ومثل هذا لا يُعَدّ صنيعًا يبين به المراد أو نخلص من خلاله للمعنى المراد في الآية المبيَّنة.

كما أنّ الشيخ يتوسّع أحيانًا في ربط آيات بآيات في حين أن هذا الربط لا يتصل ببيان معنى الآية محلّ البيان في كبير شيء، ومثال ذلك عند تفسير قول الله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم: 19]، يقول الشيخ: «ذَكَر -جلّ وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنّ ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إنه رسول ربّها ليهب لها، أي: ليعطيها، {غُلَامًا} أي: ولدًا، {زَكِيًّا} أي: طاهرًا من الذنوب والمعاصي، كثير البركات. وبَيَّن في غير هذا الموضع كثيرًا من صفات هذا الغلام الموهوب لها، وهو عيسى -عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام- كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عمران: 45- 46]...»[33].

خاتمة:

استعرضنا فيما سبق فكرة تفسير القرآن بالقرآن عند الشيخ الشنقيطي، وبعد أن عرّفنا بتفسير الشنقيطي باختصار، سلّطنا الضوء على فكرة (بيان وتفسير القرآن بالقرآن عند الشنقيطي)، وكيف أنها تعتمد على بيان بعض آي القرآن من خلال القرآن وحده، وقد قُمنا بتقويم هذه الفكرة وبينَّا أنها فكرة غير صحيحة في ذاتها، وأيضًا سَلّطنا الضوء على جانب من الإشكالات في كتاب الشنقيطي، سواء ما اتصل بفكرة تفسير القرآن بالقرآن وصدوره عن هذه الفكرة أو غير ذلك مما ظهر لنا. ويطيب لنا في خاتمة هذا النقاش أن نؤكّد على الآتي:

أولًا: إنَّ الدعوة إلى ضرورة قراءة القرآن من خلال القرآن كما يشيع عند بعض المعاصرين، والاعتماد في تفسيره على أدوات داخلية نابعة من الفضاء القرآني ذاته؛ لا فَهْمه وتفسيره عبر مجموعِ توظيفِ أدوات داخلية كتتبّع سياقاته ونظائره وأسلوبه...إلخ، وأدوات خارجية كالسُّنّة النبوية ومرويات النزول وأقوال السّلف والمرويات الإسرائيلية...إلخ، وأنَّ هذا النوع من التفسير الداخلي للقرآن من شأنه -بحسب روّاد هذا المسلك- أن يضع بين أيدينا تفسيرًا قرآنيًّا خالصًا مبرءًا من الخلفيات والمشاغل الذاتية للمفسِّرين، ونقيًّا من أيّ تصوّرات وإسقاطات نابعة من فِعْلِ التاريخ والواقع ولا تتصل بالقرآن ذاته في شيء كما هو الحاصل في مدونة التفسير التي تعكس -من وجهة نظرهم- ألوان العصور وأطياف الحِقَب التي نتجت فيها = فإنّ هذه الدعوة برمّتها غير صحيحة وتحتاج إلى نقد ودراسة ومراجعة.

ثانيًا: في ضوء ما بينّاه من إشكال الصنيع التفسيري للشنقيطي، فإنه لا بد من إخضاع هذه المقاربة لمزيد من الفحص والتقويم، وكذلك بقية التفاسير التي تبنّتْ فكرة تفسير القرآن بالقرآن وعنونَتْ بها وحاولَت الانطلاق منها؛ حتى لا تتمدّد هذه المقاربات التفسيرية المشكلة في واقعنا المعرفي ويكثر الإقبال عليها، لا سيما في ضوء بريق عناوينها وعاطفية أهدافها ودفاعاتها عن القرآن الكريم.

وصلّى اللهُ على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

[1] الشنقيطي هو محمد الأمين بن محمد المختار، وُلِد سنة 1325هـ- 1907م في جمهورية موريتانيا، وتُوفي بالسعودية عام 1974م، وهو عالم معروف له سجلّ حافل بالدروس والمحاضرات، واللقاءات العِلْمية، والمباحثات النافعة، والتآليف القيّمة، يراجع في التعريف به: الشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي؛ حياته - جهوده في الدراسات القرآنية - أهم الدراسات حوله، تقرير منشور على مرصد تفسير تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3981.

[2] مقدمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (1/ 35).

[3] مقدمة أضواء البيان، (1/ 35، 56).

[4] راجع: مقدمة أضواء البيان، (1/ 35).

[5] مقدمة أضواء البيان، (1/ 35).

[6] راجع مقدمة أضواء البيان، (من ص36، إلى ص51). وسأذكر عبارته مع اختصار رعايةً لعدم التطويل.

[7] أريد أنْ ألفت النظر أنّ الترقيم 1-... إلخ، هو مِن عندي؛ أردتُ أن أحدّد وأعدّد أنواع البيان التي ذكرها ليتيسّر لحظها.

[8] مقدّمة أضواء البيان، (1/ 51).

[9] مقدّمة أضواء البيان، (1/ 44).

[10] التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، (1/ 31)، مكتبة وهبة- القاهرة، (د.ت).

[11] يراجع: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته: محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا، خليل محمود اليماني، تقرير منشور على مرصد تفسير تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871.

[12] يراجع: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، خليل محمود اليماني، ص14.

[13] يراجع: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، خليل محمود اليماني، ص15.

[14] وذلك في هذا التقرير المهم الذي قام به الباحث/ خليل محمود اليماني، والذي ذكرناه قبل، بعنوان: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته: محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا.

[15] علّق الباحث هاهنا بقوله: «ما يذكره ابن تيمية من مسوغ الرجوع للقرآن أولًا في بناء المعنى وأنّ ما أُجمل في موضع فُصِّل في آخر =هو كلام يتناسب بصورة ظاهرة مع واقع البحث في الأحكام، وأمّا في بناء المعنى التفسيري فليس الأمر كذلك، وهو أمر يظهر بأدنى نظر في التفاسير المشتغلة بالمعنى كتفسيري الطبري وابن عطية، وكذا في مقولات السَّلَف نفسها وكيف أن بناء المعنى لا يرتكز على مثل ذلك وإنما هو أمر تركيبي يتعالق في تقريره جملة أدوات متزامنة».

[16] علّق الباحث هاهنا، فقال: «فالتفسير الذي يمكن نقله من القرآن باعتباره من قبيل المنصوص عليه في القرآن يكاد يكون منعدمًا، وأمّا السنّة النبوية فالتفسير المباشر فيها ظاهر القلّة».

[17] يراجع: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية، خليل محمود اليماني، مركز تفسير، 1442هـ-2021م، ص88- 89. ويراجع أيضًا كلام الباحث/ خليل اليماني في تقريره: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، ص49- 50.

[18]أضواء البيان، (1/ 115).

[19] يراجع: منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، خليل محمود اليماني، ص61- 62.

[20] مقدمة أضواء البيان، (1/ 35).

[21] أضواء البيان، (4/ 208).

[22] مقدمة أضواء البيان، (1/ 50).

[23] مع التحفّظ عند البيان بالسُّنّة من حيث إنّ صحة الحديث وما ورد فيه من معنى فإنه ليس بالضرورة أن يكون هو التفسير الصحيح أو الراجح للآية؛ فقد صح حديث سليمان -عليه السلام-: (لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ...) الحديث، فقد اعتبر الشيخ الشنقيطي -وكذلك بعض المفسِّرين- أنه هو التفسير الصحيح لقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}[ص: 34]؛ وذلك لثبوت حديث سليمان -عليه السلام- في الصحيحين، ومعناه مقاربٌ لتأويل الآية؛ لذا فقد رجّح الشيخ أن الحديث هو التفسير الصحيح للآية، وردّ كافة الروايات الإسرائيلية التي وردت في كتب التفسير بخصوص هذا الآية وحكم ببطلانها. راجع: أضواء البيان، تفسير سورة الكهف [الآية: 23، 24]، (4/ 57). والصحيح الذي عليه المحقّقون أنه ليس التفسير الصحيح أو الراجح (للفتنة والجسد) المذكورَيْن في هذه الآية الكريمة.

[24] أضواء البيان، (2/ 112- 113).

[25] أضواء البيان، (1/ 70).

[26] أضواء البيان، (2/ 120).

[27]أضواء البيان، (1/ 116).

[28] أضواء البيان، (3/ 215).

[29] أضواء البيان، (3/ 216).

[30] والآيتان هما قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}[طه: 87- 88].

[31] أضواء البيان، (4/ 347- 348).

[32] أضواء البيان، (7/ 202).

[33] أضواء البيان، (4/ 169).

الكاتب

هشام أحمد محمد

حاصل على ليسانس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وشارك في عدد من المشروعات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))