دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمتحف (والترز) برقم (w.563.koran)
الولايات المتحدة الأمريكية
دراسة رسم المصاحف من الدراسات التي اعتنى بها العلماءُ عَبْر مكتوباتهم العلمية المختصّة بعلوم القرآن الكريم، التي تساعد القارئ والمتعلِّم على تسهيل فهم القرآن وقراءته، وأهمّ ما نستطيع أن نفهم من خلاله شكل رسم المصاحف وتطوُّره عبر الحِقَب التاريخية المتعاقبة هي النُّسَخ المخطوطة للمصاحف، التي تُعَدُّ كلّ واحدة منها قِيمةً تاريخيةً ناطقةً عن الزمن المكتوبة فيه.
وبين أيدينا نسخة من هذه النسخ النادرة سنحاول دراستها من جانبَين: مادي وعلمي.
أولًا: الجانب المادي:
1- بيانات الحفظ والورق والخط:
هذه النسخة من محفوظات متحف «والترز/Walters» في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت رقم قيد «w.563.koran» ممتدة على خمسمائة واثنتين وخمسين ورقةً، في عشرة أسطر للصفحة الواحدة. بخطّ ثُلُث جليّ، تامّ الجودة، كبير الحجم، واضح جدًّا، بمِداد أسود للنصّ، ومذهَّب وأبيض لفواتح السور، وأحمر للترجمة التركية التي بين الأسطر، والزُّرقة لعلامات الوقف والابتداء، ولفظ الجلالة بالذّهَب.
2- التجليد والزخرفة والتذهيب:
جُلِّدت النسخة بتجليد جِلْدي ذي وجهين ولسان، بُنّي اللون، تحيطه الصناديق المزخرفة بالشكل النباتي الملونة بالزُّرقة والذهب المضيء، ثم تَلَتْه أركان أربعة داخل إطار مذهّب، ثم صُرَّة في منتصفه، كذا مزركش بالنباتي ملوّن بالزُّرقة والصُّفرة المذهَّبة، ثم رُكِّب عليه تجليد آخر عليه نفس الزخرفة بالذّهب المطفيّ على أرضيّة بُنّية، وعلى كعبه: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون}.
وقد تميزت هذه النسخة بجمال الزخرفة التي زُيِّنت بها وامتدادها على كثير من الأوراق؛ فقد ابتدأت بأوّلها على ورقة فوائد في القراءات مكتوبة بالتركية زُيّنت بقلادة كبيرة تحيطها من أركان الورقة الأربعة شموس أربعة مزخرفة بالشكل النباتي المذهّب على خلفية زرقاء، مؤطَّرة بإطار ذهبي. زُخرِفَت القلادة بالزخرفات النباتية البديعة المزهَّرة الملونة بالحُمرة والذهب على أرضية زرقاء تحوي داخلها دائرةً ذهبية بخط مُنحنٍ مُعشَّقٍ، ثم دوائر مزخرفة بالنَّبْت والزهر تتعانق فيها الرسوم النباتية بالهندسية على أرضيات مختلفة بين أحمر فاتح وذهبي مضيء وأزرق يعلوه مزركشات بالخُضرة والحُمرة بخطوط ذهبية.
ثم ورقة فيها أسماء القرّاء السبعة ورواتهم على شكل مستطيل، متوَّج أعلاه وأسفله بزخرفات نباتية مذهّبة، تتلوها إطارات مذهبة مرسومة بالشكل الهندسي، ثم مسافة زرقاء تكسوها الأزهار المحمرّة على أرضية زرقاء بأشكال أوراق مشجّرة، بينها عواميد متوازية على شكل زوايا قائمة بينها دائرة مذهبة بأرضية سوداء، ثم لوحة تحتوي على أسماء القرّاء بخط ثلث جليّ كبير متداخل مذهّب على خلفية مرسومة بالزهر المذهب بأرضية حمراء فاتحة. وعلى شِقَّي هذا المستطيل الكبير اليمين والشمال قُبّتان مزخرفتان بالزركشات الذهبية والحمراء على خلفية زرقاء، تُحيطه قلائد أربع بنفس الزخرفة.
ثم لوحة استهلالية تُشبه سابقتها مع بعض التغيير الطفيف في توازي المستقيمات والقِباب، بداخلها أسماء القرّاء برموزهم، كَتَب الأسماءَ بالثلُث الجلي المذهب المتداخل، والرموز لونها بالزُّرقة.
ثم ورقة فيها شمسية كبيرة مزخرفة بالذهب والأشكال النباتية على أرضيات ذهبية وزرقاء بأشكال بديعة وزخرفات مصنوعة مذيَّلة، تحيطها أربع قلائد متداخلة الرسم متعانقة الشكل، ملونة بالزُّرقة والحُمرة والخُضرة والذّهَب مزهَّرة، مؤطَّرة بإطار ذهبي عريض.
ثم ورقة فيها الزخرفةُ عينُها إلا أنه استَبْدَل بالشمسية لوحةً مزخرفةً على شكل قلادة كبيرة بمنتصف الورقة، في زوايا الورقة أربع قلائد صغار بينها وبينهم أرضية ممتدة من الزهر وورق الشجر المذهّب، يحيطهم إطار مذهب ثخين.
ثم ورقة مزخرفة بالأشكال النباتية والهندسية المتداخلة المتعانقة الملونة بالزرقة والحمرة والخضرة المؤطّرة بالذهب والزرقة والأشكال النباتية، بأعلاها كتيبتان داخلهما بالذهب: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين}.
ثم ورقة مزخرفة بالأشكال النباتية المزركشة بأنواع الزركشات والمقرنصات المذهبة الملونة، وهي عبارة عن لوحة بديعة على شكل مستطيل أرضيته زرقاء مزهّرة بالأزهار الحمراء، تحيطها -داخل عواميد أربعة من أضلاعه- مُزركشات ورسومات مكتوب بداخلها سور: الفاتحة وأوائل البقرة، وتكررت في سورة الأعراف ومريم وص والفلق والناس، بخط ثلُث كبير بالذهب على أرضية سوداء مزيَّنة بالزهر المذهّب، بأعلاها وأسفلها كتيبتان مكتوب بهما اسم السورة وعدد آياتها ونوعها بخط ثلث جلي كبير مذهب. على جوانبها تِيجان مزركشة وقلائد متصلة بها زرقاء مذهبة.
ثم زُينت أوائل السور بكتيبات مذهبة مزخرفة بالشكل الهندسي النباتي المتداخل، مؤطرة بإطار أزرق مكتوب بها اسم السورة وعدد آياتها بالثلث الأبيض الجليّ، متصل بها قلادة مزخرفة مذيَّلة ملوّنة بالحمرة والزرقة والخضرة.
ورُسمت رؤوس الآيات بدوائر مطموسة بالذهب مجنَّحة بأعواد زرقاء دقيقة، يتوسطها نقطة حمراء، ثم قلائد وصناديق متوَّجة مزركشة مذهبة بالشكل النباتي الهندسي الملون بالذّهب والحمرة على خلفية زرقاء، بأشكال مختلِفة بديعة بها الخُموس والعُشور والأجزاء والأحزاب وأنصافها، وأُطِّرَت كلّ الأوراق بإطار مذهَّب وأزرق دقيق.
3- بيانات النَّسخ:
هذه النسخة لم تظهر عليها أيّ إشارة بالتصريح أو التلميح إلى زمن كتابتها؛ ولهذا فهي تقديرًا تَدُور بين القرن التاسع والعاشر.
4- حالة النسخة:
هذه النسخة بمُجملها سليمة من الآفات التي قد تُعرِّضها للتّلَف أو الإصابة بالاضطراب والخلل من أعراض الأرَضة أو الرطوبة أو البلل أو القطع والتمزُّق والتفكُّك، اللهم إلا أوّل أوراقها وآخرها فقد تَعرَّضت لبعض التمزق والرطوبة، مما استدعى ترميمًا غطَّى بعض أجزائها، وتأثَّر اليسير من أوراقها بالرطوبة التي خلَّفَتْها ألوانُ زخرفتها على الوجه الآخر لبعض أوراقها.
وهي نسخة تامّة من أول الفاتحة إلى آخر الناس، مع الفوائد التي في أولها، وقد ابتدَأ الترقيم من أوّل ورقة الفوائد برقم ثلاثة؛ مما يدلّ على أنه نقصَ من أوّلها ورقتان، وانتهى عند سورة الناس برقم خمسمائة وخمسين. وكنّا قد صوَّرْنا هذه النسخة منذ خمس سنوات، وكانت رُفِعَت بموقع المتحف بالإنترنت، وكان بها نقص قَدْر لوحة، فتواصلنا مع المتحف، وأرسلوها مشكورين، مع الاعتذار عن النقص الحاصل، والنسخة كما ترى تُحفة فنية.
«مثال على الورق المصاب بالرطوبة»
ثانيًا: الجانب العلمي:
1- الزوائد والفوائد التي على النسخة:
في أوائل النسخة خمس أوراق أولها مكتوب بالتركية فيها فوائد بعِلم القراءات، ثم في ورقتين أسامي القرّاء السبعة ورواتهم ورموز كلّ واحد منهم، ثم في ورقتين يوضّح المراد بعلامات الوقف والابتداء، سواء كان رأس آية أو إشارات أخرى مثل «ج» للجواز «لا» للمنع «ط» للإطلاق، ثم عن السكتات السبع في الفاتحة.
وعلى هوامش هذه الأوراق الأربع فائدة مختصرة عظيمة يجمع فيها أعداد وجوه الأداء بين السور وتفصيل الأقوال بين القرّاء في أعداد هذه الوجوه من أول الفاتحة إلى المدثر. مثالها: «سورة مريم {هل تحسّ منهم} إلى {والسموات العلى} مائة واثنان وثمانون وجهًا، لقالون ستة وتسعون، ولورش ثمانية، ولابن كثير ستة، وللدوري اثنان وثلاثون». وقد ذكرها عند كلّ سورة.
ثم في الورقة الأخيرة ورقة بها رموز تدل على معانٍ خفيّة لم أفهم المراد منها، ولعله كعادة النُّسّاخ يضعون في أواخر نُسَخِ المصاحف ما يدلّ على التفاؤل بالقرآن، وهي الأحرف الهجائية كلها، فيضع أمام كل حرف السّر الذي يخفيه وراءه أو يدل عليه. مثال ذلك مما كتبه: «ت: يتوب الله عليه، ث: يعلو اسمه في الدنيا والآخرة، ج: يتلقى راحةً من أقاربه أو غيرهم».
ثم على بعض الهوامش تعليقات مهمّة منسوبة في موضوع الباب، مثل تعليقه على قوله: {أم تسألهم خَرْجًا} علّق بخطّ دقيق على حافّة الإطار «قال أبو عمرو: قال {خَراجًا} بالألِف في بعض المصاحف، وفي بعضها {خَرْجًا} بغير ألِف، قال محمد بن عيسى عن نصير: وكتبوا {فخَراجُ} بالألف في جميع المصاحف إلا في مصحف الشام. ش»، وهو قريب من قوله ذاته في (المقنع)[1].
2- أوجه الخلاف بين القراءات في هذه النسخة:
امتازت هذه النسخة أنها وُضِعَت على هوامشها كلُّ الألفاظ التي فيها خلاف بين القرّاء، من أوّل الخلاف في الاستعاذة إلى آخر كلمة الناس، وأوجه هذه القراءات ونِسبتها لقرّائها، وترميزها وتلوينها كلّ وجهٍ على حِدَةٍ لئلا تختلط مع بعضها، وأعداد هذه الأوجه ونِسبتها لصاحبها.
مثال ذلك: {ثبُورًا ويصلى} أدغم بغير الغنة خلف، {ويُصَلَّى} بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي، {ويصلى} بالإمالة المحضة حمزة والكسائي، {ويصلى} بتغليظ اللام مع الفتح ورش في رواية، {ويصلى} بالترقيق مع الإمالة بَيْن بَيْن ورش.
3- أعداد الآيات المختلف فيها في النسخة:
ما زالت هذه النسخة متفقةً من أولها في أعداد الآيات المذكورة في فواتحها مع الأقوال المعروفة على اختلافها، وما زال يُلَفِّق بين الأقوال فيما بين سورة وأخرى، ثم تراه يذكر أعداد آيات غير متاحة في الأقوال ومخالِفة للأعداد الموجودة في السورة نفسها بعد التحقُّق؛ فمثلًا في سورة إبراهيم يذكر أنها خمس وأربعون آيةً في فاتحتها، وهو مخالف لجميع الأقوال التي تدور بين خمسين وآيةٍ، وخمسين وخمسٍ، وبعد العدِّ تراها اثنتين وخمسين وهو قول الكوفي فيها.
وفي سورة النحل عدَّها في فاتحتها مائةً وتسعًا وعشرين وهي بالإجماع مائة وثمان وعشرون، وقد عدَّ {يعلم ما يسرون وما يعلنون} الآيةَ: 23. وهي من المواضع التسعة المُجْمع على أنها مما يشبه الفواصل وليست رأس آية[2].
4- قيمة النسخة:
هذه النسخة من النُّسَخ النفيسة المتميزة لا لعامل قِدَمٍ أو يدِ ناسخٍ شهيرةٍ، إنما للفوائد التي تكسو هذه النسخة بشكلٍ غزيرٍ مما بيَّناه في الوصف المفصَّل سابقًا، بما يزيدها علوًّا في الرُّتبة والمنزلة.
خاتمة:
هذه النسخة فريدة من نوعها من حيث القِيمة العلمية التي حوَتْها؛ فقد حوَتْ أعداد وجوه الأداء وتقسيمها بين القرّاء، وتوسّع في أوجه الخلاف بين القراء مع نِسبة كلّ وجه لصاحبه، وتعليقات مفيدة ونِكات موضّحة لبعض الوجوه الخفيّة، ثم فوائد منثورة في أوّلها وآخرها، ولم يترك بين السطور فارغًا فمَلأه بترجمة تركية للنصّ القرآني.
ومن حيث القيمة الفنية لم يترك الناسخ لوحةً من لوحات هذا المخطوط الفاخر إلا وتذوَّقتَ فيه لذةً من رحيقِ فنونِ يَراعِهِ، ونشَرَ عليها عطرًا مِن عبَقِ دوحةِ اختراعه، فانتهى مَشْقُه ولما تَنتهِ حكاية مَشْقِه. والحمد لله رب العالمين.
[1] قال في المقنع: «{أم تسئلهم خراجًا} بألِف، وفي بعضها {خرجًا} بغير ألِف، وكتبوا {فخراج ربك} في جميع المصاحف بالألِف». ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (1/100).
[2] ينظر: البيان في عدّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة: الأولى، 1414هـ-1994م. ص(175).