تحرير مذهب الإمام الطحاوي في معنى الأحرف السبعة
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإنَّ من المشهور لدى العلماء أَنَّ الإمامَ الطَّحَاوي (ت: 321هـ) ممن ذَهَب إلى أنَّ معنى الأحرفِ السَّبْعَةِ هي سبعةُ ألفاظٍ مختلفة في النطق متّفقة في المعنى، وقد جرتِ العادةُ عند العلماء أَنْ يُذكرَ الطحاويُّ مع الطبري وغيره من القائلين بالكلمات المترادفة للمعنى الواحد، والذي يَظْهَرُ بعد طول تَأَمُّلٍ وتدقيق في كلام الطحاوي أنَّ مَذْهَبَهُ في تفسير الأحرف السبعة قد يكون أوسع من مذهب القائلين بالقراءة بالألفاظ المترادفة، وهو ما سنحاول تحريره في هذه المقالة، وليس غرضُنا بيانَ هذا المذهب صحةً أو فسادًا، وإنما التحقيق في صِحَّةِ ما نُسِبَ إليه في بيان معنى الأحرف السبعة، وذلك بالنَّظَرِ في أقواله في شَرح مُشْكِلِ الآثار تحقيقًا وتوفيقًا.
تمهيد[1]:
كان القرآنُ قد أُنزل على سبعة أحرف، وكان الصحابة إذا اختلفوا في القراءة يحتكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يستقرئ المتخاصمين ويُصَوِّبُ قراءةَ كلِّ واحدٍ منهم على اختلافها، ويرشدهم إلى رُخصة الأحرف السبعة توسِعة عليهم وتسهيلًا، وكان الصحابة قد فهموا معناها، فكانوا يقرؤون القرآن في ظِلِّ هذه الرُّخصة.
ثم شاء اللهُ أن يغيب معنى الأحرف السبعة عن القرون اللاحقة، فاختلف العلماءُ في تعيينها اختلافًا كبيرًا، إذْ لم يأتِ في ذلك نَصٌّ ولا أثر.
وسنستقصي في ما يأتي ذكرَ رأي الإمام الطحاوي، وبيان مذهبه في تحديد معنى السبعة الأحرف إن شاء الله، وقد وقع الاختيارُ على الطحاوي لأسبابٍ، منها:
1- مكانةُ الإمام الطحاوي، فهو «الإمام، العلامة، الحافظ الكبير، مُـحَدِّثُ الديار المصرية وفقيهها... ومن نَظَر في تواليف هذه الإمام عَلِمَ مَحَلَّه من العِلْم، وَسَعةَ معارفِه»[2].
2- أنَّ الإمامَ الطحاوي أبانَ عن مَذْهَبِه في معنى الأحرفِ السبعة، وفَصَّلَ القَوْلَ فيه، وأَسْنَدَ الأحاديثَ حُجَّةً لِمَا ذَهَبَ إليه، فهو في ما أرى يُعَدُّ من العلماءِ المتقدّمين الكِبَارِ الذين أسهموا في محاولةِ إيجاد بعضِ الحلولِ لِمُعْضِلَةِ الأحرفِ السبعة.
3- أنَّ معرفةَ الرأيِ الصحيح في ما ذَهَبَ إليه الطحاوي قد يكون مفيدًا في تحقيق ما قد يُنسَب لبعض العلماء من جواز قراءة القرآن الكريم بالمعنى في ظلّ رخصة الأحرف السبعة، فقد روى الذهبيُّ (ت: 748هـ): «وقال يونس بن محمد، حدثنا أبو أويس، سألتُ الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث، فقال: إنَّ هذا يجوز في القرآن، فكيف به في الحديث؟ إذا أصيب معنى الحديث، ولم يُحِلَّ به حرامًا، ولم يُحرّم به حلالًا، فلا بأس، وذلك إذا أُصيب معناه»[3]، ومعلومٌ أنَّ الزهري (ت: 124هـ) ممن يجيز روايةَ الحديث بالمعنى[4] .
نصوص العلماء في تحرير مذهب الإمام الطحاوي في معنى الأحرف السبعة:
يُلاحَظ أنه قد اشتهر عند بعض أهل العلم في مذهب الإمام الطحاوي في الأحرف السبعة أنها سبعةُ ألفاظٍ مختلفة في النطق متّفقة في المعنى، وفيما يلي نعرض لأقوال بعضهم في ذلك:
قال القرطبي (ت: 671هـ): «الأول وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عُيينة، وعبد الله بن وهب، والطبري، والطحاوي، وغيرهم: أنَّ المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ»[5] .
وكان ابنُ جرير الطبري ممن قَيَّدَ ذلك بسبعة ألفاظ في كلمةٍ واحدةٍ، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني[6]، وأما الطحاوي فلا يوجد في كلامه ما يدلّ على صحة نسبة هذا القول إليه، وهو ما سنحاول تحريرَهُ في المبحثِ التالي إن شاء الله.
وقال ابن كثير (ت: 774هـ): «فالأول، وهو قول أكثرِ أهلِ العلم، منهم: سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وأبو جعفر محمد بن جرير، والطحاوي: أنَّ المرادَ سبعةُ أوجهٍ من المعاني المتقاربةِ بألفاظٍ مختلفة، نحو: أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ... قال الطحاوي وغيره: وإنما كان ذلك رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبع لغات»[7].
وقال الزركشي (ت: 794هـ): «والخامس: المراد سبعة أوجه من المعاني المتّفقة، بالألفاظ المختلفة»، ونَقَلَ الزركشي عن ابن عبد البر (ت: 463هـ) أنَّ هذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث عند جمهور أهل الفقه والحديث، ومنهم ابن جرير الطبري (ت: 310هـ)، والطحاوي[8].
وقال الزرقاني (ت: 1367هـ): «القول التاسع: وهو أنَّ المراد بالأحرف السبعة أوجهٌ من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد، وإن شئتَ فقل: سبع لغاتٍ من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد، نحو: هَلُمَّ، وأقبلْ، وتعالَ، وعَجِّلْ، وأَسْرِعْ، وقصدي، ونحوي. فهذه ألفاظٌ سبعة معناها واحد هو طلب الإقبال، وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث منهم: سفيان، وابن وهب، وابن جرير الطبري، والطحاوي»[9].
وقال الدكتور حسن ضياء الدين عتر: «المذهب الثاني: يُراد بالأحرف السبعة في الحديث أنَّ القرآن أُنزل على سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بالألفاظ المختلفة... وإليه ذَهَب أكثر أهلِ العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وابن عبد البر، والطحاوي وغيرهم»[10] .
وقال الدكتور فهد الرومي: «القول الثاني: هو ما ذهب إليه أكثر العلماء، ومنهم سفيان... وابن جرير الطبري، والطحاوي، وغيرهم. وهو: أنَّ المرادَ بالأحرفِ السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد»[11].
وقال الدكتور محمد صفاء حقي: «القول الأول: أن المراد سبع لغات متّفقة المعاني مختلفة الألفاظ، كقولك: هَلُمّ، وتعال، وأَقْبِل، وإِليَّ، ونحوي، وقصدي، وقُرْبِي. وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، والطحاوي، وهو اختيار ابن جرير الطبري في مقدمته»[12].
نصوص الإمام الطحاوي في معنى الأحرف السبعة:
وَرَدَتْ هذه النصوص في سياق حديثه عن معنى نزول القرآن على سبعة أحرف في كتابه (شرح مشكل الآثار)، ولم أقِفْ على نُصُوصٍ مُتَعَلِّقَةٍ بمذهبه في معنى الأحرف السبعة في مؤلّفاته الأخرى.
قال الإمام الطحاوي:
1- «وكان يَشُقُّ عليهم حفظُ ما يقرؤه عليهم بحروفه التي يقرؤه بها عليهم، ولا يتهيّأ لهم كتابُ ذلك، وتحفّظهم إياه، لما عليهم في ذلك من المشقّة... فَوَسَّعَ عليهم في ذلك أن يتلوه بمعانيه، وإن خالفت ألفاظُهم التي يتلونه بها ألفاظَ نبيهم صلى الله عليه وسلم التي قرأه بها عليهم، فوسّع لهم في ذلك بما ذكرنا»[13].
2- «وعقلنا بذلك أنَّ السبعةَ الأحرفَ... هي الأحرفُ التي لا تختلف في أمر، ولا في نهي، ولا في حلال، ولا في حرام، كمثل قول الرجل للرجل: أَقْبِلْ، وقوله له: تعال، وقوله له: ادْنُ»[14].
3- «السبعة الأحرف هي السبعة التي ذكرنا، وأنها مما لا يختلف معانيها، وإن اختلفت الألفاظُ التي يتلفّظ بها، وأنّ ذلك كان توسعةً من الله -عز وجل- عليهم، لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه، وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة»[15].
4- «وكانت هذه السبعةُ للناس في هذه الحروف في عجزهم عن أخذ القرآن على غيرها مما لا يقدرون عليه... وكانوا على ذلك حتى كَثُرَ من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتُهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقووا بذلك على تـَحَفُّظِ القرآن بألفاظه التي نزل بها، فلم يَسَعْهُمْ حينئذٍ أن يقرؤوه بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف، إنما كانت في وقتٍ خاصّ لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورةُ، فارتفع حُكْمُ هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حَرْفٍ واحد»[16].
أَوْضَحَ نَصُّ كلام الطَّحَاوي ما يلي:
1- أنَّ الصحابةَ كان جائزًا لهم أنْ يقرؤوا القرآن بالمعنى توسعةً عليهم وتسهيلًا، وَيَدُلُّكَ على ذلك قوله: «فوسّع عليهم في ذلك أن يتلوه بمعانيه»، وقوله: «والعجز منهم عن حفظ الحروف بعينها»، وقوله: «وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة»، وقوله: «فقووا بذلك على تـَحَفُّظِ القرآن بألفاظه التي نزل بها».
2- أشار الطحاوي إلى أنَّ سببَ هذا التيسير هو قلّة الكتابة فيهم، وعجزهم عن حفظ القرآن على اللفظ الـْمُنَزَّل.
3- أنَّ رخصةَ الأحرفِ السبعة كان توسعةً عليهم لحاجتهم إلى ذلك في أول الأمر، ثم نُسِخَتِ الرخصةُ بزوال العذر والضرورة، ويدلّ عليه قوله: «وبان بما ذكرنا أنَّ تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاصّ لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد».
4- المفهوم من صريح كلامه أنه لم يُقَيِّدْ ذلك بسبعةِ ألفاظٍ في كلمةٍ واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كما فَعَل الطبري وغيره ممن جَنَح إلى هذا الرأي، ولعلّ قوله: «وعقلنا بذلك أنَّ السبعةَ الأحرفَ... هي الأحرفُ التي لا تختلف في أمر، ولا في نهي، ولا في حلال، ولا في حرام، كمثل قول الرجل للرجل: أَقْبِلْ، وقوله له: تعال، وقوله له: ادْنُ»، واستدلاله بحديث أبي بكرة في هذا المعنى هو ما حَمَلَ العلماءَ على تفسير رأيه وفق مذهب الإمام الطبري، وليس في هذا النصّ ما يَدُلُّ على أنَّه أراد التعيين والتقييد، وإنما أراد ضربَ المثل وتقريبَ الصورة، وإذا كان قوله هذا محتمَلًا، فالأولى حَمْلُ المحتمَل من كلامه على الـمُحْكَمِ الصَّريح.
ومما قد يُعترض به على قولنا إنَّ الطحاوي لم يرد التعيين والتقييد، قوله في توجيه حديث سَمُرة في نزول القرآن على ثلاثة أحرف: (فيحتمل أنْ يكونَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كان بين إطلاق عددٍ له من هذه الحروف أن يقرأ القرآن عليه يعلم ذلك الناس، ويخاطبهم به، ليقفوا على ما كان من رحمة الله -عز وجل- لهم، وتوسعته عليهم فيما يقرءون القرآن عليه، فيسمع سمرة منه الحروف التي كان أطلق حينئذٍ أن يقرأ القرآن عليها وهي يومئذ ثلاثة أحرف لا أكثر منها، ثم مضى، ثم أطلق للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ القرآن على أكثر من ذلك إلى تتمة سبعة أحرف، فلم يسمع ذلك سمرة، فروى ما سَمِع، وَقَصَّرَ عما فاته منها مما قد سمعه غيره)[17].
والذي يظهر لي أنَّ قولَه هذا محتمل، ولكنه غير صريحٌ في نظري، لأنَّ تقييدَ رُخْصَةِ القراءةِ بالمرادف -للضرورة- بسبعة ألفاظٍ ينافي عِلَّةَ التيسيرِ والتخفيفِ التي أشار إليها في صريح كلامه، إذْ يَلْزَمُ من التقييد أَنْ يَعُدَّ القارِئُ ما يـَحْضُرُهُ من الألفاظِ المترادفة كي لا يقع في محظور تجاوز سبعةِ مرادفات! وقد يُرَدُّ عليه بأَنْ يُقال إنَّ مَنطوقَ كلام الطحاوي هنا ظاهرٌ في أنَّ العددَ مقصودٌ، وأَنَّ عدمَ تحديد العدد ليس منطوقًا له، وإنما هو مقتضى قوله بالتوسعة والرخصة، وما يُؤخذ من المنطوق مُقَدَّمٌ على دلالةِ الاقتضاء، وعليه يبقى الإشكالُ قائمًا في تنافي الرخصة مع التحديد بالعدد سبعة.
وإذا صَحَّ أَنَّه أراد حقيقةَ العَدَد سبعة، فيُحمل كلامُهُ على أنَّه قَيَّدَ الرُّخْصَةَ بتخيير القارئ أنْ يقرأ باللفظ الذي يَحْضُرُهُ من المرادفات، وأنَّ غايةَ ما يصل إليه سبعة مرادِفات، وأَنَّ قراءتهم -للضرورة- في ظلِّ هذه الرخصة لم تكن من الوحي الـمُنَزَّل، وعليه فلا يَصِحُّ ذِكْرُهُ مع مذهب القائلين بالألفاظ المترادفة، لأنهم لم يقولوا بقوله من جهة أنَّ المقروءَ في ظِل الرخصةِ لم يَكُنْ مِنَ اللفظ المنزل، سواء أراد حقيقةَ العدد أم لم يُرِدْ ذلك.
5- أنَّ رُخصةَ الأحرفِ السبعةِ مصدرها الوحي، وأما قراءات الصحابة بالمرادف أو بالمعنى فهي مما أذِن فيه، وأنّ قراءتهم في ظلّ هذه الرخصة لم تكن من الوحي المنزل، ويدلّ على ذلك قوله: «وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة»، وقوله: «وكانوا على ذلك حتى كَثُرَ من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتُهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقووا بذلك على تـَحَفُّظِ القرآن بألفاظه التي نَزَلَ بها».
وظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ ما نَتَجَ عن هذه الرخصة من قراءاتٍ في زَمَنِ التَّنزيل كان بتوقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم ومما أَذِنَ فيه وإن لم تكن تلك الحروف من الألفاظ التي نَزَلَ بها الوحي.
مذهب الإمام الطحاوي في اشتمال صحف أبي بكر ومصاحف عثمان على الأحرف السبعة:
ذَهَبَ الطحاوي إلى أنَّ صُحُفَ أبي بكر كُتِبَتْ على حرفٍ واحدٍ: «ومما يدلّ على عود التلاوة إلى حرف قبلهما واحد بعدما كانت قبلَ ذلك على الأحرفِ السبع التي ذكرنا ما قد كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من جمعه القرآن واكتتابه في ما كان اكتتبه فيه»[18].
ويرى كذلك أنَّ المصاحفَ العثمانية كانت خاليةً من آثار رخصة الأحرف السبعة، وأنها كُتِبَتْ على حَرْفٍ واحد، ويدلّ عليه قوله: «وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف، إنما كانت في وقتٍ خاصّ لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورةُ، فارتفع حُكْمُ هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حَرْفٍ واحد».
والطحاوي يرى أنَّ قراءاتِ القرّاء هي مما نَزَلَ به الوحيُ جميعًا، وأنَّ اختلافَ القراءات سَبَبُهُ اختلاف عَرْضَاتِ جبريل، وأنَّ النسخَ وَقَعَ في هذه العرضات، وأنَّ الصحابةَ ثَبَتوا على القراءةِ على ما عَلِموا وعلى ما حضروا: «ثم احتمل اختلافُهم في الألفاظ بهذه الحروف أَنْ يكونَ أحَدُهُم حَضَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها، فأخذها عنه، كما سمعه يقرأ بها، ثم عرض جبريلُ صلى الله عليه وسلم عليه القرآنَ فَبَدَّلَ بعضَها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس القراءةَ التي رَدَّ جبريلُ صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ منها قبلَ ذلك إلى ما قرأه عليه بعده، فحضر من ذلك قومٌ من أصحابه، وغاب عنه بعضهم، فقرأ من حضر ذلك ما قرأ من تلك الحروف على القراءة الثانية، ولم يعلم بذلك من حضر القراءة الأولى، وغاب عن القراءة الثانية، فلزم القراءة الأولى، وكان ذلك منه كمثل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام مما نسخه الله تعالى بعد ذلك على لسانه بما نسخه به، ومما وقف بعضُهم على الحكم الأول، وعلى الحكم الثاني، فصار إلى الحكم الثاني، وغاب بعضُهم عن الحكم الثاني ممن حضر الحكمَ الأول وَعَلِمَه، فَثَبَتَ على الحكم الأول... والقراءات كلّها فعن الله تعالى لا يجب تعنيف من قرأ بشيء منها وخالف ما سواه»[19].
وَيَظَهَرُ أنَّ الطحاوي يُفَرِّقُ بين رخصةِ الأحرف السبعة والقراءات، ولعلّه أرادَ الإشارةَ إلى أنَّ من القراءاتِ ما هو وحيٌ وتوقيف، ومنها ما هو من آثار الرخصة، وأنَّ صُحُفَ أبي بكر ومصاحفَ عثمان كانتْ خاليةً من آثار تلك الرخصة.
ولعلّنا نَذْكُرُ مثالًا على ما كان من آثار تلك الرخصة في قراءات الصحابة، فقد رُوِيَ أَنَّ أُبيَّ بن كعبٍ كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20]: مَرُّوا فيه، سَعَوا فيه[20]. فهذه القراءة ونحوها -عند الطحاوي- محمولةٌ على أنَّ ذلك كان مُرَخَّصًا لهم تيسيرًا عليهم، ثم نُسِخَتِ الرخصةُ بعد ذلك، ولذلك لم يَكْتُبْها الصحابةُ في مصاحفِ عثمان.
وخلاصة القول:
أنَّ الإمامَ الطحاوي يُفَسِّرُ رخصةَ الأحرف السبعة بأنه كان جائزًا للصحابة أن يقرؤوا القرآن بالمرادف أو بالمعنى في زمن التنزيل، ويحتمل أنه لم يقيد ذلك بسبعة ألفاظ في كلمةٍ واحدةٍ، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني كما فَعَل الطبري وغيره ممن جَنَح إلى هذا الرأي، وأنَّ ذلك كان في وقتٍ خاصّ لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك، ثم نُسِخَتِ الرخصةُ بزوال العذر والضرورة، وأنَّ صُحُفَ أبي بكر ومصاحفَ عثمانَ كُتِبَتْ على حرفٍ واحدٍ، وأنَّه يـَحْمِلُ اختلافَ القراءات على وقوع النسخ في عرضاتِ جبريل عليه السلام، فكانَ كُلٌّ يقرأ على ما عَلِمَ وعلى ما حَضَر.
خاتمة:
عالجنا في هذه المقالة رأي الإمام الطحاوي -رحمه الله- في الأحرف السبعة، وبينّا خلاصة ما بدا لنا من رأي هذا الإمام وأنّ رأيَهُ قد يكون مخالفًا لما هو مشتهر عنه في كثير من الدراسات، الأمر الذي يبيّن لنا أهمية متابعة تحرير آراء العلماء في المسائل الكبرى، وأن الأقوال السيَّارة المشتهرة في التعبير عن آرائهم قد تكون مشكِلة أحيانًا، وغير صحيحة النسبة إليهم.
[1] تم إجراء بعض التعديلات على المقالة بتاريخ ٢٠/ ٦/ ٢٠٢١م بناء على طلب الكاتب. (موقع تفسير).
[2] سير أعلام النبلاء، الذهبي (15/ 27).
[3] سير أعلام النبلاء، الذهبي (1/ 347).
[4] ينظر: الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي (2/ 22)، وَلَعَلَّ اللهَ ييسر لي كتابَةَ مقالةٍ مختصرة في توجيه عبارة الإمام الزهري في ضوء قاعدة أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَة.
[5] الجامع لأحكام القرآن (1/ 72).
[6] ينظر: تفسير الطبري (1/ 45، 52).
[7] فضائل القرآن، (ص133).
[8] ينظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي (1/ 220).
[9] مناهل العرفان (1/ 164).
[10] الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها (ص168)، وينظر في ما ذهب إليه في تحرير مذهب الطبري (ص173).
[11] دراسات في علوم القرآن (ص387).
[12] علوم القرآن من خلال مقدمات التفسير (2/ 320).
[13] شرح مشكل الآثار، الطحاوي (8/ 118).
[14] شرح مشكل الآثار، الطحاوي (8/ 121).
[15] شرح مشكل الآثار، الطحاوي (8/ 124).
[16] شرح مشكل الآثار، الطحاوي (8/ 125).
[17] شرح مشكل الآثار، (8/ 136).
مواد تهمك
- قراءة نقدية لتأصيل ابن تيمية لتوظيف الإسرائيليات في التفسير (3-3)
- الفلسفة والقرآن (2-2)
- هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
- الطبري وبيان معاني الأسماء الحسنى في سياقاتها القرآنية (1): الأسماء الحسنى المفردة
- "الإسرائيليات في تفسير الطبري" للدكتورة آمال ربيع؛ عرض وتقويم
- {فَقَد صَغَت قُلوبُكُما} تفسير الآية الرابعة من سورة التحريم عند الفراهي وإصلاحي