الخطيب الشربيني، وتفسيره السراج المنير

يُعَدّ تفسير الخطيب الشربيني من التفاسير التي اعتنتْ بالجانب اللغوي للقرآن الكريم، وهذا المقال يُعَرِّف بالخطيب، ويلقي الضوء على تفسيره، وأبرز ملامح منهجه، ويُبَيِّن أثّر العمق اللغوي عند الشربيني على اختياراته العقديّة والكلامية، وتوجيه القراءات القرآنية، واستنباط الأحكام.

تمهيد[1]:

  يُعَدّ الخطيب الشربيني من العلماء الموسوعيّين في العلوم الشرعية والعربية؛ حيث ترك تراثًا علميًّا كبيرًا، متنوعَ المشارِب ومتعدّدَ الفنون، وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنه كان صاحب عقلية علميّة فذّة في زمانه؛ فقد كَتَبَ في علم العقيدة وفي الفقه وفي التفسير وفي النحو والصرف وفي البلاغة.

وصاحبُ هذا التراث المتعدّد المتنوّع لا بد أن يكون صاحب نَفَسٍ طويل ونَفْسٍ صَبُورة في طلب العلم والمثابرة على تلقّيه من مظانّه الأساسية، ولا عَجب في ذلك بالنسبة للشربيني؛ فقد نقل الشعراني أنه -رحمه الله- «لم يزل مُكِبًّا على الاشتغال بالعلم والعمل به وتعليمه للناس، ولا يُرَى إلا في مطالعة علمٍ أو صلاةٍ أو قراءةٍ أو صيامٍ»[2].

وربما تكون شهرة الشيخ باعتباره فقيهًا شافعيًّا طغتْ على غيرها من التخصّصات التي ترك الشيخ فيها منجَزات مهمّة تضعه في مصافِّ أهلها؛ ففي اللغة له مساهمة واضحة من حيث المصنفات التي تحمل شخصية لغوية متميزة، أما في الفقه فهو ابن بَجْدته وأحد أعلام الشافعية في عصره، وفي العقيدة وعلم الكلام له آراؤه واختياراته، كما له مصنّف فيه، ثم يأتي التفسير الذي تنصهر في بوتقته كلّ هذه العلوم لتخدم كتاب اللهِ -عز وجل- بيانًا وتفصيلًا وشرحًا وتوضيحًا من خلال تفسيره: (السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير)؛ حيث تجد اللغة هي مفتاح التفسير، والآراء الفقهية المبثوثة في مظانّها في كتاب الله تعالى، خاصّة في آيات الأحكام، ومسائل العقيدة والإيمان تنسال في التفسير بلغة سهلة واضحة منطلقة من عقيدة أهل السنة والجماعة.

وفي هذا المقال سنلقي الضوء على تفسير الخطيب الشربيني ومنهجه فيه، ونركّز على المفتاح الذي استصحبه الشربيني في طَرْقِه لكلّ هذه الأبواب في أثناء تفسيره لكتاب الله تعالى؛ ألا وهو باب اللغة؛ حيث وظَّف الشربيني مهاراته اللغوية في تفسيره توظيفًا واضحًا جليًّا؛ ففتحَتْ له آفاقًا رحبة في فهمه للآيات وتوليد المعاني المتعدّدة حسب التوجيهات اللغوية وتنوّعها واختلافها، كما استنبط بعض الأحكام الفقهية في تفسيره من خلال التوجيه اللغوي، وأيضًا كانت له اختياراته العقدية والكلامية بناء على التوجيهات اللغوية وردوده على أهل البدع والأهواء، وفي القراءات القرآنية كانت له تخريجاته واختياراته المبنية على أصول لغوية. وكلّ هذا سنشير إلى أمثلة عليه في السطور التالية بما يسمح به طبيعة المقام ومساحة المقال.

لكن قبل هذا سنلقي الضوء سريعًا على لمحة من حياة الشيخ وتفسيره.

الشربيني؛ سيرة ومسيرة:

هو الشيخ الإمام العالم العلامة الهمام الخطيب شمس الدين محمد بن أحمد الشربيني القاهري الشافعي.

ذكر صاحب (الخطط التوفيقية) أن (الشربيني) نسبة إلى مدينة (شربين) التي وُلِد فيها، وكانت تابعة آنذاك لمحافظة (الغربية)، وهي الآن تابعة لمحافظة (الدقهلية)[3].

وأطلق عليه أيضًا (القاهري)؛ لأنه أقام بعد ذلك في القاهرة، فقد نقل الشعراني أنه كان من عاداته -رحمه الله- «أن يدخل الجامع الأزهر من أول ليلة الصيام؛ فلا يخرج من الجامع إلا بعد صلاة العيد»[4].

أما مولده فلم تُشِر إليه كتب التراجم، ويرجَّح أنّ مولده كان في نهايات القرن التاسع الهجري أو بدايات القرن العاشر؛ ذلك لأنّ من أوائل شيوخه الذين تتلمذ عليهم هو الشيخ زكريا الأنصاري، والشيخ زكريا تُوفي سنة 927هـ؛ ويُستنبط من ذلك أنّ مولد الشربيني كان قبل هذا التاريخ بفترة زمنية تصلح لتلمذته وأخذه عن الشيخ زكريا.

تتلمذ الشيخ الشربيني على عدد من علماء عصره كما ذكرتْ كتب التراجم، على رأسهم: الشيخ زكريا الأنصاري، والشيخ نور الدين المحلي، والشيخ أحمد البرلسي الملقب بـ(عميرة)، والشيخ شهاب الدين الرملي.

كما تتلمذ أيضًا على الشيخ نور الدين الطهواني، والشمس محمد بن عبد الرحمن بن خليل النشلي الكردي، والبدر المشهدي، والشيخ ناصر الدين الطبلاوي، وغيرهم، وأجازوه بالإفتاء والتدريس، فدرَّس، وأفتى في حياة أشياخه، وانتفع به خلائق لا يحصَون، كما ذكر صاحب (شذرات الذّهب).

وقد أجمعتْ كتب التراجم على أن وفاته -رحمه الله- كانت بعد عصر يوم الخميس الثاني من شعبان سنة سبع وسبعين وتسعمائة هجرية (977هـ)، الموافقة لسنة سبعين وخمسمائة وألف ميلادية (1570م).

تفسير السراج المنير:

هو: (السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير).

وهو من التفاسير التي لم يُكتب لها الذيوع والانتشار إلا في أوساط المثقفين والمهتمين بعلم التفسير؛ نظرًا لعدم اهتمام الباحثين والمحقّقين بتحقيقه وإخراجه في حُلّة تليق به وبصاحبه حتى وقتٍ متأخّر، رغم ما حواه التفسير من علوم متعدّدة وفنون متنوّعة، لو وجد من يحمله إلى عامة المثقفين والباحثين لحجز له مكانًا متميزًا في مكتباتهم.

ويلخّص الشيخُ نفسُه أهميةَ تفسيره ومكانته فيقول في مقدمته: «فدونك تفسيرًا كأنه سبيكة عسجد، أو درّ منضد، جمع من التفاسير معظمها، ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها، محرّر الدلائل في هذا الفنّ، مظهرًا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جَنّ».

وقد صنّف الشيخ محمد حسين الذهبي تفسير (السراج المنير) تحت قسم (التفسير بالرأي الجائز). ثم علق عليه قائلًا: «وقد قرأتُ في هذا التفسير فوجدته تفسيرًا سهل المأخذ، ممتع العبارة، ليس بالطويل المملّ ولا بالقصير المخلّ، نقل فيه صاحبه تفسيرات مأثورة عن السلف، كما أنه يذكر -أحيانًا- آراء من سبقه من المفسّرين كالزمخشري والبيضاوي والبغوي، وقد يوجّه ما يذكره من هذه الأقوال ويرتضيها وقد يناقشها ويرد عليها»[5].

ويمكن إجمال الملامح العامة لمنهج الشيخ في التفسير فيما يلي:

1- سهولة العبارة ووضوح الفكرة.

2- التعرّض للأحكام الفقهية في مظانّها من الآيات.

3- الرّد على الفرق الكلامية وبعض الضلّال والزنادقة.

4- النقل عن السابقين؛ وهو ما أتاحه له مجيئُه متأخرًا، فهو كثير النقل عن ابن عطية والزمخشري والبيضاوي وأبي حيان.

5- الاهتمام بالأوجه اللغوية المتعدّدة في القضية الواحدة.

6- الاعتداد بالقراءات المشهورة والاقتصار على المتواتر منها، إلا في موضع واحد نَصّ عليه[6].

7- ذكر معلومات وافية عن كلّ سورة في بداية تفسيرها.

8- تخريج الأحاديث الواردة في فضائل السور، وتمييز هذه الأحاديث من حيث الصحة والضعف.

9- كثرة الاستشهاد بالشِّعر في أثناء توضيح بعض المعاني في تفسيره، سواء كانت معانيَ لغوية أم توجيهات نحوية أم لطائف بلاغية.

اللغة والتفسير عند الشربيني في السراج المنير:

ترك الشربيني -رحمه الله تعالى- تراثًا لغويًّا متميزًا يضعه في مصافّ اللغويين في عصره؛ حيث ترك في النحو والصرف مصنّفات مثل: فتح الخالق المالك في حلّ ألفاظ ألفية ابن مالك، مغيث الندا شرح قطر الندى، نور السجية في حلّ ألفاظ الآجرومية في النحو، الفتح الرباني في حلّ ألفاظ تصريف عز الملة الزنجاني. كما ترك في علم البلاغة: تقريرات على المطوّل في البلاغة.

كان لهذا الفكر اللغوي للشيخ الذي أنبأت عنه هذه المصنفات تأثيره الواضح في تفسيره للقرآن الكريم؛ حيث تبدو ثقافته اللغوية من خلال كثرة التوجيهات النحوية للآيات القرآنية، وتوظيفه ذلك في استنباط معاني الآيات؛ فهو يأخذ من الإعراب ما يعينه على فهم الآيات وتحليل التراكيب القرآنية، وهو ظاهر التأثّر بالزمخشري في (الكشاف) والبيضاوي في (أنوار التنزيل)، كما أنه يتميز بدقة العبارة -كعادة الفقهاء- وإيجازها، كما يلاحظ من خلال تفسيره سعة اطلاعه على آراء النحاة والمفسرين والمعربين؛ فهو كثيرًا ما يشير إلى آراء سيبويه وابن مالك وابن هشام وأبي حيان وغيرهم من مشاهير اللغويين.

وقد ذكر الشربيني في مقدمة التفسير منهجه اللغوي، قائلًا: «...مقتصرًا على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلّها كتب العربية، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوة مداركها، أو لورودها ولكن بصيغة (قيل) ليعلم أن المرضي أولها»[7].

ويمكن تلخيص الملامح العامة لمنهج الشربيني اللغوي في التفسير فيما يلي:

أولًا: الاعتماد على الدلالة اللغوية كأصل من أصول التفسير:

اهتم اهتمامًا واضحًا بالإعراب وتقليب الأوجه الإعرابية المختلفة في بيان المعاني وإيضاحها؛ فنادرًا ما تخلو آية من وجه إعرابي، أو نكتة لغوية، أو لطيفة نحوية؛ فربما أشار للوجه الإعرابي إشارة سريعة، وربما وقف وأطال وذكر أقوال العلماء واختلافاتهم، وربما رجّح هو أحدها، أو اكتفى بذكرها فقط.

ثانيًا: توظيف اللغة في الانتصار لعقيدة أهل السنة:

تتضح في التفسير ملامح عقيدة الشيخ المنتمية لمنهج أهل السنة والجماعة، والمدافعة عنه بكلّ الوسائل، بما فيها اللغة وتوجيهاتها التي استخدمتها الفِرَق المختلفة للانتصار لمعتقداتها. وهذا واضح جلي في الكثير من المواضع في التفسير، ونذكر مثالًا على ذلك وهو:

من الأمور الخلافية بين أهل السنة والجماعة وبعض الفِرَق الكلامية -مثل المعتزلة- ثبوت رؤية الله عز وجل؛ فالمعتزلة ينفون رؤية الله -عز وجل- مطلقًا، ومن أدلتهم قول الله تعالى لنبيه موسى -عليه السلام- حينما طلب من الله أن يمكّنه من رؤيته فقال له تعالى: ﴿لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]؛ فهم يرون أن (لن) هنا تفيد تأبيد النفي في الدنيا والآخرة، ولكن عقيدة أهل السنة والجماعة هي أن رؤية الله ثابتة، وأن (لن) لا تفيد تأبيد النفي.

وقد انتصر الشربيني لرأي أهل السنة، مرجحًا عدم إفادة (لن) التأبيد؛ حيث يقول: «...فإن أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا: (لن) تكون لتأبيد النفي، وهو خطأ؛ لأنها لو كانت للتأبيد للزم التناقض بذكر (اليوم) في قوله تعالى: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: 26]، ولزم التكرار بذكر (أبدًا) في قوله تعالى: ﴿وَلَن يَّتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: 95]، ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ [يوسف: 80].

وأما تأبيد النفي في قوله تعالى: ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ [الحج: 73]، فلأمر خارجي لا من مقتضيات (لن).

ولا تقتضي تأكيد النفي أيضًا، خلافًا للزمخشري في كشافه؛ بل قولك: لن أقوم يحتمل لأنْ تريد به أنك لا تقوم أبدًا، وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة، وهو موافق لقولك: لا أقوم في عدم إفادة التأكيد»[8].

ثالثًا: استنباط الأحكام الفقهية تبعًا للتوجيه النحوي للآيات:

نظرًا لخلفيّة الشيخ الفقهية فقد ظهر ذلك جليًّا في توجيهه للآيات التي تشتمل على أحكام فقهية؛ حيث حرص على استنباط الأحكام من تلك الآيات، وهناك بعض الآيات التي كان للتوجيه اللغوي لها دور في استنباط الأحكام، ومن ذلك استنباطه أحكامًا متعدّدة حسب القراءات الواردة في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ [المائدة: 6]؛ حيث قال: «(وأرجلكم) قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفًا على (وجوهكم)، وقيل: على (أيديكم)[9].

والباقون بالكسر على الجوار، ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخفّ، وعطف على المنصوب على قراءة النصب على المغسول ليفيد غسل الرِّجْل المتجرّدة منه؛ فيفيد كلّ من القراءتين غير ما أفادته الأخرى»[10].

ومن اللطائف التي تدلّ على عقلية فقهية لغوية متميزة عند توجيهه قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ [البقرة: 264]؛ حيث قال: «(تراب)، والتراب معروف، وهو اسم جنس لا يُثنى ولا يُجمع. وقال المُبَرِّد: هو جمع، واحده ترابة. وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته: (أنت طالق عدد التراب) أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح، وثلاث على الثاني»[11].

رابعًا: التوجيه النحوي للقراءات القرآنية:

اهتم الشربيني بالقراءات القرآنية وتوجيهها في تفسيره، وقد اقتصر فيها -كما ذكر هو- على السبع المتواترة. ويمكن تلخيص موقفه النحوي من القراءات القرآنية فيما يلي:

أ- توجيه القراءة والاستشهاد لها:

أي يوجه القراءة نحويًّا؛ فيتلمّس لها من الأوجه النحوية والدلالية ما يجعلها محلًّا للقبول ويدفع ما يُحتمل من غرابة فيها، وربما يلجأ في ذلك إلى التأويل، يتّضح ذلك على سبيل المثال في توجيهه لقراءة ابن كثير في قول الله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: 37]؛ حيث يقول: «وقرأ ابن كثير بنصب (الميم) من (آدم) ورفع (التاء) من (كلمات) على أنها تلقته. والباقون برفع (الميم) وكسر (التاء)، والكسر هذا علامة النصب؛ لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة»[12].

ب- الدفاع عن القراءة ضدّ هجوم بعض النحاة:

من مواقف الشربيني تجاه القراءات المتواترة دفاعه عنها ضدّ هجوم بعض النحاة البصريين؛ فخطَّأهم فيما ذهبوا إليه من ردّ بعض القراءات تماشيًا مع قواعدهم التي وضعوها، ويتّضح ذلك جليًّا من موقفه من أشهر القراءات التي نشب بسببها خلاف بين البصريين والكوفيين، وكان موقفه فيها جميعًا هو الوقوف في صف القرّاء وتعضيد موقفهم برأي الكوفيين وبما ورد عن العرب من شواهد نثرية أو شعرية.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك موقفه من قراءة حمزة في قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ﴾ [النساء: 1]؛ حيث يقول: «...وأما حمزة فقرأه بالجر عطفًا على الضمير المجرور.

وقول البيضاوي: (وهو ضعيف) -أي كما هو مذهب البصريين- ممنوع. والحقّ أنه ليس بضعيف؛ فقد جوَّزه الكوفيون، وكيف يكون ضعيفًا والقراءة به متواترة؟! فيجب أن يُضَعَّف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين»، ثم استطرد في الاستشهاد على صحة هذا الرأي ببعض ما ورد عن العرب من شواهد شعرية.

ج- ترجيح قراءة على أخرى ترجيحًا لغويًّا:

من مواقف الشربيني تجاه القراءات ترجيح قراءة على أخرى؛ بأن يذكر القراءتين وينصّ على أن إحداهما أبلغ، سواء كان هذا الترجيح رأيه الشخصي، أم ناقلًا له عن أحد النحاة دون تعليق منه؛ وهو ما يوحي بموافقته على هذا الترجيح.

مع التأكيد على أن ترجيح الشربيني لإحدى قراءتين على الأخرى لا يعني رفضه أو تضعيفه للقراءة المرجوحة، ولكنه ترجيح بين الفاضل والمفضول، حسب ما ترجّحه قواعد اللغة ودلالاتها.

ومن القراءات التي نصّ على ترجيحها قراءة الجمهور في قول الله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: 132]؛ حيث يقول: «وقرأ نافع وابن عامر (وأوصى) -بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما، وهذا أبلغ. قال الزجاج: لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرات كثيرة»[13].

د- ترجيح رأي لغوي على آخر في توجيه القراءة الواحدة:

فأحيانًا يذكر أكثر من توجيه نحوي للقراءة الواحدة، مرجحًا أحد هذه التوجيهات، يتضح هذا عند توجيهه قول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90]؛ حيث يقول: «وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفًا ووصلًا، واختلف المعربون في ذلك على وجهين؛ أجودهما أن إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب.. والثاني أنه مرفوع غير مجزوم، و(من) موصولة، والفعل صلتها»[14].

الخاتمة:

استعرضنا في هذه المادة تفسير الخطيب الشربيني، وبعد أن بينّا سيرة ومسيرة هذا الإمام العلم، بينّا ملامح منهجه العام في تفسيره، وركّزنا على بيان دور الجانب اللغوي في هذا التفسير، وكيف استعان به الخطيب الشربيني في عمليات الترجيح للآراء واستنباط الاحكام، وكذا في توجيه القراءات ورد الانتقادات لها.

رحم اللهُ الشيخَ الشربيني، وأجزل له المثوبة والعطاء نظير ما قدّمه لكتاب الله تعالى ولعلوم الشريعة واللغة.

 

[1] نُشرت المقالة سابقًا في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية العدد (670) جمادى الآخرة 1442هـ، فبراير 2021م، بعنوان: (الخطيب الشربيني.. وبراعة التفسير اللغوي في القرآن).

[2] طبقات الشعراني، (ص:117).

[3] الخطط التوفيقية لعلي مبارك، ط. بولاق 1305هـ، (12/ 127).

[4] طبقات الشعراني الصغرى، (ص:118).

[5] التفسير والمفسرون (1/ 320-326).

[6] هذه القراءة في قول الله تعالى: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ حيث يقول: «وقرئ شاذًّا: (من أَنْفَسهم) بفتح الفاء، أي: من أشرفهم؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم». ثم يعلق فيقول: «ولم أذكر في التفسير قراءة شاذّة إلا هذه لكونها في شرف الرسول صلى الله عليه وسلم وقراءة السيدة فاطمة -رضي الله تعالى عنها-».

[7] السراج المنير (1/ 3).

[8] السراج المنير (1/ 433).

[9] انظر في هذه القراءة: السبعة في القراءات (ص: 242)، والحجة لابن خالويه (ص: 129)، والإتحاف (ص: 251).

[10] السراج المنير (1/ 295).

[11] السراج المنير (1/ 146).

[12] السراج المنير (1/ 42).

[13] السراج المنير (1/ 78).

[14] السراج المنير (2/ 109، 110).

الكاتب

رمضان فوزي بديني

حاصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم - جامعة القاهرة، وله عدد من المشاركات العلمية والإعلامية.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))