بحث: تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل
للدكتور/ محمد صالح سليمان
عرض وتعريف

عَرَضَ بحثُ «تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل» لمناقشة قضية مفاهيمية تتعلق بمصطلح التفسير، وهذا المقال يُقدِّم عرضًا إجماليًّا للبحث، ثم يُفصِّل في عرض مباحثه، مع بيان نُبَذ من صنيع كاتبه، وبعض الملاحظات حول نتائجه.

بين يدي الموضوع:

  تُعَدُّ قضية المصطلحات من أهم القضايا داخل العلوم الشرعية، فكلّ علم من العلوم يختصّ بعددٍ من المصطلحات التي تضبط مسائله، وتُبْرِز خصوصيته، وتضع له الحدود التي يُعرف من خلالها صُلب العلم ومُلَحه، والعلاقة بين العلم وغيره من العلوم.

والولوج إلى العلم دون ضبط مصطلحاته -خاصّة المصطلحات الكبرى التي يكون عليها مدار العلم-؛ ينتج عنه العديد من الإشكالات العلمية، من ضعفٍ في تصوّر مسائل العلم، وتخطئة أهله، وعرقلة مسيرة نضجه وتجديده...إلخ من الإشكالات.

ومن المصطلحات التي لها مركزيّتها الكبرى بين العلوم الشرعية؛ مصطلح «التفسير» باعتبار اتصاله بكتاب الله تعالى وبيان مراده.

وعلى الرغم من أهمية هذا المصطلح ومركزيته إلا أن الناظر في قضايا علم التفسير ومسائله يلحَظُ أنّ مفهوم مصطلح التفسير يعاني من تعدّد دلالي، والذي متى أُغفِل وقعت إشكالاتٌ عدة في دراسة الكثير من المسائل في ميدان التفسير؛ لذلك يتعيَّن على الباحثين في الدِّراسات القرآنية فَهْم ذلك التفاوت، والتبصّر بآثاره، وبيان كيفية التعامل معه.

ويُعَدُّ الدكتور الفاضل/ محمد صالح سليمان من أبرز المشتغلين بهذه القضية، وقد أجاد من خلال بحثه: (تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل) في تناول الإشكالات المتعلقة بتفاوت مفهوم التفسير، ووضَعَ لبنات لمعالجة تلك الإشكالات وبيان المسالك العلمية في التعامل معها، وخرج بنتائج وتحريرات نفيسة -حتى وإن اختلفنا معه في بعض نتائجه- مما جعل البحث مستحقًّا للقراءة والتأمّل من قِبَل المتخصِّصين في الدراسات القرآنية، وأن يقع الاهتمام بهذه الإشكالات التي طرحها البحث، والتفاكر في كيفية معالجتها.

وقد تناولتُ في هذا المقال عرضًا إجماليًّا للبحث، ثم فصَّلتُ في عرض مباحثه نظرًا لأهميتها، مع بيان نُبَذ من صنيع كاتبه، وبعض الملاحظات حول نتائجه.

بين يدي البحث:

بيانات البحث:

جاء البحث بعنوان: (تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل)، من إعداد الدكتور الفاضل/ محمد صالح سليمان، وقد نُشِر هذا البحث في مجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية- العدد 192- الجزء الأول، السنة: 53، في شهر رجب 1441هــ، ويقع في 67 صفحة.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث كما نصَّ عليها الباحث فيما يأتي:

1- اشتغاله بمصطلح له أهميته البالغة ومركزيته الكبيرة في علم من أهم العلوم الشرعية.

2- التنبيه على التفاوت المفهومي للتفسير وبيان إشكالية إهماله.

3- الاهتمام بالنواحي التطبيقية والعملية لتفاوت مفهوم التفسير بعيدًا عن الجدل النظري.

إشكالية البحث:

صرَّح الباحث في مدخل البحث بإشكاليته فبيَّن أنه «رغم تنوّع مداخل فهم النصّ القرآني، وتعدُّد مستويات شرحه وبيانه، إلا أن هذا التنوع والتعدّد في المستويات والمداخل ينتسب غالبًا لمصطلح (التفسير)، ويندرج تحته، فهو أشهر المصطلحات التي يتم التعبير بها عن شرح وبيان القرآن، وهو المصطلح الذي يكتنز بداخله كافة ما يتعلّق بالتفسير من تاريخٍ وأصولٍ وقواعد ومناهج وتفاسير وغيرها.

وإنّ من أكبر الإشكالات في مصطلح له هذه المركزية توهُّمَ وحدته الدلالية أو المفهومية له، أو الإقرار بتعدّده الدلالي بصورة نظرية فقط عند مناقشة تعريفات التفسير وبيان حدوده، دون التنبّه إلى أنّ هذا التعدّد الدلالي ممسك بزمام مصطلح التفسير، وسارٍ في كافة قضاياه النظرية والتطبيقية، مما كان سببًا في عدم بحث هذه القضايا على وجهها، ولا الولوج لفهمها من أبوابها، خاصّة ونحن أمام تاريخ طويل زاخر بمئات القضايا والمسائل والمصنفات والتفاسير وغيرها التي يتعيّن الولوج إليها؛ فهمًا وتأصيلًا، وتنظيرًا وتطبيقًا، وتقويمًا وتحليلًا، عبر فهم ذلك التفاوت، والتبصر بآثاره، وبيان كيفية التعامل معه، وقد جاء هذا البحث لمعالجة تلك الإشكالية وبيان المسالك العلمية في التعامل معها».

هدف البحث:

وضع المؤلف ثلاثة أهداف واضحة تتناغم مع إشكالية البحث وخُطَّته -كما ستأتي-، وهي:

1- إبراز دلائل الاختلاف المفهومي والتفاوت الدلالي لمصطلح التفسير.

2- بيان الآثار والانعكاسات العملية لتفاوت مفهوم التفسير وتعدّد دلالاته.

3- وضع معالم المنهج السليم للتعامل مع هذا التفاوت.

خطة البحث:

انتظم هذا البحث في مدخل، وثلاثة مباحث، وخاتمة:

المدخل: وفيه الحديث عن أهمية البحث، وإشكاليته، وأهدافه، ومنهج البحث، وخطته.

المبحث الأول: مفهوم التفسير ودلائل التفاوت.

المبحث الثاني: مفهوم التفسير وآثار التفاوت العملية.

المبحث الثالث: منهج التعامل مع تفاوت مفهوم التفسير.

خاتمة: وفيها أهم النتائج.

وبعد هذا العرض الموجز لبيانات البحث ومحتوياته، سنحاول أن نستعرض مضامين هذا البحث بصورة أكثر تفصيلًا، من خلال عرض كلّ مبحث من المباحث الثلاثة على حدة:

1- مفهوم التفسير ودلائل التفاوت:

يحاول الباحثُ من خلال هذا المبحث أن يبرهن على أن التفسير لا يحمل وحدة مفهومية أو دلالة واحدة توارَد المفسرون على اعتبارها وتفعيلها، بل هو متفاوت الدلالة بحسب اختلاف أنظار المفسرين ومقاصد كلّ منهم ورؤيته الخاصّة تجاه ذلك المفهوم، وقد قام بسرد الدلائل والأمارات التي تبيّن تفاوت مفهوم التفسير في أربع دلالات:

الدلالة الأولى: شمول مادة التفسير لعددٍ من المضامين المختلفة:

وقد بيَّن من خلال هذه الدلالة أن المتصفِّح للتفاسير المدوّنة والمتفحِّص لمادتها؛ يجدها مليئة بالمضامين المختلفة والمعلومات المتنوعة، التي تشترك في الانتساب للتفسير وتندرج تحت مفهومه، وقد مثَّل لأبرز هذه المضامين المختلفة بثلاثة أمثلة؛ الأول: بيان معاني الآيات بحسب دلالات ألفاظها وسياقاتها، وما يتطلّبه ذلك البيان من دراسة المحتملات اللغوية، والتقديرات الإعرابية، وتوجيه القراءات القرآنية...إلخ مما يستلزمه بيان المعاني. والثاني: بيان ما يتعلّق بالآيات من أحكام وحِكَم، بتسليط النظر على ما تفيده الآيات من أحكام عملية تمسّ حاجة الناس إليها، وبيان وجه مأخذها من الآية وأدلة صحتها والانتصار لها، أو بتوجيه النظر إلى استخلاص ما يستنبط من الآية من حِكم ومقاصد نبّه القرآن عليها أو أشار إليها. أمّا الثالث: بيان مقاصد الآيات ومراميها، أو تنزيل المعاني على الأحداث والوقائع؛ وقد استدلَّ لهذا المثال بثلاث وقائع، منها: بيان ابن عباس لسورة النصر ومقصدها -علامة أجَلِ النبي صلى الله عليه وسلم- الذي تجاوز مجرّد معانيها الظاهرة.

وقد تبيَّن مما سبق تعدّد مضامين كتب التفسير وتنوّع مادة التفسير فيها، وقد خَلَصَ الباحث إلى «أنّ المفسرين لم ينظروا لتلك المضامين نظرة واحدة، ولم يتوسّعوا كلّهم في ذكر كلّ تلك المضامين، ولم يتفقوا على تصنيف رتب تلك المضامين في المادة التفسيرية، ولم يتواردوا على معيار يمكن من خلاله تصنيف المادة التفسيرية وتمييز مراتبها، فما قد يراه بعض مصنفي التفسير من تلك المضامين خارجًا عن التفسير، يراه آخرون منهم غير خارج عن التفسير، بل يقيمون جُلَّ تصانيفهم عليه، وذلك كافٍ في إثبات ما نحن بصدده من اتساع مادة التفسير وكثرة مضامينها».

وبعد أن بيَّن الباحث أنّ شمولَ مادة التفسير لعددٍ من المضامين المختلفة دليلٌ على تفاوت مفهوم التفسير؛ انتقل إلى النقطة الثانية، وهي:

الدلالة الثانية: تفاوت كتب التفسير في اتجاهاتها ومقاصدها:

حاول الباحثُ في هذا العنصر إثبات تفاوت مفهوم التفسير من خلال النظر في كتب التفسير وبيان تفاوتها في الاتجاه والمقصد، فإذا نظرنا إلى اتجاهات المفسرين نجد: «تفسير مقتصر على نقل الأحاديث والآثار التفسيرية المتعلّقة بالآيات، وذلك تفسير حافل بالإعراب ومحتملات الألفاظ وتقديراتها، وثالث قاصد إلى بيان القراءات وأوجهها وعللها، ورابع مولٍّ وجهه صوب الأحكام الفقهية المتعلقة بالآية وبيان الراجح منها من المرجوح...إلخ»، ونقَل الباحثُ عن السيوطي وابن عاشور ما يدلّ على ما ذكَرَه نفسه من التفاوت في اتجاهات المفسرين.

ثمَّ بيّن الباحثُ أنَّه لما كان: «اختلاف اتجاهات المفسرين دالٌّ على تفاوت مفهوم التفسير، وتعدّد مضامينه واتساع دائرته، فإنّ اختلافهم في مقاصد التفسير كذلك دالٌّ على عدم وحدة الصورة المفهومية للتفسير عندهم، وأنهم لم يتواردوا في مفهوم التفسير على دلالة واحدة»، ثم استدلّ على اختلاف مقاصد المفسرِّين بأمثلة ونقولات تؤول في النهاية إلى تفاوت مفهوم التفسير اتساعًا أو انحسارًا بحسب اختلاف مقاصد المفسرين والمنحى الذي ينحو إليه كلّ مفسر منهم.

الدلالة الثالثة: انتقاد المفسّرين بعضهم بعضًا في توسيع دائرة التفسير، وعدم اتفاقهم على انحسار دلالة التفسير في دائرة معيّنة:

بنى الباحثُ رأيَه في هذه الدلالة على نقولات من التّراث التفسيري التي تثبت انتقاد المفسرين بعضهم بعضًا في توسيع دائرة التفسير بإدراج الكثير من القضايا والمسائل الخارجة عن موضوع علم التفسير، ومن هذه النقولات على سبيل المثال:

انتقاد الرازي للقاضي عبد الجبار بقوله: «اعلم أنّ القاضي ذكر في تفسيره وجوهًا أخرى تدلّ على نفي الرؤية، وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية، ومنفصلة عن علم التفسير، وخوض في علم الأصول». صرَّح أبو حيان بانتقاد الرازي في مسلكه من المنزع نفسه الذي انتقد فيه الرازيُّ القاضيَ عبد الجبار قائلًا: «وقد تكلّم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه...وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطولوا في ذلك، وهذا كلّه موضوعه علم أصول الفقه...ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي المعروف بـابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير».

وغير ذلك من النقولات التي تثبت أنّ «انتقاد العلماء لذلك الواقع لم يكن معياريًّا منضبطًا يمكن قياسه وتنزيله على التفاسير كافة، وإنما كان نقدًا ذوقيًّا خاصًّا بصاحبه ومتأسِّسًا على نظرته الخاصّة لما يراه خارجًا عن التفسير، فما يراه مفسِّرٌ خارجًا عن التفسير يراه غيرُه مندرجًا في التفسير؛ وشاهد ذلك ما تقدّم من بيان أن بعض من تصدّر لنقد التفاسير السابقة عليه بخروجها عن موضوع التفسير، وحَيْدها عن وظيفته، انتُقد تفسيره من المنزع نفسه، ووُجّهت إليه سهام النقد نفسها؛ ما يدلّ على اختلاف أنحاء النظر لمفهوم التفسير، وعدم تحرّر المعايير الضابطة له ولما يندرج تحته وما لا يندرج، وأن مردّ الأمر إلى النظر الخاصّ بكلّ مفسر».

ثم انتهى المطاف بالمبحث الأول بذكر الدلالة الرابعة على تفاوت مفهوم التفسير:

الدلالة الرابعة: تفاوت المادة التفسيرية بتفاوت الزمن:

انطلق الباحثُ في هذه الدّلالة من التسليم بأن مادة التفسير ومضامينه عبر الزمان تتجدَّد بتجدّد حاجات الناس وتنوّعها للتفسير، «فليست مضامين التفسير التي كانت تندرج تحته في القرون السالفة هي المضامين نفسها التي تندرج تحته الآن؛ ما يدلّ على كون التشارك حاصلًا في مجرد مصطلح التفسير، أمّا مادة التفسير ومضامينه فهي تتسع باتساع الزمن، فما كان يحتاجه الناس في زمن نزول الوحي وما تلاه من أعوام من بيان وتفسير القرآن ليس هو ما يحتاجه الناس في العصور المتأخرة عنهم»، ثم ساق كلامًا لأبي حيان يُعضِّد ما ذكره.

وبناء على ما سبق من دلالات على تفاوت معنى التفسير خرج الباحث بنتيجة مفادها تفاوت مفهوم التفسير، وعدم اتحاد الصورة المفهومية له بين المفسرين، ولتقرير ذلك عمليًّا ولتأكيد تلك النتيجة السابقة؛ سرَد الباحث مجموعة من تعريفات التفسير وصل عددها إلى تسعة تعريفات، تبيَّن للباحث من خلالها تباين أنظار المعرِّفين، واختلاف آرائهم، وتردّد دلالات التفسير فيها صعودًا ونزولًا وسعةً وضيقًا، ولم يمكن من خلال مجموعها ضبط معنى محرّر لمصطلح التفسير يمكن التوافق عليه، أو تأطير التفسير من خلالها بحدود تضبطه في ذاته وتميزه عما سواه.

ذلك التفاوت الذي نراه في تعريفات التفسير؛ إذ التعريف أجلى صورة يرتسم فيها المفهوم وتتضح دلالته؛ لأنه تعبير لفظي عن صورة المفهوم الماثلة في ذهن المعرِّف، وعبره ننتقل من التصوّر الذهني للتفسير إلى الوصف اللفظي له المتمثّل في ألفاظ التعريف، وتفاوت تعريفات التفسير توكيد لتفاوت مفهومه، فإنْ تواردت تعريفات التفسير على مفهوم واحد أو متقارب كان ذلك دالًّا على وحدة مفهومية بين المعرِّفين للتفسير وإن اختلفت عباراتهم، وإن اختلفت التعريفات كان ذلك دالًّا على عدم اتحاد المفهوم.

ثم أورد الباحث استشكالًا، ورَدَّ عليه فقال: «وقد يقول قائل: إن ثمة قدرًا مشتركًا في مفهوم التفسير يتوارد عليه المفسرون كافة، والمعرّفون للتفسير كافة؛ وهو بيان المعاني بحسب دلالات ألفاظ الآية وسياقاتها، وذلك القدر يمكن تأطير مفهوم التفسير به، واعتبار ما سواه توسعًا.

ولا شك أن التوارد على ذلك القدر المشترك بين المفسّرين صحيح، إلّا أن وجود ذلك التوارد لا يسوغ لنا حصر مفهوم التفسير فيه، ولا نفي نسبة ما زاد عنه للتفسير؛ لأنّ اتفاقهم في القدر المشترك لم يمنع اختلافهم في اندراج القدر الزائد عنه في مفهوم التفسير أو عدم اندراجه؛ ولهذا انتقد بعضهم بعضًا بالتوسّع، وهذا التوسّع ذوقيّ بحسب رؤية كلّ مفسر، ولأن جعل مفهوم التفسير عبر التاريخ كلّه منحصرًا في ذلك القدر المشترك، تسوّر بالرأي على من رأى المفهوم أوسع من ذلك القدر ومصادَرَة عليه وتضييق لما رآه أوسع، وإنما الواجب أن يفهم المفهوم على وفق رؤيتهم ومنظورهم».

وبعد أن بيَّن الباحث دلالات تفاوت مفهوم التفسير؛ انتقل إلى المبحث الثاني ليُبيِّن أبرز الإشكالات والآثار التي نتجت عن التفاوت الظاهر في مفهوم التفسير:

2- مفهوم التفسير وآثار التفاوت العملية:

انتقل البحث إلى بيان أن التفاوت الذي ظهر معنا في المبحث الأول في مفهوم التفسير؛ ليس تفاوتا شكليًّا، ولا يصح الوقوف به عند مجرد الجدل المفاهيمي أو المصطلحي، بل هو تفاوت له انعكاساته وآثاره التطبيقية على قضايا التفسير، وضرب الباحث مثالًا لتلك الانعكاسات التطبيقية على قضيتين من قضايا علم التفسير، وهما: تاريخ التفسير، والتجديد في التفسير.

فمن أبرز الإشكالات التي عرض لها هذا المبحث:

1- صعوبة التحرير لمفهوم التفسير لامتداد زمانه ولتشعّب دلالاته وتفاوت مدوّناته.

2- خفاء مسالك النظر اللازمة لتحرير مفهوم التفسير وتنوّعها، وتعدّد المداخل والآليات اللازمة لذلك التحرير.

3- اختلاط المادة التفسيرية بعضها ببعض واندراجها كافة تحت مفهوم التفسير دون وضوح المعايير والمحدّدات التي تعين على تصنيفها وتمكِّن من تمييز أصولها عن فروعها، وتحرير صلبها من توابعها.

4- عدم وضوح خارطة النهوض بعلم التفسير وتجديد القول فيه؛ لافتقاد معايير التصنيف لمادة التفسير، وكذا افتقاد المعرفة بالأوزان النسبية لركام المعلومات المندرجة تحت تلك المادة، وعدم القدرة على ترتيب أولوياتها، وتحديد تراتيبها؛ إِذْ كلها -فيما يبدو- تفسير.

5- تشتت طالب التفسير بين كلّ هذا الكمّ الضخم من المعلومات المنسوبة للتفسير دون معيار يرتّب به أولويات المعلومات ومراتبها، ويحدّد بواسطته مسالك التدرج والطلب لهذا العلم.

وقد يظنّ القارئ لهذا البحث أن التفاوتَ الذي ظهر معنا في مفهوم التفسير تفاوتٌ شكليّ، ويُمكن الوقوف به عند مجرد الجدل المفاهيمي أو المصطلحي وتجاوزه إلى ما بعده؛ فأراد الباحث إثبات أن التفاوت الحاصل في مفهوم التفسير له انعكاساته وآثاره التطبيقية على قضايا التفسير، فبيَّن تلك الانعكاسات التطبيقية على قضيتين من أهم قضايا علم التفسير، وهما: تاريخ التفسير، والتجديد في التفسير.

ويمكننا إجمال ما أورده الباحث في هاتين القضيتين، وإبراز الفكرة العامة التي من أجلها سيقت هذه القضايا، فنقول: إذا أردنا الولوج إلى أيّ قضية من قضايا التفسير؛ لا بد من المرور ابتداءً على مفهوم التفسير الذي نريد بحثه في القضية ذات الصلة بالعلم.
وفي هاتين القضيتين لا يمكننا البحث في تاريخ التفسير، أو التجديد في التفسير دون الإجابة على هذا السؤال: ما التفسير الذي نبحث عن تاريخه أو في تاريخه؟ وما التفسير الذي نروم تجديده؟ وأيّ منحى من مناحيه نرمي لتجديده؟

إنّ الناظر في الدراسات التي عُنيت بقضايا التفسير يلحظ شدّة الفجوة بين مفهوم التفسير الذي انطلقت منه الدِّراسة وبين ما يندرج تحته من مضامين؛ وهذا راجع إلى عدم تحرير مصطلح التفسير ومفهومه الذي هو أساس البحث وما بعده من بناء تبع له، ولمَّا كان مفهوم التفسير شديد التفاوت ويَصعب ضبطه منهجيًّا؛ اتجه الباحثون إلى تبنِّي مصطلح التفسير في صورته المجرّدة أو إلى تبني مفهوم معيّن وقسر مفاهيم التفسير كافة عليه؛ ما كان له آثاره وانعكاساته على حركة العلم ومعاقده الكلية وقضاياه الكبرى؛ فلم ينضبط بحثها منهجيًّا، ولم ينضبط معرفيًّا، فلا بد من ضبط المفهوم أولًا ثم محاولة بناء مضامين البحث على أساسه، وهذا ما حاول الباحثُ إثباتَه بالتفصيل في القضيتين محلّ البحث مع ضرب الأمثلة على الإشكالات الحاصلة في التعاطي البحثي لهما.

وبعد بيان تفاوت مفهوم التفسير، وما ترتب عليه من انعكاسات وآثار تطبيقية على قضايا التفسير؛ انتقل الباحث إلى «محاولة وضع بعض المعالم الهادية لمنهجية التعامل العلمي مع هذا التفاوت، وكيفية ضبط منهج النظر للتفسير وكتُبه وقضاياه مع وجود هذا التفاوت».

3- منهج التعامل مع تفاوت مفهوم التفسير:

ظهر معنا من خلال ما سبق التفاوت الكبير في مناحي التفسير، «ولا شك أن إقامة منهج النظر للتفسير؛ مفهومًا وتعريفات ووظيفة مما لا يفي مثل هذا البحث بتفاصيله»؛ لذلك أشار الباحث إلى عيون المنهج وكلياته قدر الطاقة والاستطاعة.

وإليكم عرض أبرز أفكار المبحث في النقاط الآتية:

1- بدأ الباحث بالتأكيد أولًا على الوعي بإشكالية التفاوت وما ينبني عليها، وأنّ «الأساس الذي يقوم عليه منهج النظر في التفسير، والقاعدة التي يستند إليها أنه: ليس للتفسير مفهوم معيّن أو تعريف محدّد يصح تعميمه على مناحي التراث التفسيري والمشتغلين به كافة».

2- ضرورة استحضار أنّ التراث التفسيري يُملِي مفاهيمه لا تُملَى عليه المفاهيم: وتتعيَّن هذه الصورة «حين يكون البحث التفسيري مرتبطًا بالتراث أو النتاج التفسيري كلّه أو ببعض قضاياه أو ببعض أعلامه؛ كالبحث في تاريخ التفسير عامة أو في زمن معين أو عند طبقة معينة، أو كالبحث في منهج مفسر...إلخ»، فيصبح المقام هنا مقام تحرير مفهوم التفسير عند المفسّر وتحديد دلالته عنده، وليس مقام تبنِّي رؤيةٍ خاصةٍ بالباحث تجاه مفهوم التفسير، فيحتاج الباحث إلى ضبط البحث لمفهوم التفسير فيبدأ «بضبط حدود البحث وتضييق دوائره بحيث لا يجري البحث عن المفهوم دفعة واحدة عند عامة المفسرين؛ فيتّسع الخرق على الراقع، وإنما يبدأ بتخصيص البحث عن المفهوم عند كلّ مفسّر استقلالًا، أو على الأقل عند كلّ طبقة من الطبقات التي يجمعها تقارب في فنّ أو زمن أو غير ذلك؛ كالمحدِّثين، أو الصحابة...إلخ؛ فإن لم يكن البحث متجهًا أساسًا لمفهوم التفسير، لكنه في قضية من قضايا التفسير المركزية يعالجها عند مفسرٍ ما، فالمتعيّن في تلك الحالة تحرير مفهوم ذلك المفسر؛ فذلك مفتاح البحث في تلك القضية. وكلّ جهد علمي له ارتباط وثيق بمفهوم التفسير إنْ لم ينطلِق من ذلك المنطلَق، فقد سقط قبل أن ينطلق».

3- إبداع مفهوم أو تعريف خاصّ له حدّ يضبطه ولوازم تلزمه: وقد يظهر للقارئ لأول وهلة ثمة تعارض بين هذه النقطة والتي قبلها، ولكن الباحث وضع قيودًا يحصل بها التمايز بين النقطتين، فلا بد من مراعاة الحدود التي ينبغي أن يتأطّر بها ذلك الوضع للمفهوم، والتي من أهمها: «أن تكون حدود البحث أو التأليف خاصّة برأي الباحث، وليس لها صلة بالتراث التفسيري؛ بمعنى أنه يبحث في بحث خاصّ به ليبدي رأيه أو يقرر منهجه في قضية من القضايا أو موضوع من الموضوعات، فليس هو في مثل ذلك الحال باحثًا عن منهج مفسّر، ولا مستخلصًا لقضية تفسيرية من التراث، بل هو يقرّر رأيه على وفق مفهومه أو تعريفه الذي أنشأه»، ومن لوازم ذلك ألّا يحاكم غيره لمفهومه أو تعريفه.

4- نقل التعريفات ينبغي أن ينضبط بحدود البحث: يعالج الباحث في هذه النقطة إشكالية نقل التعريفات وسردها دون ضبط أو تأطير للتعريف بالقضية أو المسألة التفسيرية عند مفسّر أو إمام أو غير ذلك، وحتى تنضبط التعريفات إن كان البحث في قضية عند مفسّر؛ «يتعيّن منهجيًّا التأطّر بتعريف المفسّر للتفسير والالتزام بما ينبني عليه من دلالات وما يتبعه من معانٍ...»، «وإن كان البحث في قضية تفسيرية غير مقيد بحثها بمفسر معيّن، فثمة خياران للبحث هنا؛ أولهما: اختيار تعريف للتفسير، وبيان كيفية انضباط البحث من خلال ذلك التعريف، وكيفية تحقيق اللوازم المنهجية والآثار العلمية المبنية على هذا التعريف. ثانيهما: صناعة تعريف يختاره الباحث مؤسسًا عليه بحثه، ومبينًا كيف سينضبط بحث هذه القضايا التي يعالجها بحثه من خلال ذلك التعريف.

وبعد هذه المباحث الثلاثة جاءت الخاتمة وفيها أهم النتائج، وبيانها على النحو الآتي:

1- التفاوت يضرب محاور علم التفسير كافة؛ مفهومًا، وتعريفًا، ووظيفة، واتجاهات، ومضامين.

2- أصل التفاوت الحاصل في التفسير راجع إلى تفاوت مفهوم التفسير واختلاف العلماء في تحريره وتحديد المراد به.

3- مفهوم التفسير عند بعض المحدِّثين يختلف عن مفهوم التفسير عند المفسرين.

4- مفهوم التفسير ليس محلّ اتفاق بين المفسرين، وإن تواردوا على قدر مشترك، إلّا أن إلزام الجميع بالانحصار داخل هذا القدر المشترك خلل منهجي.

5- انتقاد المفسّرين بعضهم لبعض بالتوسّع في مادة التفسير لا يمكن الاعتماد عليه في ضبط حدودٍ عامةٍ للتفسير يتأطر بها فهم التراث كلّه؛ لأنه انتقاد ذوقيّ خاصّ بكلّ مفسّر لا معياريّ عامّ لعلم التفسير نفسه.

6- ترجَّح عند الباحث أن مصطلح التفسير مستخدَم بمعناه اللغوي؛ وهو الشرح والكشف والبيان في كثير من تداوله الاستعمالي بين الباحثين، وأنّ سببَ ذلك اللجوء لذلك الاستخدام الفرارُ من إشكال التفاوت المفهومي للتفسير أو عدم التنبه له، مما كان سببًا في وجوب إعادة البحث من جديد لكثير من القضايا التفسيرية التي يُتوهم أنها انتهت، وهي لمّا تبدأ لأنها لم تضبط المداخل والمنطلقات المفهومية للبحث كما هو بيِّنٌ في قضايا أصول التفسير وتاريخه والتجديد فيه.

7- النظر للواقع الميداني لمفهوم التفسير، وكيفية تأسيس القضايا البحثية عليه في عموم التراث والنتاج التفسيري =خيرُ ما يصرفنا عن الجدال المفهومي الدائر في دائرة ضيقة تكتفي بتحرير المصطلح أو المفهوم أو اختيار تعريف؛ لأنه يتبين بالنظر لمفهوم التفسير -متحركًا وساريًا في كثير من القضايا- قدرٌ كبيرٌ من الإشكالات الجوهرية التي لها انعكاساتها على تقويض كثير من البحوث التي أهملت تلك الإشكالات.

8- ليس للتفسير مفهوم أو تعريف معيّن يصلح تعميمه على مناحي التراث كافة، واعتباره دون ما سواه مدخلًا رئيسًا لفهمه.

9- الأصل أن يبدأ البحث عند كلّ مفسّر بتحرير مفهوم التفسير عنده عبر استقراء تراثه التفسيري، لا فرض تعريفٍ أو مفهومٍ عليه؛ فالتراث التفسيري يملِي مفهومه لا تملَى عليه التعريفات.

10- لا تصح محاكمة المفسرين لتعريفات التفسير المتداولة، ولا تعميمها على كتبهم، ولا البناء عليها في فهم تراثهم.

11- تحرير مفهوم التفسير عند كلّ مفسّر مشروع بحثي كبير تمسّ الحاجة إليه لضبط مدخل رئيس من مداخل البحث في التراث التفسيري.

 في ضوء ما سبق من العرض والتعريف ببحث (تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل) ظهر معنا أهمية الوعي بإشكالية تفاوت مفهوم التفسير، وخطورته على مسيرة البحث العلمي إن لم يُضبط بصورة منهجية تُتَجاوز من خلالها الممارسات الخاطئة في التعامل مع مصطلح التفسير، وقد أسهم البحث في محاولة تجاوز إشكاليات المصطلح والتعامل معها، إلا أنه هناك بعض الملاحظات اليسيرة على البحث، نذكرها إجمالًا:

- جاء البحث بعنوان: (تفاوت مفهوم التفسير؛ الدلائل والآثار ومنهج التعامل)، ولم يظهر جليًّا في مقدمة البحث المقصود بمفهوم التفسير الذي نبحث عن تفاوته، هل نريد إثبات التفاوت الحاصل بين المفسّرين في تعريف التفسير وتفاوتهم في العملية التفسيرية؟ أم نقصد التفاوت الحاصل في مفهوم التفسير كعلم؛ تندرج تحته العملية التفسيرية وكلّ ما يتعلق بتفسير القرآن من علوم حتى وإن خرج عن دائرة العملية التفسيرية؟ لا شك أن التفاوت الحاصل في التفسير -كعملية تفسيرية- يؤثِّر على النظر في علم التفسير كما بيَّن البحث، ولكن هناك تردّد بين الفكرتين -على ما بينهما من تلازم- أثَّر على تحديد المقصود بمفهوم التفسير المراد إثبات تفاوته.

- يرى الباحث أن مفهوم التفسير ليس محلّ اتفاق بين المفسّرين، وإن تواردوا على قدر مشترك، إلا أن إلزام الجميع بالانحصار داخل هذا القدر المشترك خلل منهجي؛ ويُعلِّل لذلك بأنّ «اتفاقهم في القدر المشترك لم يمنع اختلافهم في اندراج القدر الزائد عنه في مفهوم التفسير أو عدم اندراجه»، وفي ذلك نظر؛ لأننا لا يمكننا تأطير هذا القدر المشترك بحدود جامعة مانعة؛ نظرًا لطبيعة العملية التفسيرية وخصوصيتها، والانحصار داخل قدر مشترك -رغم الخلاف النسبيّ في تأطيره- أسلم من الخروج عنه لما يترتب على ذلك من طمس ملامح مفهوم التفسير بالكليَّة، وفتح الباب إلى الاتساع إلى أيِّ مدى يبعد عن القدر المشترك الذي توارد عليه المفسرون ثم يُنسب ذلك الاتساع إلى التفسير.

إنّ ضبط التعامل مع المفاهيم والمصطلحات منهجيًّا من أكثر الأمور التي تمسّ الحاجة إلى انتهاض الباحثين لها، وابتعاث عزيمتهم لأجلها، ويُعَدّ هذا البحث لبنة في هذا المضمار، وخطوة للنهوض به خدمةً لكتاب الله -عز وجل-.

واللهَ أسألُ أن يجزيَ كاتبَ البحث خير الجزاء، وأن يتقبَّل منّا ومنه.

الكاتب

محمد السيد صديق

حاصل على ليسانس اللغة العربية - كلية الآداب جامعة الإسكندرية، وباحث ماجستير في شعبة الدراسات الإسلامية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))