دراسة لمخطوط مصحف مكتبة السلطان محمد الفاتح برقم (16) – المكتبة السليمانية بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بأحد المخطوطات المحفوظة بمكتبة السلطان محمد الفاتح بإستانبول، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بها.

  القلم بأيدي ثلاثةٍ: صانعٍ وبارٍ وكاتبٍ، ولمّا كانت مهمّة الكاتب هي ذروة سنامهم حَمَلَ مع التمهُّر بصنعته شرفَ ما يَمْشُقُ بقلمه، وإنّ أعزَّ ما كَتَب كاتِبٌ كلامُ الله تعالى.

ولذا كانت الصحف تتسابق ليقطر عليها المِداد حروف الآيات، ويزين عليها النسّاخ بقصباتهم زخارفَ ومعارفَ أشتاتًا، فتطايرت رقوق المصاحف بين الأمصار في الخزائن والمكتبات، حتى صارت من أول ما يقتني السلاطين والأكابر والوزارات.

 وبين أيدينا نسخةٌ نفيسةٌ عليها قطعةٌ قرآنيةٌ من مقتنيات أحد أصحاب المراتب العليّة والمناقب البهيّة، سنحاول في هذه الصفحات أن نستعرضها من جانبيها العلمي والمادي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والخطّ واللون:

هذه النسخة الشريفة من محفوظات مكتبة «السلطان محمد الفاتح» ضمن المكتبة السليمانية في إستانبول مقيّدة برقم (16)، وقد توزّعت هذه النسخة على سبعين ورقةً متصلة تحمل نظام التعقيبة بخطّ مغاير، بثلاثة عشر سطرًا للصفحة الواحدة، مكتوبة بخطّ أندلسي، ملوّنة بالسواد حروفه، وبالذّهب فواتحه، وبالحُمْرة هوامشه، وبالأحمر الدّاكن حركات إعرابه، وبالزُّرْقة نقاط شدّاته وألِفاته الساكنة، معجمة بعلامات الإعجام التي استقر عليها المغاربة من نقطةٍ للفاء تحتها والقاف نقطة من فوقها[1]، مضبوطة بعلامات الإعراب التي اتفق عليها العلماء من الفتحة والضمة والكسرة والسكون.

2- الزخرفة والتذهيب:

زُيِّن أوله وآخره بلوحاتٍ استهلالية متماثلة، وهي على شكلِ مستطيلٍ مزخرفٍ بالأشكال الهندسية، يحيطه إطارٌ أحمر في أربع زواياه ذؤاباتٌ أربع، وداخله إطارٌ ثخينٌ يحوي زخارف هندسية على شكلِ خطوطٍ رتيبةٍ متداخلةٍ فيما بينها، مُظهِرة تضافرًا هندسيًّا بديعًا، بداخله كتيبتان من أعلاه وأدناه كتب فيهما اسم صاحب الخزانة بخطّ أندلسي، وبين الكتيبتين دائرة كبيرة بداخلها أشكالٌ هندسيةٌ بين مربعاتٍ ومسدساتٍ ومثمّناتٍ معشقة ببعضها، يحيطها من زوايا أربع زخارفُ نباتية تلامس حدود الدائرة المزركشة، وتتصل بالمستطيل المشكل للّوحة قلادةٌ مزينة بمنحنياتٍ نباتية منمّقة، وكلّ ذلك مرسومٌ بالذّهب على أرضية مذهبة.

ورسمت فواتح السور على شكلِ كتائب مزركشةٍ بأشكالٍ هندسية مذهّبة، بداخلها اسم السورة وعدد آياتها يحيطها خطٌّ أزرق رقيق، وتتصل بها قلادةٌ مزخرفةٌ بالزخارف النباتية على شكل تيجان منحنية مذهّبة، بداخلها دائرةٌ محمرة كتب فيها «حزب» بالأبيض، وبعض الفواتح يكتب اسم السورة وعدد الآيات، وتتصل بها القلادة المذهّبة من غير كتيبةٍ تحيط بها، ورسمت العشور على شكلِ دوائر كبيرةٍ مطموسة بالذّهب مفرغة من داخلها يحيطها النقط الملوّن، ومثلها السجدات والأحزاب، إلا أنّ الجزء المفرّغ فيها قد لُوِّن بالأحمر القرمزي وكتب بخطّ أبيض أندلسي «سجدة» «حزب»، ورؤوس الآيات على شكل زهرةٍ بثلاثة أوراقٍ ملونة بالذهب وعرقها بالأحمر.

3- حالة النسخة:

هذه النسخة بمجملها سليمةٌ من الضّرر الذي يعدُّ مغيِّرًا لماهيتها المؤذي لهيكلها، لم يصبها أيُّ اختلالٍ أو اضطرابٍ من نقصٍ أو خرومٍ بدلالة تتبع التعقيبة، وهي في أصلها ليست مصحفًا كاملًا ولكنها مقطع قرآني يبدأ من رأس خمسٍ وسبعين من الكهف إلى نهاية الشعراء، وهو من أول الحزب الواحد والثلاثين إلى نهاية نصف الحزب الثامن والثلاثين، وهذا المقطع هو الثمن الخامس من القرآن إلا عشر آياتٍ حيث يبدأ الثمن الخامس من رأس خمسٍ وستين من الكهف[2].

إلا أنها أصيبت بآثار الرطوبة في بعض أوراقها في اليسير من مواضعها، وكذا التفكّك في الورقة الثامنة فقط.

4- بيانات النَّسْخ:

هذه النسخة ليس عليها ما يشير إلى زمن كتابتها أو اسم ناسخها إلا أن عليها اسم صاحب الخزانة التي كتبت برسمها، و«هو أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد» ثم لم يتضح من هو ذا المقصود، ولعله «المتوكل على الله أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد يوسف بن هود» الحي عام 626هـ، أو «أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن يعقوب من بني عبد المؤمن» الحي سنة 590هـ. فهي دائرة في هذه الفترة من الزمن.

ثمّ إنّ نوع الخطّ المستخدم في الكتابة وهو الخطّ الأندلسي والقلم المستعمل لها، واللوحات المزخرفة فيها لتدلّ على أنها من منسوخات تلك الفترة في تلك البقعة من الأرض.

 ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات وأسماء السور في النسخة[3]:

في مريم عدَّ تسعًا وتسعين آيةً وهو قول المدني الأخير والمكي، وفي طه مائةً وثلاثين وهو قولٌ مخالفٌ لجميع الأقوال، والأنبياء عدَّها مائةً وإحدى عشرة آيةً وهو قول المدنيين والبصري والمكي والشامي، أمّا الكوفي فعدها واثنتي عشرة، ثم سمى سورة الحج باسم الزلزلة[4] وعدها ستًّا وسبعين وهو قول المدنيين فيها، ثم سمى سورة المؤمنون بسورة المؤمن وجعلها مائةً وتسع عشرة آيةً وهو قول البصري والمكي والمدنيين والشامي، إلا الكوفي عدّها مائةً وثمان عشرة آيةً.

ثم جعل سورة النور اثنين وستين وهو قول المدنيين والمكي، ثم وافق الأقوال التي اتفقت على عدّ سورة الفرقان سبعًا وسبعين آيةً. وعدّ الشعراء كما عدّها المكي والمدني الأخير والبصري مائتين وستًّا وعشرين آيةً.

وعند التتبُّع نرى أنه التزم مذهب المدني الأخير فهو المشترك فيما بين السور.

2- الرسم العثماني:

ظهرت هذه النسخة وقد اتبعت ظواهر الرسم العثماني كاملةً، إلا أنها قد اختلت في بعض مواضعها فلم يلتزم بالرسم الذي جرى الاتفاق عليه في المصاحف العثمانية الأولى؛ ولذلك نضرب أمثلةً عن هذه المخالفات التي أثبتها الناسخ، وندرج في الحواشي أقوال العلماء فيها واختلافهم في بعضها:

3- القراءات:

أفاد الناسخ على الهوامش أقوال القرّاء في مواطن الخلاف، وبعد التتبع ندرك أنه لم يكد يجتمع على قراءةٍ واحدةٍ، بل لفَّق بينها جميعًا، ولبيان ذلك نضرب عدّة أمثلةٍ توضح أنه لم يعتمد على قراءةٍ بعينها.

قوله: {لأَهبَ لكِ}[مريم: 19]، قال الداني: «ورش وأبو عمرٍو: {ليَهبَ لكِ} بالياء، وكذلك روى الحلواني عن قالون، والباقون بهمزةٍ»[8].

وقوله: {عُتِيًّا}[مريم: 8]: «قرأ حمزة والكسائي وحفصٌ بالكسر، وقرأ ابن كثيرٍ ونافعٌ وأبو عمرٍو وابن عامرٍ وعاصمٌ في رواية أبي بكرٍ بالضم»[9].

وقوله: {قولُ الحقِّ}[مريم: 34]: «قرأ ابن كثيرٍ ونافعٌ وأبو عمرٍو وحمزة والكسائي بالضم، قرأ عاصمٌ وابن عامرٍ بالنصب»[10].

وقوله: {كن فيكونُ}[مريم: 35]: «قرأها ابن عامرٍ فقط بالنصب، والباقون بالرفع[11]، ولعلّه سَها في النسخة فذكر أن ابن كثيرٍ هو الذي قال بالنصب، وهو خطأ».

وقوله: {إِنِّي أنا ربك}[طه: 12]: قرأها ابن كثيرٍ وأبو عمرٍو بفتح الهمز والباقون بالكسر[12].

وقوله: {سُوًى}[طه: 58]: قال ابن الجزري: «قرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم وحمزة وخلف بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها»[13].

وقوله: {تلقف}[طه: 69]: «قرأ ابن ذكوان برفع الفاء، وحفصٌ بإسكان اللام مع تخفيف القاف، وقرأ الباقون بالجزم والتشديد، والبزي بتشديد التاء وصلًا»[14].

4- رحلة المخطوط:

هذه النسخة -كما أشرنا- بحسب عوامل التقدير وُلدَتْ في القرن السادس الهجري، وبقيت محفوظةً في يد مَن لم يدوِّن عليها اسمه أو يمهرها بخاتمه؛ ولذلك لم تتوفّر بين أيدينا أيّ إشارةٍ أو عبارةٍ على دخولها في حيازة شخصٍ أو جهةٍ إلى أن صارت في حيازة وَقْف مكتبة الفاتح إلى الآن؛ بدلالة الختم الموجود في أول وآخر النسخة ونصّه كما يظهر: «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أَوقف محمود بن مصطفى خان».

خاتمة:

تختلف قِيَم النُّسَخ المخطوطة فيما بينها بين حَسنةٍ ونفيسةٍ بحسب ما يتوفر فيها من أسباب الرفعة، التي تزيدها شأنًا وتُعليها مرتبةً وتزينها شرفًا. ونسختنا التي بين أيدينا جليلة الشأن؛ لقداسة محتواها أوّلًا، ثم لِمَا يرفعها رتبةً مِن قِدَم عهدٍ، وأسلوب خطٍّ، ورشاحة قلمٍ، وإشراق حبرٍ، ولِمَا يغذوها من جليل علمٍ في فنون العدد والرسم، ويكسوها من عظيم فهمٍ في القراءات واختلاف الرّقْم.

 

[1] قال أبو عمرو: أهل المشرق ينقطون الفاء بواحدة من فوقها والقاف باثنين من فوقها، وأهل المغرب ينقطون الفاء بواحدة من تحتها والقاف بواحدة من فوقها. ينظر: المحكم في نقط المصاحف، أبو عمرو الداني، دار الفكر -دمشق، الطبعة الثانية، 1407هـ. ص37.

[2] ينظر: جمال القراء وكمال الإقراء، علم الدين السخاوي، دار المأمون للتراث- دمشق- بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ- 1997م، ص222.

[3] ينظر: البيان في عدّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث- الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1994م، ص181- 198.

[4] لم أجد ذلك الاسم في المصادر مقرونًا بسورة الحج، ولعله سماها بهذا الاسم استئناسًا بقوله تعالى في أولها: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ...}.

[5] قال أبو داود: «و{رعون} بغير ألف»، وقال أبو عمرو: «كذلك اتفقوا على حذف الألف من الجمع السالم الكثير الدَّور في المذكّر»، وقال الخراز في مورد الظمآن: «وفوق صاد قد أتت غاوينا ... ومثله الحرفان من راعونا»، ثم ذكر الشارح أن الناظم أخبر عن أبي داود أنه حذف الألف من هذا الجمع المنقوص {رعون} وعليه العمل. ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد- المدينة المنورة، 1423هـ- 2002م، ج4، ص886. المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص30.  دليل الحيران على مورد الظمآن، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن سليمان المارغني، دار الحديث، القاهرة. ج1، ص80.

[6] قال أبو عمرو: «اعلم أن كتّاب المصاحف اختلفت في قوله: {ولأصلبنكم} في طه والشعراء؛ ففي بعضها بإثبات واو بعد الهمزة وفي بعضها بغير واو». قال أبو داود: «إلا أن المصاحف اختلفت في هذين الموضعين، أعني: {لأصلبنكم} في طه والشعراء، فكتبوا في بعضها بلام ألِف لا غير كما رسمنا مثل الأول المذكور هنا المتفق عليه، وفي بعضها بواو بعد اللام ألِف ليدلوا على ضمة الهمزة. وأنا أستحب رسم الموضعين المذكورين بلام ألف لا غير مثل الأول الواقع هنا؛ لأربعة معان: أحدها: موافقة للمصاحف المرسوم فيها ذلك كذلك. والثاني: مطابقة لهذا الأول. والثالث: على اللفظ. والرابع: لأنها لم تَرِد في شيء من مصاحف أهل المدينة». ويؤيد ما ذهب إليه أبو داود كلام عَلَم الدين السخاوي فقال: «وهذا الذي ذكره أبو عمرو من زيادة الواو في: {ولأصلبنكم} بعد الهمزة في الموضعين، لم أره في شيء من المصاحف، وهو في المصحف الشامي: {ولأصلبنكم} فيهما بغير واو».
ينظر: المقنع، ج1، ص59. مختصر التبيين، ج2، ص565. الوسيلة إلى كشف العقيلة، عَلَم الدين السخاوي، مكتبة الرشيد، السعودية- الرياض، الطبعة الثانية، 1424هـ- 2003م، ص359.

[7] نقل أبو عمرو عن محمد بن عيسى الأصبهاني أنها بالواو والألِف، وعن ابن الأنباري وعاصم الجحدري بالواو لا غير ورجح ما قاله محمد بن عيسى. وقال أبو داوود: «و{الملؤا} بالواو بعد اللام صورة للهمزة المضمومة، وألف بعدها تأكيدًا للهمزة لخفائها في هذا الموضع».
ينظر: المقنع، ج1، ص62. مختصر التبيين، ج4، ص899.

[8] ينظر: التيسير في القراءات السبع، أبو عمرو الداني، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثانية، 1404هـ/ 1984م، ص148.

[9] ينظر: السبعة في القراءات، أبو بكر بن مجاهد، ص407.

[10] ينظر: المرجع السابق نفسه، ص409.

[11] ينظر: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م، ص190.

[12] ينظر: التيسير في القراءات السبع، الداني، ص150.

[13] ينظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية]، ج2، ص320.

[14] ينظر: المصدر السابق نفسه، ص321.

الكاتب

حمزة موفق العائدي

باحث شرعي، نال شهادة الليسانس من كلية الشريعة بجامعة دمشق، ويعمل في مجال المخطوطات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))