دراسة لمخطوط مصحف مكتبة أحمد باشا برقم (1)
مكتبة كوبريلي بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة أحمد باشا بإستانبول، مكتوبة في القرن الثامن الهجري، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بالنسخة.

  منذ أُنزِل القرآن على قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ والصحابة -رضوان الله عليهم- يحاولون حفظه مكتوبًا بما توفّر لديهم من أساليب الكتابة، ثم لمّا استحرَّ القتلُ يوم اليمامة أمَرَ الصِّدِّيقُ بجمعه في مكان واحد، ثم لما تفشَّى اللحن في الأُمّة نسخ عثمانُ المصاحفَ ووزّعها في الأمصار، فما زالت المصاحف منتشرةً منذ ذلك العهد بين مَنسوخ ومُنتسَخ حتى امتلأت المكتبات بالمكتوبات المصحفية، تتغير وتتطور بين كلّ زمن وقرن وبين كلّ بلد وبلد؛ في شكلها وخطّها وزخرفتها ورسمها واعتمادها للرواية المروية بها، فخلَّفت إرثًا عظيمًا تكتنزه المكتبات العامّة منها والخاصّة حول العالم.

وبين أيدينا نسخة من هذه النُّسَخ سنحاول في هذه المقالة -ما وَسِعَنا- أن نوفيها حقَّها في الوصف والتحليل، متعرِّضِين لها من جانبيها: المادي والعلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والخط:

هذه النسخة الجليلة من النُّسَخ الموجودة في مكتبة «أحمد باشا» ضمن مكتبة «كوبريلي» برقم قيد «1» في إستانبول بتركيا، ممتدة على مائتين وثمانٍ وسبعين ورقةً فعليًّا، وخمسمائة وثلاثٍ وخمسين صفحةً كما عدّها المرقِّم، في ستة عشر سطرًا للصفحة الواحدة، بمقاس «12,7×17,8» للورق، و«8,2×12,5» للنصّ، بخط نسخ جيد مشكول، بمداد أسود للنصّ، ومذهّب لفواتح السور، وأحمر لعلامات الوقف والابتداء.

2- الزخرفة والتذهيب:

جُلِّدت النسخة بتجليد جلديّ بُنِّي اللون تكسوه الزخرفات المذهّبة على وجهيه مزركش بالقلائد الزرقاء، على أرضية ذهبية يحيطها إطار عريض بداخله رؤوس متقابلة وعروق من الزهر المشجَّر على أرضية خضراء، مزيّن كلّ ذلك بالأشكال النباتية، ثم على حوافّ التجليد إطار هندسي مذهّب متداخل الخطوط.

ثم في الورقة الأولى شمسية بديعة مذيَّلة تحتوي على أشكال نباتية ملونة باللون الأحمر والذهبي، تصل بينها ذيول نباتية مزركشة على خلفية زرقاء، ثم بداخلها إطار ذهبي عريض ثم أسود متداخل ثم دائرة ذهبية مضيئة بها أربع أزهار زرقاء ومثلها حمراء، ثم دائرة زرقاء داكنة مؤطَّرة بالحُمرة، وبأسفلها قلادة مذهّبة مزركشة.

ثم في الورقة التي تليها لوحة استهلالية بديعة مقسَّمة على وجهي الورقة، وهي خليط من الزهر والورق النباتي المتعانق المعشَّق ارتسمَت من خلالها لوحة فنية بأشكال هندسية يحيطها إطار من الذهب المنقّط بالحُمرة والزُّرقة، بأعلاها وأسفلها كتائب بداخلها: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون}، كلّ ذلك على أرضية زرقاء.

ثم الورقة التي تليها عليها الفاتحة وأوائل البقرة داخل لوحة استهلالية جميلة مصنوعة من الذهب على خلفية زرقاء، وهي عبارة عن كتيبتين أعلى وأدنى النصّ، تحتويان على قلائد مذهّبة مزخرفة بالنباتات، يتوسط القلائد مربّع به اسم السورة وعدد آياتها ونوعها بخط كوفي أبيض كبير، يُحيط ذلك كله إطارٌ مذهّب مزركش بالرسوم النباتية على شكل قِباب وتيجان تكسو حُلّة اللوحة.

ثم أُطِّرَت الأوراق بإطار ملوَّن بالذهب والسواد، ورُسمت رؤوس الآيات على شكل دوائر مطموسة بالذهب مقسّمة بخطوط دقيقة، وكُتبت أسماء السور ونوعها وعدد آيِها بخط نسخٍ مذهّب داخل كتائب مزخرفة بالشكل النباتي على خلفية زرقاء، ثم رُسمت العُشور والخُموس والأسباع والأجزاء على شكل قلائد وصناديق مزخرفة مذيلة بالسواد والزرقة والذهب.

3- بيانات النَّسْخ:

في آخر الورق صرّح بأنه قد رفع ناسخ هذه النسخة الشريفة القلم عن الكتابة في أواخر القرن الثامن؛ حيث أنهاها في ثالث شهر المبارك شعبان سنة سبع وثمانين وسبعمائة، بيد السيد خليل التبريزي.

4- حالة النسخة:

هذه النسخة لم تُصَب بآفات تعرِّضها للتلف مِن تفكُّك أو تمزُّق أو أَرَضة أو حتى رطوبة وبلل، إلا ما كان في آخر الورق من انفكاكٍ يسير وردَ في بعض الصفحات عن بعضها.

 ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات وأسماء السور المعتمَدة في هذه النسخة:

اختص بعض العلماء أعداد آيات السور بمصنفات لإحصائها وضبطها، وإيراد الأقوال فيها، والخلاف الجاري بها؛ ولذلك كانت آيات القرآن محددةً معروفة الأول والآخر وأعدادها مضبوطة، وإنْ جرَى الخلاف بين الأقوال فهو خلاف طفيف بآية أو آيتين؛ فانتهَت الأقوال إلى مكي ومدني أول وثاني وبصري وكوفي وشامي.

وفي هذه النسخة التزم الناسخ قول البصري في ضبط العدد الذي اعتمد عليه، إلّا ما نراه من اليسير في السور مما أخطأ الناسخ به؛ حيث خالف ما كتبه في فاتحة السورة الأقوالَ المروية المعروفة، ثم خالف هذا العددُ المكتوب العددَ الموجود فعليًّا بعد التحقق.

 وبالمثال يتضح المقال؛ فقد عَنْوَن سورة هود بكونها مائةً وعشرين آيةً فخالف الأقوال، وهي: مائة وإحدى وعشرون للمدني الأخير والمكي والبصري، واثنتان وعشرون للمدني الأول والشامي، وثلاث للكوفي، وبعد التحقق وجدناها مائةً وإحدى وعشرين، أي: قول المدني الأخير والمكي والبصري، وبعد التدقيق وجدنا أنّ آية: {إن كنتم مؤمنين: 86} عدّها المدنيان والمكي ولم يعدّها الباقون، وهو في النسخة لم يعدها، وآية: {لا يزالون مختلفين: 118} لم يعدّها المكي والمدنيان وعدها الباقون، وقد عدها في النسخة رأس آية، مما يعني أنه ملتزم قول البصري دون غيره[1].

وأمّا أسماء السور فغالبها سمّاها بأسمائها المشتهرة عنها، المعروفة بها، اللهم إلا القليل مما خالف فيه فسماها بأسمائها غير المشتهرة بها؛ فـ{الإسراء} مثلًا سماها بـ{بني إسرائيل}، و{فاطر} بـ{الملائكة}، و{غافر} بـ{المؤمن}، وسمَّى {الشورى} بـ{عسق}، وسمى {الممتحنة} بـ{المودَّة}.

2- مخالفات الرسم العثماني في النسخة:

اعتمدَت المصاحف في كتابتها على الشكل المسمَّى بالرسم العثماني، وفيه ظواهر مخالفة للرسم الإملائي القياسي، وقد خالفَت في هذه النسخة -في النزر اليسير منها- بعضُ الكلمات التي رسمها بها الرسمَ العثماني، ونمثل لذلك[2]:

3- رحلة المخطوط:

لم يسجل على هذا المخطوط أختام ونصوص تفيد تملُّكات أو استعارات أو غير ذلك مما يفيد الحيازة المؤبدة أو المؤقتة، إلا القليل مما ابتدأ به المخطوط رحلته وانتهى.

حيث انتقلت بعد أن أنهاها التبريزي سنة سبع وثمانين وسبعمائة نسخًا إلى تملُّك الحاج (أبو الخير أحمد) بعد ثلاثمائة وثلاثٍ وثمانين سنةً، ثم جعَلها من موقوفاته إلى الآن في مكتبته المعروفة «مكتبة أحمد باشا» ضِمْن «مكتبة كوبريلي»، ورسم ذلك بخاتم وَقْف داخله ما نصه: «قد وَقَف هذه النسخة الوزير أبو الخير الحاج أحمد بن الوزير الأعظم الفاضل نعمان بن الوزير الأعظم العلّامة الصدر الشهيد مصطفى بن الوزير الأعظم النحرير أبي عبد الله محمد عرف بكوبريلي -أقال الله عثارهم- سنة 1170».

وتحته ختم آخر بداخله ما نصه: «هذا مما وقفه الوزير أبو الخير أحمد بن الوزير الأعظم نعمان».

خاتمة:

أخيرًا، فإن هذه النسخة قد عُرِضَت من جانبيها: الفني؛ من ناحية الشكل والخطّ والورق والمداد واللون، ومن حيث بيانات الحفظ والنسخ وما آلَت إليه حالة جسمها.

ومن الناحية العلمية؛ من حيث الآيات وأعدادها والسور وأسمائها والرسم العثماني ومخالفاته، ثم متى بُعِثَت هذه النسخة من الخَلق، وأين استقرّت في نهاية الأمر.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] ينظر: البيان في عدِّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ-1994م، ص(165).

[2] ظاهرة حذف الألف: جثمين: قال سليمان بن نجاح: «وجثمين بغير ألف قبل الثاء حيث ما وقع»، ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد - المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، (3/ 549).
- ظاهرة حذف الواو: الرءيا: ينظر: المرجع السابق، (2/ 67).
- ظاهرة زيادة الياء: تلقاءي: ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (1/ 53).
- ظاهرة زيادة الواو: سأوريكم: قال أبو عمرو الداني: «اعلم أن كُتّاب المصاحف أجمعوا على أن زادوا واوًا بعد الهمزة»، ينظر: المرجع السابق، (1/ 59).
- ظاهرة إبدال الألف واوًا: النجوة: ينظر: مختصر التبيين، أبو داود، (4/ 1074).
- ظاهرة إبدال الياء ألِفًا: تترا: ينظر: المقنع، الداني، (1/ 51، 70).
- ظاهرة الوصل والفصل: مال هذا: ينظر: مختصر التبيين، أبو داود، (3/ 811).
- ظاهرة كتابة الهمزة: يعبؤا: ينظر: المرجع السابق، (4/ 919).

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))