تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه
للشيخ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي الخطاط
عرض وتقويم

الكاتب : كبير بن عيسى
يُعدُّ كتاب (تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه) لمؤلِّفِه محمد طاهر بن عبد القادر الكردي من الكتب المهمّة التي أفردت موضوع تاريخ القرآن في مؤلَّفٍ مستقلّ، وتعرَّضت للعديد من المسائل المتعلّقة برسم المصحف، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بهذا الكتاب، وتُبرز موضوعاته ومحتوياته، مع طرح بعض الملاحظات حوله.

تمهيد:

  تأثّرت الدراسات القرآنية التي أبصرت النور في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر بالمنهج التاريخي النقدي بشكلٍ خاصّ، فانكبَّ بعض علماء الساميّات على درس القرآن الكريم، لاستكشاف الوقائع التاريخية المرتبطة به، وكيفية حدوثها، وعلاقتها بنشوئه ومصيره بعد ذلك، إضافة إلى محاولة إيجاد علاقة بين النصّ القرآني والكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، للوقوف على مدى تأثّر الإسلام باليهودية والنصرانية.

وفي هذا السياق، جاء كتاب (تاريخ القرآن) لتيودور نولدكه وزميليه، وهو مؤلَّف من أبحاث أدبية-تاريخية، تسعى إلى أن تؤرّخ للنصّ القرآني باعتباره أحد أهم وثائق التاريخ الإنساني، رابطة إياه بموقعه في الحياة، لتتابع بعد ذلك عملية جمعه وتعدّد قراءاته متوسّلة في ذلك بآليات البحث اللغوي الأدبي. ويُقَيِّم نولدكه القرآن لا باعتباره كتابًا مُنزّلًا، وإنما نصًّا وضعه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نتيجة إلهام، متفاعلًا مع الأحداث والتطوّرات الدينية والاجتماعية والسياسية التي واجهها خلال سنين[1].

وبغضّ النظر عن الأخطاء والخطايا التي في ذاك الكتاب، والتجني الذي في كثير من مواضعه على القرآن نفسه والنبي -صلى الله عليه وسلم- والأصحاب الكرام وعلماء المسلمين وعامتهم، بغضّ النظر عن ذلك كلّه؛ فإنّ هذا المصنَّف بذل فيه مؤلفوه جهودًا كبيرة، وجمعوا مادة علمية ضخمة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وحشروا ما أمكنهم من شبهات ومطاعن، فوفَّروا على علماء المسلمين مشقّة عظيمة في جمع المادة وتتبع الشبهات: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}[الأنفال: 36].

وكان الكتاب حافزًا للمؤلفين المسلمين للتأليف في علوم القرآن تحت مسمَّى (تاريخ القرآن)، وأوجدوا آليات جديدة للطرح تتماشى والمعطيات الأكاديمية الحديثة.

وإذا كان التأريخ لحدث مُعَيّن مُهِمًّا، فإنّ التأريخ لأشرف كتاب وأعظم خطاب، لكلام ربّ الأرباب، تأريخ لا يدانيه تأريخ، ويصلح أن يكون علمًا مستقلًّا بذاته. والمتقدمون وإن كانوا قد أحاطوا بكثيرٍ من مفردات هذا العلم إلا أنهم أدرجوه ضمن المؤلفات في علوم القرآن جملة، ومع ما استجد من أمور وأحداث؛ كالطباعة والترجمة والرقمنة وغيرها، فقد غَدَا استقلال القرآن الكريم بتاريخ يختصّ به ضرورة ملحّة، وفي إطاره يمكن القيام بدراسات عديدة تثري الدرس القرآني.

ومن أهم المؤلفات التي أُلِّفت في هذا الباب: (تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه) للشيخ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي الخطاط، والذي أفاد من كتاب نولدكه، كما أفاد من كتاب (تاريخ القرآن) للزنجاني[2]، وأضاف إلى ذلك كثيرًا من المسائل والتحريرات، وهذه المقالة تعرِّف بهذا الكتاب وتستعرض محتوياته وأهدافه ومميزاته، ونقدِّم بين يدي ذلك بالتعريف بالمؤلف -رحمه الله-.

المؤلف في سطور:

 هو العلّامة العبقري أبو عبد الرحمن محمد طاهر بن عبد القادر بن محمود الكردي المكّي الشافعي، المؤرخ المفسِّر الأديب الأريب المخترع الخطاط، سليل بيت علمٍ وفضلٍ، وُلد عام 1321هـ بأربيل عاصمة إقليم كردستان بالعراق، ثم انتقل مع والده الشيخ عبد القادر ليجاور بمكة المكرمة، تقربًا إلى الله واجتهادًا في العبادة.

تخرَّج في مدرسة الفلاح بجدّة عام 1339هـ، ثم التحق بالجامع الأزهر، ومكث سبع سنين ينهل من مَعِين كبار علمائه، وانضم إلى طلبة مدرسة تحسين الخطوط العربية الملكيّة، ودرس على أساتيذ هذا الفنّ بمصر والعراق، فبرع وأتقن الخطّ والزخرفة والتذهيب والرسم حتى شُهر بالخطَّاط.

ثم عمل موظفًا بالمحكمة الشرعية الكبرى عام 1348هـ، ثم مدرسًا لعدّة سنوات وفي مدارس مختلفة، ثم مديرًا لمدرسة تحسين الخطوط والآلة الكاتبة.

ثم عُيِّن عضوًا في اللجنة التنفيذية لتوسعة وعمارة المسجد الحرام عام 1375هـ، ثم رئيسًا لقسم التأليف والآثار التاريخية لمكتب مشروع التوسعة، واستمر به إلى إحالته على التقاعد عن رغبة منه عام 1383هـ.

وقد شارك في وضعِ الحجر الأساس لتوسعة الحرم الشريف، ووضعِ الإطار الفضّي للحجر الأسود، والإشراف والمشاركة في ترميم الكعبة الشريفة، ورَسم لوحة نادرة قـيّمة لمقام إبراهيم -عليه السلام- لم يَسبق لأحد أن قام بها، وهو صاحب فكرة بلورة المقام، وقد فكّر في استحداث مطاف علوي (دور ثان) يجري تركيبه أيام الموسم، ثم يُزال ليُعاد استعماله لحلّ مشكلة ازدحام المطاف[3]، إلى غير ذلك من المآثر التي أدخلَتْه سجلّ الخالدين.

وتُوفي صبيحة الاثنين: 23 من ربيع الآخر عام 1400هـ، مُخلِّفًا علمًا جمًّا أفادت منه أُمّة من الطلبة من جميع بلاد الإسلام، وتواليف نيّـفَت على الأربعين؛ في القرآن وعلومه، والفقه والسلوك، والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة، والخط وفنونه. وأبدع العديد من اللوحات الفنية، ومصحفًا بخطّ يده طارت به الركبان. رحمه الله وأسكنه الفردوس من الجنان[4].

بين يدي الكتاب:

صدرت الطبعة الأولى من كتاب (تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه) عام 1365هـ- 1944م، عن مطبعة الفتح الوطنية، جدة- المملكة العربية السعودية، في 226 صفحة.

ومؤلِّف الكتاب الشيخ الكردي، إن كان في الكثير من مصنفاته يحتذي من غيره بالمثال وينسج على المنوال، إلّا أنه بحسّه الفني المرهف وذوقه المبدع الرفيع يختطّ لنفسه خطة، تُكسِب عمله فَرادة وأصالةً لا تخطئهما العين، وكتابه (تاريخ القرآن) لم يخرج عن هذا السياق؛ فهو، مع كونه مضى على طبعته الأولى ثمانون سنة، إلّا أنه لم يفقد بريقه، وخير دليل على ذلك طبعه عديدًا من الطبعات في عدد من البلاد.

وقد تهيأ لهذا الكتاب من الأسباب ما جعله قبلة للطلاب؛ فهو من بركة كتابة المؤلف المصحفَ بيده، ثم إنه كان صَنَّف قبلُ كتابًا في تاريخ الخط العربي وآدابه. وهكذا اجتمعت المادة الخام (الرسم القرآني) مع الأدوات الإجرائية التي وفرتها الدراسات السابقة، فكان ثمرة ذلك كُلِّه هذا المصنف الذي كان مؤلفه يُجِلُّه لجلالة موضوعه[5]، ويَعدُّه طليعيًّا في بابه، مع اعترافه بريادة المستشرق الألماني نولدكه، إلّا أن ريادة الكردي كانت ريادة المختصّ المطَّلع المتضلِّع من لغته وتراثه، المتخصّص في فنّه[6]، المنافح عن دينه ولغته. مهبط الوحي مسقط رأسه ومنشؤه، أفنى عمره يستقصي أخباره، ويرسم معالمه، ويصوّر أحجاره، ويستكشف أسراره. أرض الحجاز مشتاه ومصيفه، وخطوط الصحب والأتباع فيها مؤنسه ومضيفه.

وقد اجتهد الكردي في أن تكون معالجته لموضوعات بحثه ملتزمة الموضوعية، تستنطق النصوص والمصادر، ولا تتعجّل النتائج قافزة على المقدمات. كتب كتابه هذا بذائقة فنية راقية، وخبرة تاريخية عالية، ومعاينة ميدانية، وتجربة شخصية في التعامل مع الرسم القرآني، وهو بعدُ أديب أريب، وشاعر لبيب يتذوَّق الكلمة. وهذه الأمور يعزّ علم أاجتماعها في أحدٍ ممّن ألّف في رسم المصحف.

محتويات الكتاب:

«(تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه): يبحث عن تعريف القرآن وما يتضمنه، وعن جمعه وكتابته، وترتيب آياته وسوره، وضبطه وتصحيحه، وعن غرائب رسم كلماته، وهل رسمه توقيفي أم لا؟ وعن حكم اتّباعه، وسبب نقطه وتشكيله، وعن معرفة الصحابة للإملاء والكتابة، وعن مقارنة كتاباتنا برسمه، وغير ذلك من المباحث القيمة». هكذا أُجمِل التعريف بهذا الكاتب في طبعته الأولى على ديباجته. وهو -كما يقول مؤلفه في مقدمته- محصورٌ: «في ستة أبواب وخاتمة، تحت كلّ باب جملة فصول»[7].

أمّا الباب الأول؛ ففيه التعريف بالقرآن، وإيراد ما اتَّصل بعظمته عن السيوطي والرافعي، وبعض منصفي الفِرنجة، وإنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، ومنها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منجمًا. وفي الباب الثاني حديثٌ عن جمع القرآن، واحتياط الصحابة في كتابته، وضبط نصّه وتصحيحه، وترتيب آيِه وسُوَرِه، وسبعة أحرفه. وفي الباب الثالث تعريف برسم المصحف العثماني وقواعده، واختلاف نسخه، وتوقيفية رسمه، وحكم اتّباعه، والجواب عمّا إذا كان الصحابة على معرفة بقواعد الإملاء والكتابة.

أمّا الباب الرابع؛ ففيه جوابان عن مسألتين؛ ماذا لو كتبنا القرآن بقواعد كتاباتنا؟ وماذا لو عكسنا فاتبعنا رسم المصحف العثماني في كتاباتنا؟ وفي الباب الخامس بيان رسم كَلِمٍ قرآني بعينها، والتمثيل لبعض غرائبها. أمّا الباب السادس: فمضمونه تعليلات لبعض مرسوم المصحف العثماني، وحديث عن اختراع النَّقْط والشَّكْل، وكتابة المصاحف قديمًا وحديثًا، وتعيُّن تلاوتها وكتابتها بالعربية، وكلام عن عدد أجزاء القرآن وأنصافه وسوره وآياته وحروفه.

وضُمّنت الخاتمة فوائدَ خمسًا ذات صلة بالقرآن؛ فضائله، والإكثار من تلاوته، وتجويده، وآداب قراءته، وآداب كتابته. ليجعل مسك الختام جملًا من الأمثال والحكم، ونظم ًاللمؤلف.

هدف الكتاب ومناسبته:

بعد أن شرع المؤلف في كتابة المصحف، ووصل إلى نحو خمسة أجزاء منه، كان الكلم الإلهي قد أسَرَه، وأوقفه على بعضٍ من وجوه إعجازه؛ يقول في ذلك: «وجدنا في الرسم العثماني العجب العجاب، ورأيناه جديرًا بدراسته وتحقيق النظر فيه، وحريًّا بأن تؤلَّف فيه رسالة خاصة، تُطبع وتُنشر في الأقطار الإسلامية، فألَّفنا هذا الكتاب، واستقصينا جميع أنواع الكلمات المخالفة لقواعد كتاباتنا، اللهم إلّا ما شرد عن النظر وغاب عن الفكر»[8]. ويبدو أن ما كان ينشره المستشرقون وغيرهم من شبهات تتصل بالقرآن كان حافزًا قويًّا أيضًا، كما يستشعره مَن يتأمّل الكتاب.

فهدف الكتاب المعلَن هو استقصاء جميع أنواع الكلم القرآني المخالف لقواعد كتاباتنا، إلّا ما نَدَّ منها، وأظنّ أنّ ثمة هدفًا آخر لم يتم الإفصاح عنه، وهو الرد على المستشرقين والمنحرفين المنتسبين إلى الإسلام[9]. وكأنّي بالمؤلف أراد أن يقول للمسلمين ولغيرهم: هذا هو التاريخ الحقيقي للقرآن، أمّا غيره، فلا يخلو من زيف وإنْ لَبِس لبوس العلم، وتدثَّر بدِثار التجرّد والموضوعية.

والمؤلّف قد ضيَّق حدود بحثه، فأطَرَه بالفتش في خبايا المرسوم القرآني، والمقارنة الدقيقة بالرسم الإملائي المتداول؛ يقول في ذلك: «وهذا الكتاب هو أول كتاب من نوعه، فإنه لم يؤلَّف في هذا الموضوع على نمطه كتاب مِن قبلُ. نَعَم لقد ألّف علماء القراءات المتقدمون في رسم المصحف العثماني مؤلفات جليلة، وحصروا مرسوم القرآن كلمةً كلمةً على هيئة ما كتبه الصحابة بحيث لم يَفُتهم شيء منه إلّا أنهم لم يبحثوا عنه كما بحَثْنا، ولم يقارنوا بين مرسومه كما قارنَّا. على أننا لا ندّعي الـمعرفة أكثـر منـهـم بل نمشي على ضوئهم، مع ما يفتح الله به علينا من فضله الواسع»[10].

والكاتب في مقاربته لموضوعه، يصدر عن مُحدِّدات منهجية منضبطة؛ فهو يحاصر موضوعه بذكاء واقتدار؛ تحاشيًا لتسرُّب خللٍ يفسد علميّة التناول، ويطعن في موضوعيّة المقدمات والنتائج أو يزلزل صِدقيَّتها.

وقد اتسم تعاطي الكاتب مع إشكاليته بالموضوعية والدقة والأمانة العلمية، وحُسن التناول، والإنصات إلى صوت المنطق، واستنطاق التاريخ لإنضاج المقاربة والنأي بها عن السطحية والتقليد. فهو يجتهد في الإحاطة بتفاصيل مادته العلمية، ليُوقِف قارئه على الجلية في كلّ قضية يطرقها قلمه. وقد أبان عن اقتدار وخبرة بالتأليف إذ استطاع أن يوجِز العبارة، ويُلمّ بأطراف إشكالياته مترامية الأطراف.

وقد توسَّل بأدوات منهجية مختلفة لتحقيق مراده؛ فنجد حضورًا للمنهج الوصفي التحليلي، والمنهج التاريخي، والمنهج الاستقرائي، وقبسًا من المنهج الإحصائي. تستأثر بعض الأبواب ببعضها دون بعض، وقد تلتقي كلّها في باب واحد، متفاوتة في نسبة اعتمادها، لكنها متآلفة فيما بينها تخدم غرض الكاتب، وهي طوع أمره.

من مزايا الكتاب:

تميّز الكتاب بعددٍ من المزايا، منها:

- العناية بالتأصيل إيمانًا منه بأنه قاعدة حُسن التحصيل؛ لذلك جاءت مسائله محرّرة، يفزع في مواضع النزاع منها إلى مواقع الإجماع، ويرتّب الإشكالات تبعًا لقوتها، ويعنى بالإجابة عليها.

- اعتماد المنطق السليم، والعرض المسلسل للوصول إلى نتائج منضبطة تشي عمومًا بتحكّم في مادة الكتاب، وحُسن تعاطٍ مع الأدوات المنهجية؛ فنجده مثلًا في سياق حديثه عن تعليلات بعض مرسوم المصحف العثماني؛ يُصدِّر له بقوله: «غير أن هذه التعليلات ما هي إلّا من قبيل الاستئناس والتمليح؛ لأنها لم توضع إلّا بعد انقراض الصحابة، وهم قد كتبوا المصحف بهذا الرسم لحكمة لم نفهمها، وإشارة لم ندركها من غير أن ينظروا إلى العلل النحوية أو الصرفية التي استنبطت بعدهم، ونحن نأتي بشيء من ذلك للعلم به»[11]. ثم ذكر بعضًا من تلك التعليلات، وأجاب عنها، ليَخلُص في نهاية الفصل إلى تأكيد ما قرَّره في مَطْلَعه[12]. وعلى هذه الجادة مشى في مجمل فصول الكتاب في تعامله مع المعطيات والنتائج.

- كرونولوجية العرض، وتسلسل الأفكار في الفصل الواحد، وإيراد خلاصة في نهاية عديد من الفصول تستعرض أهم مخرجاتها المعرفية، وتضمن سلاسة إبحار القارئ منها إلى التي تليها، وتربط الأفكار بعضها ببعض؛ إمّا نثرًا وإما نظمًا؛ طردًا للسآمة، وتسهيلًا للحفظ والاستذكار[13].

- توخّي الدّقة والأمانة العلميّة، ومراجعة أهل التخصّص من أهل بلده وغيرهم، فيما أشكل عليه؛ فقد استوضح من مرجع القراء بمكة المشرفة الشيخ أحمد بن محمد التيجي بشأن ألفاظ قرآنية معيّنة[14]، كما استفتى مشيخة المقارئ المصرية في تسعة عشر مسألة تتعلّق بالقرآن الكريم[15].

- اعتماده المعاينة الميدانية، كما في تقريره معرفة الصحابة بقواعد الإملاء والكتابة؛ حيث ذكر مشاهدته لبعض خطوطهم وكتاباتهم على الأحجار والجلود والبرديات المحفوظة بمصر[16]، وبأرض الحجاز أيضًا على الصخور والأحجار[17].

- لجم القلم لئلّا يحيد عن موضوع البحث، رغم تشعُّبه؛ يقول المؤلف: «ولقد بسطنا القول في هذا الكتاب عن القرآن العظيم من جميع نواحيه بسطًا وافيًا، ولم نتعرض للناسخ والمنسوخ، ولا لوجوه القراءات، وتراجم القراء؛ لأنّ كُلًّا من ذلك فَنٌّ مستقلّ بذاته يحتاج إلى مؤلَّف خاصّ، وجعلنا في ذيله هامشًا لزيادة الإيضاح وتمام الفائدة»[18].

- الحرص على الاختصار، ومجانبة الحشو والإطناب؛ فنجده كثيرًا ما يأتي بعبارات مِن قبيل: ولولا خوف التطويل، وتغني عن التطويل[19].

- تنويع وسائل الشرح والإيضاح؛ فنجد الجداول[20]، والأمثلة[21]، والمتون التعليمية.

- حضور الحسّ التربوي التعليمي؛ فيتعاطى مع قارئه بحسِّ المعلِّم الشفيق الحريص على إيصال المعلومة من أقرب طريق، وإشراكه فيما توصل إليه وإمتاعه به، وتوصيته بالانتفاع به.

ملاحظات حول الكتاب:

لأنّ النقص مضروب على جملة الخليقة، فإن الكتاب الذي بين أيدينا لم يخلُ من هنّات، لكنها قليلة لا تكاد تجاوز عدد الأنامل، ولا مجمل حركات العوامل، على حدّ قول القائل:

ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلُّها *** كفَى المرء نُبلًا أنْ تُعَدَّ مَعايِبُه

فمِن ذلك:

- ذكَر المؤلف في مقدمة كتابه أنه استقصى جميع أنواع الكلمات المخالفة لقواعد كتاباتنا[22]، إلّا أننا نجده بعد ذلك يقرّ بالعجز عن توفية المقام حقّه، فيقول: «...إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره. فلو تكلَّمنا على مرسوم القرآن كَلمةً كَلمةً، لقَصُر بنا الحال، وطال بنا المجال، وفيما ذكرناه هنا، وفي الفصول السابقة كفاية لأولي الألباب»[23].

- عدم عناية صاحبه بنقد المنقول إلّا نادرًا[24]، وتسمُّحه في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة، مع أن ذلك لا يجوز إلّا بشروط ذكَرها أهل العلم.

- إفراده الباب الخامس بالعنونة (في ذِكر شيء من مرسوم القرآن الكريم) دون باقي إخوته.

- يُقدِّر أنه كما أُدْخِل النّقط والشّكل ووُضِعَت علامات التجويد فوق الكلمات، وعلامات الضبط في المصاحف، سيأتي على الناس زمان يُدخِلون فيها علامات الترقيم كعلامة الاستفهام والتنصيص والتأثر، وهو لا يرى بذلك بأسًا لأنها من دواعي سرعة الفهم، ومن محسنات الكتابة، لا دخل لها في جوهر الحروف والكلمات، ولا تغير اللفظ ولا المعنى. وقد ألّف في ذلك رسالة وسمها بـ: (الاستحسان في وضع علامات الترقيم في القرآن). وفي تقديري أن القياس الذي أقامه المؤلف هو قياس مع الفارق، والمقام لا يتّسع لمناقشته في هذه المسألة، فهي سابغة الذيول.

خاتمة:

تبيَّن من هذا العرض لكتاب (تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه) قيمة هذا الكتاب العلمية، وعلوّ كعب مؤلِّفه فيما تصدَّى لبيانه، وحسن ترتيبه وتحريره لِمَا قصد إليه، وما تهيَّأ في الكتاب ومؤلِّفه من مقوِّمات داعية إلى أهمية الاعتناء به من المهتمين بهذا الباب من الدراسات القرآنية.

وفي نهاية هذا العرض، نَودُّ الإشارة إلى أن المجال لا يزال خصبًا في هذا الفنّ المستقلّ: (تاريخ القرآن الكريم)، وأن الوسائل الحديثة كفيلة بالكشف عن مزيد من الأسرار، ليتأتَّى استقصاء الكلم القرآني ومقارنته بنظيره الإملائي بسهولة ويُسر. واللهُ الهادي، لا ربّ غيره، ولا إله سواه.

 

 

[1] انظر: تاريخ القرآن، تيودور نولدكه وزميلاه (هيلدسهايم- زوريخ- نيويورك، جورج ألمز، 2000م)، مقدمة الترجمة العربية.

[2] انظر: الزنجاني، أبو عبد الله (منظمة الإعلام الإسلامي، إيران، 1984م).
الإفادة من كتاب نولدكه، وبدرجة أقلّ من الزنجاني الذي أفاد هو أيضًا من المستشرق الألماني، تلك الإفادة كان معظمها في الأبواب الثلاثة الأولى من المصنف (انظر مثلًا: ص47، 75، 132)، أمّا بقية الأبواب التي هي جوهر الكتاب، فقد استخلصها الكردي لنفسه، ولم يجعل لأحد فيها نصيبًا إلّا نادرًا.

[3] انظر: التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، محمد طاهر الكردي المكي (لبنان، دار خضر، 2000م)، ج1، ص23.

[4] انظر لترجمة المؤلف: تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف (لبنان، دار ابن حزم، 2002م)، ج2، ص174. أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري، محمد علي مغربي (السعودية، دار العلم، 1984م)، ج2، ص315.

[5] يقول في ذلك: «وإني، بحمد الله تعالى، قد اشتغلت بالتأليف في مختلف العلوم والفنون، منذ أربعين سنة حتى بلغَت مؤلفاتي نحو أربعين كتابًا، أجلها وأعظمها كتابتي لمصحف مكة المكرمة...، و(تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه)...، و(التفسير المكي)...». التاريخ القويم، محمد طاهر الكردي، ج1، ص47.

[6] انظر: التاريخ القويم، محمد طاهر الكردي، ج1، ص23.

[7] انظر: التاريخ القويم، محمد طاهر الكردي، ج1، ص47.

[8] انظر: التاريخ القويم، محمد طاهر الكردي، ج1، ص47.

[9] انظر: ص53، 121، 127.

[10] انظر: ص7.

[11] انظر: ص175.

[12] انظر: ص179.

[13] انظر مثلًا: ص44، 46، 73، 156، 175، 179، 119.

[14] انظر: ص88، 116، 118، 127، 141.

[15] انظر: ص93، 112، 116، 121، 151، 153.

[16] انظر: ص129.

[17] انظر: ص130-131.

[18] انظر: ص7.

[19] انظر مثلًا: ص33، 34، 83، 88، 96، 112، 115، 141، 154، 156، 193، 198.

[20] انظر: ص9، 142.

[21] انظر: ص98، 141، 147.

[22] انظر: ص4.

[23] انظر: ص167-174.

[24] انظر: ص57.

الكاتب

الدكتور كبير بن عيسى

حاصل على الدكتوراه في اللغة والأدب العربي - جامعة جيلالي ليابس بالجزائر، وله عدد من البحوث العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))