دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بالمكتبة الوطنية بباريس برقم (6041)

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بها.

  كان النشاط في أول الأمر بين القبائل العربية مهدرًا في عمل الذِّراع وإهمال اليَراع، فلما أظهر الله دينَه وأنزل على قلوب الناس كتابَه ويقينه، نطقَتْ حالهم عن هِمَّة عجيبة، وانقدحت في أذهانهم أفكار لبيبة، وهُتِكَتْ أستار الغفلة والرّيبة، فجال المِداد على أسنّة الأوراق، وكَتبَتْ سيوف العلم على الرِّقاق كلام الحقّ تعالى، تعظيمًا ورسمًا وتقديسًا ثم روايةً وضبطًا وتدريسًا، فأكبَّ النُّسَّاخ على مَشْقِه بذائقةِ الحال قبل رَشْق المقال، حتى امتلأت الدنيا بنُسَخه، وفاضت المكتبات بطُرَزِه. وها نحن نُقبل على إحدى هاتيك النفائس، ننشر عبق معرفتها من الناحية المادية ونسير في أنوار أروقتها العلمية.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والخط والورق والمِداد:

هذه النسخة الشريفة من محفوظات المكتبة الوطنية بباريس تحت رقم «6041»، موزعة على مائة وخمس وعشرين ورقةً، في سبعة أسطر للصفحة الواحدة، على ورق بُنّي اللون بمداد أسود للنصّ ومُذَهَّب لِمَا عدَاه من فواتح سور أو عشور أو خموس أو سجدات، بخط نَسخ مجوَّد للنصّ القرآني وكوفيٍّ لِمَا عداه.

2- التجليد والزخرفة والتذهيب:

النسخة مجلَّدة بالجلد البُنّي المزخرف من أطرافه بالزخرفة المضغوطة المرسومة بالشكل النباتي، المؤطَّرة بإطار ذهبي دقيق يتلوه إطارٌ مقصوصةٌ زواياه على أشكال مثلثات أربعة، وفي منتصفه قلادة متطاولة مزخرفة بالشكل النباتي المُذَهَّب، ثم في بطانته زخرفات نباتية وكتابية متداخلة مذهَّبة بديعة تمتد على جميع الوجه الأول ثم وجه فيه الألوان متداخلة من الأبيض والأحمر والأسود والذّهَب.

 

ثم في الورقة التالية رُسِمَت لوحتان مزخرفتان صغيرتان أعلاهما على شكل دائرتين متداخلتين مزخرفتين مؤطَّرتين بإطار أزرق عليه زركشات منقَّطة تحيطه من جوانبه ذؤابات مذهَّبة، وبداخل هذا الشكل أشكال نباتية مكتوب عليها بخط كوفي مذهب كبير «السُّبع الخامس» على أرضية ذهبية مشبّكة.

وبأسفل الورقة شكل مزخرف ككتيبة بيضوية الشكل يحيطها إطار ملون بالحُمرة، وحوله آخر مزخرف بالحمرة والزرقة وبداخله أشكال نباتية مكتوب عليها {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون}.

 

ثم في الورقة التالية لوحتان مزخرفتان بالشكل الهندسي البديع على شكلِ مستطيل مؤطَّر بالزُّرقة، ثم إطار منقَّط بالألوان تتعانق فيها الأشكال والمتوازيات بالذَّهب والدوائر الزرقاء تحيط مستطيلًا بداخلها، يحتوي بأعلاه وأسفله كتيبتين، بكلّ واحدة خطوط هندسية متداخلة بعشر خرزات زرقاء بينهن أربع زهور مذهّبة، وبين الكتيبتين مربّع من جوانبه زوايا نباتية مذهّبة بداخله دائرة عظيمة الشكل بهيّة المنظر، تحتوي على أشكال هندسية معشقة ببعضها، مكسوّة بالذهب مطليّة بالزرقة يتوسطها نجمة حمراء.

وعلى جانب اللوحة الممتدة قلادة متصلة بها، جميلة مزخرفة بالأشكال النباتية مذهبة مؤطّرة بالزرقة.

 

 وفي الورقة التالية بدأ النصّ القرآني الذي اكتست أرضيته بالزخرفات المطفأة، وحوله إطار متضافر الشكل مذهّب بأعلاه كتيبة مقسمة إلى ثلاثة أقسام، زيّن القسم المتوسط بالأشكال النباتية داخل مسدس منقّط بالأبيض تحيطه من زواياه أشكال نباتية بديعة، وبداخله كتبت كلمة «السُّبع» -ومثله على الوجه الآخر «الخامس»- بالكوفي المذهب، وعلى جانبي الكتيبة زخرفات هندسية متداخلة بالأبيض والذّهب والزُّرقة والحُمرة، كتب فيها بالكوفي «المُلْك لله»، ثم عن يمين الكتيبة مربع يحتوي قلادةً مليئةً بالأشكال النباتية الخلَّابة الملونة بالذّهب والزرقة والسواد، وتحتها مستطيل به خطوط معشَّقة يحيطها أشكال منحنية، وتحته دائرة زرقاء بأشكال نباتية داخلها مربعان مذهّبان متداخلان يتوسطهما زهرة، ثم تحتها مستطيل آخر على شكل صندوق كالذي فوقها ثم دائرة تشابهها، كلّ ذلك مطليّ بالذهب، ومثل ذلك كلّه في الوجه الثاني من الورقة.

 

ثم زخرف الخموس والعشور ورؤوس الآيات وعلامات الوقف وغيرها بأشكال هندسية أحيانًا ونباتية أحيانًا أخرى، يكسوها الذّهب والزرقة والحُمرة والبياض، تختلف باختلاف أماكنها وتواجدها، وكذا فواتح السور رَسَمَ كتائبَ متنوعةً وزَخْرَفَها بأشكال مختلفة بألوان مختلفة، كَتَب بها أسماءَ السور وعددَ آيِها، ونوعَها؛ مكيةً أو مدنيةً، بالخط الكوفي المذهَّب.

 

3- حالة النسخة:

هذه النسخة ليست للقرآن كاملًا إنما للسّبع الخامس منه كما عرفت عن نفسها من أولها، وهي تبدأ وتنتهي بما حدده العلماء للسبع الخامس من الآية السادسة والخمسين من سورة المؤمنون: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}، إلى نهاية العشرين من سورة سبأ: {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[1].

وقد أصيبت هذه النسخة في بضعة مواضع ببعض آثار الرطوبة والبلل مما استدعى ترميمًا غطَّى بعض أطرافها، وذلك في الأوراق الأولى فقط، واليسير من البُقَع على بعض المواضع.

4- بيانات النسخ:

اتضح في آخرها بصريح النصّ أن الذي كتَبها هو الناسخ «عثمان بن محمد»، وقد انتهى من نسخها في بلدة «بُسْت»[2] من شهور سنة خمس وخمسمائة للهجرة.  

         

وقد اشترك معه فيها ناسخ آخر زخرف اللوحات والقلائد والفواتح وذهّبها، وهو صاحب الخط الكوفي في هذه النسخة؛ وذلك يتضح لأن اسمه موجود في كتيبة مزخرفة بأسفل الورقة الأخيرة بنفس الخط المنسوب إليه وهو «علي بن عبد الرحمن».

«ذهَّبَه عليّ بن عبد الرحمن»

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- أعداد الآيات في سور النسخة[3]:

تعددت مصنفات العلماء في عدِّ آيِ القرآن؛ مثل الداني والسخاوي والسيوطي وغيرهم من أرباب هذا الفنّ، واتفقوا على أنّ الأقوال التي انتهت إليها المقالة في ضبط الأعداد هي قول المدني الأول والثاني والمكي والبصري والكوفي والشامي مع اختلافٍ طفيف فيما بينهم.

وعنهم أَخَذَتِ الأُمّة في تحديد أعداد الآيات لكلّ سورة، وتحديد الرؤوس التي انتهت عندها الآيات.

وفي هذه النسخة ابتدأ الناسخ من منتصف سورة المؤمنون إلى آخرها وهي مائة وثماني عشرة آيةً عند الكوفي، وتسع عشرة عند غيره، وبعد التتبّع اتضح أنها تُنْسَب إلى الفريق الثاني فقد جعل {تُسْحَرُونَ} على رأس تسعين آيةً وهي في ترتيب الكوفي التاسعة والثمانون.

ثم سورة النور أربع وستون عند الكوفي والشامي والبصري، وهو ما اعتمده في النسخة، وثلاث وستون عند المكي والمدنيين.

وما زال يتابع البصري -الذي يوافق بعض الأقوال أو يخالفها أحيانًا- إلى آخر النسخة التي تحتوي أيضًا سورة الفرقان والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ.

2- الوقف والابتداء:

قال علي -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل: 4]: «الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف»، وقال ابن الأنباري: «من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء؛ إِذْ لا يتأتَّى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، فهذا أدلّ دليل على وجوب تعلُّمه وتعليمه»[4].

ولذلك اعتنى به العلماء فقسَّموه إلى تقسيمات كثيرة اختلفوا فيما بينهم فيها؛ فمنهم من جعلها أربعةً: تامٌّ مختارٌ، وكافٍ، وصالحٌ مفهوم، وقبيحٌ متروك، وهذا اختاره أبو عمرو. ومنهم من جعلها ثلاثةً: مختارٌ وهو التامُّ، والكافي الذي ليس بتام، وقبيحٌ وهو ما ليس بتامٍّ ولا كافٍ. ومنهم من جعلها قسمَين: تامّ وقبيح[5].

وفي هذه النسخة اهتم الناسخ بإيضاح مواطن الوقف بأنواعها التي اعتمدها العلماء؛ ففي سورة النور -مثلًا- وقف على: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور: 1] وهو وقف تام[6]، وقال الأشموني[7]: «فإن جعل {تَذَكَّرُونَ} متصلًا بـ{أَنْزَلْنَاهَا} حسن الوقف عليه، وإن جعل متصلًا بـ{فَرَضْنَاهَا} لا يحسن الوقف عليه».

ثم وقف على قوله: {مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور: 2] وهو وقف حسن[8]، ثم وقف على: {الْآخِرِ}[النور: 2] وهو وقف كاف، وقال الأشموني وشيخ الإسلام: «حسن»[9]. ثم عند قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 2] وهو وقف كاف، {أَوْ مُشْرِكَةً}[النور: 3] وهو وقف جائز[10].

 

3- الرسم العثماني:

قال ابن خلدون في المقدمة[11]: «وربما أضيف إلى فنّ القراءات فنّ الرسم أيضًا، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطّية؛ لأن فيه حروفًا كثيرةً وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة الياء في: {بِأَيْيدٍ}[الذاريات: 47]، وزيادة الألف في: {لَأَاذْبَحَنَّهُ}[النمل: 21]... فلما جاءت هذه مخالفةً لأوضاع الخط وقانونه، احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضًا عن كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني... فكتب فيها كُتبًا، من أشهرها: كتاب المقنع... ونظَمَه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على رويّ الراء... ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد، في كتبه... ثم نقل بعده خلاف آخر، فنظمَ الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزةً أخرى زاد فيها على المقنع خلافًا كثيرًا».

وفي هذه النسخة الجليلة ظهر بعض المخالفات للرسم العثماني المعتمَد في رسم المصاحف في الظواهر التي تميز بها وهي: الحذف والزيادة والإبدال والوصل أو الفصل وكتابة الهمزة. ولنضرب لتلك المخالفات أمثلةً من نسختنا[12]:

 

الخاتمة:

تُعَدُّ هذه النسخة من النسخ العتيقة التي قاربت أن تكون ألفيةً، وقد اكتملت فيها شروط ومظاهر الكتابة التي استقر عليها العلماء، إلا ما كان من اختلافات بسيطة بين المشارقة والمغاربة.

وقد تمت مناقشتها من جوانبها الفنية والعلمية، من حيث مكان الحفظ، والورق، والخط، والزينة والتذهيب، ثم زمن ومكان النسخ الذي اتضح في آخرها ومَن تولَّى شرف كتابتها، ثم حالتها.

ثم عرَّجنا على تتبع المذهب الذي اعتُمِد فيها لضبط أعداد الآيات وهو مذهب أهل البصرة، ثم مواطن الوقف، والمخالفات التي خالف بها الرسمَ العثمانيَّ بعد سَرْد معناه.

وفي النهاية تؤكد هذه الدراسة على نفاسة هذه النسخة للقيمة التاريخية العلمية التي تحملها، ولتعاقبها على ناسِخَيْن: أحدهما مُذَهِّب مُزَيِّن ويقسِّم الأسباعَ والأعشارَ وأنصافها وأرباعها وغير ذلك من التقسيمات، والثاني كاتبٌ للنصّ القرآني، ممّا يدلّ على مزيد عناية وإيلاء اهتمامٍ كبيرٍ بها.

واللهُ الموفِّق، والحمد لله رب العالمين

 

[1] ينظر: فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، دار البشائر - بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1408هـ- 1987م. ص256.

[2] بُست: بالضم: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، من أعمال كابل، وهي من البلاد الحارة المزاج، وهي كبيرة، وسُئل عنها بعض الفضلاء فقال: هي كتثنيتها يعني: بُستان، وقد خرج منها جماعة من أعيان الفضلاء، منهم: الخطابي أبو سليمان حمد بن محمد البستي صاحب «معالم السنن»، وأبو حاتم محمد بن حبان الإمام العلامة الفاضل المتقن صاحب التصانيف المعروفة. ينظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، الطبعة الثانية، 1995. ج1، ص415.

[3] ينظر: البيان في عدّ آيِ القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ-1994م. ص191- 209.

[4] ينظر: منار الهدى في بيان الوقف والابتدا، أحمد عبد الكريم الأشموني، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422- 2002. ص12.

[5] ينظر: المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422- 2002. ص16، 17.

[6] ينظر: المقصد لتلخيص ما في المرشد، ص532، المكتفَى في الوقف والابتداء، أبو عمرو الداني، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1407هـ- 1987م. ص405.

[7] ينظر: منار الهدى، الأشموني، ص532.

[8] ينظر: المرجع السابق نفسه، ص532. قال في المقصد: «كاف». ص532.

[9] ينظر: المكتفى، الداني، ص405. المقصد لتلخيص ما في المرشد، زكريا الأنصاري، ص533. منار الهدى، الأشموني، ص532.

[10] ينظر: منار الهدى، الأشموني، ص532.

[11] ينظر: مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، مكتبة الهداية - دمشق - زملكا، الطبعة الأولى، 1425هـ- 2004م، ج2، ص174.

[12] الحذف: ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد - المدينة المنورة، 1423هـ -2002م، ج4، ص888.

الزيادة: قال أبو عمرو: «واتفق كُتّاب المصاحف على رسم ألف بعد الواو صورة للهمزة في قوله في المائدة: {أنْ تَبُوأَ بإثمي}[المائدة: 29]، وفي القصص: {لَتنُوأُ بالعُصبة}[القصص: 76]، ولا أعلم همزة متطرفة قبلها ساكن صُوِّرَت خطًّا في المصحف إلا في هذين الموضعين لا غير». ينظر: المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمرو الداني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ج1، ص49.

الإبدال: ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص104، مختصر التبيين، أبو داود، ج2، ص69.

الفصل والوصل: ينظر: المقنع، الداني، ج1، ص74، مختصر التبيين، أبو داود، ج2، ص399.

الكاتب

حمزة موفق العائدي

باحث شرعي، نال شهادة الليسانس من كلية الشريعة بجامعة دمشق، ويعمل في مجال المخطوطات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))