دراسة لمخطوط مصحف مكتبة قيسري راشد أفندي برقم (4) - تركيا

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة قيسري راشد أفندي بتركيا، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والأدبية والعلمية المتعلقة بها.

  الكتابة من أهمِّ وسائل حفظ بنات الأفكار في بطون الأسفار، ولذلك جُعِلت من أجلِّ ما انصرفت إليه النُّفوس العالمة، والألباب الحالمة، فصارت الدواةُ تاجًا وسلطانًا، والقلمُ سيفًا وجَنَانًا، تحكي بهم الملوك سيرة ما بنوه، وغاية ما أمِلوه وأمَّلوه.

وأولُ ما كانوا يدونونه في خزائنهم تبَرُّكًا، وخيرُ ما كانوا يحفظونه في مكتباتهم تحوُّطًا؛ كتابُ الله تعالى، ولقد كثرت النُّسخ من المصاحف حتى فاضت بها المكتبات، وكثرت أماكن حفظها؛ وبين أيدينا نسخة منها سنتناولها من جوانبها: المادِّيّ، والأدبيّ، والعلميّ.

أولًا: الجانب المادّي:

1- بيانات الحفظ والورق والخطِّ:

هذه النُّسخة موجودة في مكتبة (قيسري راشد أفندي) بتركيا تحت رقم (4)، وتتوزَّع هذه النُّسخة على مائتين وثلاث وستِّين ورقة، وسطورها مختلفة بين الأوراق بين ثلاثة عشر سطرًا وخمسة عشر، بخطّ نسخٍ واضحٍ، وقد ضُبِطَت هذه النُّسخة وأُعجِمَت حروفها بتمَامِها، وكُتِبَت بالرَّسم العثماني.

2- بيانات النَّسْخ:

رُقِمَت هذه النُّسخة في ديار هراة المباركة، في عاشر الشهر الرابع من السَّنة الثانية من العقد الثاني بعد الألف الأولى من الهجرة الشريفة، من يد السيد الشريف الحسيب النَّسِيب لطيف بن شريف الحُسيني الهَروي.

3- الزخرفة والتزيين والتذهيب:

تتميز هذه النُّسخة بجانبها الفنِّي؛ فقد تمَّ الاعتناءُ بها من ناسخها حتى إنها لَتلفت نظر الناظر بها عن التلاوة والتدبُّر لرِفعة الذَّوق وجمال مَشْقِ القلم.

فالصورة الأولى منها سورة الفاتحة وأوائل البقرة قد زُخرفت بلوحةٍ استهلاليَّة تداخل فيها التذهيب بين الكلام والرسم، فقد جُعِلَت الجملة المتوسطة في الصفحة بخط مذهب أكبر من باقيها، ثم زُخرِف بين الأسطر بأغصان دقيقة زرقاء، يُحيط الآيات عمودان من يمنة ويسرة، يحتويان على تِيجان مذهَّبة مكسوَّة بالزُّرقة والحُمرة، يعلوها كتيبة بديعة مزخرفة بالقلائد المذَّهبة على أرضيَّة زرقاء، مكتوب فيها اسم السّورة بحِبْر أبيض يكسوها خطَّين مُتضافرين بالذهب، وكذا كتيبة بأسفلها بها عدد الآيات، ويحيط ذلك كلَّه إطارٌ داخله زخرفة نباتيَّة بألوان متعدِّدة على أرضية سوداء، ثم تحيطها التِّيجان المذهبة العريضة المبسوطة على باقي الورقة المكسوّة بالمزركشات والرؤوس الذهبية والألوان المتداخلة على خلفيَّة زرقاء.

واختلف شكل الصفحة في هذه النُّسخة، حيث كُتِب في أعلى الورقة ومُنتَصفِها وأسفلها سطرٌ بخطِّ ثلُثٍ جليّ مذهَّبٍ كبيرٍ داخل صندوق مذهّب، ثم يكتب ما فَضُلَ من السّطور بخطِّ نَسخٍ واضح بحجم أصغر، يحيطهم صندوقان مذهبان مزخرفان بأركان وصرَّة مستطيلة مذيَّلة مزركشة بالزُّرقة والذهب، يحيط ذلك كلَّه ثلاثةُ إطارات سوداء وذهبيّة وزرقاء، وانتهت رؤوس الآيات بدوائر ذهبيّة مُحاطَة بالزُّرقة بداخلها خمسة خطوط معقوفة يتوسَّطها نقطة حمراء.

ثم إنَّ فواتحَ السّور وأسماءَها قد كُتبت داخل كتيبات مُتَّحِدَة الشكل واللون والخطِّ، حيث زُخرِفت بالشكل النَّباتي ولُوِّنت بإطارات حمراء وزرقاء على أرضيَّة ذهبيَّة، وكُتِب اسمُ السّورة وعدد آياتها ونوعها بين مكيّ ومدنيّ بخطِّ ثلُثٍ جليّ أبيض.

وعلى هوامش النُّسخة في جميع أوراقها اختلفت أشكالُ السجدات والأجزاء والأحزاب والعُشور والخُموس على شكلِ شمسيَّات مصغَّرة مذهّبة بهيئات مختلفة، مزركشة بالزُّرقة والحُمرة، وكُتب البيانُ فيها بخط كوفي أبيض وأحمر.

وجُلِّدت هذه النُّسخة بتجليد أسود تآكلت بعض أطرافه يسيرًا، ومبطَّن ببطانة حمراء، يتلوه بعدَ ورقة غلافه لوحتان مؤطَّرتان بالذهب ومزخرفتان بالشكل النَّباتي، يتوسطهما شمسيتان بديعتان كُتب فيهما آيات عن الجَنَّة، وبأعلاها وأدناها رُسِم نصُّ الوقف بخطِّ ثلث مذهب، وفي آخرها كذا نفس اللوحتين، وقد كتب داخل الشمسيَّتين: {اللهُ لطيفٌ بعباده يرزقُ مَنْ يشاءُ وَهُوَ القويّ العزيزُ}.

4- حالة النُّسخة:

ولقد أصاب البَلَلُ أعلى صفحات النُّسخة، وبعض أطرافها بالرُّطوبة، وغطَّى الترميم بعض مَناحٍ من أوَّل الأوراق، ولم يؤثِّر ذلك على أوراقها وحِبرها ومادَّتها تأثيرًا مغيِّرًا لشكلها، مؤثِّرًا على جسمها، ونجَت من آفات التمزُّق والتفكُّك، ولعلَّ الترميم قد عالج هذه الآفات فغطَّاها؛ ونقصت أوراقها بسبب التصوير لعدم ظهور ما يشير إلى أيِّ تفكُّكٍ أو تمزُّق فنقصت منها {الانفطار}، و{المطففين}.

ثانيًا: الجانب الأدبي:

1- التَّملُّكات والوقوفات:

هذه النُّسخة حَظِيت بقلم ناسخها فقط، فلم يُسجَّل عليها ما يُفيد انتقالها لمتملِّك أو ما يُشعِر بالحيازة والاحتِراز، اللهمَّ إلَّا ما كان في أوَّلها من نصِّ الوقف المرسومة صورته أعلاه، الذي أشار إلى أنَّها أُوقِفَت من قِبَل محمد باشا علَى طلبة العلم في القيصرية وهذا نصه:

(وقف وقفًا شرعيًّا، وتصدَّق لمرضات الله تعالى ورسوله عليه أزكى الصلاة وأنمى التحيَّات، هذا المصحف الشريف بخطِّ السيد لطيف بن شريف الحسيني الهروي ابتغاءً لمرضات الله تعالى وحسن توفيقه، صاحب الخيرات والمبَرَّات، أحوج العباد إلى واهب الدَّرجات محمد باشا حفظه الله ويسره ما يشاء، لجميع طلبة العلوم ووضعه في الجامع الشريف الذي تشرَّف ببنائه الواقف المشار إليه الواقع في قرية أركلات من مضافات القيصرية بشرط أن يقرأ في محلِّه، وينقل منه برَهْنٍ إلى المدينة القيصرية، ولا يرهن ولا يباع، فمن بدَّله بعدما سمعه فإنَّما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم).

2- رحلة المخطوط:

ولقد تنقَّلَت هذه النُّسخة الشريفة بين البلاد وأيدي الحفَظَة مسافاتٍ وأزمِنةً؛ فقد رفع ماشِقُها اليد عنها في بلدة هراة من بلاد ما وراء النهر من عاشر ربيع الآخر سنة ألْف واثنتي عشرة، ثم انتقلت إلى المدينة القيصرية في البلاد التُّركية موقوفة من قِبَل محمد باشا على طلبة العلم الشريف في مسجده الذي بناه بقرية أركلات من مضافات القيصرية، ثم برَهْنٍ إلى المدينة القيصرية.

ثالثًا: الجانب العلمي:

1- المختلف من أعداد آيِها وأسمائها:

تخالفت أعداد الآيات في الكثير من السّور في هذه النُّسخة عن الأقوال المعتمدة، بوصل رؤوس الآيات أحيانًا، أو بزيادتها أو اختلاف ترتيبها، ونضرب لذلك مثالَين:

- ففي سورة النساء كتب في افتتاحها أنَّها مائة وستٌّ وستون، والأقوال دائرة بين خمس أو ست أو سبع وسبعين ومائة، والمواضع التي فيها تغاير بالوصل أو بالترتيب:

{حوبًا كبيرًا}، {ألَّا تعولوا}، {لهنَّ سبيلًا}، {وساء سبيلًا}، {كان بكم رحيمًا}، {عليمًا خبيرًا}، {أن تضلوا السبيل}، جعلها رأس آية، عدَّها الكوفيّ والشاميّ دون الباقين.

{افترى إثمًا مبينًا} أخطأ في قوله: (مبينًا) وهي {عظيمًا}، وهي رأس آية بالاتفاق وقد وصلها. {توابًا رحيمًا}، {ويسلموا تسليمًا}، {وكفى بالله عليمًا}، {عليهم سبيلًا}، كتب {وأعد له عذابًا أليمًا} بدل {عظيمًا} وهو خطأ، {وساءت مصيرًا}، {عدوًّا مبينًا}، {وإثمًا مبينًا}، {ونصله جهنم وساءت مصيرًا}، {خسرانًا مبينًا}، {لا يظلمون نقيرًا}، {غنيًّا حميدًا}، {خبيرًا}، {ذلك سبيلًا}، {عذابًا مهينًا}، {وما قتلوه يقينًا}، {عزيزًا حكيمًا}.

- وفي سورة {الأنعام} افتتحها بأنَّها مائة وخمس، والأقوال تتَراوح بين كونها مائة وخمسًا أو ستًّا أو سبعًا وستين آية، وعند جمع الرؤوس المكتوبة نجدها مخالفة للعددين؛ فوصل رؤوسًا متَّفقًا عليها، مثاله:

{ما كانوا به يستهزءون}، {عذاب يوم عظيم}، {مما تشركون}، {فهم لا يؤمنون}، وصلها وهي رأس آية بالاتِّفاق.

ثم سمَّى بعض السور ببعض أسمائها الأخرى الواردة غير المشهورة بها، مثل سورة {الإسراء} سماها بسورة {بني إسرائيل}، وسورة {فاطر} سماها بسورة {الملائكة}، وسورة {غافر} سماها باسمها الآخر {المؤمن}، وسورة {فصلت} سماها بسورة {السجدة}، وسورة {الزلزلة} سماها بــ{الزلزال}، وسورة {المسد} سماها بـ{الحطب}.

2- منصوص هذه النُّسخة من مكِّيها ومدنيها:

أغلب السّور في هذه النُّسخة نصَّ على تفصيل تنزيلها بين مكي ومدني، وقد اتَّفق معظم ما ذكر مع ما اشتُهر في المكي والمدني، وخالف في بعض المواضع، منها: سورة {النور} ذكر أنها مكية وهي مدنية بلا خلاف، وسورة {الحديد} ذكر أنها مكية، وهي مما اختُلف فيه والجمهور على مدنيتها[1]، وجعل {الحشر} مكية وهي باتفاق الأقوال مدنية كلها.

ثم سورة {الصف} و{الجمعة} جعلهما مكيتَين خلافًا للجمهور[2]، وجعل {الطلاق} و{التحريم} مكيتَين وهما مدنيتان عند الجميع.

أقول: وعجائب هذه النُّسخة المباركة لا تنقضي، والكلام فيها لا ينتهي، وأسرارها لا تختفي على كثرة الوصف، والحمد لله رب العالمين.

 


[1] يُنظر: (الإتقان في علوم القرآن)، جلال الدين السيوطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (1/ 50).

[2] يُنظر: المرجع السابق (1/ 51).

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))