الحج؛ بين شعائر الله وشعائر الجاهلية (1-2)

بعد أن أذّن إبراهيم -عليه السلام- بالحج، وتقاطر الخلق يلبّون نداء الله تعالى؛ تطاولت بالناس عهود زيّن لهم الشيطان فيها أعمالهم، فحرّفوا مناسك إبراهيم. وهذه المقالة تسلط الضوء على شيء مما أحدثه أهل الجاهلية في شعائر الحج، وما كان مِن موقف الإسلام منها.

  منذ أن بوَّأ اللهُ تعالى لإبراهيم مكان البيت، قرَن ذلك بنهيٍ وأمرٍ: أمّا النهي فلإبراهيم -داعية التوحيد- أن يُشرك بالله شيئًا، وكأنَّ في الآية توبيخًا لمن أشرك من أهل هذا البيت بعد ذلك، أي: هذا كان الشرط على أبيكم فمَنْ بعدُ، وأنتم لم تَفُوا به؛ بل أشركتم[1].

وأما الأمر فبتطهير هذا البيت المعظَّم من كلّ كفرٍ وبدعةٍ، ووثن وصنم، ودمٍ ونجس.

وقد أتمَّ إبراهيم -عليه السلام- كلماتِ ربه، ثم أذَّن في الناس أن يلبُّوا نداء الله، وتقاطَر الخَلْق من كلّ فجٍّ عميق يحجّون بيت الله ويرفعون ذِكره، فكانوا على ذلك، ثم تطاولَت بالناس عهودٌ فتَرَتْ فيها النُّبُوات، وخفتَت فيها أنوار الرسالات، فراجَع الناس أهواءهم، وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم، فزاغوا عن شعائر الله التي أنزلها، وحرَّفوا مناسكَ إبراهيم التي عُلِّمَها، فإذا البيت الذي وضعه الله للتوحيد قد صار مثابة للشرك، وإذا الكعبة التي رَفَعَ قواعدَها إبراهيمُ قد ارتفع فوق ظهرها (هُبَل) الطاغية، وطاف الناس به يصيحون: «اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ»، وصار ما صار من تحريف وتبديل في مواقيت الحج ومناسكه وأركانه، وأضيفت بدع شتَّى حرَّمَت حلالًا وأحلَّت حرامًا، في كلّ منسك من مناسك الله تقريبًا.

 وغاية هذا المقال أن يطّلع القارئ على ما أحدثه أهل الجاهلية في شعائر الحجّ، وما كان من موقف الإسلام منها؛ عسى أن تنجلي للمسلم محاسن دينه إذا رأى مساوئ غيره؛ إذ الأمر كما قال الأول:

ضِدّانِ لمّا اسـتجْمعَا حَسُنَا             والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْــنَهُ الضِّدُّ[2]

 ولعلّ مَن عرف الحقّ أن يتبعه ومَن عرف الباطل أن يحذره، وقديمًا قال عمر -رضي الله عنه-: «إنما تُنقَض عُرَى الإسلام عُروةً عُروةً، إذا نَشأ في الإسلام مَنْ لم يعرف الجاهلية»، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «مَنْ نَشأ في المعروف لم يعرف غيرَه، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكَر وضرره ما عند مَنْ عَلِمَه؛ ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- أعظم إيمانًا وجهادًا ممَّن بعدَهم لكمال معرفتهم بالخير والشر»[3].

مواقيت الحجّ في الجاهلية:

أمّا مواقيت الحجّ فقد عبثَتْ بها أيدي الجاهلية، فابتدعوا ما يسمَّى بالنسيء، يَحْرِفون به الشهور عن مواقيتها، فيؤخِّرون ويقدِّمون، ويحلُّون ويحرِّمون، قال مقاتل بن سليمان: «كان الحُمْس[4] يستحِلُّون أن يُغِير بعضُهم على بعض في الأشهر الحُرم وغيرها؛ وذلك أنَّ أبا ثمامة جنادة بن عَوْف من بني كنانة[5] كان يقوم كُلّ سنة في سوق عكاظ، فيقول: (ألَا إنِّي قد أحلَلْتُ المحرَّم وحرَّمتُ صَفَرًا، وأحللتُ كذا وحرَّمتُ كذا، ما شاء). وكانت العرب تأخذ به، حتى قال قائلهم يفخر بذلك:

ألَسْنا الناسِئينَ على مَعَدٍّ        شهورَ الحِلِّ نجعلُها حَراما

وقال الآخر:

نَسَؤُوا الشّهورَ بها وكانوا أهلَها   مِنْ قبلِكم والعزُّ لم يتحوَّلِ[6]

 فأنزل اللَّه -تعالى-: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}[التوبة: 37]، وأنزل -عزّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}[المائدة: 2]، يقول: لا تَستحِلُّوا القتل في الشهر الحرام[7].

ولا يخفى ما يُسبِّبه ذلك النسيء من خلل في أسماء الشهور وترتيبها، حتى صاروا يدورون بالحج على الشهور كلّها[8]، ويقولون: «إنْ أخطأنا موضعه في عام، أصبناه في غيره»[9]. قال مجاهد: «كانوا يحجُّون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صَفر عامين. وكانوا يحجون في كلّ سنة في كلّ شهر عامين»[10].

وكما أضاعوا شهر الحج، أضاعوا يومه حتى كان بعضهم يقول: «الحج اليوم»، ويقول بعضهم: «الحج غدًا»[11].

وأضاعوا معالم نسُكه فكانوا يقفون مواقف مختلفة، يتجادلون، كلّهم يدّعِي أنّ موقفه موقف إبراهيم -عليه السلام-؛ كان بعضهم يقف بعرفة، وبعضهم بالمزدلفة، وكان يحج بعضهم في ذي القعدة، وبعضهم في ذي الحجة[12].

وإذا اجتمعوا بـ(منى) قال هؤلاء: «حجُّنا أتمُّ مِن حجِّكم»، وقال هؤلاء: «حجُّنا أتمُّ مِن حجِّكم»[13].

 فكانوا على ذلك حتى بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فحجّ بالناس من السنة العاشرة، فوقف بعرفة، فقال: «أيها الناس، إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ اللهُ السموات والأرض فَلَا شَهْرَ يُنْسَأ»[14].

وقطع اللهُ مخاصمتهم في الحج بما أعلم به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من المناسك، وأنزل قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197]، قد بطل الجدال في الحج، واستقام أمره على وقتٍ واحد، ومناسك متّفقة، لا تنازع فيها ولا مِراء[15].

الإحرام في الجاهلية:

كان في الجاهلية مَن أراد الحج مِن غير أَهْل الحَرم يقلِّدُ نفسه من الشَّعْر والوَبَر فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أَهْل الحرم قلَّد نفسه وبَعِيره من لحاء شجر الحرم فيأمن به حيث يذهب، فهذا في غير الأشهر الحُرم، فإذا كان الأشهر الحُرم لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم، وهم يأمنون حيثما ذهبوا، فذلك قوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}[المائدة: 2]، قال مجاهد: (القلائد)، اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْنٌ لهم[16].

وأمّا إحرامهم في الجاهلية؛ فقد كانوا يحرِّمون على أنفسهم إذا أحرموا أمورًا كثيرة لا ندري لها سببًا، وقد كانت قريش ابتدعَت أمر الحُمْس؛ رأيًا رأَوه بينهم، ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن، فقالوا: «لا ينبغي للحمس أن يَأْقِطُوا الأقِط، ولا يسلَؤُوا السمن وهم حُرم[17]، ولا يدخلوا بيتًا من شَعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأَدَم ما كانوا حرامًا». ثم غالوا في ذلك فقالوا: «لا ينبغي لأهل الحِلّ أن يأكلوا من طعامٍ جاؤوا به معهم من الحِلّ في الحَرم إذا جاؤوا حُجّاجًا أو عُمّارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحُمْس»، فحملوا على ذلك العرب فدانَت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، فكان الرجل من العرب إذا حجّ لم يأكل إلّا طعام رجل من الحرم، ولم يطف إلا في ثيابه، وكان لكلّ شريف من أشراف العرب رجل من قريش، يقال له: (الحِرْمِيّ وكلّ واحد منهما حِرْمِيُّ صاحبِه[18]، وفي الحديث أن عِياض بن حِمَارٍ، كان حِرْمِيَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية[19].

قال الربيع: «وكان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل ذات يوم بيتًا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرمَ، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجلٌ فاجِرٌ! فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لِمَ دخلتَ من الباب وقد أحرمتَ؟ فقال: رأيتُك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنِّي أَحْمَس! -وقريش يومئذ تُدْعَى الحُمس- فلما أن قال ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال الأنصاري: إنّ دِيني دِينُك! فأنزل الله -تعالى ذِكره-: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}[البقرة: 189]»[20].

وكان قومٌ من الأعراب يحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: (نحن المتوكلون)، وربما قال قائلهم: نحجُّ بيتَ الله ولا يُطعِمُنا؟! فإذا قَدِمُوا مكة سألوا الناس، فقال الله: تزوّدوا ما يَكُفُّ وجوهَكم عن الناس[21]، وكان منهم قوم إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها، فكانوا يبقون عالةً على الناس، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197][22].

 وكانت لهم أسواقهم التي يتبايعون فيها قبل الحج وبعده، فإذا أحرموا بالحجّ حرَّموا على أنفسهم البيع والشراء حتى يقضوا مناسكهم، يلتمسون البِرّ بذلك، ويقولون: (أيام ذِكر)، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: 198]، فأعلمهم -جلّ ثناؤه- أن لا بِرّ في ذلك، وأنّ لهم الْتِماسَ فضله بالبيع والشراء[23].

وكانوا يرون أنّ مِن أفجرِ الفجور في الأرض أن يُحرِم الرجل بالعمرة في أشهر الحج، ويقولون: إذا برأ الدَّبَر[24]، وعَفَا الوَبَر، وانسلخ صَفر[25]، حلَّت العمرة لِمَن اعتمَر[26]. يعنون: إذا برأ دَبَرُ الإبل التي كانوا شهدوا الموسم وحجوا عليها وعفَا وبَرُها. فأنزل الله التمتع بالعمرة تغييرًا لِما كان أهل الجاهلية يصنعون، وترخيصًا للناس، فقال -جلّ وعزّ-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: 196]، قال ابن عباس: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فما استيسر من الهدي[27].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دخلَت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»[28]، فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عُمَرَهُ كلَّها في ذي القعدة[29].

تلبية الجاهلية:

وأما تلبية الجاهلية فكانت خليطًا عجيبًا من شِركٍ وتوحيدٍ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ويلكم، قَد قَد» -أي: حسبكم لا تزيدوا- فيقولون: إلّا شريكًا هُوَ لك، تَمْلِكُه وما مَلَكَ. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت»[30].

وربما كان لكلّ قبيلة تلبية خاصّة يذكرون فيها آلهتهم مع الله، فكانت تلبيةُ ثَقِيف: (لبيك اللهم لبيك، هذه ثَقِيفٌ قد أَتَوك، وخَلَّفُوا أوثانَهُم وعظَّمُوك... عُزَّاهُمُ واللاتُ في يديك، دانَتْ لكَ الأصنامُ تعظيمًا إليك، قد أَذْعَنَتْ بسلْمِها إليك، فاغفِرْ لها فطالما غَفَرْت).

وكانت عَكّ -قبيلة من اليمن- إذا بلغوا مكة، يبعثون غلامَيْنِ مملوكَيْنِ أسودَيْنِ عُريانَيْنِ! يسيران أمامهم على جمل، فلا يزيدان على أن يقولا: (نحن غُرابَا عَكّ!)، وإذا نادَى الغلامان بذلك صاح مَن خلفهما مِن عَكّ: (عَكٌّ إليك عَانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على الشداد الناجية)[31].

وفي ذلك أنزل الله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}[الحج: 30، 31]، قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: كان الناس يحجون وهم مشركون، فكانوا يسمونهم حنفاء الحجاج، فنزلت: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}[الحج: 31]، قال ابن عباس: حجاجًا لله غير مشركين به، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين[32].

وكان منهم مَن يحجّ مُصْمِتًا لا يتكلم حتى يفرغ مِن حجِّه، يرى ذلك قُربة لله تعالى، فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وقال: «لا صُمَاتَ يومٍ إلى الليل»[33].

قال الأزرقي: فلم تزل تلك تلبيتهم حتى جاء الله بالإسلام، ولبَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبية إبراهيم الصحيحة: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، فلبّاها المسلمون[34].

 وأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196]، قال مقاتل: كان أهل الجاهلية يُشركون في إحرامهم، فأمَر اللهُ -عزّ وجلّ- النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمين أن يتموهما لله[35].

وتتابعَتْ آيات القرآن تدعو الناس إلى أن يطهِّروا بيوت الله من هذا الشرك الذي يلوِّث شعائر الله المقدسة، فنزل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن: 18][36].

فلما أبَى بقيّةٌ من هؤلاء إلّا الشركَ أقصاهم اللهُ عن حَرَمِه المطهَّر، وأنزل في العام التاسع من الهجرة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة: 28]، وقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}[التوبة: 17]، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة: 18]، فنفَى المشركين من المسجد الحرام[37].

عرفة في الجاهلية:

عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش تقول: نحن بنو إبراهيم وأهل الحَرم ووُلاة البيت، فلا تعظِّمُوا شيئًا من الحِلّ كما تعظمون الحَرم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك استخفَّت العرب بحَـرَمِكم، وقالوا: قد عظَّمُوا من الحِلّ مثل ما عظموا من الحَرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرِفون ويقرُّون أنها من المشاعر والحج ودِين إبراهيم، ويقرُّون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يُفيضوا منها، إلّا أنهم قالوا: نحن الحُمْس أهل الحَرم، فليس ينبغي لنا أن نَخرج من الحَرم ولا نعظِّم غيرَه[38]. وقيل: كانوا لا يخرجون من الحرم خشية أن يُقْتَلوا[39]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقف مع قريشٍ والحمسِ في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة. قال جبير بن مطعم: أَضْلَلْتُ بعيرًا يوم عرفة، فخرجتُ أقصُّه وأتبعه بعرفة، إِذْ أبصرت محمدًا بعرفة، فقلتُ: هذا من الحمس، ما يُوقفه هاهنا؟! فعجبتُ له[40]. فكانوا على ذلك حتى أنزل الله -عزّ وجل- فيهم يأمرهم بالوقوف بعرفات: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}[البقرة: 199]، وكانوا يُفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ويفيضون من جَمْعٍ -مزدلفة- إذا طلعَت الشمس، فخالف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الإفاضة.

الإفاضة:

وكانوا يُفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ويفيضون من جَمْعٍ إذا طلعَت الشمس، فخالف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك كُلَّه؛ عن المسور بن مخرمة قال: خطبَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفات فقال: «...ألَا وإنّ أهل الشرك والأوثان كانوا يَدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنّا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يَدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنّا ندفع قبل أن تطلع الشمس، مخالفًا هَدْيُنَا هَدْيَ أهل الشرك»[41].

دماء على الكعبة!

وكانت العرب -ملوكها وعامّتها- يُهدون الذبائح إلى البيت الحرام، ويذبحونها على الأنصاب، وهي حجارة لا صورة لها، تُنصَب للعبادة والطواف، ثلاثمائة وستون حجرًا، منهم من يقول: ثلاثمائة منها لخزاعة، قال ابن جريج: فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أَقبَل من البيت، وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة.

 فلما جاء الله بالإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظِّمون البيت بالدّم، فنحن أحقُّ أن نعظِّمه! فكأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكره ذلك، فأنزل الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا}[الحج: 37][42].

وكانوا لا يأكلون من ذبائح نَسائكهم، فأنزل الله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج: 28]، فرخَّص للمسلمين، فمَن شاء أكلَ ومن شاء لم يأكل[43]. وقيل: كانوا لا يأكلون منها ترفُّعًا على الفقراء، فأمَر الله المسلمين بذلك لِما فيه من مخالفة الكفار، ومساواة الفقراء، واستعمال التواضع[44].

وبعدُ.. فقد كانت هذه صورًا ملتقَطة على عَجَل لِما صنعه أهل الجاهلية ببعض مواقيت الحج ومناسكه؛ كالإحرام والتلبية والوقوف بعرفة والإفاضة والهَدْي، وبقيَتْ عجائب لهم في الطواف والسعي والدعاء والنَّفْر، نُشير إلى بعضها في مقال لاحق بإذن الله، نستكمل به النظر في بعض غرائب العقل البشري حين يَفقِد هداية الوحي ويُحْرَم أنوار النُّبُوَّة.

 

[1] المحرر الوجيز (4/ 117).

[2] سر الفصاحة (ص64).

[3] مجموع الفتاوى (10/ 301).

[4] الحُمْس: قريش وحلفاؤها؛ سُمُّوا الحُمْس لأنهم تَحمَّسوا في دينهم، أي: تشدّدوا. معاني القرآن للزجاج (1/ 263).

[5] قال الأزرقي: «وكان أبو ثمامة آخر من نَسأ منهم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود، فلما رأى الناس يزدحمون عليه، قال: أيها الناس، أنا له جار فأخِّروا عنه. فخفقه عمر بالدّرة، ثم قال: أيها الجلف الجافي، قد أذهب الله عزّك بالإسلام». أخبار مكة (1/179).

[6] الدر المصون (6/ 47).

[7] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 448).

[8] أخبار مكة، للأزرقي (1/ 185).

[9] أحكام القرآن، للشافعي (2/ 196).

[10] جامع البيان (4/ 148).

[11] جامع البيان (4/ 146).

[12] تفسير السمعاني (1/ 200).

[13] جامع البيان (4/ 145).

[14] رواه البيهقي في السنن الكبرى (9772)، وأصله عند البخاري في الصحيح (4662).

[15] انظر: جامع البيان (4/ 149).

[16] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 449) تفسير عبد الرزاق (2/ 4) جامع البيان (9/ 468) عن قتادة.

[17] الأَقِطُ: لبن مجفف يطبخ به، وسَلأَ السمن: طبخه وعالجه ونحوه، مختار الصحاح (أقط - سلأ).

[18] تهذيب اللغة (5/ 30).

[19] شرح مشكل الآثار (11/ 143).

[20] جامع البيان (3/ 560).

[21] جامع البيان (4/ 156، 159).

[22] جامع البيان (4/ 156، 188) عن ابن عمر. وتهذيب اللغة (5/ 30).

[23] جامع البيان (4/ 168).

[24] الدَّبَر: ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقّة السفر. فتح الباري لابن حجر (3/ 426).

[25] قال النووي: وكانوا يسمون المحرم صفرًا ويحلُّونه وينسِئُون المحرَّم، أي: يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرَّمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها. شرح النووي على مسلم (8/ 225).

[26] رواه البخاري (1564) عن ابن عباس. وانظر: أخبار مكة، للأزرقي (1/ 192).

[27] جامع البيان (3/ 92). وانظر: الدر المنثور (1/ 516).

[28] رواه أحمد (2115)، ومسلم (1218)، وهذا لفظ أحمد.

[29] السنن الكبرى، للبيهقي (8739).

[30] مسلم (1185).

[31] المحبر (ص313).

[32] تفسير ابن أبي حاتم - محققًا (8/ 2491).

[33] رواه أبو داود (2873). وانظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 348).

[34] أخبار مكة، للأزرقي (1/ 194).

[35] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 171).

[36] النكت والعيون (6/ 119).

[37] جامع البيان (9/ 478) عن ابن عباس.

[38] أخبار مكة، للأزرقي (1/ 176). جامع البيان (4/ 188).

[39] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 175).

[40] أخبار مكة، للأزرقي (1/ 188).

[41] المستدرك على الصحيحين (3097).

[42] تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 452). جامع البيان (9/ 508) عن ابن جريج، وقال: (النصب) ليست بأصنام، (الصنم) يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصب.

[43] تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2489) عن إبراهيم -رضي الله عنه-، وذكر البغوي (5/ 380) أن الآية في هَدْي التطوع، واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع هل يجوز للمُهْدِي أن يأكل منه شيئًا أو لَا.

[44] التفسير الكبير للرازي (23/ 221).

الكاتب

الدكتور أسامة المراكبي

حاصل على الدكتوراه في أصول الدين - تخصص التفسير وعلوم القرآن، وأستاذ مساعد بجامعة الأزهر وجامعة الطائف، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))