القراءة المعاصرة للقرآن لمحمد شحرور (4-4)
القصص القرآني وهَمّ التحوّل المنهجي والمعرفي

الكاتب : محمد كنفودي
تتناول هذه المقالة الرابعة والأخيرة ضمن سلسلة المقالات التعريفية التقويمية بالقراءة المعاصرة لمحمد شحرور: الضوابط المنهجية والرهانات الخاصّة لقراءة شحرور للقصص القرآني، كنموذج تطبيقي للسمات العامّة لقراءته المعاصرة للقرآن؛ منهجًا ورهانًا.

تسهيم:

  يقول محمد شحرور: «فنحن نرى أن آيات القصص القرآني مضافًا إليها أحداث السيرة المحمدية في محطات كموقعة بدر وأُحُد والخندق وغيرها؛ هي نصوص تاريخية، لا تؤخذ منها أيّ أحكام شرعية، ولا علاقة لها بمضمون الرسالة، إلا من حيث ورودها لتصديق فحوى الرسالة»[1].

مقدمة:

  نتناول في هذه المقالة الرابعة (والأخيرة) التطبيقية من سلسلة المقالات المتعلقة بالقراءة المعاصرة لمحمد شحرور، دراسة منظور محمد شحرور لموضوع (قراءة القصص القرآني)، ونجتهد في التركيز على رصد أهم المعالم المنهجية والمعرفية العامّة التي تشكِّل قوام قراءة محمد شحرور لموضوع (القصص القرآني) عمومًا، وما سماه بـ(القصص المحمدي) تحديدًا، ونقدم هذه المقالة على وفق ما يلي:

أولًا: المنطلقات العامّة للقراءة المعاصرة لموضوع القصص القرآني:

تحكّمَت في قراءة محمد شحرور لآيات القصص القرآني جملة منطلقات عامّة، عبارة عن مسلَّمات منهجية ومعرفية معًا، نورد أهمها:

1. القصص القرآني الوارد في نصوص الوحي المنزل ليس من باب التأريخ للأحداث التاريخانية وفواعلها تصويرًا وتحديدًا، وليس -أيضًا- رواية قصصية غايتها التسلية وإلهاب الخيال، بل إنّ القصص القرآني في عمومه بناءٌ نظريّ نسقيّ متكامل لتفسير حركة التاريخ وقوانينه العامّة المتحكمة في تقلباته وظواهره؛ ذلك أنّ القصص القرآني لا يورد الظواهر كما وقعت وكيف وقعت لذاتها، بل يجرد منها ألقابًا رمزية معبِّرة عن ظواهر بالإمكان أن تتجدد دومًا[2]، مثل: (الظاهرة الفرعونية)، فهي ليست ظاهرة مضَتْ وانقضى أثرها بانقضاء متعلقها الأول، بل هي تتجدّد بتجدد ممثلها دومًا. بناءً عليه؛ فإنّ الجهد تعيَّن أن ينصبَّ -كما يؤكد محمد شحرور- على ضرورة إخراج القصص القرآني من إطار السرد التاريخاني إلى إطاره الحقيقي، كونه يؤسّس لنواظم السنن والقوانين التاريخية، أو أنه يضع المعالم الأولى لفلسفة التاريخ الإنساني[3].

2. كون القصص القرآني يؤسّس لفلسفة تاريخية إنسانية مجردة نظير نصّها، فهي ليست من جنس الفلسفات التاريخية التي يضعها هذا أو ذاك من الناس، والقائمة في عمومها على التخمين والظنّ والاحتمال، فضلًا عن التحيُّز المذهبي والأيديولوجي، بل هي قائمة على القطع واليقين نظير نصّها، الذي يعكس حركة التاريخ الجدلية المطردة والموضوعية، بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو بين الإنسان والوحي، أو بين الإنسان والطبيعة كعلاقات واعية على مستوى الفعل أو ردّ الفعل؛ وذلك حسب مقامي الربوبية والألوهية[4].

3. القراءة المعاصرة للقصص القرآني تسطّر الفلسفة القرآنية التاريخية المجردة والمطردة بناءً على ما يثبته نصّ الوحي المنزل من علامات وإشارات دالّة، فضلًا عن الاهتداء بالعلوم والأنساق المعرفية الغربية المعاصرة؛ لجعل تناوله يتم وفق أفق إنساني وعالمي، وليس مجرد تناول عربي أو إسلامي نظير نصّه؛ وذلك كلّه لا يتحقق إلا بعد أن تتحقق رفع التلبسات التاريخية والأيديولوجية التي أُلصقت بالقصص عَبْر مراحل متعاقبة تَتْرَا[5].

4. اعتماد (مبدأ القطيعة المطلقة) مع التفسير الموروث ومختلف مقارباته لموضوع (آيات القصص القرآني)؛ بالنظر إلى أعطاب المنهج الذي تم التوسل به، وهو في جوهره قائم على عدم التمييز بين آيات الرسالة والأحكام[6]، وآيات القصص والأخبار؛ بحيث إن استنباط الأحكام الإلزامية كان يتم من خلال آيات القصص، فضلًا عن جَرْيهم وراء ملء مختلف الفراغات التي تصَوَّروها بمختلف الروايات والأخبار التي وجدوها؛ سواء كانت متعلقة بالنصوص المقدّسة، أو بنصوص تاريخية تلمودية إسرائيلية، أو آراء واجتهادات منقولة عن أهل الكتاب من اليهود تحديدًا، خصوصًا الذين أسلموا زمن التدوين والترسيم، فوقعوا من ثمة في مبدأ (الخلط الشنيع)، الذي بقدر ما شوّه ما بقي من الصحة في الكتب المقدّسة، شوّه أيضًا دلالات آيات القصص القرآني. وإنّ مِن أولى المهام الأساسية في هذا المضمار قبل أيّ شيء آخر، هو الكشف والنشر الموضوعي العلمي للخلط الحاصل، وفصل ما لحق القصص القرآني وليس منه في مختلف أزمنة التأويل في تاريخ الفكر الإسلامي، فضلًا عن ضرورة التمييز بين المحتوى في النصوص المقدّسة ومختلف النصوص والاجتهادات التاريخانية لأهل الكتاب؛ للوقوف على معالم الفرق الذي صنع الفرق بين مختلف النصوص المتعلقة بأمر مشترك[7].

5. مختلف آيات (القصص القرآني) عمومًا، و(القصص المحمدي) خصوصًا، تعدّ مصدرًا لأخذ العِبر والعظات واستدرار القوانين والسّنن، أو مصدرًا للتوجيهات والإرشادات التي لا إلزام تشريعي فيها، ولا علاقة لها إطلاقًا بالأحكام الشرعية الإلزامية المصنفة في دائرة: (افعل أو لا تفعل)، وإلّا وقعنا في شراك أعطاب التفسير الموروث[8]. وعليه؛ فهي من هذا المنظار تُعتبر متحركة دومًا على مستوى القراءة والتأويل والتركيب والاستنتاج، وإن كانت في أصلها نصوصًا ثابتة على مستوى المادة والنصّ، ثبات مادة نصها الحامل لها[9].

ثانيًا: المفاهيم الناظمة للقراءة المعاصرة لآيات القصص القرآني:

اجتهد محمد شحرور في تأسيس عدّة مفاهيم ودلالات، قصد مقاربة موضوع آيات (القصص القرآني) مقاربة معاصرة، ومن تلك المفاهيم والدلالات:

1. مفهوم (القصص المحمدي) نسبة إلى محمد -عليه الصلاة والسلام-: ويقصد به مجمل نصوص الوحي المنزل التي وردت من أجل تغطية تحركات وغزوات النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو هو مجمل النصوص التي تعكس اجتهادات النبي -عليه السلام-، وبالتبع فهو يعكس أول تفاعل للرسالة المجرّدة مع أرض الواقع زمن النزول، وكلّ النصوص المتعلقة بذلك تعدُّ مصدرًا للعِبَر فقط، ولا علاقة لها ألبتة بالأحكام بالمعنى المعهود، ما دام أنها تتضمن تعليمات وتوجيهات تاريخية محضة[10]. والقصص المحمدي يُعتبر الجانب الديني من السيرة النبوية، الذي يتعيَّن الإيمان والتسليم به؛ لأنه جزء من القرآن بقي على أصله الأول المنزل به لم يُشَب بغيره. أمّا ما يُسمّى بكتُب السيرة النبوية كـ(سيرة ابن هشام)، فهي السيرة التي تعكس الجانب التاريخي من سيرة النبي -عليه السلام- الذي شابه ما ليس من أصله؛ كالجانب الأسطوري والثقافي والاجتماعي والشعبي ونحو ذلك. وبالتبع فهي ليست من الدّين ولا يجب الإيمان أو التسليم بها ألبتة، وهذا التصوّر يشمل أو ينسحب على مطلق قصص الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-[11].

2. مفهوم القصص القرآني: ضمّ نصُّ القرآن -بوصفه الجزء الأكبر من نصّ النُّبُوّة، الذي هو وقسيمه نصّ الرسالة يشكِّلان ماهية الكتاب المنزل على محمد، عليه الصلاة والسلام- مجموعةَ نصوص قرآنية قصصية تاريخية متعلقة بالأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذي تم ذكر قصصهم في الوحي المنزل، وإن كانت في أصلها نصوصًا منزلة أو موحى بها، وهي التي تعتبر الجزء المتغير من القرآن؛ بمعنى أنها تعكس القوانين المفتوحة القابلة للتصرف الإنساني، بدليل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}[يوسف: 111][12]. والقصص القرآني بوصفه أحداثًا تاريخية قد تَلازَم فيها (الإنزال) و(التنزيل)، وأحداث القصص التاريخية بعد وقوعها إنسانيًّا جَرَت عملية أرشَفَتها مباشرة بعد تصنيفها وحفظها في (الإمام المبين)، يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس: 12]، و(الإمام المبين)، هو أرشيف الأحداث التاريخية والإنسانية الفردية والجماعية، ومنه جاء (الكتاب المبين)؛ يقول تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء: 1، 2]. وقوله: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}[النمل: 1]، وقوله: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[القصص: 1، 2]، وقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف: 1]. والموضوع الجامع بين هذه السور موضوع القصص/ الكتاب المبين[13].

3. مفهوم السّنة التاريخية: في شقها الإنساني تتحقق ماهيتها بناء على عدّة عوامل متداخلة، بين ما هو ديني وثقافي واجتماعي ونحو ذلك؛ لذلك يستحيل التنبؤ بها أو اعتبارها ثابتة أو حتمية أو تتكرّر بشكلٍ متطابق نظير القانون الطبيعي، وإلا ألغينا كينونة وحرية وإرادة الإنسان، سيرورة تطوّر وعيه الذي له الدّور الأكبر في وجودها وجهة ونوعًا، وعليه؛ فهي تغير غير منضبط بشكلٍ صارم حتمي، وكون الله تعالى قد وصفها بعدم التبدُّل والتحوُّل في قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر: 43]. فذلك متعلّق بكونها موجودة في (الإمام المبين) /الأرشيف التاريخي للأحداث، ومن هذا المنظور لا يمكن أن نطابق بين منهج النظر في موضوع الطبيعة والخلق، وموضوع التاريخ والمجتمع[14].

4. مفهوم العِبرة: القصص القرآني بوصفه أنباء غيبية، يقول تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ}[هود: 49]، {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[يوسف: 102]، وبوصفه أيضًا حقًّا، يقول سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف: 13]، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام: 57]. فالعبر بتلك المحدّدات، عبارة عن مجمل الدروس والنتائج المستخلصة بالنظر في نصوص القصص القرآني ترتيلًا، وكونها لصيقة بالنظر الإنساني المحدود، تخضع لمعيار الصواب والخطأ، بالنظر إلى النظر الاجتهادي اللاحق لا إلى إنيّة موضوع النظر؛ إِذْ هو حقيقة موضوعية ثابتة. ومفعول وأثر السنن المتضمنة في (القصص القرآني) متعدٍّ إلى مطلق الأجيال والأزمان، وعِبر وسنن القصص تعدُّ من أهمّ الأسناد التي تسعف الوجود الإنساني وأحوال عمرانه نحو ما هو أحسن دومًا؛ لذا فإنّ قراءة آيات القصص متجدّدة دومًا دون توقف، ما دام سعي وحركة الإنسان قائمة[15].

ثالثًا: الضوابط العامّة المتحكمة في القراءة المعاصرة للقصص القرآني:

وضَع محمد شحرور عدة ضوابط منهجية لقراءة آيات (القصص القرآني) قراءة معاصرة، ومن تلك الضوابط:

1. النظر إلى آيات (القصص القرآني) ليس بمنظار أنها وردت من باب التسلية، أو من باب تثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب؛ فالقول بذلك لا يعدو أن يكون عبثًا، بل تعيَّن النظر إليها بوصفها تحتوي على منظومة قوانين وسنن إنسانية مُثْلَى متفاعلة مع مطلق المراحل التي يمرّ بها الوجود الإنساني وتقلبات أحوال عمرانه، فبدل أن يتم البحث في ملء فراغات القصص، أو تحديد الأزمنة والأمكنة والأعداد، فلو تحقق ذلك يعدُّ مجرَّد رجمٍ بالغيب يفوِّت القصد الأول، بل تعيّن أن ينصرف الجهد نحو اقتفاء السنن والقوانين بوصفها المقصودة من إيراد القصص[16].

2. النظر إلى آيات (القصص القرآني) عمومًا و(القصص المحمدي) خصوصًا؛ بوصفها تتضمن تعليمات أو توجيهات محمولة على محمل الإرشاد خاصّة بالمجتمع الذي عاش فيه الأنبياء أو النبي -عليهم الصلاة والسلام- وبالتبع، فهي مناسبة لذلك الزمن وأهله لا لمطلق الأزمنة وأهلها. أمّا أن نعمد إلى إطلاق الأحكام الشرعية الإلزامية استنادًا إلى آيات (القصص القرآني)، فذلك مخلّ بالمنهج الأسلم، ما دام أنه يُوقعنا في مآزق وجوديّة شتَّى[17].

3. النظر إلى آيات (القصص القرآني) بوصفها تنتمي إلى عالم الغيب بالنظر إلينا، وخبرًا بالنظر إلى أهل زمانه، يقول تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[يوسف: 102][18]، وبالتبع فإنّ أيّ إقحام لما هو خارجي عن مادة نصوص (القصص القرآني)، يعدُّ رجمًا بالغيب أولًا، ومفضٍ إلى تشويه دلالات (القصص القرآني) ثانيًا؛ لذا فإنّ أمر قراءتها بنفسها أو بذاتها ممكن ترتيلًا، ما دام أنّ نصوص القصص -وإن تناثرت- مكمل بعضها بعضًا نسقيًّا للوصول إلى المراد على مستوى السنن والقوانين[19].

4. النظر إلى آيات (القصص القرآني) وَفق المستجدات المعاصرة، خصوصًا ما تعلّق منها بالبحث التاريخي والأثري، الذي كشف عن عدّة حقائق ظلَّت مجهولة أزمنة متعدّدة[20]. وإذا كان الاجتهاد في آيات القصص محمودًا ابتداءً، إلا إنه لا يمكن التعويل على ما هو خارجي مستند لتفسير  نصوص القصص، إذا كانت مادتها كافية لاستنباط المراد، خصوصًا إذا استحضرنا أنّ القصص ليس مجرد أخبار فقط، بل أنباء غيبية، وأنَّى للبحث الإنساني مهما تجرّد وتعمّق أن يدرك أو يحيط بالغيب، أو أن يحكم عليه، ومَن رامَ ذلك، كمَن رام أن يزن الجبال بميزان الذهب؛ وذلك طمع في مُحال.

5. النظر إلى آيات (القصص القرآني) بوصفها حاملة لمفهوم التطوّر والتراكم معًا، خصوصًا على مستوى وعي الإنسان؛ إِذْ قد حصلَت تاريخيًّا قفزة نوعية مشهودة، تجلّت في الانتقال مما هو مجسد/مشخص إلى ما هو مجرد/نظري، ولولا هذا الانتقال لَمَا تحققت للإنسانية مظاهر التطوّر والزحزحات المعرفية والتشريعية والحضارية والوجودية بشكلٍ عامّ[21]، والناظر في آيات القصص يلاحظ ذلك جليًّا، وبالتحديد على مستوى مفهوم (الإيمان)، قابِل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[البقرة: 55]، وقوله سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}[النساء: 153]؛ بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}[الإسراء: 90-93]، وقوله سبحانه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ... وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}[الفرقان: 7-10]، بناءً عليه؛ فإنّ (معجزة) الوحي المنزل على الرسول -عليه الصلاة والسلام- تتحدّد في كونها قد أرْسَت معالم منظور (التجريد) الذي لولاه لما تحقق للإنسانية البناء النسقي المعرفي والعلمي والحضاري المشهود؛ وبالتّبع فإنّ أيّ قراءة تراثية أو معاصرة تستبدله بمنظور (التجسيد)، أو تؤسّس لكلّ ما مِن شأنه هدم وتدمير أسس وقوانين (التجريد)، عُدّ كلّ ذلك دالة على تهافتها أصلًا وفصلًا.

رابعًا: المقاصد العامّة لسَوق آيات القصص القرآني ضمن نصّ التنزيل الحكيم:

من أهمّ ما سيقت من أجله آيات القصص القرآني من منظور محمد شحرور، مقاصد عديدة، نورد أهمها:

1. إنّ أَخْذ آيات القصص القرآني بعين الاعتبار تأويلًا وترتيلًا، يعدُّ من أهم الأسس التي تُسْعف في إزالة (وَهْم الناسخ والمنسوخ) بين نصوص الوحي المنزل؛ فمثلًا قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}[التوبة: 5]، قد نسخ كلّ معاملة حسنة للمخالف في الدّين، مثل نسخِه لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256]، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: 83]، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، ونحو ذلك من الآيات. وقد تقرّرت هذه الرؤية التراثية إلى نصوص الوحي -حسب محمد شحرور- انطلاقًا من عدم التمييز بين آيات القصص التي تؤخذ منها العِبر فقط وآيات الرسالة التي تؤخذ منها الأحكام؛ فآية السيف من سورة التوبة عدَّها محمد شحرور من آيات (القصص القرآني المحمدي)، وبالتبع لا تنسخ ما عداها، مع التسليم بمشروعية وجدوى النسخ؛ إِذْ هو متحقق بين (آيات الأحكام)، لا بين (آيات الأخبار) كما هو مقرر، والقصص المحمدي من آيات الأخبار[22].

2. وردَ القصص القرآني في نصّ الوحي المنزل من أجلِ التعريف بما سماه محمد شحرور بـ(عملية الأنسَنة)، التي تمَّتْ تاريخيًّا من خلال انتقال البشر إلى الإنسان بواسطة عملية (نفخ الروح)؛ إذًا فالروح هي سرُّ الأنسنة لا سرّ الحياة كما هو مسلَّم به تراثيًّا[23]. وظهر تبعًا لذلك في التاريخ الإنساني مفهوم الخير والشر والحلال والحرام ومطلق ما يحكم السلوك والعلاقات الإنسانية الواعية؛ وذلك أفضى إلى ما سماه محمد شحرور بـ(أنسنة الثقافات)، عن طريق تحفيز مبدأ التطوّر والتراكم على مستوى القيم العليا ومطلق إبداعات الإنسان[24]. وتحقيق ما سلف، كان تمهيدًا لأجل إرساء دعائم مرحلة ما بعد الرسالات، التي بفضلها يتحقق الرشد الإنساني العام[25]، ورشد الإنسانية -حسب محمد شحرور- قد تجلَّى في ثلاثة محاور كبرى، هي: (محور التشريعات) و(محور الأخلاقيات) و(محور الاسترجاع النقدي لقصص الأنبياء والرسل السابقين)؛ وذلك ظاهر في ثنايا آيات القصص القرآني[26].

3. إنّ إيراد آيات القصص القرآني في نصّ الوحي المنزل كان من أجلِ التعرف على معالم مبدأ التطور والتراكم الذي تحقّق على مستوى مفهوم الدّين/الإسلام تاريخيًّا، والذي تمّ في أحضان مطلق النبوّات والرسالات، وقد تجلّى التطور الديني منذ نوح إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام- في عدّة مجالات عامّة منها: (مجال التشريعات)؛ إِذْ قد تطوّرت من مراعاة الفهم العيني الحدِّي العامّ إلى مراعاة الوعي القِيَمِيّ بالضوابط الحدودية العامة. و(مجال الشعائر)؛ إذ الصلاة مثلًا قد تطوّرت من عهد إبراهيم إلى عهد محمد -عليهما الصلاة والسلام- على مستوى الصّور والكيفيات والعَدد ونحو ذلك، واختلافها أو تنوّعها كان يتم ضمن إطار الصِّلة العامة بالله تعالى. و(مجال القِيم العليا)؛ إِذْ قد تطوّرت منذ عهد نوح إلى عهد محمد -عليهما الصلاة والسلام- خصوصًا على مستوى العدد، كما سبق أن رأينا في مفهوم الفرقان والوصايا. و(مجال الوعي الإنساني)؛ إِذْ قد تطوّرت من خلال توسيع رؤية إدراكه لمحيطه وعالمه وسيرورة انتقاله من الإدراك المشخص إلى الإدراك المجرد، وهذا يُعدّ اللبِنة الأساس لتشكّل الوعي الإنساني عَبْر حقب تاريخية متوالية[27]. إنّ هذه التطوّرات المتحققة وغيرها تعكس جليًّا دور الوحي المنزل في كلّ ذلك؛ إِذْ لولاه لما تحقّق للإنسانية ما تحقّق. إذًا فالوحي/الدّين يعدُّ محفزًا ومنشئًا، وليس مُخَدِّرًا أو مُخَمِّرًا، وقد أكّد محمد شحرور أنّ مختلف مظاهر التطوّر السالفة كانت تتم جنبًا إلى جنب مع تطور البناء المعرفي والحضاري بشكلٍ عامّ، وفي أحضان الدّين تتأسّس[28].

4. سيقت آيات القصص القرآني مَساق بيان جدل الإنسان مع المقدّس/الوحي، ومع ذاته والطبيعة والتاريخ ومطلق التفاعلات الأخرى، مع بيان الأسس العامّة التي تحكمت في كلّ ذلك. فضلًا عن جدل الحقّ والباطل وعيًا وسلوكًا، مع بيان سبل انتصار الحقّ على الباطل من خلال (المعجز/المعجزة)؛ بوصفها قفزة معرفية غير معهودة ولا مألوفة في تطويع قوانين الكون والطبيعة[29].

5. تمّ التركيز على القصص القرآني في الوحي المنزل لكونه يعكس عموم السنن والقوانين الحاكمة لحركة التاريخ وقيام وسقوط الدول والحضارات؛ لذلك حثّ الله تعالى على ضرورات التفكّر والتدبّر في آيات القصص قصد الاستلهام والاعتبار[30].

خامسًا: القصص المُحمدي وإشكالية تاريخية/تاريخانية نصّ الوحي المنزل:

إنّ الناظر في آيات القصص القرآني يجدها معبرة في جوهرها عن رؤية الله تعالى المتعالية للأحداث التاريخية كما وقعت تمامًا نتيجة اختيارات الناس في عصرهم وظروفهم وتفاعلهم مع المقدس/الوحي، وإيراد القصص ليس من باب كونه يعبّر عن ما أراد الله تعالى إطلاقًا[31]. وقد جرت عملية أرشفة الأحداث وتسجيلها وتصنيفها بعد وقوعها في (كتاب مبين) من (الإمام المبين)[32]. ومفهوم القصص ليس القصد منه مجرد إيراد تتابع الأخبار زمانيًّا، بل المبتغَى أن يؤسّس الإنسان بناءً عليه دلالة مفهوم الربط استلهامًا واعتبارًا، خصوصًا إذا علمنا أن القصص القرآني هو عبارة عن حقيقة وحق، يقول تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف: 13]، وقوله سبحانه: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام: 57][33]، فضلًا عن أنّ القصص ليس مما هو عيني، بل مما هو رمزي؛ لذلك لم يعمد الوحي المنزل إلى بسط القول في القصص تفصيلًا، بل اكتفى بما يُسعِف الإنسان؛ جلبًا للمصلحة والنفع، ودرءًا للمفسدة والضرر.

إذا كان الوحي المنزل عبارة عن (صيغة نظرية مجردة منطوقة «الذِّكْر»)[34]، فإن جزء القصص منه؛ سواء تعلّق بالرسل والأنبياء مع أقوامهم، أو تعلق بمحمد -عليه الصلاة والسلام- أثناء مرحلة النزول/زمن النبوة، يعدّ من جنس ما هو (تاريخي)؛ بمعنى أنه مصدر «للعِبَر والتوجيهات والإرشادات، لا للأحكام التكليفية الإلزامية أمرًا ونهيًا»، أو قل: كون القصص المحمدي -تحديدًا- آياته تاريخية «لا تُنشِئ أحكامًا شرعية» خارج إطار عصر وزمكان النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-[35].

يتضمن نصّ الوحي المنزل العديد من (آيات القصص المحمدي)، ويقصد به محمد شحرور: «مجمل الآيات التي وردت من أجل تغطية تحركات وغزوات الرسول -عليه السلام-، أو مجمل النصوص التي تعكس اجتهادات النبي -عليه السلام- من أجل تنظيم أحوال العمران المدني زمن النزول»[36]. ومما يدلّ على القصص المحمدي من سور وآيات، نذكُر: سورة الأنفال ومحمد والتوبة والفتح والأحزاب، وما تضمنته سورة آل عمران، وعموم الآيات المصدَّرة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وآيتي الشورى[37]، وآيات الحج من سورة الحج ونحو ذلك[38].

ولبيان تاريخية القصص المحمدي من منظور محمد شحرور نورد المثال الآتي:

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 59].

بناءً على التقسيم الذي أقام عليه محمد شحرور بين دلالة مفهوم (النبي) و(الرسول)، قدّم قراءته المعاصرة للآية؛ ذلك أن مفهوم (النبوة/النبي) في نصّ الكتاب حقلُه احتمال التصديق والتكذيب، ما دام أنه نبأ بالنسبة لِمَن وُجِد خارج زمن النزول، فهو بذلك لا علاقة له بمفهوم الطاعة والعصمة أبدًا، عكس دلالة مفهوم (الرسالة/الرسول) في نصّ الوحي المنزل، الذي حقلُه القبول أو الرفض، فهو بذلك مُسَيَّج بمفهوم الطاعة والعصمة معًا[39]. وعليه؛ فإنّ النصّ القرآني يتضمن تعليمًا أو حُكمًا توجيهيًّا مرحليًّا يتعلّق بالمظهر العام الذي يجب على المرأة المؤمنة في تلك الحقبة الزمنية مراعاته، فعَلى المؤمنة تعليمًا أن تغطي وتستر من جسدها الأجزاء التي إنْ كشفَتْها تسببَت لها في الأذى بنوعيه؛ الطبيعي والاجتماعي أو هما معًا، وعقوبة مخالفة الحكم وقتئذٍ هو ما تتعرض له من الأذى الطبيعي أو الاجتماعي، دون أن تترتّب عن مخالفتها أيّ تبعة عند الله تعالى من ثواب أو عقاب، على اعتبار أن صورة المرأة على مستوى اللباس تندرج ضمن مفهوم الحياء والعيب، وليس ضمن الحلال والحرام أو الإسلام والإيمان[40].

وعليه؛ فإن العِبرة التي تؤخذ من النصّ القرآني بوصفه من القصص المحمدي، وأساس القصص أَخْذ العبر لا تشريع الأحكام.

سادسًا: نماذج مختارة من آيات القصص القرآني من منظور القراءة المعاصرة:

 نُورد في هذا السياق نموذجًا واحدًا للتدليل على منظور محمد شحرور، وهو:

قصة آدم من تحريرها من أَسْر منطق الرواية الخبرية إلى أسرها بمنطق اجتهاد العلم:

بدايةً لاحظ محمد شحرور أن قصة آدم تعدّ من أعرق وأكثر القصص الإنساني الذي أُحيط برُكامٍ من الأساطير والخرافات والغرائب المدهشة والعجيبة؛ بوصفها -كما يقول محمد أركون- من «التراث الإنساني المشترك الحي»، خصوصًا بين «أصحاب الظاهرات الدينية»، فمنه بدأت الخطيئة، وإليه تعود دونية المرأة واستلاب حرية الإنسان وإسقاط العقل ونحو ذلك[41]. وَوُرُود قصة آدم -عليه السلام- في روايات التاريخ والتفسير الإسلامي الموروث، يكاد يكون متطابقًا كليًّا مع نصوص التوراة والتلمود، وهذا الأمر دالٌّ على النقل عن بني إسرائيل دون تمحيص أو غربلة، فغلَبَ منطق الرواية القائم على الثقة والتسليم الإيماني، على منطق المراجعة وإعادة النظر القائم على مبدأ النقد والتشكيك ليثبت الصحيح من الزائف والأصيل من الدخيل[42]؛ فكان من عواقب ذلك تشويه القصص القرآني خصوصًا على مستوى ملء فراغات القصص من خلال النصوص الإسرائيلية، التي أتت على طريقة أو رؤية التناول فضلًا عن (القيم المضافة)[43].

يرى محمد شحرور أنّ الوحي المنزل يطرح قصة آدم -عليه السلام- من خلال بُعدَين مهمّين:

الأول: يرتبط بخَلْق الإنسان وتطوره فيزيولوجيًّا وعقليًّا، ولفهم ذلك تحقيقًا يتعيّن أن يتدخل العلم المضبوط، وخصوصًا علم الآثار وعلم الإنسان والفيزيولوجيا لتتبع كلّ ذلك، ما دام أنّ من القواعد العامّة التي ينطلق منها محمد شحرور: أنّ ما توصّل إليه العلم فالوَحْي لا يناقضه، وإنْ تحقق وجود التناقض جليًّا صريحًا،تعيّن الهروع إلى تأويل النصّ المنزل[44]، خصوصًا إذا تمّ الأخذ بعين الاعتبار أنّ عملية (التأويل) بوصفها بحثًا وتتبُّعًا أركيولوجيًّا، وليس مجرد تأمّل وتدبّر عقلي فحسب، بل تعدّ أيضًا عبارة عن كشوف مرحلية تَتْرَا إلى حين استقرار النبأ[45].

أما الثاني: فيرتبط برَصْد ملامح التطور الإدراكي والاجتماعي للإنسان انتقالًا من طَوْر شبيه بالقِرد/الحيوان الهمجي، إلى طور الكائن الإنساني، وهو الذي عبّر عنه الوحي المنزل بانتقال آدم من مرحلة البشر إلى مرحلة الأنسنة، وتمّ تحقيق ذلك من خلال (نفخ الروح) و(تقليم الأسماء) ونحو ذلك[46]. والبحث التحقيقي في هذا الأمر قائم على بُعدٍ تأويلي فلسفي وفق منهجية تحليلية للِسانيةِ نصّ الوحي المنزل[47].

إنّ قصة آدم -عليه السلام- كما هي عليه في نصوص الوحي/القصص القرآني، تعكس من منظور محمد شحرور (نظرية التطوُّر)، وذلك من خلال:

أ. إنَّ مفهوم (الخَلق) في نصّ الوحي المنزل، خصوصًا عندما يتعلق بآدم -عليه السلام- لم يكن فجائيًّا خارج نواميس الوجود وصيرورة التطوّر أبدًا، بل في كلّ ذلك انضوى وانصهر[48].

ب. إِنَّ مفهوم (البشر) يعكس الشكل المادي الحيواني الفيزيولوجي للإنسان؛ بمعنى دلالته على مرحلة كائن همجي يمشي على أربع، أما مفهوم (الإنسان) فيعكس كائنًا بشريًّا مُسْتأنسًا اجتماعيًّا غير متوحِّش، وقد تحقق ذلك كلّه بعد عملية (نفخ الروح)؛ بوصف «الروح سرّ الأنسنة، وليست أبدًا سرّ الحياة». فآدم -عليه السلام- يرمز إلى هذه المرحلة الوسيطة بين البشر المتوحِّش والإنسان المستأنس؛ لذا اعتبر محمد شحرور أنّ (نظرية التطوُّر) لداروين أقرب إلى الوحي المنزل والعلم معًا، من كلية الروايات والمنقولات الواردة في النصوص الإسرائيلية والتراثية معًا، إلا أنّ الحلقة المفقودة في نظرية داروين -كما يرى محمد شحرور- هي مرحلة (نفخ الروح)[49]. وممّا يعزّز ما سلف، أنّ الوحي المنزل يتناول مفهوم الخَلق بوصفه عبارة عن مراحل تطوُّريّة في العديد من النصوص، منها قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح: 13، 14]، وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار: 7، 8]، وقوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}[الكهف: 37]، وقوله أيضًا: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 29]،[ص: 72]، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف: 11].

 ج. إنّ آدم -عليه السلام- إذًا يُعدّ (أب الإنسان) العاقل الواعي وليس (والد البشر)، إِذْ منه بدأت مرحلة الأنسنة والمجتمع الإنساني ونشوء المعرفة والعلم تقليمًا وتسطيرًا[50].

د. بعد تحقّق (مرحلة الأنسنة) بكلّ أبعادها، تمّ (اصطفاء) آدم -عليه السلام- بالخلافة/ الاستخلاف في الأرض؛ إِذْ قد جعله كذلك مؤهلًا بكلّ ما هو خليق بتحقيق المبتغَى. (والجَعْل) -كما يؤكد محمد شحرور- هو التغيير في صورة الحركة، فلولا الخلق التطوري والجعل لما تحقق الاستخلاف، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}[فاطر: 39]، وقوله أيضًا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30][51].

هـ. حمَل محمد شحرور قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 30]، الذي كثر فيه الاختلاف والخلاف قديمًا وحديثًا -على مفهوم (التطوّر) الحاصل والمتحقّق في خلق الإنسان كما سلف الذِّكْر[52].

و. ارتبطَتْ بقصة آدم -عليه السلام، كما ينصّ متن محمد شحرور- العديدُ من الجدليات الحاكمة للوجود الإنساني عامّة، مثل: (جدلية المعرفة والحرية)، (جدلية التقوى والفجور)، (جدلية الطاعة والمعصية)، (جدلية القِيَم العليا والغرائز)[53]، (جدلية الإنسان والشيطان)[54]، فضلًا عن أنّ قصة آدم -عليه السلام- ترمز إلى أنّ التكليف الإلهي للإنسان أمرًا ونهيًا كان في البدايات الأولى للوجود الإنساني (مشخصًا مجسدًا) كما يظهر ذلك من خلال قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35]،[الأعرف: 19][55].

خاتمة:

حاولنا في هذه المقالة بيان ملامح قراءة القصص القرآني من منظور القراءة المعاصرة لمحمد شحرور، ونستطيع القول ختامًا أنّ الناظر تستوقفه مجموعة أَمارات منهجية ومعرفية حاكمة لمنظور شحرور في قراءته للقصص تابعة لمجمل ملامح قراءته القرآن وتعدّ تطبيقًا لها، ومنها:

1. سعَى محمد شحرور في كثيرٍ من مواضيع القراءة المعاصرة إلى مسلك ذِي شُعبتَين: الأولى: بناءُ جملة مفاهيم ليست معهودة في سياق اجتهاد الفكر الإسلامي، نحو: (القصص المحمدي) مثلًا. الثانية: يؤسس -بناءً عليها- تصورات ودلالات كليّة قطعية مخالفة لما هو متداول في التراث الإسلامي عمومًا؛ تفسيريًّا كان أو فقهيًّا أو غيرها، نحو تاريخية (القصص المحمدي) خصوصًا، و(القصص القرآني) عمومًا مثلًا.

2. اجتهد محمد شحرور في تقديم قراءته المعاصرة للقصص القرآني، دون مراعاة موافقتها أو مخالفتها لمعهود التفسير الإسلامي ولو كان محلّ إجماع بين أهل الشأن، بل ولو وردَت بشأنه روايات ونصوص صريحة صحيحة عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-.

3. تسمية محمد شحرور لقراءته للقصص القرآني بـ(المعاصرة)، جعلَتْه يؤسّس كثيرًا من تصوراته الاجتهادية على عمدٍ ثلاثة: أوّلها: استثمار الكثير من المعطيات العلمية المنقولة عن فضاء العلم أو الفكر الغربي. ثانيها: الاعتماد على سُلطة أحكام العقل ولو كان مجردًا. ثالثها: الرفع من مكانة الواقع باعتباره يعكس مصداقية التنزيل الحكيم عمومًا، خصوصًا في بُعده العالمي والإنساني ونحو ذلك.

4. تبيَّن -أيضًا- أنّ تناوُل محمد شحرور لبعض أبعاد وملامح قصة آدم -عليه السلام- كان من أجلِ تحريرها من أَسْر منطق الرواية والخبر، وربطها -أو قُلْ: أَسْرها- في المقابل بمنطق اجتهادات الفرضيات العلمية المعاصرة.

 

[1] الدين والسلطة، ص313، والدولة والمجتمع، ص241، والقصص القرآني، ج1، ص9، 10، والقصص القرآني، ج2، ص102.

[2] القصص القرآني، ج1، ص112.

[3] الدولة والمجتمع، ص241، والقصص القرآني، ج1، ص14، 15. ج2، ص23.

[4] القصص القرآني، ج1، ص14، والكتاب والقرآن، ص675.

[5] القصص القرآني، ج1، ص15.

[6] للتفصيل حول دلالة هذه المصطلحات في منظور القراءة المعاصرة لمحمد شحرور، انظر ضمن السلسلة نفسها، المقالة السابقة بعنوان: القراءة المعاصرة للقرآن لمحمد شحرور(3-4)، في ماهية نص التنزيل الحكيم؛ تحديد وتصنيف. على هذا الرابط: tafsir.net/article/5191

[7] القصص القرآني، ج1، ص86. ج2، ص44.

[8] القصص القرآني، ج1، ص60-63.

[9] القصص القرآني، ج1، ص22، 189، 195.

[10] الدين والسلطة، ص94، وتجفيف منابع الإرهاب، ص136، والسنة الرسولية والسنة النبوية، ص98، والقصص القرآني، ج1، ص112.

[11] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص99، والقصص القرآني، ج1، ص15.

[12] الكتاب والقرآن، ص675، والسنة الرسولية والسنة النبوية، ص148.

[13] الدولة والمجتمع، ص241، والسنة الرسولية والسنة النبوية، ص99، والقصص القرآني، ج1، ص21، وتجفيف منابع الإرهاب، ص48.

[14] القصص القرآني، ج1، ص218، 223.

من أهم المنظّرين الذين طابقوا بين منهج قراءة النصّ المقدّس ومنهج قراءة الخلق الطبيعي، تجد اسبينوزا في: رسالة في اللاهوت والسياسة، ص36، 37. وهو نفس المنهج الذي يعتمده الكثير من أهل الفكر الإسلامي كمحمد أركون.

[15] تجفيف منابع الإرهاب، ص136، والقصص القرآني، ج1، ص195.

[16] الكتاب والقرآن، ص321، والقصص القرآني، ج2، ص102، والدولة والمجتمع، ص241.

[17] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص98. والقصص القرآني، ج1، ص122-123.

[18] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص148.

[19] القصص القرآني، ج1، ص14، 23، 218.

[20] القصص القرآني، ج1، ص15، 175.

[21] القصص القرآني، ج1، ص14، 15، 23، 183. ج2، ص7، والكتاب والقرآن، ص675.

[22] تجفيف منافع الإرهاب، ص137، والقصص القرآني، ج1، ص123، 190.

[23] القصص القرآني، ج1، ص14، 15، والكتاب والقرآن، ص108.

[24] القصص القرآني، ج1، ص14، 15.

[25] الدين والسلطة، ص94.

[26] القصص القرآني، ج1، ص63.

[27] الكتاب والقرآن، ص675، والقصص القرآني، ج1، ص14، 15، 23.

[28] القصص القرآني، ج2، ص85.

[29] القصص القرآني، ج1، ص14، 15، 183، 184، والكتاب والقرآن، ص675.

[30] القصص القرآني، ج1، ص23.

[31] القصص القرآني، ج1، ص123، والقصص القرآني، ج2، ص8.

[32] الدين والسلطة، ص314، والدولة والمجتمع، ص241، والسنة الرسولية والسنة النبوية، ص96.

[33] تجفيف منابع الإرهاب، ص34، والقصص القرآني، ج1، ص214.

[34] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص97.

[35] السنة الرسولية والسنة النبوية، ص98، 148، والقصص القرآني، ج1، ص22، 112.

[36] الدين والسلطة، ص94، وتجفيف منابع الإرهاب، ص136.

[37] قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: 38].

[38] قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: 27].

[39] تجفيف منابع الإرهاب، ص37، ونحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص59، «كان معصومًا في مقام الرسالة، مجتهدًا في مقام النبوة». نفسه، ص154.

[40] الكتاب والقرآن، ص611، ونحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص47.

[41] القصص القرآني، ج1، ص227، 228.

[42] القصص القرآني، ج1، ص237، انظر: منظور ابن خلدون، المقدمة، ص421، 422.

[43] القصص القرآن، ج1، ص60، 61.

[44] القصص القرآني، ج2، ص51.

[45] القصص القرآني، ج1، ص230.

[46] يرى محمد شحرور أن الوحي المنزل قد رسخ أهم وسائل اكتساب المعرفة، ومن بينها: (التقليم) و(التسطير). تجفيف منابع الإرهاب، ص59.

[47] القصص القرآني، ج1، ص229، 230.

[48] القصص القرآني، ج1، ص268. تأمل النصوص الآتية: [الحج: 5]، [الزمر: 6]، [غافر: 67]، [نوح: 14].

[49] القصص القرآني، ج1، ص252-258.

[50] القصص القرآني، ج1، ص271. وآدم -عليه السلام- حسب محمد شحرور لم يكن نبيًّا، وإلّا تعارض ذلك مع قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}[البقرة: 213]، نفسه، ص272.

[51] القصص القرآني، ج1، ص271. والاصطفاء دلّ عليه قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[البقرة: 35]، {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}[الأعراف: 19].

[52] القصص القرآني، ج1، ص240، 241، 252.
يوجد العديد من المفكّرين المعاصرين الذين برهنوا على صحة نظرية داروين من خلال آيات الوحي المنزل، كلّ واحد بمنهجِ فهمِهِ وقراءته. انظر على سبيل المثال: آذان الأنعام؛ دراسة قرآنية علمية لنظرية داروين في الخلق والتطوّر: عماد محمد بابكر حسن، بالاشتراك مع: علاء الدين محمد بابكر حسن.

[53] القصص القرآني، ج1، ص302. قد عزّز أيضًا محمد شحرور نظرية فرويد من خلال نصوص الوحي المنزل.

[54] القصص القرآني، ج1، ص293، 315.

[55] القصص القرآني، ج1، ص223. ج2، ص11. فضلًا عن مفهوم (النذر) في تاريخ مجتمعات أهل الكتاب.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))