وأقبل شهر القرآن
تمرُّ الشهور والأيام، ويبقى قلب المسلم وروحه في شوقٍ لنسائم شهر رمضان، هذا الشهر المبارك الذي ينتظره المسلمون من العام إلى العام بشوقٍ لا تستطيع أن تعبِّر عنه الأقلام ولا اللسان، ولن يشعر بهذا الشوق العميق إلا مَنْ أدرك قيمة هذا الشهر، وما فيه من النفحات الإيمانية، والرحمات الإلهية، والعطايا الربانية.
ففي هذا الشهر تُفَتَّحُ أبواب الجنان، وتُغَلَّقُ أبواب النيران، وتُصَفَّدُ الشياطين ومردة الجانّ، ومن فضائل هذا الشهر أنّ مَن صام نهاره إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومَن قام ليله إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وفيه ليلةٌ خير من ألف شهر مَن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ومِن فضائل هذا الشهر بل أعظم فضائله وأجلّها على الإطلاق أنْ شرَّفه الله -عزّ وجل- بنزول القرآن فيه.
رمضان ونزول القرآن:
فقد قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185]، يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «يمدح -تعالى- شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم»[1].
فأول ما نزل جبريلُ -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في ليلة القدر، وهي ليلة من ليالي شهر رمضان، يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: 1]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان: 3].
ذلك أنَّ القرآن قد نزل في هذه الليلة جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة في السماء الدنيا، ثم أُنزل بعد ذلك إلى الأرض منجَّمًا ومفرَّقًا بحسب الوقائع والحوادث، فعن ابن عباس قال: «أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة»[2].
ولم يختصّ الله -عز وجل- ذلك الشهر بنزول القرآن فحسب؛ بل جعله موسمًا للعرض السنوي والمدارَسة بين جبريل الأمين -عليه السلام- وخير المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان يَعْرِض عليه القرآن كلّ عام في رمضان، فعن ابن عباس، قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارُسه القرآن...» [رواه البخاري].
وعن داود بن أبي هند قال: قلتُ للشعبي: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أمَا كان ينزل في سائر الشهور؟! قال: بلى، ولكن جبرائيل كان يُعارِض محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ما نزل إليه فيُحْكِم اللهُ ما يشاء، ويُثبِت ما يشاء، ويُنسِيه ما يشاء[3].
عبير القرآن الرمضاني:
والقرآن هو رسالة الله -عزّ وجل- التي اختتم بها سائر الرسالات، وتحدى بإعجازه سائر المخلوقات، فقال سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88].
وإعجاز القرآن وأثره الإيماني دائم ومستمر في كلِّ زمان، ولكن دعني أحدّثك عن عبير القرآن الرمضاني، وهذه الحالة الإيمانية والسكينة الروحية التي تغشى المسلم عند تلاوة القرآن في رمضان، إنه سرٌّ من أسرار هذا الشهر؛ لذلك تجد إقبالًا كبيرًا من المسلمين على القرآن في رمضان؛ وتجد نسائم العبير القرآني في كلِّ مكانٍ: في المساجد، والمنازل، والأسواق، والمتاجر، ووسائل المواصلات، فلا تكاد تجد مكانًا يخلو من أثرٍ لعبير القرآن.
ولكن ما السر في هذا الإقبال على القرآن في رمضان؟!
إذا تأملنا في سرِّ العلاقة بين رمضان والإقبال على القرآن؛ فممَّا سنقف عليه أن الصيام يهذِّب النفس البشرية، فتتهيَّأ لاستقبال القرآن، ففي أيام الصيام تكون النفس هادئة ساكنة؛ بسبب ترك فضول الطعام، وهذا يعني أنَّ مِن أعظم ما يُعِين على تدبّر القرآن وفهمه التقلُّلَ من الفضول: مثل فضول الطعام، وفضول الخُلْطة مع الناس، وفضول النظر، وفضول السماع، فكلما زالت حواجز الفضول تهاوت الحُجُب بين القلب والقرآن؛ ولذلك كان رمضان الذي يتقلَّص فيه فضول الطعام والشراب والنكاح بالصيام، ويتقلَّص فيه فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف؛ هو شهر القرآن[4].
فضائل الليالي الرمضانية:
وكما أنّ عبير القرآن في رمضان ليس كسائر الشهور؛ كذلك فليالي رمضان ليست كسائر الليالي، والدليل على ذلك أن الله -عز وجل- اختارها لنزول القرآن، وكذلك للمدارَسة السنوية للقرآن بين جبريل -عليه السلام- والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكَرْنا من قبل.
ومن فضل هذه الليالي الرمضانية أنْ جعل الله -عز وجل- فيها ليلة القدر، وهي خير ليالي العام على الإطلاق، وأخبر -سبحانه- أنَّ هذه الليلة خيرٌ من ألْف شهر.
ومن فضل هذه الليالي الرمضانية أنْ شُرِعَتْ فيها صلاة التراويح، ووَرَدَ الترغيب فيها، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري]، ولعلَّ سماع القرآن وتدبّر آياته من أهم مقاصد هذه الصلاة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «من أَجَلِّ مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله»[5].
لذلك ينبغي على المسلم كما يعمر نهار رمضان بالصيام أن يعمر ليله بالقرآن، يقول الزرقاني -رحمه الله-: «وفي حديث ابن عباس أنَّ المدارسة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلًا، وهو يدلّ على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلًا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهِمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبّر»[6].
وبعد أن تعرَّفْنا صلة القرآن برمضان وفضل لياليه، فينبغي علينا أن نتساءل:
ما واجبنا تجاه القرآن في رمضان؟
إنّ أعظم الواجبات التي تجب علينا تجاه القرآن، هي أن نشعر بمنَّة الله -عزّ وجل- التي امتنّ بها علينا بإنزال القرآن، ونُعيد النظر في علاقتنا مع كتاب الله، وذلك من خلال عدة محاور:
1- أن يَشغل المسلمُ نفسَه بالقرآن، وأن يملأ وقته به:
وذلك بالإقبال على القرآن، قراءةً وتعلُّمًا، فهو خير ما تُعْمَرُ به الأوقات وأعظم ما تنال به الأجور، وتُرفع به الدرجات؛ فعن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيّكم يُحِبّ أن يغدوَ كلّ يوم إلى بُطْحانَ أو إلى العَقِيق فيأتيَ منه بناقتين كوْمَاوَيْن في غير إثم ولا قطْعِ رَحِم؟»، فقلنا: يا رسول الله، نحِبّ ذلك، قال: «أفلا يَغدُو أحدكم إلى المسجد فيَعْلَم أو يَقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خيرٌ له من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث، وأربعٌ خير له من أربع، ومِن أعدادهن من الإبل» [رواه مسلم].
وورد في فضل الاجتماع على القرآن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «...وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلَتْ عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرَهم الله فيمَنْ عِنده» [رواه مسلم].
2- الصبر على مشقَّة القراءة -إن وُجِدت-:
فالمسلم مطالب بمجاهدة نفسه وحملها على الصبر على تلاوة القرآن إن وَجد شيئًا من المشقة أو العناء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أنه على قدر المشقة يكون الأجر عند الله -عزّ وجل-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البَرَرَة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران» [متفق عليه].
وإن كان الإنسان أُمّيًّا لا يُحسن أن يقرأ فينبغي أن لا يَحْرِم نفسَه من أجر الإنصات والاستماع، فقد قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف: 204].
3- الاهتمام بتدبّر القرآن وتفهُّمه:
فلن يتجلّى أثر القرآن على النفس إلَّا بتدبر آياته ومعرفة المقاصد والمعاني، وهذا أعظم ما ينبغي أن يراعيه المسلم عند التعامل مع القرآن، فمع عظيم أجر قراءة القرآن، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن: ألِف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [رواه الترمذي]، إلَّا أنّ تدبّر القرآن وفَهْم معانيه أعظم أجرًا وفضلًا؛ لأنه المقصد الأول الذي من أجله أُنْزِل القرآن، فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29].
يقول الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: «إنَّ مَنْ كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار»[7].
ومما يُعِين على ذلك أن يستحضر المسلم عند التلاوة أو الاستماع أنه هو المخاطَب بهذا القرآن، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأصغ لها سَمْعَك؛ فإنه خيرٌ تُؤمَر به، أو شرٌّ تُصْرَف عنه»[8].
4- التفاعل مع آيات القرآن:
ولقد علَّمَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كيف يكون التفاعل مع القرآن؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا مرَّ بآية من آيات العذاب تعوَّذَ بالله، وإذا مرَّ بآية رحمة سأل اللهَ من رحمته، وإذا مرَّ بذِكر الجنة سأل اللهَ الجنة، وإذا مرَّ بآية ثناء على الله أثنى عليه، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «صلَّيتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البَقَرَة... إِذَا مَرَّ بِآية فيها تسبيح سَبَّح، وإِذا مرَّ بسؤال سأل، وإِذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ» [رواه مسلم]، وزاد النسائي بلفظ: «إذا مرّ بآية عذاب وقف وتعوَّذ».
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمتُ مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ليلةً فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمة إلَّا وقف فسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف فتعوَّذ...» [رواه أبو داود].
5- التخلُّق بأخلاق القرآن والتأدُّب بآدابه:
وأن يتأسَّى في ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان خُلُقه القرآن، فعن سعد بن هشام بن عامر أنه قال لعائشة -رضي الله عنها-: أخبريني عن خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالَتْ: ألسْتَ تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: «خُلُق نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- كان القرآن» [رواه مسلم].
ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: «واللهِ ما تدبُّره بحفظِ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنّ أحدهم ليقول قرأتُ القرآن كلَّه، ما يُرى له القرآنُ في خُلق ولا عمل»[9].
لذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على إقامة حدوده كما يحرص على إقامة حروفه، ولا يكون كالذين يقيمون حروفه ويضيعون حدوده.
ونخلص مما سبق إلى: ضرورة أن نجعل لأنفسنا برنامجًا قرآنيًّا نجمع فيه بين القراءة والاستماع والتدبّر والعمل؛ حتى نكون من الفائزين في شهر رمضان، كما ينبغي علينا أن تعلو همتنا في الانشغال بالقرآن والتمسك به في شهر رمضان؛ اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يعتني بالقرآن عناية كبيرة في هذا الشهر، وكذلك كان هدي الصحابة والسلف -رضوان الله عليهم- الذين ضربوا لنا المثل في علوّ الهمة في علاقتهم بالقرآن في رمضان، فكان منهم من يختم القرآن في رمضان كلّ عشرة أيام، ومنهم من يختم القرآن كلّ سبعة أيام، ومنهم من يختم كلّ ثلاثة أيام، بل كان بعضهم يختم كلّ ليلة، وذلك من شدّة حرصهم على استثمار هذا الشهر المبارك.
يقول الإمام ابن رجب -رحمه الله-: «ورَد النهي عن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضّلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان»[10].
وفي النهاية: أسألُ اللهَ -عز وجل- أن يعيننا وإياكم على طاعته في رمضان، وأن يُشَفِّع فينا الصيام والقرآن، وأن يعتق رقابنا من النيران، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تفسير ابن كثير، (1/ 367).
[2] تفسير ابن كثير، (6/ 100).
[3] تفسير البغوي، (1/ 198).
[4] الطريق إلى القرآن، (73).
[5] فتاوى ابن تيمية، (23/ 122).
[6] شرح الزرقاني على المواهب اللدنّية، (11/ 222).
[7] التبيان في آداب حمَلة القرآن، (54).
[8] زاد المعاد في هدي خير العباد، (1/ 329).
[9] تفسير ابن كثير، (7/ 64).
[10] لطائف المعارف، (171).