أصول التفسير ومقاصد القرآن

تعد أصول التفسير ومقاصد القرآن من مجالات البحث الناشئة، وهذا المقال يسلط الضوء على واقع البحث فيهما من جهة، ويحاول الإجابة عن سؤال العلاقة بينهما وموقع المقاصد من أصول التفسير من جهة أخرى.

أصول التفسير ومقاصد القرآن[1]

مدخل:

يجمع هذا العنوان فرعين من الدراسات القرآنية لم يحظيَا بالعناية الكافية، وتحاول هذه الورقة تقريب هذه الصورة من جهة، ثم تحاول الإجابة عن سؤال العلاقة بينهما، أو بصيغة أخرى تجيب عن سؤال موقع مقاصد القرآن الكريم من علم أصول التفسير.

وبناء عليه يمكن تقسيم الورقة إلى العناصر التالية:

1- واقع علم أصول التفسير.

2- واقع مقاصد القرآن الكريم.

3- موقع مقاصد القرآن من علم أصول التفسير.

أولًا: واقع علم أصول التفسير:

«موضوعات هذا العلم الجليل مبعثرة هنا وهناك في كتب التفسير وأصوله ومناهجه وعلوم القرآن والأصول، وإننا في كلياتنا الإسلامية وأوساطنا المثقفة المهتمة بمثل هذه الدراسات نحتاج إلى كتاب يلمّ بمسائل هذا العلم، ويعرضها بأسلوب واضح»[2]، هذا ما قرره أحد خبراء الميدان وهو الدكتور محسن عبد الحميد، وهو ما جعله يقول -أيضًا-: «ولقد اقتنعت بأننا في هذا العصر بأحوج ما نكون إلى هذا العلم؛ لكثرة ما انتشر من أخطاء شنيعة وتأويلات فاسدة لا يوجهها إلا الهوى ولا يقودها إلا الجهل»[3]؛ ولذلك فلن نطيل في الحديث عن واقع أصول التفسير[4]، ونكتفي فيه بالإشارات التالية:

لقد صار في حكم المقطوع به أن علم أصول التفسير لم يحظَ بالعناية الكافية من لدن علمائنا؛ ومن أجل ذلك جرى ويجري في التفسير ما يعلمه الجميع، وبغضّ النظر عن تعدد الإجابات عن سؤال: لماذا تأخرت العناية بأصول التفسير تحريرًا وتنقيحًا وتصريحًا؟! يبقى المقطوع به أنه ما نضج ولا احترق، وهو في أحسن أحواله مباحث متناثرة في مظانّ كثيرة، في مقدمتها كتب التفسير وخاصة مقدماتها، وهذا ما يشير إليه الدكتور محمد بن لطفي الصباغ بقوله: «أصول التفسير مبحث مهم تفرّقت موضوعاته في مقدمات بعض المفسرين وفي كتب أصول الفقه»[5].

إنّ ما سبق لا ينفي وجود ما يدخل تحت مسمى أصول التفسير متناثرًا في مقدمات كتب التفسير وفي كتب التفسير ذاتها، وفي كتب أصول الفقه خاصّة وفي عموم تراث الأمة وخاصة اللغوي منه، وكلّ هذا يفيد بأن هذا العلم لا يحتاج التأسيس بل يحتاج التحرير والتنقيح، أو «التكميل» بعبارة الفراهي، والذي قال في كتابه (التكميل في أصول التأويل): «لم نحتج لتأسيس هذا العلم بالكلية؛ فإنك تجد طرفًا منه في أصول الفقه ولكنه غير تمام»[6].

إنّ الوعي بأهمية أصول التفسير، الذي صار في حكم الإجماع على أهمية استدراك الفراغ الذي تشكوه المكتبة القرآنية في هذا الإطار لا يمنع ولا ينفي الاختلاف الواسع في كلّ التفاصيل بدءًا بالاسم ثم المسمى، فبَيْن من يسميه أصول التفسير[7]، ومن يرى تسميته أصول البيان[8]، وبين من يجعله مرادفًا لعلوم القرآن، ومن يجعله علم أصول التفسير وقواعده[9]...، فإذا انتقلنا إلى التفاصيل فحدِّث ولا حرج!

إنّ ما كُتِب إلى الآن في علم أصول التفسير على قِلَّته يؤكد أن جهود الأمة في بناء علم أصول التفسير ما تزال في بداياتها، ولا بد من ترشيد جهود البداية لتكون بداية سليمة، ومن الترشيد البحث عن موقع مقاصد القرآن في علم أصول التفسير.

ثانيًا: واقع مقاصد القرآن الكريم:

واقع مقاصد القرآن الكريم لا يختلف كثيرًا عن واقع أصول التفسير، فهما يشتركان في ضعف الاهتمام بهما، وفي اضطراب مفهومهما، وفي الحاجة الماسّة إلى إفرادهما بالعناية التي تليق بالأصول والمقاصد، ولئن كانت الأصول والمقاصد بشكلٍ عامّ حاضرة عند السابقين بقوة -وإن على تفاوت- فإنّ الحاجة إلى توضيحها وبيانها في زماننا تبدو ملحة، وهذه حال تشبه حال مَن لم يكونوا بحاجة لوضع علم الإعراب لأنهم كانوا يتقنون اللغة سليقةً، ثم جاء مِنْ بعدهم مَن احتاج إلى تلك القواعد، فكذلك نقول: إذا وُجد في الأمة من كان يعي مقاصد القرآن ويبيِّنه على ضوئها، فقد جاء مِنْ بعدهم مَنْ هو بحاجة لبيان تلك المقاصد وتحرير القول فيها.

نعم إنّ اللحن لم يدفعه علم النحو ولم يمنعه، ولكنه يكشفه ويعرّيه، وبفضل علم النحو يميز الناس بين الفصيح والملحون، ونحن بحاجة للتمييز بين التفسيرِ الذي يراعي مقاصد القرآن منطلقًا ومسارًا وغايةً، وبين تفسيرٍ لا عهد له بمقاصد القرآن في أي شيء من ذلك.

وكما يعلم الجميع في ما له صلة بمقاصد القرآن فيمكن إثارة جملة من الإشكالات:

المصطلح نفسه -رغم كثرة وروده في كتابات القدامى والمحدثين- لا تكاد تظفر بتعريف محدد وجامع له، وأغلب ما صرفت إليه دلالة الاستعمال أنه يَرِدُ بمعنى المحاور الكبرى والقضايا الأساسية التي دارت عليه سور القرآن وآياته.

مقاصد القرآن عند الإمام الغزالي:

ومِن أقدم مَن استعمل المصطلح الإمام أبو حامد الغزالي، وقد جعلها ستة مقاصد: ثلاثة سوابق، وثلاثة توابع:

1- تعريف المدعو إليه.

2- تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه.

3- تعريف الحال عند الوصول إليه.

4- تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائف صنع الله وسره، ومقصوده التشويق والترغيب.

5- حكاية أحوال الجاحدين.

6- تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد[10].

مقاصد القرآن عند الرازي:

مقاصد القرآن عند الرازي ثلاثة، هي:

1- التوحيد.

2- الأحكام الشرعية.

3- أحوال المعاد[11].

مقاصد القرآن عند رشيد رضا:

1- أركان الدين الثلاثة: الإيمان بالله تعالى، وعقيدة البعث والجزاء، والعمل الصالح.

2- النبوة والرسالة.

3- إكمال نفس الإنسان من الأفراد، والجماعات، والأقوام.

4- الإصلاح الإنساني: الاجتماعي، السياسي، الوطني.

5- مزايا الإسلام العامة، أو خصائص الشريعة.

6- حكم الإسلام السياسي، أو النظام السياسي.

7- حكم المال، أو النظام الاقتصادي.

8- نظم الحرب وفلسفتها، أو السياسة الدولية.

9- قضايا المرأة.

10- تحرير الرقيق[12].

وقد اختصر عبد الكريم حامدي هذه المقاصد وجعلها في سبعة:

1- الإصلاح العقدي.

2- الإصلاح الفكري.

3- الإصلاح الاجتماعي.

4- الإصلاح التشريعي.

5- الإصلاح المالي.

6- الإصلاح السياسي.

7- الإصلاح الحربي[13].

مقاصد القرآن عند الطاهر بن عاشور:

ومن بين المعاصرين الذين اجتهدوا في استقراء مقاصد القرآن العلامة الطاهر بن عاشور، وأوصلها إلى ثمانية:

1- إصلاح الاعتقاد، وتعليم العقد الصحيح.

2- تهذيب الأخلاق.

3- التشريع؛ وهو الأحكام خاصّة وعامّة.

4- سياسة الأمة.

5- القصص وأخبار الأمم السالفة؛ للتأسّي بصالح أحوالهم.

6- التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين.

7- المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير.

8- الإعجاز بالقرآن؛ ليكون آية دالة على صدق الرسول[14].

وهذا الذي ذهب إليه ابن عاشور -وقبله رشيد رضا في تفسير المنار والوحي المحمدي- يكاد يكون هو الغالب على مَن تناولوا هذا الموضوع، أعني محاولة استقراء محاور القرآن وجعلها مقاصد للكتاب العزيز.

ومن بين مَن نبَّه إلى ضرورة التمييز بين المحاور والمقاصد الدكتور طه جابر العلواني بقوله: «ومقاصده -أي القرآن- شيء، والمحاور شيء آخر؛ فمحاور الخطاب هي عبارة عن الموضوعات الأساسية التي دارت آيات الخطاب القرآني حولها: كالتوحيد، رسالة النبي، قصص الأنبياء، الآخرة، وما شاكل ذلك...»، أما المقاصد عنده فهي التي تغيّاها القرآن بحيث تمثّل غاياته الأساسية التي لا يمكن الإخلال بها، والتي يقول عنها: «هذه الغايات تَوَصَّلْنا إلى أنها ثلاث، هي: التوحيد، والتزكية، والعمران؛ إنّ المقاصد القرآنية العليا الحاكمة هي ثلاثة: التوحيد وهو حقّ الله على خلقه، التزكية وهي تعتبر المؤهل للإنسان لحمل رسالة القرآن، والعمران حقّ الكون».

مقاصد القرآن عند الشيخ يوسف القرضاوي:

ويميل الشيخ يوسف القرضاوي إلى عدم حصر المقاصد في عدد محدود، ويقرّر كثرتها وتعدّدها، يقول: «لقد دعا القرآن الكريم إلى كثير من المبادئ والمقاصد التي لا تصلح الإنسانية بغيرها، ونجتزئ هنا سبعة منها مما أكده القرآن وكرره وعني به أشد العناية»[15]:

1- تصحيح العقائد والتصوّرات.

2- تقرير كرامة الإنسان وحقوقه.

3- عبادة الله وتقواه.

4- تزكية النفس البشرية.

5- تكوين الأسرة، وإنصاف المرأة.

6- بناء الأمة الشهيدة على البشرية.

7- الدعوة إلى عالم إنساني متعاون.

والشيخ -كما هو بَيِّنٌ- يجعل مقاصد القرآن بمعنى الأهداف؛ ولذلك عبّر مرة بالمقاصد وعبر بالأهداف، يقول في المقصد الخامس: «ومن المقاصد التي هدف إليها القرآن تكوين الأسرة الصالحة»[16]، ويقول في المقصد السادس: «ومن أهداف القرآن الأساسية تكوين أمة متميزة تطبق رسالته»[17].

والاختلاف حتى في دلالة المفهوم هو أحد الشواهد الكثيرة الدالّة على الحاجة الماسّة لتخصيص هذا المجال بالدراسة والبحث.

مقاصد القرآن وأصول التفسير:

بعد هذا العرض السريع لواقع أصول التفسير ومقاصد القرآن نعود لبحث العلاقة التي تجمع بينهما، وتتحدّد هذه العلاقة بناء على تحديد مفهوم أصول التفسير، ولقد كنتُ قررتُ وأنا أعدّ رسالة الدكتوراه: (علم أصول التفسير؛ محاولة في البناء) أن مقاصد القرآن تُعدّ ركنًا أساسيًّا من أركان أصول التفسير، ومما ذكرتُ حين الإعداد ما يلي: «أما علم أصول التفسير الذي يحاول هذا البحث بناءه فهو العلم الذي يعمل في التفسير ما عمله أصول الفقه في الفقه، وأصول الحديث في الحديث، أي: قانون يضبط العملية التفسيرية، ويصونها من أيّ شكلٍ من أشكال الانحراف، حتى إذا حصل شيء من ذلك سهل بيانه وكشفه، ومن ثَمّ ضبطه وردّه.

ولكون هذا العلم أقرب ما يكون إلى علم أصول الفقه من حيث الغرض والوظيفة، فإننا نتصوره على الشكل التالي:

لا بد في هذا العلم -أولًا- من تحديد مصادر التفسير التي ينطلق منها المفسِّر، مع بيان حجيتها، ودرجتها، ورتبتها بما يحقق الضبط والإحكام لعمل المفسِّر، فلا ينتقل -مثلًا- إلى مصدر لاحقٍ وفي السابق ما يغني، خاصة عند التعارض… كأن يستشهد في تفسير آية ببيتٍ من الشعر يخالف ما ثبت عن رسول الله في معنى نفس الآية.

ثم لا بد في هذا العلم من تحديد قواعد التفسير التي تضبط التعامل مع مصادره من ناحية، ومع النصّ القرآني نفسه من ناحية أخرى.

ثم لا بد في هذا العلم -أيضًا- من مباحث تتناول (المفسِّر): تحديدًا، وشروطًا، كما هو الحال في المباحث التي تتناول المجتهِد عند الأصوليين، فتحدّد مفهوم المجتهِد وشروطه…

ولا ينقص بناء بهذا الشكل -في تصورنا- إلا نظرة شمولية متفحّصة للنصّ القرآني تستقرئ مراد الله تعالى من خلال تتبّع مختلف آي الكتاب وسوَرِه؛ ليقوم بعد ذلك ما نصطلح عليه (مقاصد المفسَّر).

وبقدر فهمنا لمقاصد المفسَّر بقدر ما تسلم اتجاهاتنا في التفسير ويسلم الحكم عليها؛ ففي القصص القرآني -مثلًا- بقدر فهمنا للمقصد من إيراد القصص، والذي دلّ عليه بشكلٍ مجملٍ قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود: 120] -بقدر ما نبتعد عن كلّ التفاصيل التي لا تخدم هذا الغرض، والتي كانت مدخلًا من مداخل الإسرائيليات… والإعراض عن التفاصيل التي لا تخدم الغرض المذكور هو ما توحي إليه الآية الكريمة في شأن عدد أصحاب الكهف -مثلًا-: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: 22].

فتكون الخلاصة أن هذا العلم نتصور أنه يتركب من:

1- مصادر التفسير.

2- وقواعد التفسير.

3- وشروط المفسِّر.

4- ومقاصد المفسَّر.

وهذه الأخيرة بالشكل الذي نتصوّره أقلّ هذه المباحث اهتمامًا بها؛ فمصادر التفسير وقواعده وشروط المفسِّر إن افتقدت كليًّا للبناء التقعيدي، فقد كُتب فيها بهذا المعنى أو ذاك، ما يعدّ منطلقات أولى لبنائها بالشكل الذي يقتضيه البناء، أما مقاصد المفسَّر فلم يُكتب فيها إلا النادر القليل، مما يفرض استخراج مادتها أولًا؛ حتى تستوي وأخواتها أو تكاد، ثم لتأخذ موقعها من البناء الكلي في إطار التصوّر الشمولي للموضوع»[18].

كان هذا ما قلته قبل أكثر من عشر سنوات، ويخيّل إليّ أن الفكرة ما تزال صالحة.

وخلاصتها ما يلي: لا يكفي في أصول التفسير الحديث عن مصادر التفسير وقواعد التفسير وشروط المفسِّر، بل لا بد أن يكون عمل المفسِّر ضمن مقاصد القرآن أو مقاصد المفسَّر.

وإذا أردنا مزيدًا من التفصيل فإني أتصور مقاصد القرآن في علاقتها بأصول التفسير تختلف بحسب كلّ مجال، وهي -أيضًا- متفاوتة من حيث الوضوح والرّسوخ، وسأقتصر في هذه الورقة على مجال العقيدة، ومجال أحكام القرآن، ومجال القصص القرآن، ومجال الآيات الكونية.

1- مجال العقيدة:

رغم أهمية مساحة حديث القرآن عن العقيدة بحيث كان ينبغي أن يكون مصدرَ العقيدة الأوّل كما هو مصدر الدّين كلّه، وإذا كانت أمور العقيدة تكاد تنحصر في ما دلّ عليه القرآن والسنة النبوية الصحيحة، لكن واقع التأليف في أبواب العقيدة دالّ على مدى البُعد عن منهج القرآن والغوص في منطق اليونان.

فمقاصد القرآن في العقيدة وجب أن تكون هي الإطار المسيّج لكلّ ما قيل في باب العقيدة؛ فلقد انصرفت عناية بعض العلماء في ما كتبوا في مواضيع العقيدة إلى الجدل والردّ على المخالفين بأسلوب ومنهج يتّفق مع منهج أولئك المخالفين فتأثّروا بالمنهج الفلسفي الإغريقي، وفسّروا آيات القرآن ذات الصلة بموضوع العقيدة على ضوء الفكر اليوناني، فاختلّ الميزان بين العقيدة على منهج القرآن والعقيدة على منهج اليونان.

وأهمّ معالم منهج القرآن في عرض العقيدة أنه يعرضها عرضًا فطريًّا قريبًا من المخاطبين، والأدلّة العقلية إن وردت فَتَرِدُ متّسقة ومنسجمة مع المنهج الفطري ومتكاملة معه.

2- مجال أحكام القرآن:

يعتبر المقصد التشريعي في القرآن الكريم من أهم المقاصد التي نزل من أجلها، وهو أمر أجمعتْ عليه الأمة فاتّخذت من القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع، فكان قطب الرَّحَى الذي تدور عليه أحكام الشريعة وينبوع ينابيعها، والمأخذ الذي اشتقّت منه أصولها وفروعها، وهذا المعنى تؤكّده نصوص قرآنية وحديثية كثيرة.

وقد قال الشافعي: «فليست تنزلُ بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: 1]»[19].

ولقد عدّ القرطبيُّ من وجوه الإعجاز «ما تضمّنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام»[20]. وهذا الجانب التشريعي من القرآن الكريم هو الذي اهتم به علماء التفسير في ما يعرف بالتفسير الفقهي أو تفاسير الأحكام.

يمكن عدّ مجال أحكام القرآن من أهم المجالات التي اتضحت فيها صورة مقاصد القرآن، وهو الذي يدخل ضمن مقاصد الشريعة، على اعتبار أنّ علماء الأصول إنما ركّزوا على هذا الجانب أساسًا، وعليه فيمكن القول بكلّ اطمئنان أنَّ كلّ ما توصّل إليه علماء أصول الفقه في الجانب التشريعي على مستوى المقاصد كما كان مؤطّرًا لعمل الفقيه فهو مؤطّر لعمل المفسِّر حين الاشتغال بآيات الأحكام.

3- مجال القصص القرآني:

يشكّل القصص القرآني جزءًا كبيرًا من كتاب الله تعالى كما هو معلوم، ينصّ القرآن الكريم على مقاصد ورود القصص فيه في آيات كثيرة، من ذلك قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 3]، وفيها نستفيد أن القصص القرآني قائم على الانتقاء والاصطفاء؛ فليس كلّ ما وقع قَصَّهُ القرآن، بل فيه أحسن القصص، وهذا المقصد يشمل قصص الأنبياء والمرسلين، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 164]، ومثله قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر: 78].

ويبيّن القرآنُ الكريم في أكثر من آية فوائد القصص، كما في قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود: 120]، وفي الآية تحديد لغايات ثلاث: تثبيت فؤاد النبي، وموعظة، وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف: 111]، والآية تحيل على مقصد واسع من مقاصد القصص القرآني وهو الاعتبار، وقوله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الأعراف: 176]، وتثبيت الفؤاد ليس خاصًّا برسول الله بل يشمل أمته كلّها، ويحصل ذلك باستيعاب ما في القصص من عبر ودروس، وهي الأخرى ثمرة من ثمار التفكُّر.

وهذه الآيات وما في حكمها هي التي كان ينبغي أن تؤطّر عمل المفسرين في تناولهم للقصص القرآني، لكن الذي جرى غير ذلك تمامًا في أغلب الأحوال؛ إذ ترجّح تتبع تفاصيل القصص على البحث عن عناصر التثبيت والعبرة فيها، وليس من مقاصد القرآن ذكر التفاصيل.

ومما يحسن تأمله هنا قوله تعالى في شأن قصة أصحاب الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: 22].

ففي الآية ذكر لما يتداول بشأن العدد، وينتهي النصُّ من غير حسم في العدد، بل بتوجيه بعدم استفتاء أحد منهم فيه: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، والاكتفاء بعلم الله بالعدد: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}، هذا مع العلم أنه سُئل عن أصحاب الكهف، فكيف لو لم يُسأل عنهم؟!

فما وجه أن يورد القرطبي -مثلًا-: «والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القَلَطِي ودون الكُرْدي، وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صيني، والصحيح أنه زبيري»[21]. وهو الذي يفسّر قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}: «أمَر اللهُ تعالى نبيَّه في هذه الآية أن يردَّ علم عدتهم إليه»[22].

وقد خاضَ المفسرون في ما هو فوق العدد؛ وهو أسماء أصحاب الكهف واسم كلبهم، ويردُّ ابن كثير على ذلك كلّه بقوله: «وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته، والله أعلم؛ فإنّ غالب ذلك مُتَلَقًّى من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي: سهلًا هينًا؛ فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتّب عليه كبير فائدة، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجمًا بالغيب، أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحقّ الذي لا شكّ فيه ولا مرية؛ فهو المقدّم الحاكم على كلّ ما تقدمه من الكتب والأقوال»[23].

وعليه فإن تفاصيل القصص التي اجتهد المفسرون في تتبعها كانت بُعْدًا عن مقصد القرآن في القصص.

4- مجال الآيات الكونية:

تشكّل الآيات الكونية مساحة واسعة في كتاب الله تعالى، ولئن اجتهد المفسرون في مختلف العصور في تفسير هذه الآيات إلا أن التوسّع فيها إنما وقع في زماننا بفعل التطوّر الكبير الذي عرفته المجالات العلمية، وعند الحديث عن اتجاهات التفسير يصنَّف التفسير العلمي من بين أبرز الاتجاهات المعاصرة، وفي تقديري كان ينبغي أن يصطلح عليه اسم تفسير الآيات الكونية، ثم يعلم بعدها هل كان تفسير هذه الآيات علميًّا أو لم يكن. وبِغَضّ النظر عن تباين مواقف العلماء بين مؤيّد ومعارض لهذا الاتجاه، يمكن القول بأن هذه الاتجاهات لا يمكن حصر الجدل بشأنها بين التأييد والرفض، والأَوْلَى من ذلك كلّه هو تحديد شروط ووضع قواعد يحكم بها على الإنتاج بالرفض أو القبول.

ولكن المقطوع -بلا شك- هو أن الاستطرادَ في تتبّع التفاصيل خروجٌ عن مقصد القرآن، وهذا الذي أنكره العلماء عَلَى طنطاوي جوهري في كتابه: (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) من الإفراط في تتبع الإشارات، وتحميل الآيات لآراء ونظريات عديدة لا تدلّ عليها من قريب ولا من بعيد إلى بعض الحقائق العلمية.

والغرض من هذه الإشارة بيان أن عدم استحضار مقاصد القرآن في تناول كلّ محور من المحاور السابقة يجعل عملَ المفسر بعيدًا عن غايات القرآن.

خاتمة:

إنّ ارتباط الأمة بالقرآن الكريم باقٍ ما بقي القرآن، وهذا ما لا يجادل فيه أحدٌ من العالمين، ولكن الذي نقوله وبنفس الاطمئنان هو أن هذا الارتباط لم يكن -دائمًا- على ما يرام. ولقد طلب إخوان ابن تيمية -رحمه الله تعالى- منه أن يكتب لهم ما يميّزون فيه في التفسير بين الصحيح والسقيم، قال في مستهلّ مقدمته الشهيرة: «أما بعد؛ فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تُعِين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحقّ وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل»، وواضح أن رسالة ابن تيمية لا يمكن لوحدها أن تنهض بهذا العبء، ولئن أجابت عمّا يميز به في المنقول والمعقول بين الحقّ وأنواع الأباطيل في زمان ابن تيمية وما أظنها فعلت، ولكن المقطوع به أن ما جدَّ من ذلك يحتاج إلى جهود أخرى كثيرة لتصحيح المسار في التعامل مع القرآن الكريم، وإنّ كلّ ما يمكن أن يتحدد من مصادر التفسير أو يوضع من قواعد التفسير أو يشترط في المفسِّر، كلّ ذلك لا يفيد في شيء إذا لم تتقيد العملية التفسيرية بمقاصد القرآن الكريم. ولعلنا لا نختلف إذا قلنا بأن التوسّع في كتب التفسير قد جعل بعض هذه الكتب حُجبًا وحواجز تحول بين الناس وبين القرآن، وكان ينبغي أن ترث مهمّةَ رسول الله، أعني أن تبيّن للناس ما نزل إليهم.

ولئن كان الحديث عن مقاصد الشريعة تطوَّرَ تطورًا سريعًا إلى درجة الحديث عن الولادة الكاملة لعلم مقاصد الشريعة بعد سنوات من الكمون؛ فإننا نأمل أن تسهم هذه الدورة العلمية في إطلاق اهتمام خاصّ بمقاصد القرآن في أوساط مختلف الباحثين والمهتمين.

 

[1] نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 4 /7 /1438هـ - 31 /3 /2017م، وأصلها بحث مقدّم في دورة علمية متخصصة في (مقاصد القرآن الكريم)، الرباط: 10- 12 شعبان 1436هـ، الموافق: 28- 30 مايو 2015م.

وقد وردت بعض النقولات غير معزوة في أصل المقالة، فاستدركنا ما تيسر منها. (موقع تفسير).

[2] دراسات في أصول التفسير (5)، د. محسن عبد الحميد، دار الثقافة المغرب، الطبعة الثانية 1404هـ/ 1984م.

[3] دراسات في أصول التفسير (5).

[4] نظّمت مؤسسة مبدع مؤتمرًا متخصصًا في الموضوع تحت عنوان: «بناء علم أصول التفسير: الواقع والآفاق»، أيام 19- 21 جمادى الآخرة 1436هـ، الموافق 9- 11 أبريل 2015م.

[5] لمحات في علوم القرآن (191)، د. محمد بن لطفي الصباغ. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ/ 1988م.

[6] التكميل في أصول التأويل (7)، عبد الحميد الفراهي. الدائرة الحميدية، الطبعة الأولى 1388هـ.

[7] علم أصول التفسير محاولة في البناء، مولاي عمر بن حماد. دار السلام بالقاهرة، الطبعة الأولى 1431 هـ/ 2010م.

[8] ومن الداعين إلى ذلك أستاذنا العلامة الدكتور الشاهد البوشيخي.

[9] أصول التفسير وقواعده، خالد بن عبد الرحمن العك. دار النفائس، بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ/ 1986م.

[10] جواهر القرآن (24) الإمام أبو حامد الغزالي. دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة: الثانية، 1406هـ/ 1986م.

[11] تفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب)، (30/ 249) أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1420هـ.

[12] الوحي المحمدي (166) الشيخ رشيد رضا، المكتب الإسلامي، الطبعة التاسعة، بيروت 1399هـ/ 1979م.

[13] مقاصد القرآن من تشريع الأحكام، د. عبد الكريم حامدي. دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1429هـ/ 2008م.

[14] التحرير والتنوير (1/ 39-41)، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م.

[15] كيف نتعامل مع القرآن (73) د. يوسف القرضاوي. دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة 1421هـ/ 2000م.

[16] كيف نتعامل مع القرآن (96).

[17] كيف نتعامل مع القرآن (107).

[18] علم أصول التفسير محاولة في البناء (27-29).

[19] الرسالة (19)، الإمام الشافعي، مكتبة الحلبي بمصر، الطبعة الأولى، 1358هـ/ 1940م.

[20] الجامع لأحكام القرآن (1/ 75) للإمام القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1965م.

[21] الجامع لأحكام القرآن (10/ 384).

[22] الجامع لأحكام القرآن (10/ 383).

[23] تفسير القرآن العظيم (5/ 148) للإمام ابن كثير، دار طيبة، الطبعة الثانية، 1420هـ/ 1999 م

الكاتب

الدكتور مولاي عمر بن حماد

أستاذ التعليم العالي بالمغرب، وله عدد من المؤلفات والبحوث العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))