عرض كتاب
(القرآن؛ كلام الصوت الإلهي إلى محمد الرسول)
للمستشرق الإسرائيلي أوري روبين

يعرض الكاتب هنا كتاب (القرآن؛ كلام الصوت الإلهي إلى محمد الرسول)، لأوري روبين، وهو كتاب صدَر مؤخرًا، يعكس اتجاهًا جديدًا في الاستشراق الإسرائيلي في الكتابة عن القرآن، حيث لا يهتم بالبحث عن أصولٍ يهودية للقرآن، بل يقدّم صورة عن القرآن كما يراها المؤمنون به، ويبرز لقارئه أثر النصّ في حياة المسلمين إلى يومنا هذا.

عنوان الكتاب باللغة العبرية: הקוראן...דבר הקול האלוהי אל מוחמדהשליח كلام الصوت الإلهي إلى محمد الرسول.

مكان وسنة الإصدار: القدس المحتلة، نوفمبر 2019.

دار النشر: دار نشر (ماجنس)، الجامعة العبرية بالقدس المحتلة.

عدد الصفحات: 170ص، من القطع المتوسط.

  يمثّل الاستشراق الإسرائيلي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل تطوّر (المدرسة اليهودية في الاستشراق)[1]، والتي تبدأ بالاستشراق اليهودي العام، ثم الاستشراق الصهيوني، وأخيرًا الاستشراق الإسرائيلي. ففي التاريخ الحديث يبدأ الاستشراق اليهودي بالتوجّه نحو دراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية كجزء من الحركة الاستشراقية في الغرب، التي ظهرت مع بدايات القرن الـ 18م[2].

أمّا الاستشراق الصهيوني فقد ارتبط -بطبيعة الحال- بالحركة الصهيونية التي ظهرت بالأساس في شرق أوروبا عام 1881م، بهدف تقديم خدمات علمية للحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، ثم يأتي بعد ذلك (الاستشراق الإسرائيلي) مع بداية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة عام 1948م وحتى يومنا هذا، كامتداد للاستشراق (اليهودي) و(الصهيوني)[3].

وقد احتل (القرآن الكريم) مكانة مهمّة وبارزة من بين الاهتمامات والموضوعات المختلفة التي اهتم الاستشراق اليهودي عامة بدراستها والتعرّض لها بالترجمة والبحث والتحليل والدراسة والنقد، وهو ما ظهر جليًّا في إعداد ترجمات عبرية مطبوعة وكاملة لمعاني القرآن الكريم صدرت في إسرائيل، إضافة إلى إعداد مقالات حول القرآن الكريم بالموسوعات اليهودية/ الإسرائيلية، علاوة على كثيرٍ من الأبحاث والكتب والدراسات والمقرّرات الدراسية الإسرائيلية حول القرآن الكريم.

يأتي هذا الكتاب الماثل للعرض والتقديم كواحد من أحدث الإصدارات الاستشراقية العلميّة حول القرآن الكريم التي ظهرت مؤخرًا في إسرائيل لدار نشر (ماجنس) التابعة للجامعة العبرية في القدس المحتلة التي تعدُّ أهم وأقدم جامعة في إسرائيل، وهو ما يعكس مدى اهتمام الدوائر العلمية والأكاديمية الإسرائيلية بالنصّ القرآني ودراسته من جانب، كما يعكس مدى الحرص الاستشراقي الإسرائيلي -من خلال كتاباته المعاصرة- على تقديم صورة مُقرَّبة عن القرآن للقارئ الإسرائيلي بالعبرية من جانب آخر.

يُشير الكتاب كذلك -من خلال الاطلاع على أهمّ محتوياته وأبرزها- إلى توجّه يمكن وصفه بـ(الجديد) في الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية المعاصرة بالعبرية حول القرآن الكريم، ذلك التوجّه الذي يحرص على استخدام (منهج وصفي) بحت حول القرآن؛ إذ يظهر أن الكتاب في مجمله يحاول تقديم صورة للقرآن كما هي في أعين المؤمنين به، بعيدًا عن التصوّرات والفرضيات الاستشراقية اليهودية والإسرائيلية الكلاسيكية والمتكرّرة التي تتمحور حول ردِّ النصّ القرآني إلى مصادر دينية يهودية.

ونظرًا لأهمية مؤلف الكتاب (المستشرق الإسرائيلي أوري روبين) وتأثير كتاباته حول القرآن؛ سواء داخل إسرائيل أو خارجها، فإننا قبيل الشروع في عرض أهم محتويات الكتاب، نستعرض أولًا سيرته الذاتية العلمية ونبذة عن أهم مؤلفاته حول القرآن الكريم، وذلك على النحو الآتي:

أولًا: مؤلف الكتاب وسيرته العلمية:

يُعدّ المستشرق الإسرائيلي البروفيسور أوري روبين אורירובין واحدًا من أهمّ وأبرز المستشرقين الإسرائيليين المعاصرين المختصين في الدراسات القرآنية؛ فصفته العلمية الحالية هي أستاذ (شرفي) للدراسات القرآنية والتراث الإسلامي المبكّر في قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الدراسات الإنسانية والاجتماعية - جامعة تل أبيب.

وُلد بفلسطين في 24/ 6/ 1944، والتحق في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي بمركز המגמההמזרחנית (التوجه الاستشراقي) المختصّ في تعليم اللغة العربية، والذي كان يلتحق به الطلبة الإسرائيليين المُجيدين للعربية، وبه تعلّم اللغة والأدب العربي، وكيفية التعايش مع السكان العرب، حيث كانت تُدَرَّس به بعض المواد القيِّمة مثل العربية الكلاسيكية (الفصحى)، والقرآن؛ والتي من خلالها عرف الكثير عن العالم الإسلامي وعن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ تعلّم به تراثًا دينيًّا خالصًا، لا سيّما ما يتعلّق منه بالعربية والإسلام، فقد وجد نفسه مُحبًّا لكلّ ما يتعلق بالعربية وبالإسلام، مدفوعًا بإحساسه بالأهمية البالغة لمعرفة الكثير عنهما؛ نظرًا-حسب رأيه- لسيطرة رجال الدّين على العالم العربي المحيط بإسرائيل[4].

حرص عند وصوله للمرحلة الجامعية والتحاقه بجامعة تل أبيب أن ينتظم في أقسام علمية تكون بها دراسات قريبة من ذلك التخصّص، حيث حصل على شهادتي ليسانس (اللقب الجامعي الأول) من جامعة تل أبيب؛ أولهما عام 1969م في تخصّص الدراسات التوراتية وتاريخ الشرق الأوسط، وثانيهما في عام 1972م في تخصّص اللغة العربية[5].

حصل روبين عام 1970م على شهادة دراسية تكميلية من جامعة تل أبيب في تدريس الكتاب المقدّس، وفي عام 1976م حصل من الجامعة نفسها على شهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية، كانت تحت عنوان: «النبي محمد في التراث الإسلامي المبكّر»، تحت إشراف البروفيسور (مائير يعقوب كيستر) M. J .Kister، والذي كان له دورٌ كبيرٌ في تحديد توجّهات واهتمامات (روبين) العلمية؛ حيث وجّه كلّ مجهوداته في دراسة التراث الإسلامي الديني القديم، وذلك تأثرًا بتوجهات أستاذه (كيستر) الذي يعدُّ من كبار أساتذة اللغة العربية بمعهد الدراسات الأفرو-آسيوية بالجامعة العبرية، كما يسمَّى بـ(أبو الاتجاهات الاستشراقية) في التعليم العبري المتوسط؛ إذ تمّت الاستعانة به في وضع الكثير من المناهج التعليمية الخاصّة بالإسلام والعرب التي تدرس في مراحل التعليم المتوسط بالمدارس الإسرائيلية[6].

أما عن شهادة الدكتوراه الخاصّة بـ(روبين)، فقد حصل عليها في عام 1976 من الجامعة نفسها من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وكانت بعنوان: «النبي محمد في التراث الإسلامي المبكّر»، وتتناول في الجزء الأول منها صورة (محمد) كما كانت في العصور القديمة، أمّا الجزء الثاني فيتناول وجهة النظر (الإسكاتولولجية) أي: (الأخروية) لتلك الصورة[7].

ركز (روبين) في هذه الأطروحة على (تحليل مقارن) لنماذج من التراث الإسلامي حول دور النبي محمد يوم القيامة؛ إذ دارت الدراسة بهذه الأطروحة حول مخطوط كتاب (أبو سعد الخرجوشي)[8] (توفي 1015)، الذي يستعرض وجهات نظر مختلفة من التراث الإسلامي حول حياة محمد وصورته، ومكانته في أوساط المؤمنين به وبرسالته[9].

شغل (روبين) عدّة مراكز علمية وبحثية كثيرة داخل أقسام ومراكز الدراسات العربية والإسلامية بالجامعات الإسرائيلية: ففي الفترة من 1969-1971 عمل (مساعد باحث) في مركز (شيلواح) التابع لجامعة تل أبيب. ومنذ عام 1971 تدرّج في المراكز العلمية بقسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الآداب بجامعة تل أبيب؛ ففي الفترة 1971-1974 عمل (مدرسًا مساعدًا)، وفي الفترة من 1974-1976 عمل (مدرِّبًا على اللغة العربية)، وما بين عامي 1976-1980 أصبح يدرس مقرّراته العلمية بصفته (محاضرًا) ثم (محاضرًا كبيرًا) في الفترة 1980-1985[10].

كما تولى (روبين) رئاسة قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الإنسانيات (الآداب) - جامعة تلّ أبيب لمدة ستة أعوام في الفترة 1984-1990؛ إذ تمّت ترقيته إلى درجة (أستاذ مشارك)، ومنذ 1/ 11/ 1994 وهو يشغل درجة (أستاذ) بالقسم، علاوة على عمله (باحثًا) في الفترة 1998-1999 بمعهد الدراسات المتقدّمة التابع للجامعة العبرية بالقدس.

للبروفيسور (روبين) العديد من المؤلفات في مجال الدراسات القرآنية، من أشهرها ترجمته العبرية لمعاني القرآن الكريم التي صدرت طبعتها الأولى عن جامعة تل أبيب عام 2015. وكذلك ثلاثة كتب بالإنجليزية، وهي:

1- The Eye of the Beholder: the Life of Muhammad as Viewed by the Early Muslims (a Textual Analysis), Princeton, 1995.

2- Between Bible and Qur'an: the Children of Israel and the Islamic Self-Image. Princeton, 1999.

3- Muhammad the Prophet and Arabia, Variorum Collected Studies Series, Ashgate, 2011[11].

علاوة على الكتاب الماثل للعرض الذي صدر بالعبرية، وكتاب آخر بالعبرية صدر أواخر عام 2019 بالعبرية وحمل عنوان: בין ירושלים למכה: קדושה וגאולהבקוראןובמסורתהאסלאם بين القدس ومكة؛ قداستها وخلاصها الديني في القرآن والتراث الإسلامي[12].

كما أنّ له عدّة مقالات علمية حول القرآن الكريم باللغتين العبرية والإنجليزية، من أبرزها: הארץ המובטחת ואחרית הימים בקוראן ובמסורת האסלאם الأرض الموعودة ونهاية الأيام بالقرآن والتراث الإسلامي، عام 2018. ضمن أعمال كتاب تذكاري حول المستشرق الإسرائيلي موشيه جيل[13].

ومقال:

 (Moses and the Holy Valley Tuwan: On the biblical and Midrashic background of a Qurʾanic scene), Journal of Near Eastern Studies 73 /1 (2014), 73-81[14].

ثانيًا: أهم محتويات الكتاب:

اشتمل الكتاب على العديد من الموضوعات والقضايا التي تتعلّق بالقرآن الكريم؛ سواء كنصّ أو ككتاب مقدّس للمسلمين، وهو ما يمكن عرض أهم ما جاء به على النحو الآتي:

أ. ماهية القرآن وبناء نصّه:

يُعَرِّف الكتابُ القرآنَ الكريم بأنه الكتاب المقدّس الأساسي للمسلمين حول العالم، كما أنه -لا يزال- هو مصدر الإلهام والإرشاد لعموم المسلمين على مستوى العالم، مضيفًا أنه كتاب مثير لاهتمام الباحثين والطلاب اليهود والنصارى في الشؤون الإسلامية على مرّ أجيال وعصور خلت.

واعتبر الكتاب أن القرآن الكريم هو النصّ الإسلامي المؤسِّس الذي يعتمد عليه عموم المسلمين، لا سيّما بعدما خرجوا من الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي وسيطروا على أماكن كثيرة بالعالم، وهزموا جيوش الإمبراطوريتين الكبيرتين بالعالم حينها: البيزنطية، والفارسية/ الساسانية.

أضاف الكتاب أن القرآن يُقدِّم نفسه على أنه كلام الإله؛ فهو (صوت الله) إلى النبي محمد وإلى بقية أبناء جيله من العرب واليهود والنصارى، وأنه يرسم لنا صورة قريبة للموضوعات التي يمكن تعلّمها من دين الإسلام، وهي: كيف ظهر الإله للنبي محمد وبأية طريقة تحدّث إليه؟ وكيف قام بتوجيهه لتوسيع شريحة المؤمنين به؟ وكيف يواجه معارضيه؟ وكيف يصف طائفة المؤمنين؟ وما الأسس الإيمانية والأخلاقية التي ينسبها لهم؟ وما صورة الإله؟ وما دين الإسلام المطلوب من الأشخاص الإيمان به؟ وما الطرق العملية للتعبير عن الإيمان بالإله؟ وكيف كان الجدل مع اليهود والنصارى وعبَدة الأصنام؟ وما الديانة الإبراهيمية التي من الواجب على الناس اتباعها لكي يكونوا مسلمين حقيقيين؟

ناقش الكتاب كذلك بناء القرآن الكريم ومكانته في الإسلام؛ فيشير إلى أن مصطلح أو لفظ (قرآن) يعني في الثقافة الإسلامية مجموع الآيات الإلهية التي أخبر بها محمد أبناء جيله. أمّا المعني الحرفي لهذه الكلمة فيعني القراءة بالصوت، وبالتالي فإن سِحر القرآن -حسب الكتاب- يتجلَّى حينما يُقرأ بلغته العربية الأصيلة، بسبب إيقاعه الداخلي والقافية التي توجد في نهاية الآيات التي تمنح النصّ إيقاعًا يأسر القلوب ولا يمكن إيصاله من خلال أيّة ترجمة.

كما تعرض الكتاب في أحد أجزائه لـ(بناء القرآن)، فيذكر أنه يتكون من 114 سورة لكنها غير مُرتبة وفق ترتيب ظهورها، لكن هناك ترتيب زمني يُقسمها إلى مكيّة ومدنيّة، كما يوجد أدب تفسيري للقرآن يحتوي على ما يُعرف بـ(أسباب نزول) هذه الآيات والسور؛ فالكثير من السور المكية توجد في الأجزاء الأخيرة من القرآن، وهي سور قصيرة نسبيًّا، في حين أن غالبية السور المدنية توجد في الأجزاء الأولى من القرآن وهي سور أطول من المكيّة؛ لذلك فإن هناك مَن استنتجوا أنّ القرآن تم ترتيبه وفق ترتيب النزول، لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك، فربما يكون هذا الترتيب عائدًا لرغبة مَن جمعوا القرآن والذين بدؤوا في هذه العملية فور وفاة النبي، ليبدؤوا القرآن بالسور المتأخّرة نسبيًّا، والتي تعدُّ حديثة نسبيًّا وبها الكثير من الأحكام عن السور المكية، لكن حتى هذا أمر غير متبع في معظم الأحوال؛ إذ توجد سور مكية ومدنية متتابعة وراء بعضها بعضًا، وأحيانًا توجد سور تنتمي للفترة الزمنية نفسها مرتبة وراء بعضها بعضًا.

وأضاف الكتاب أنه يوجد على رأس كلّ سورة -عدا السورة رقم 9 (التوبة)- صيغة {بسم الله الرحمن الرحيم} والمعروفة بـ(البسملة)، وهي ليست جزءًا أساسيًّا من النصّ القرآني؛ ففي الصيغة القديمة من القرآن تم الفصل بين السور بوضع خط فاصل، حتى أُضيفت البسملة، كما يوجد على رأس بعض السور بعض الأحرف غير المُفسَّرة، مثل: (ألم، حم، وما شابه ذلك)، والتي -فيما يبدو- وُضعت لتُعطي النصّ لمسة سحرية غامضة. كذلك بعض الأقسام الدراماتيكية المتعلقة بمعالم طبيعية أو بأماكن مقدّسة أو معالم من الحياة والتي وُجدت على رأس بعض قصار السور تُضفي على النصّ قوة ساحرة.

أثار الكتاب كذلك ما اعتبرها إشكالية (البُعد السياسي) في حفظ النصّ القرآني، والتي ظهرت في عهد الخليفة عليّ بن أبي طالب الذي استُبْعِدَت طائفة مناصريه (الشيعة)، وادّعَوا بعد ذلك أنّ الخليفة أبا بكر والخليفة عمر شوّها النصّ القرآني الأصلي بهدف أن يُخفيا منه الآيات التي تشيد بعليٍّ وأسرته، وهو الصراع الذي تبدَّى أكثر من خلال تفاسير القرآن، التي اصطبغت بصبغة المصالح السياسية والطائفية.

كما أشار الكتاب إلى أن النصّ القرآني الذي نشره عثمان بن عفان في المدن الإسلامية لم يكن منقوطًا ولم يكن به أيّة إشارات أو علامات للوقف والقراءة، وهو ما أتاح أساليب قراءة مختلفة له والتي تم تسجيلها في التراث التفسيري للقرآن، وكلّ طريقة من طرق القراءة هذه اعتمدت على طريقة تنقيط مختلفة، وتم تكييفها لتعكس الصورة الصحيحة للنصّ الأصلي، وبعد الاستقرار على تنقيط نهائي للنصّ العثماني، فإن هذه القراءات لم يتم إهمالها بل تطوّر حولها تراث سُمِّي بـ(السبع قراءات) المعتمَدة للقرآن، وربما تكون هذه المرونة في القراءة هدفها هو نقل القرآن لطبقات واسعة وكثيرة بالمجتمع الإسلامي، إلّا أن المسلمين في نهاية الأمر اتفقوا على نصّ واحد مقدّس للقرآن.

ناقش أحدُ أجزاء الكتاب كذلك علاقة الجنّ والشيطان بالقرآن، فيسرد قصة ما سماها بـ(آيات الشيطان) وهي الآيات التي نجح الشيطان في أن تتسلل إلى القرآن، والتي تتحدّث عن الاعتراف بالأصنام الثلاثة الشهيرة لدى العرب قبل الإسلام: (اللات والعُزّى ومناة)، وكيف أن الله أرسل جبريل على وجه السرعة ليُصحِّح الأمر ويسد الطريق على الشيطان من أن يتسلل مرة أخرى ويضع آيات من بين آيات الله، ويؤكّد أنّ النبي محمدًا محصَّن من عمل الشيطان؛ مثلما ورد في الآيات 221-223 من سورة الشعراء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.

في هذا الصدد، تحدّث الكتاب عن حادثة رجمِ الجن الذين حاولوا التنصت على الملأ الأعلى واستراق السمع، وأنه تم تخصيص شُهب لحرقهم وتتبعهم حتى لا يُكرروا هذا الأمر مرّة أخرى؛ مثلما هو وارد في الآيات 8-10 من سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.

ب. المسلمون والقرآن الكريم:

ناقش الكتاب في عدّة أجزاء منه رؤية المسلمين لكتابهم المقدّس وموقفهم منه ومدى تأثيره على عقائدهم وتشريعاتهم وكذا سلوكياتهم، فيرى الكتاب أنّ المسلمين الذين سيطروا على بقاع كبيرة من البسيطة تمتد من وسط آسيا شرقًا حتى المحيط الأطلنطي وشبه الجزيرة الآيبرية غربًا، نبعَت عقيدتهم وشريعتهم التي تطوّرت معهم من القرآن، الذي تطوّرت حوله مجموعة من (التفاسير) والأدب البيوجرافي (السيرة) للنبي محمد، ومجموعة من الكتابات الثيولوجية (الكهنوتية) وأيضًا أدب الجدل مع أبناء الديانات الوضعية والوثنية الذين عارضوا الإسلام.

كما تعرّض الكتاب كذلك إلى صورة القرآن في عيون المؤمنين به، والتي اعتبرها (مُركّبة) أكثر مما يتصوّر أحد؛ فرغم أن جميع الفِرَق الإسلامية اتفقت على أن القرآن هو كلام الله، إلّا أنهم اختلفوا حول ما إذا كان (مخلوقًا) أو (غير مخلوق)، وتبنَّى رأي أنه مخلوق العلماء العقلانيين من أمثال (المعتزلة)، والذين اعتبروا أن القول بأنه غير مخلوق يطعن في وحدانية الإله، وهو ما أدَّى إلى أن يكون لهذا الرأي آثار سياسية تتمثّل في التقليل من مكانة العلماء الذين تبنّوه، في حين أن الشيعة تبنوا فكرة أن القرآن مخلوق؛ انطلاقًا من رغبتهم لتأسيس سلطة الأئمة الشيعة.

وأضاف الكتاب، أنه رغم ما سبق فإنّ فكرة أن القرآن مخلوق وجدَت دعمًا رسميًّا لها في عهد الخليفة العباسي المأمون (توفي 218 هجرية)، في حين أن الخليفة العباسي المتوكل (توفي 247 هجرية) تبنَّى وجهة النظر المخالفة.

كما أشار الكتاب إلى أن هذا الموضوع أثار أيضًا خلافات إسلامية حول الشريعة الإسلامية التي لم يكن مصدرها القرآن وحسب، بل أيضًا السنة وأدب السيرة المتعلق بأقوال وأفعال محمد، المتمثّل في الحديث، إلّا أن الحديث في حدّ ذاته لم يكن وثيقة قانونية أو قضائية يمكن الاعتداد بها، لا سيما في العصور الإسلامية الأولى التي واجهت الكثير من المسائل القانونية، خاصّة في ظلّ توسّع الإسلام الجغرافي، وهو ما أدّى إلى تطوّر نقاشات كثيرة بين المسلمين حول الكثير من المسائل والأمور القانونية. ومع ذلك فقد وجد المفسرون الإسلاميون الأوائل في القرآن نفسه أساسًا لاعتبار محمدٍ وسيرتِه مصدرًا للتشريع، والتي تتمثّل في الآيات 1-3 من سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}.

وأضاف الكتاب كذلك، أنه في العصر الحديث احتفظ حكماء الدين الإسلامي بمكانة القرآن أساسًا لتشكيل المجتمع والقوانين، لكن استمر الجدل حول كيفية تكييف الآيات القرآنية مع الواقع، وازداد الجدل حول العلاقة مع غير المسلمين وحجم التسامح تجاههم، وهذه النقاشات برزت بشكلٍ قوي في كتابات محمد عبده ورشيد رضا.

كما أن مكانة القرآن في أعين المسلمين المعاصرين تنعكس بشكلٍ خاصّ في الترجمات التي أُعدّت من طرف مسلمين إلى اللغات الشائعة بين المؤمنين به في وقتنا الحالي، في مقابل أن الترجمات التي أُعدّت على أيدي غير المسلمين -لا سيما العبرية منها- قوبلت بنظرة شكّ كبيرة في العالم الإسلامي، ومؤخرًا شرع المسلمون في ترجمة القرآن بأنفسهم إلى العبرية، وصدرت ثلاث ترجمات بالفعل: الأولى في عمان (2015)، والثانية في المدينة (بدون تاريخ)، والثالثة في نيودلهي (2019).

ج. القرآن والعالم غير الإسلامي:

اعتبر الكتاب أن مكانة القرآن في الإسلام كانت معروفة منذ زمن بعيد سواء للمسلمين أو لأبناء الديانات والشعوب الأخرى الذين كانوا شهودًا على انتشار الإسلام في كلّ مكان، وهو ما أدّى إلى ظهور (ترجمات للقرآن) قام بها عدد من المترجمين غير المسلمين للّغات الأجنبية، خاصة الترجمات اللاتينية واليونانية التي ظهرت للقرآن في القرن التاسع الميلادي، أمّا الترجمات العبرية في تلك الفترة للقرآن فظهرت على شكل مخطوطات غير منشورة.

أضاف الكتاب، أنّ القرآن والأدب البيوجرافي لمحمد كانا محطّ اهتمام العلماء والمثقفين والمترجمين غير المسلمين، الذين حرصوا على التعرف على سيرة محمد الذي من خلاله وصل القرآن للمسلمين، وتمكّن المؤمنون به من هزيمة إمبراطوريات كبرى، ومن أجل ذلك ترجموا أجزاء من سيرة النبي محمد من مصادرها العربية مركِّزين على أصله الذي يعود إلى إسماعيل، وتتبع نسبه وأسماء آبائه وجدوده، كما اهتموا بتتبع الخطة الدعوية لمحمد في سياقها الزمني، والتي انقسمت إلى فترتين: إحداهما بمكة، والأخرى بالمدينة.

أكّد الكتاب كذلك على أنّ القرآن كان أحد أهم شواغل العلماء والمفكرين النصارى خلال القرون الوسطى؛ على سبيل المثال في أسبانيا (الأندلس) خلال القرن الثاني عشر الميلادي، والذي شهد عدّة كتابات نصرانية حول القرآن استمدت معلوماتها من مصادر عربية؛ سواء بشكلٍ مباشر أو عن طريق ترجمات، إلّا أنهم في بعض الأحيان ألبسوا كتاباتهم لباسَ أسلوبٍ يقلّل من أهمية ومكانة محمد.

استطرد الكتاب، أن القرآن استمر -حتى يومنا هذا- أحد الموضوعات التي تثير اهتمام العالم غير الإسلامي، وفي البداية كان الهدف هو (الجدل) مع المسلمين، وإثبات ضعف الإسلام تجاه الديانات والمعتقدات الأخرى، في حين أن كتابات أخرى حاولَت البحث في جذور الإسلام وفهم طبيعة تطوّره ونموّه، وتاريخ هذا الدّين وتطوّره، وفهم تلك الثقافة التي احتلت مكانة مهمّة إلى جوار الثقافتين اليهودية والنصرانية.

كما اعتبر الكتاب أن أبرز مثال على اهتمام العالم الغربي بالقرآن هو المجلدات الستة لموسوعة القرآن Encyclopedia Of The Qur'an التي صدرت عن دار نشر (بريل) خلال السنوات 2001-2006.

د. النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن الكريم:

كان ملحوظًا تركيز الكتاب على علاقة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن الكريم، مشيرًا إلى أن اسمه ورَد في القرآن أربع مرات؛ وهي الآية 144 من سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، والآية 40 من سورة الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، والآية 2 من سورة محمد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}، والآية 29 من سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...}، وفي مرة واحدة ورَد اسمه (أحمد) في الآية 6 من سورة الصف: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.

أضاف الكتاب أن محمدًا وُلد في مدينة مكة عام 570 للميلاد، وبدأ دعوته كنبيٍّ فيما بين أعوام 610-622 ميلادية، ثم بعد ذلك هاجر إلى مدينة (المدينة) وأقام بها حتى وفاته عام 632 ميلادية، وكوّن تحت قيادته طائفة المؤمنين به التي سيطرت على جزيرة العرب بكاملها، وهو ما أدى إلى تحوّل الإسلام من دين (مُضطهَد) إلى دين (مُنتصِر)، وهو ما تسجّل في كتابات إسلامية تصف تاريخ حياة محمد (السيرة)، وكذلك تسجّل بالقرآن نفسه، وفي أدب تفسير القرآن (التفاسير).

ووفقًا للكتاب، فإن محمدًا ترك لطائفة المؤمنين به مجموعة من النبوءات التي تسجّل بعضها في القرآن واحتفظ بها حفظة القرآن (القُرّاء)، وأدخلوا في الكتاب أجزاء وثائقية احتفظ بها بعضٌ من معاصري النبي، وهي الوثائق التي كانت أساسًا لعملية جمعِ القرآن، التي اكتملت في شكلِ نصّ قانوني له في عهد الخليفة عثمان بن عفان (توفي 35 هجرية).

كما أشار الكتاب إلى أنّ القرآن احتوى على بعض الآيات التي تقدِّم وصفًا للكتب المقدّسة الأخرى لليهود والنصارى، وكيف أنها تعترف بمحمد كرسول الإله، كما أن القرآن يتعرض لهذه الكتب لدعم اتهام بني إسرائيل الذين تمردوا على رُسل الإله منذ زمن موسى حتى محمد، الذي -أي: محمدًا- عرض عليهم رؤية الخلاص تحت راية الإسلام، وفي مقابل ذلك فإنّ صوت الإله يعرض كذلك قواعد الحرب والسلام التي يجب على المؤمنين اتباعها تجاه غير المسلمين، ويرسم طرقًا أخرى للعمل من أجل الإله.

يرى الكتاب كذلك أن عددًا من الآيات القرآنية عكست سعي محمد للحصول على مكانة في المجتمع الذي نظر إليه بعين الشك وعلى مكانته بين المؤمنين به، وإلقاء الضوء على ماهية الطائفة المؤمنة بمحمد ومجموعة القيم التي طالب القرآن أن يتحلوا بها، والطريقة التي حدّدها القرآن لهم في تعاملهم مع أعداء الإسلام.

واعتبر الكتاب أن مكانة محمد في القرآن انعكست كذلك من خلال الأساطير والحكايات العربية والإسلامية التي نُسِجَت حول القرآن، لا سيما حول الرحلة المسائية (الإسراء والمعراج) لمحمد، وصعوده للسماء ورؤيته للمعجزات والجنة والنار، فمن خلال هذه الأساطير نُسجت -على سبيل المثال- الكوميديا الإلهية لدانتي (توفي 1321م)، رغم أنه صوَّر محمدًا على أنه أحدُ الخاطئين الذين يُعاقَبون في جهنم.

 

 

[1] المدرسة اليهودية في الاستشراق، محمد خليفة حسن، مجلة رسالة المشرق، الأعداد 1-4، المجلد 12، القاهرة 2003. ص45-60.

[2] المرجع نفسه، ص45.

[3] الاستشراق الإسرائيلي؛ الإشكالية، السمات، الأهداف، أحمد صلاح البهنسي، مجلة الدراسات الشرقية، العدد 37، 2007، ص470.

[4] انظر: صفحة (روبين) على الإنترنت www.urirubin.com.

[5] ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبرية؛ أوري روبين أنموذجًا، أحمد البهنسي، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2017، ص11.

[6] المرجع نفسه.

[7] انظر: صفحة (روبين) على الإنترنت www.urirubin.com.

[8] أبو سعد الخرجوشي: صاحب كتاب (شرف النبي) أو (شرف المصطفى) وينتمي إلى محلة خركوش بمدينة نيسابور كان من العلماء الكبار لأهل السنّة بخراسان في القرن الرابع، وهذا الكتاب باللغة العربية وقد طبع في الآونة الأخيرة تحت عنوان: (مناحل الشفا ومناهل الصفا بتحقيق كتاب شرف المصطفى) مع تعليقات كثيرة في ستة مجلدات. وهذا الكتاب على الرغم من أنه كتاب سيرة نبوية ومؤلف على طريقة كتاب دلائل النبوة، ولكنّ فيه شرحًا دقيقًا عن مكة والمسجد الحرام والكعبة وأماكن مقدّسة أخرى. (انظر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مؤسسة الرسالة، السعودية، 2001، الجزء 17، ص256).

[9] ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبرية، أحمد البهنسي، ص13.

[10] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[11] انظر: صفحة (روبين) على الإنترنت www.urirubin.com.

[12] المرجع نفسه.

[13] المرجع نفسه.

[14] المرجع نفسه.

المؤلف

الدكتور أحمد صلاح البهنسي

حاصل على الدكتوراه في الآداب، تخصص الديانة اليهودية وتاريخ الأديان، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))