تُراثنا المخْطوط وآفاق العِنايةِ؛ مخْطوطات القُرآن وعلومِه نموذجًا (1-2)
وفي هذا الجزء الأول من الحوار يدور الحديث حول محورين؛ الأول: مداخِل عامَّة في العِنايةِ بتُراثِ الأمَّة، والثاني: تحْقيق التُّراثِ؛ إشْكالاتُه وآفاقُ تطْويرِه، حيث يلقي فضيلة الضيف الضوء على قضية العناية بالتراث وإشكالاتها وآفاق تطويرها من خلال تجربته الخاصة في هذا المجال.
مقدمة:
لمخطوطات التراث التي خلّفها أجدادُنا العظام بهاءٌ وجمالٌ محيطٌ بها من كلِّ جانبٍ، يخطف لُبَّ من رآها وعاينها ويغمره بسعادةٍ وسكينة قد يعجزُ اللسان عن الإبانة عنها، حاملًا له على النّهل منها مرةً بعد مرةٍ وإن لم يُرْوَ، ولا أدلَّ على هذا مما نشاهده من حرص المتيَّمين بهذا التراث على بذل الغالي والنفيس من أجل الحصول على نسخةٍ محفوظة هنا أو هناك في أقصى مشارق الأرض ومغاربها.
والمحاوَرُ الكريم الأستاذ/ عبد العاطي الشرقاوي (أبو يعقوب الأزهري) هو أحد المتيّمين بهذا التراث منذ نعومة أظفاره المنقِّبين عنه في أرجاء المعمورة كلِّها، لا يسمع ببقعة تحوي مخطوطًا إلا وبادر بالهجرة إليها وكلُّه شوقٌ إليه، فزار أكثر من مائة دولةٍ من دول العالم وتفحَّص ما يزيد على المائتين وخمسين مكتبة من مكتباتها العامّة والخاصة، وأنشأ مؤسسة يحاول من خلالها لملمة شتات هذا التراث بتصوير ما استطاع منه وتذليله للباحثين ثم فهرسته فهرسة وصفيَّة ملبيةً لحاجات الباحثين، وتحقيق ما استطاع من عيون هذا التراث.
وقد أتى حوارنا معه على أربعة محاور؛ المحور الأول: مداخِل عامَّة في العِنايةِ بتُراثِ الأمَّة، والثاني تناول تحْقيق التُّراثِ؛ إشْكالاته وآفاق تطْويرِه، والثالث يتناول المصاحِف المخْطوطة، أهمِّيَّتها، وسبُل العِنايةِ بها، كما يلقي المحور الأخير الضوء على مشْروعه "تُراثِ الأمَّة في خِدْمةِ كتابِ اللهِ"، وهذه المحاور مسبوقة بأسئلة تمهيدية مُعرِّفة بالمحاوَر وجهوده في تتبع المخطوطات وفهرستها وتحقيقها.
ويتناول هذا الجزء الأول من الحوار، المحورين الأول والثاني، حيث يدور الحديث فيه حول التراث وكيفية العناية به رقمنةً وتصويرًا، وفهرسةً وتحقيقًا، والإشكالات التي تواجه عملية تحقيق التراث، لا سيما مع توزّع هذا التراث في مكتبات العالم، ويلقي المحاورُ الكريمُ الضوءَ على هذا من خلال خلاصة تجربته في التعامل مع التراث المتعلق بالدراسات القرآنية عمومًا والمصاحف المخطوطة.
وفيما يلي نصّ الحوار:
نصّ الحوار
أسئِلة تمْهيديَّة:
س1: بالطَّبْعِ وكما يعلَمُ القارئُ الكريمُ جيّدًا؛ فإنَّ لاسْمِكُم حُضورًا بارزًا لَدى مُختلفِ المعْتَنِينَ بِمَخْطوطاتِ التُّراثِ الإسْلاميّ، فقدِ اشتهرْتُم بكثرةِ رحلاتِكمْ واطِّلاعِكم عَلى المخْطوطاتِ في مُختلفِ البلْدانِ العَربيَّةِ وغيْرِ العَربيَّةِ، نودُّ في البِدايةِ، لوْ تُطلعونَنا على سبَبِ اتِّجاهِكُم نحْو العِنايةِ بمسْألةِ المخْطوطاتِ، ومتَى بدأْتُم الاهتِمامَ بهذِه القضِيَّة؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
بسْم اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، الحمْد للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقِبةُ لِلمتَّقينَ، وصلَّى اللهُ عَلى سيِّدِنا محمَّدٍ إمامِ النَّبيّينَ، صلّى اللهُ عليْه وعَلى آلِه الطَّيّبينَ الطّاهِرينَ، وعَلى صحْبِه وأزواجِه أمَّهاتِ المؤْمنينَ، ومَن تبِعَهم إلى يوْمِ الدّينِ.
وبعْد،
بالنسبة لبداية الاهتمام فقد وفَّقَني اللهُ سُبْحانَه وتَعالى وأَنعَمَ عليَّ مِن وقتٍ مبكِّر في حياتي بالتَّوجُّهِ للعِلمِ، وكُنْتُ أزهرِيًّا، فحفِظتُ القُرآنَ بفضْلِ اللهِ في سنِّ العاشِرة، في قرْيتي الَّتي نشأْتُ فيها، وهيَ قرْيةُ إبشواي الملق[1]، وبدأتُ في طلَبِ العلْم معَ دِراستي في الأزْهر، وحُبِّبَتْ إلى نفْسي الكُتُب، فكنتُ أجمعُ كلَّ نَفيسٍ أسْمعُ بِه، ورزَقَني اللهُ العملَ بِالتِّجارةِ مبكِّرًا، فكُنتُ لا أبخَلُ عَلى الكُتُبِ بشيءٍ، بلْ أنفقُ فيها كلَّ شيء، وهذا من فضْلِ اللهِ عليَّ، ثمَّ حُبِّبَتْ إليَّ أصولُ هذِه الكتُب -أعْني المخْطوطات- فبدأتُ بِزيارةِ دارِ الكُتُب المصْريّة في وقتٍ مبكِّرٍ مِن حياتي، أظنُّه في الثّانويَّة، وصوَّرتُ بالفعْلِ بعضَ النُّسخِ الَّتي بلَغَني عَن بعضِ مشايِخي أنَّها نفيسةٌ ولم تُطْبَع، ثمَّ بدأَ هذا الأمرُ يَزيدُ حتّى بلغَ مُنتهاهُ، حتّى إنّي أنفقتُ في بعْضِ الأوْقاتِ كلَّ ما أملكُ وكانَ كثيرًا، وكنتُ مسْرورًا بذلِك، ففرْحَتي بِما يسَّر اللهُ لي كانَت أكْبرَ بِكثيرٍ مِن قيمةِ ما دفعْتُ فيها.
وسبَب ذلِك: هُو قِراءتي على المشايِخِ في فتْرةٍ مبكِّرةٍ، وكنَّا نَرى الكثيرَ مِن التَّصْحيفِ والتَّحْريفِ في بعْضِ النُّسخِ، فكانَتْ البِداية البحْث عَن نسخةٍ نفيسةٍ مِن مخْطوطةِ الكتابِ، وأمْر آخَر وهُو لا يقلُّ أهمّيَّةً عنِ الأوَّل إن لمْ يكُن أهمَّ، وهُو أن يذْكرَ بعضُ المصنِّفينَ كلامًا أو نُقولًا عَن مصنَّفاتٍ أُخْرى، وأحْيانًا يصِفونَها بالجوْدةِ والإتْقانِ، فكانَ هذا الباعِث الأوَّل للبحْثِ عَن هذِه الكتُب في مكْتباتِ المخْطوطاتِ، فكانَ التَّوْفيق في هذا الباب، وحُبِّب إليَّ هذا الطَّريقُ ورأيتُ فيهِ بركةً وتيْسيرًا منَ اللهِ سبْحانَه، وإن كانَ فيهِ بعضُ المنغِّصاتِ الَّتي لا أحبُّ ذِكرَها.
س2: قُمتُم بتأْسيسِ مؤسَّسة «دار عِلْم» لخِدْمةِ التُّراثِ والمخْطوطاتِ، أي أنَّ الأمرَ تجاوَزَ مسْألةَ الاهتِمامِ إلى مُحاولةِ تكْوينِ حاضِنةٍ لخِدْمةِ قضيَّة المخْطوطاتِ، فلوْ تُطْلعونَنا على هذِه المؤسَّسةِ وجُهودِها وأهمّ إصْداراتِها.
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
بدأَ العملُ على النَّحْو السّابقِ ذِكْرُه في الجَوابِ عنِ السُّؤالِ الأوَّلِ بشكْلٍ شخْصيّ، ثمَّ تطوَّر إلى شكلٍ منظَّم ومرتَّبٍ لتصْويرِ ما يُيسِّرُه اللهُ مِن مكْتباتٍ، بشكْلٍ مميَّز حتَّى إنَّ بعضَ المصوَّراتِ تكونُ في الصّورةِ أجْودَ مِن أصْلِها، وهذا ليْس الأصْل، ولكِن عندَما تكونُ حالةُ المخْطوطِ سيِّئةً مادّيًّا فتصْويرُها يسهلُ مُطالعتَها بشكلٍ أفْضلَ.
تزْخَرُ المكتباتُ العامَّةُ والخاصَّةُ في مختلفِ أرْجاءِ العالمِ بعددٍ وافرٍ مِن المخْطوطاتِ الَّتي كتَبَها علماؤُنا الأوائِل، وهي صفحةٌ مُشْرِقةٌ لهذِه الأُمَّة العَظيمةِ.
هذِه المخْطوطاتُ حوَتْ مِن العلومِ والمَعارِف النَّفيسةِ الَّتي أسهمَتْ في نهضةِ الحضارةِ الإنسانيَّة وتَطْويرِها مادِّيًّا ومعنويًّا في كلِّ الأزْمانِ ولكلِّ الأعْراقِ.
إلّا أنَّ هذِه الكنوزَ -الَّتي لا تُقَدَّر بثمنٍ- بعضُها في حالةٍ يُرْثَى لها مِن الضّياعِ، والإهْمالِ، والضَّررِ، وإذا استمرَّ الحالُ على هذِه الصِّفةِ فستَفْقِدُ الأجيالُ هذِه الأعمالَ الفريدةَ الَّتي كتبَها الأوائلُ بمِدَادِ أنفاسِهم، وبذَلُوا مِن أجْلِها الغاليَ والنَّفيسَ، وترَكوها لمَنْ بَعْدَهُم أمانةً.
وإنَّ مِن أَفضلِ الطّرُقِ للحِفَاظِ عَلى هذا التُّراثِ العَظيم: تحْويلَ هذِه الأصولِ الورقيَّة -حَبِيسة الأدراج- إلى نُسَخٍ رقَمِيَّة، يَستفيدُ منْها القاصِي والدّاني في أرْجاءِ المعْمورةِ.
ولا يَتوقَّفُ الأمْرُ عندَ هذا الحَدِّ، بَل لا بُدَّ مِن إعادةِ فَرْزِ هذِه المخْطوطاتِ وتصْنيفِها وفهْرستِها في قاعِدةِ بياناتٍ مُبتكرةٍ ومُفَصَّلةٍ، تُيَسِّرُ لِلباحثِ في مُختلفِ التَّخصُّصاتِ الوصولَ إلى بُغْيتِه بسهولةٍ.
ومِن أجْلِ هذا الغَرَضِ النَّبيلِ انبثَقَتْ فكْرةُ إنشاءِ مُؤَسَّسةٍ مُتخصِّصةٍ تُعْنَى بِما ذُكِرَ أعْلَاه، فكانَت مُؤَسَّسة: (عِلْم لإحياء التُّراث والخِدْماتِ الرَّقميَّة).
1- التَّعريف بِالمُؤَسَّسة:
بدايةُ العملِ في هذا المشْروعِ منذُ عام (2002م)، ثم رُخِّصَتْ مُؤَسَّسة:
(international library of manuscripts) (ILM) في بريطانيا في عام 2012م.
وأُنْشِئَتْ شركةُ (عِلْمٍ لإحياءِ التُّراثِ والخِدْماتِ الرَّقميَّة) بالقاهرةِ سنة 2014م.
ويقود العمل فيه فريق كبير من الباحثين ما بين مُفَهْرِس، وباحِث شرْعي، ومُدَقِّق، ومُدْخِل بيانات، ومُبَرْمِج.
2- ما تمَّ إنجازُه مِن المشْروعِ:
1- تصوير (800000) (ثمان مائة ألف) مخطوط مِن مكتباتِ العالَم المخْتلِفة.
2- تصوير (150000000) (مائة وخمسين مليون لوحة مِن الصُّوَر الضّوئيّة)، أي بِما يُعادِل (300000000) ثلاثمائةِ مليون صفحة.
3- تصوير (40000) كتاب مِن نوادِر الطَّبعاتِ الأُولَى (الحَجَرِيَّات).
4- أرشيف رقمِيّ بسَعة (110000) جيجا (110) تيرا بايت.
5- قاعدة بيانات (database) تحْتوي على أكثرَ مِن نصْف مليون مخطوط مُفَهْرس، وبها العديدُ مِن المَزَايا، والتَّقارِير، والَّتي لَمْ نُسْبَقْ إليْها وللهِ الفضْل، وهيَ في طَوْر المُراجعةِ والتَّجهيز.
6- زيارة (250) مكتبة مِن مكْتبات العالَم.
7- زيارة أكثَر مِن (100) مدينةٍ حوْل العالَم.
وقَد قامَت المُؤَسَّسة -وللهِ الحمْد- بتصْويرِ العَديدِ مِن نَفائسِ المخْطوطاتِ (مِن المكْتباتِ العامَّة والخاصَّة) مِن كثيرٍ منَ المُؤسَّساتِ، والهيْئاتِ، والمَكتباتِ الخاصَّة بالمساجِد والزَّوَايَا بالمغْربِ، ومُوريتانيا، ومِن العِراقِ، والجَزائِر، واليَمَن، ومِن أمريكا، وفرنْسا، وألْمانيا، وإسبانيا، وسراييفو، وغيرها مِن أنحاءِ العالَم.
وقَد يسَّر اللهُ تبارَك وتعالى تحْقيقَ عددٍ مِن كتُب التّراثِ في العُلومِ المُخْتلفةِ، والَّتي لم تُطبَع من قبْل، طُبعَ منْها تسعةُ عناوينَ[2]، وجارٍ طِباعةُ ثَلاثينَ مجلَّدًا أُخرى بإذْنِ الله.
س3: اشْتهرْتُم بكثْرةِ رحْلاتِكم للاطِّلاعِ عَلى مخْطوطاتِ التُّراثِ، فلَو تأْخذونَنا في جوْلةٍ سَريعةٍ لأهمِّ تلكَ الرِّحْلاتِ والأماكِن الَّتي قُمتُم بِزيارتِها؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
مِن المدُنِ والمكْتباتِ الَّتي زُرتُها:
أ- في مصْر:مكْتبة الأزْهر الشَّريف بِالقاهِرة، ودار الكتُب والوثائِق القَومِيَّة بالقاهِرة، ومكْتبة المخْطوطاتِ المرْكزيَّة بمسْجد السّيّدة زيْنَب بالقاهِرة، ومعْهد المخْطوطاتِ بالقاهِرة، ومكْتبة مخْطوطاتِ جامِع السيِّد البدَوِيّ، ومكْتبة مخْطوطاتِ مسْجد المُرْسِي أبو العبّاسِ، وغيْرها.
ب- وفي الممْلكةِ العربيَّة السّعوديَّة: مكْتبة المخْطوطاتِ بالحَرَمِ المكِّيّ، والمسْجدِ النَّبويّ الشَّريف، ومكْتبة المَلِك عبْد العَزيزِ العامَّة بالمدينةِ، والجامِعة الإسْلاميَّة بالمدينةِ المنوَّرة، والمكْتبة البساطِيَّة بالمَدينة، ومكْتبة الشَّيْخ حمَّاد الأنصارِيّ، وجامِعة أُمّ القُرَى بمكَّة المُكرَّمة، وجامِعة الإمام محمَّد بْن سُعود، وجامِعة المَلِك سعود، ومرْكز المَلِك فَيْصَل، ومرْكز البابطين بالرِّياض، ومكْتبة المَلِك عبْد العَزيز العامَّة بالرِّياض، وغيْر ذلِك.
ت- وفي الكويْت: مكْتبة الأوْقاف، ومكْتبة جامِعة الكويْت، والمكْتبة الوطنِيَّة، ومكْتبة الشَّيخ الشَّيبانِيّ، وبعْض المكْتبات الخاصَّة، وغيْرها.
ث- وفي قَطَر: المكْتبة الوطنيَّة، ودار الكتُب القَطَرِيَّة، وغيْرها.
ج- وفي الإماراتِ العرَبيَّة المتَّحدة: مكْتبة جامِعة الإماراتِ بالعين، ومكْتبة جُمْعة الماجِد، وبعْض المكْتباتِ الخاصَّة.
ح- وفي المَغْرب: الخِزانة الحَسَنِيَّة، والخِزانة الوطنِيَّة بالرِّبَاط، وخِزانة القرَوِيِّينَ بِفاس، وخِزانة ابْن يوسُف بمُرَّاكش، والخِزانة العامَّة بطَنْجة، والخِزانة الحَمْزاوِيَّة بإقْليم رشيد، ومكْتبة آسفِي، ومكْتبة المَلِك عبْد العَزيز بالدَّارِ البيْضاء، وغيْرها الكَثير.
خ-وفي مُوريتانيا: مكْتبات عَديدة في نوَاكْشُوط، سواءٌ كانَت مكتباتٍ عامَّة، أوْ خاصَّة بالبيوتِ، وبوتلميت كمكْتبة الشَّيخ سيديه، وغيرها.
د-وفي تُركيا: المكْتبة السُّلَيْمانيَّة باسطنبول، معَ مُشاهدةِ أكْثرَ مِن مائةِ مكْتبةٍ بداخِلِها، ومُطالعةِ أُصولِها، وكذلِك مكْتبة مُتْحف طوبقبو سراي، ومكْتبة جامِعة إسطنبول، ومكْتبة ملت (فيض الله، وولِيّ الدّين، وعلِيّ أميرِي) ومكْتبة بايزيد، ومكْتبة بلديَّة قُونيا، ومكْتبة الإقْليم، ويوسُف أغا بقُونيا، ومكْتبة جلال الدّين الرُّومِيّ، ومكْتبة وحيد باشا بكُوتاهيا، وغيْر ذلِك الكثير بتُركيا.
د- وفي إيران: مكْتبة الحَرم المَعْصومِيّ بـ: قُمّ، ودار الحَديث بـ: قُمّ، ومرْكز إحْياء التُّراثِ بـ: قُمّ، ومكْتبة آية اللهِ كلبياكاني، وعدَد مِن المكْتباتِ الخاصَّة. كما قُمْنا بِزيارةِ أصْفهان، وطَهْران (وفيها: مكتبة دانشكاه (جامِعة) طَهْران، ومكْتبة ملك، والمكْتبة الوطنيَّة، ومجْلس الشّورَى، وغيْرها)، كما زُرْنا مكتبات تِبْريز، ومكْتبات شِيرَاز، ومكْتبات مَشْهد.
ذ- وفي بريطانيا: المُتْحف البريطاني مرارًا، وجامِعة كامبريدج، ومكْتبة البودليانا بجامِعة أوكسفورد، وغيرها كمُؤَسَّسة الفُرْقان.
ر- وفي إيطاليا:مكْتبة الفاتيكان بروما، ومكْتبة الأمبروزيانا بميلانو.
س- وفي هولندا: مكْتبة المخْطوطات بجامِعة ليدن.
ش- وفي ألْمانيا: مكْتبة ميونخ، وبِرْلِين.
وغيْرها الكَثير، والحَديثُ عَن كلِّ مكْتبةٍ في كلِّ مدينةٍ داخلَ الدَّولةِ يَطولُ، ويطولُ سرْدُ نوادِرِها وأخْبارِها ومرَّات زيارتِها، ونسْألُ اللهَ التَّوفيقَ والسَّدادَ والقَبولَ.
المحْور الأوَّل: مداخِل عامَّة في العِنايةِ بتُراثِ الأمَّة.
س4: لا شكَّ أنَّ تُراثَ الأمَّةِ هُو هويَّتها وذخيرتُها، ولا غرْوَ فالتُّراثُ الآنَ والصِّلة بِه وتحْديدُ العلاقةِ معَه يمثِّلُ أحدَ أبْرزِ مجالاتِ الحوارِ عَلى السَّاحةِ العربيَّة، برأْيِكم ما أهمِّيَّة البحْث في مخْطوطاتِ التُّراثِ العربيّ والإسْلاميّ وما جدْواه؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
إنَّ البحثَ عنِ المخْطوطاتِ، هُو البحثُ عَن منبعِ الحضارةِ، والكَرامةِ، والتّاريخ، فالبحثُ عنْها والاستِفادةُ ممَّا فيها، أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازِم، وفيهِ إضافةٌ لأعْمارِنا وتجارِبِنا، أعْمارَ الأوَّلينَ وتجارِبَهم، وذلِك مهمّ ومُفيدٌ في سائِرِ العُلومِ والفنونِ، في القُرآنِ وعلومِه، والحديثِ والتَّفسيرِ والفقْه الإسْلاميّ، والعقائِد وتاريخِها، والكيمياءِ والفيزياءِ، والرِّياضيّاتِ، وسائِر العُلومِ التَّجْريبيَّة، وعمَل دِراساتٍ معمَّقة، تتحلَّى بالإبْداعِ والاستِفادة مِن سائِر الجوانِب، وليْس النَّصّ فقَط.
إنَّ الَّذي يكتُبُ كتابًا في أيِّ علمٍ أوْ نحلةٍ، إنَّما يكتبُ مسوّدةً ثمَّ مبيّضة، ويحاولُ أَن ينتقِيَ أشْرفَ ما في عقْلِه، ولِذا فأَنا أكرِّرُ دائِمًا: إنَّ هذا التّراثَ هُو أشْرفُ ما أَنتجتْه العُقولُ البشَريَّة في وجْهةِ نظرِها.
ومن الفوائدِ الَّتي نحصُدُها بدراستِنا المعمَّقة للنَّصِّ، وخوارِج النَّصّ، الوقوفُ عَلى أمورٍ تاريخيَّة هامَّة، لم يُنَصّ عليْها في كتُب التّاريخِ، ومعْرِفة واقِع العُلماءِ في العصورِ المخْتلفةِ وكأنَّنا بينهم، خصوصًا أنَّنا نعيشُ في غربةٍ بعدَ غيابِ التَّمكينِ والسّيادةِ، فتغيَّرت الكثيرُ منَ المعاني وَوُضِعْنا في قالبٍ أرادَه لنا مَن أسقَطَ سيادتَنا، وما أقولُه هُو واقِعُ عملٍ ودراسةٍ وبحثٍ ونظرٍ ومُعايشةٍ.
وأَرى أنَّ التّأمُّل في أهمّيّةِ البحْثِ في مخْطوطاتِ التُّراثِ العربيّ والإسْلاميّ، هوَ الخطْوة الأولى لتمْهيدِ الطَّريقِ الَّذي نصلُ بِه إلى ما ذكرْتُ.
س5: يقولُ الشَّاهدُ البوشيخي في كتابِه (مصْطلحات النَّقْد العربيّ): «التُّراثُ أغْلبُ الموْجودِ منْه مخْطوط، وأغْلبُ المخْطوطِ في حُكمِ المفْقودِ، وأغْلبُ المطْبوعِ في حُكْمِ المخْطوطِ»، ما تقْييمُكُم لهذِه المَقولةِ لا سيَّما في شقِّها الأوَّل «التّراثُ أغْلبُ الموْجودِ منْه مخْطوطٌ، وأغْلبُ المخْطوطِ في حُكْمِ المفْقودِ»، حيثُ سنعودُ لشقِّها الثّاني لاحِقًا؟
وما رأْيُكم في الإحْصاءاتِ الَّتي تُحاوِلُ وضْعَ رقمٍ تقْريبيٍّ لما بَقِيَ مِن تراثِ أمَّتِنا؛ فبعضُهم يقدِّرُها بالملْيونِ وبعضُهم يقدِّرُها بسبْعةِ مَلايين، وبعضُهم يَزيدُ أوْ ينقُصُ، فما رأْيكم في هذِه الإحْصاءاتِ؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
أمَّا ما ذكَرَه الدّكتور الفاضِل الشاهد البوشيخي -متَّعَه اللهُ بالصِّحَّة والعافية- مِن أنَّ أغْلبَ التُّراثِ الموْجودِ مخْطوطٌ، والمقْصودُ أنَّ التُّراثَ المخْطوطَ أضْعافُ المطْبوعِ، ولعلَّ قصْد الدّكتورِ أنَّ المخْطوط يعْني ما خُطَّ باليدِ سواء كانَ موجودًا أو مفقودًا، ويفسّرهُ العبارةُ الَّتي بعْدَها «وأغْلبُ المخْطوطِ في حُكمِ المفْقودِ»، وهذا صحيحٌ، فإنَّ النّاظرَ في كتابِ ابن النَّديم، وكتُب التَّراجِم، وكشْف الظّنونِ وغيْره مِن الكتُب الَّتي تذْكُر أسْماءَ المصنَّفاتِ يكادُ يقولُ: إنَّ ما بقِيَ مِن التُّراثِ وله نُسَخٌ في مكْتباتِ العالمِ أقلُّ مِن الثُّلثِ، وهذِه حقيقةٌ سَتُؤَيَّدُ بعدَ إنجازِ بعْضِ المَشاريعِ الَّتي نعْملُ عليْها الآنَ، بإذْن اللهِ، وقَد تطولُ، نسألُ اللهَ التَّيسيرَ والسّدادَ.
وأمّا عَن مسْألةِ إحْصاءِ المخْطوطاتِ الَّتي توجَد في مكْتباتِ العالَم العامَّة والخاصَّة، فإنَّ هذا الأمْر مهْما قيلَ فيهِ فهُو تقْديريّ، ولكِن هُناكَ احتِمالاتٌ بعيدةٌ كقولِ مَن قالَ إنَّه مليون، أو مليونانِ، ولكِن بحسبِ ما رأيْتُ وطالعْتُ بنفْسي في رحْلتي عَلى مدى أرْبعَ عشرةَ سنةً، فالأقْربُ إلى الواقِع هُو أنَّ عددَ المخْطوطاتِ الإسْلاميَّة في مكْتباتِ العالَم بلُغاتِها الثَّلاثةِ، العربيَّة، والفارسيَّة، والعثمانيَّة لا يقلُّ بحالٍ عَن أرْبعةِ ملايين، بلْ يزيدُ، ونسْألُ اللهَ العونَ والتَّوفيقَ والبركةَ والسّدادَ.
س6: مِن خِلالِ رحْلتِكم الطَّويلةِ معَ المخْطوطاتِ -كما بيَّنتُم- هَل يمكنكم أَن ترْسموا لنا خارطةً تُعينُ عَلى رسْم طبوغرافيا أماكِن تواجُد هذا التُّراثِ والأكْثَر أوْلويَّة منْها؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
حقيقةً كلُّ سؤالٍ مِن الأسئِلةِ يحْتاجُ بحثًا مُستقلًّا مفصّلًا، ولكِن عَلى سَبيلِ الإيجازِ أَقولُ: إنَّ خَريطةَ العالَمِ مُزدَحِمةٌ بِنوادِرِ الكنوزِ لِلتُّراثِ الإسْلاميّ:
ففي تُرْكيا مثلًا -حيثُ يوجَد بِها جزْمًا، وطبقًا لفهارسَ تحْتَ يدي- أكثرُ مِن نِصفِ ملْيون مخْطوط، ثمَّ تَليها إيران، نحْوها، ثمَّ تَليها العِراق، ثمَّ الهِند، ثمَّ مصْر، ثمَّ المغْرب، ثمَّ الجزائِر، ثمَّ تونُس، ثمَّ الممْلكة العربيَّة السّعوديَّة، ثمَّ ألْمانيا، ثمَّ بريطانيا، ثمَّ إفريقيا،... وهذا عَلى سبيلِ التَّخْمينِ عدا ترْكيا.
وتقومُ مؤسَّسةُ «عِلم لإحياءِ التُّراثِ والخِدمات الرَّقميّة» الآنَ بعملِ حصْرٍ دَقيقٍ، يسَّر اللهُ إتْمامَه.
ولكِن أحبُّ الإشارةَ إلى أنَّه رغْم تصْويرِ الكثيرِ مِن المكْتباتِ لِما تحتويه من التراثِ رقميًّا، إلّا أنَّ هناكَ الكثيرَ مِن جانبٍ آخَر لمْ يُصوِّروا مكْتباتِهم، ومِن ذلِك روسيا وقازان، وغيْرها مِن هذِه النّاحية، وقَد أخْبرَني بعضُ القائِمينَ عَلى المكْتباتِ الرّوسيّة أنَّ المكْتباتِ الخاصَّة بقازان قرابة السَّبْعينَ ألْف مخْطوط، وهذا عددٌ ليسَ بِالقَليلِ، فإنَّ مكْتباتِ دوْلة سوريا كامِلة لا تبلُغُ هذا العدَد.
س7: بِرأْيِكم وباعتِبارِكم أصْحابَ مؤسَّسةٍ تتَّجِه لخِدمةِ التُّراثِ كيفَ تُقيّمونَ مظاهِر العِنايةِ بِهذا التُّراثِ داخِل بِلادِنا الإسْلاميَّة وخارجَها؟ وما آفاقُ النُّهوضِ بخِدمةِ مخْطوطاتِ التُّراثِ العربيّ والإسْلاميّ؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
بدونِ مقدّماتٍ أَرى قصورًا شديدًا في القيامِ بهذا الواجِبِ عَلى الرّغْمِ مِن توفُّر الآليّاتِ، وأَرى قصورًا في التَّعاوُنِ مِن الجِهاتِ الخيْريَّة الذَّكيَّة، وأَرى بدونِ تفْصيلٍ أنَّ العجمَ من المسلمين عمومًا خدَموا تُراثَهم بشكْلٍ أفْضلَ بكثير مِن العرَبِ، وهو أمر ظاهر لكل من يطالع الجهود المبذولة ويقارنها.
آفاقُ النُّهوضِ بخِدمةِ التُّراثِ:
1- هناك آفاقٌ خاصَّة بالمخْطوطِ بدونِ النَّظرِ إلى المُحْتوى.
2- وهُناك آفاقٌ خاصَّة بمحْتوى المخْطوطاتِ؛ أعْني المادَّة العلميَّة الَّتي يحْتويها الكتابُ المخْطوط.
أمّا عَن المسارِ الأوَّلِ فأَرى ضرورة:
1- المسْح الشَّامِل والدَّقيق لدولِ العالَم الَّتي بها مخْطوطات، ثمَّ داخِل كلِّ مَدينةٍ في الدّولِ الَّتي بها هذِه المخْطوطات، ثمَّ اسْم المكْتبات في كلِّ مدينةٍ، ثمَّ التَّعريف بها، كما صنعَتْ مؤسَّسة الفُرقانِ في فهارِس المخْطوطاتِ في العالَم، مِن ربْع قرْن، جزاهُم اللهُ خيرًا، ولكنَّ هذا المسْحَ الشّاملَ أصْبحَ ناقِصًا الآن، وفي حاجةٍ لتطْويرٍ دقيق، ومُراجعةِ الإحصائيّاتِ المكْتوبة، فمثلًا مكْتبة الأزْهر ذُكِرَ في هذا المسْح أنَّها (24) ألفَ مخْطوط، والواقِع أنَّها (35) ألفَ مجلَّد، وبها (50) ألْف مخْطوط، والَّذي ساعدَ على هذا هو أنَّ بعضَ هذِه المكْتباتِ اليومَ تمَّ تحْويلُها رقميًّا، وتيسَّر إعْداد مثلِ هذِه التّقارير، وقَد قامَت مؤسَّسة «عِلْم» بالمضيّ قدمًا في هذا المشْروعِ، وتَزيد في البياناتِ كلَّ أسابيعَ معْلوماتٍ جديدة.
2- إحْصاء ما فُهرِسَ مِن هذِه المكْتباتِ، لمعْرفةِ ما لمْ يُفهْرَسْ منْها بناءً عَلى التَّقاريرِ السّابِقةِ في حصْرِ المكْتباتِ، وما لمْ يفْهرسْ توضعُ له خطَّة، وتتمُّ فهْرستُه بشكلٍ معْياريّ دقيقٍ معَ تَلافي الأخْطاءِ الَّتي وقعَ فيها المفهرِسونَ سابقًا، وذلِك على أعْلى معاييرِ الجوْدةِ والبرْمجةِ المُعاصِرةِ.
والمكْتباتُ الَّتي فُهرِستْ مِن قبلُ تُجمعُ فهارسُها ويتمُّ تقْييمُها، والنَّظرُ فيما يحْتاجُ إلى إعادةِ فهْرسةٍ، والَّذي قَد يُعتمدُ، والَّذي كُتبَ بغيرِ اللُّغةِ العرَبيَّة يتمُّ ترْجمتُه، والنَّظر في التَّجارِب السّابِقة في مشاريعِ الفهْرسة، وتنْقيتها، والبناء عَلى الصّالِح منْها.
وقَد مضَت مؤسَّسة «عِلْم» قُدُمًا في هذا البابِ منذُ فترةٍ طويلةٍ، ونسْألُ اللهَ المَعونةَ والسّدادَ، ولَن تَستطيعَ مؤسَّسةُ «علْم»، ولا غيْرها القيامَ بفهْرسةِ مكْتباتِ الدُّنيا بهذا المنهَج كاملًا إلّا أن يشاءَ اللهُ، ولذا فأحب استثمار فرصة هذا الحوار المبارك معكم لأنادي مَن يحبُّ هذا التُّراثَ مِن أشخاصٍ ومؤسَّساتٍ وجامِعاتٍ بنداءٍ لطيفٍ: هلمّوا فلْنتعاونْ، ولنجمعْ ما بقِيَ مِن تُراثِنا.
3- المسْح الرَّقميّ لكلِّ مخْطوطاتِ العالَمِ بشَكلٍ دَقيقٍ معَ المُراجعةِ والمُثابرةِ عَلى تصْويرِ المخْطوطِ بشكْلٍ مرتَّب، وبجوْدةٍ عاليةٍ، وهذا سيحْتاجُ إلى نفوذٍ دوليّ قويّ، ليتمَّ السَّيرُ فيه بشكْلٍ رسْميّ؛ لأنَّ هذا تراثُ أمَّةٍ وحضارةُ عالَم، وقَد فتحَ اللهُ للعبدِ الضَّعيفِ في هذا البابِ فقهًا.
4- أَرى إعْطاءَ المكْتباتِ رقم كود، يصْحبُه رقم المَدينةِ، يصْحبُه رقم الدَّولة، وذلِك لضبْطِ وحصْر المكْتباتِ في العالَم، وتكْويدها بشكْلٍ دَقيقٍ، بحيثُ لوْ وقفْنا على صورةٍ لأيّ مخْطوطٍ مِن أيّ مكْتبةٍ، نعرفُ مُباشرةً مِن أينَ هذا المخْطوطِ، وبِهذا تُحفَظ كلُّ ورقةٍ في مكْتبةٍ في العالَم.
5- عمَل قاعِدةِ بياناتٍ شامِلة غنيَّة بالحُقولِ المعْرفيَّة، المتعلِّقةِ بالنَّصِّ، وخوارِج النَّصِّ، لتكونَ مِرآةَ التّاريخِ والزَّمانِ والحرَكةِ العِلميَّة في العالَم، وقَد تفرَّغتُ لِهذا الأمْر مِن أرْبعَ عشرةَ سنةً، لا أفْعلُ شيئًا في يوْمي وليْلتي إلّا هذا، ومن أجلِه رحلْتُ إلى الكَثيرِ مِن دولِ العالَم، وبحمْدِ اللهِ وضعْنا في قاعِدة بياناتِنا «عِلم لإحياء التُّراث والخِدمات الرقمية»، واستفدتُ ممّا رأيتُ وطالعْتُ في جهاتٍ عالميَّةٍ؛ عربيَّة وفارسيَّة، وتركيَّة وأوربيَّة، وأمْريكيَّة وبريطانيَّة، فكانَت قاعِدة مخْطوطاتيَّة تاريخيَّة اجتِماعيَّة بطريقةٍ إبْداعيَّة، ونسْألُ اللهَ التَّوفيقَ والتَّمام.
وعَن المسارِ الثّاني: آفاق خاصَّة بمحْتوى المخْطوطات؛ أعْني المادَّة العلميَّة الَّتي يحْتويها الكتابُ المخْطوط. عَن هذا المسارِ أعِدُكم بمقالٍ حولَ مشْروعٍ أَسْميتُه «التَّحكُّم في النّصّ» لاحقًا بإذْن الله. ومقالٍ آخَر بعْد إنهاءِ المسارِ الأوَّل أوْ جزءٍ كبيرٍ منْه، وهُو «مشْروع اكتِشافِ المجاهيل».
المحور الثاني: تحقيق التراث:
س8: لا شكَّ أنَّنا بحاجةٍ لإخْراجِ سائِر ما وجدَ مِن التُّراثِ، ولكِن معَ قلَّةِ الإمْكانيّاتِ المادّيَّة صارَ البعضُ يلحُّ عَلى ضرورةِ تهْديفِ ذلِك الإخْراجِ، وتوْجيهِه لِما لَه أوْلويَّة وحاجةٌ ملحَّة، حتّى يكونَ مُفيدًا، لا سيَّما معَ حالةِ السّيولةِ في نشْرِ وتحْقيقِ العَديدِ مِن مخْطوطاتِ التُّراثِ بغضِّ النَّظرِ عَن قيمتِها المعْرفيَّة، ما رأْيُ فَضيلتِكم في هذا الشَّأنِ؟ وهَل يُمكِنُ عمَلُ لِجانٍ علْميَّة مثلًا أوْ ندواتٍ لضبْطِ ذلِك الجهْد وتوْجيهِه لِما هُو أكْثرُ نفعًا؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
الَّذي أَرى حوْلَ هذا الموْضوعِ واللهُ أعْلم، أنَّ كلَّ جهةٍ مختصَّة بعلمٍ معيَّن، تقومُ بعملِ فهْرسةٍ تفْصيليَّة لما كُتبَ في العِلمِ الَّذي تهتمُّ بِه الجِهة أوِ المؤسَّسة.
ثمَّ عمَل قائِمةٍ بِما لمْ يُطبَع في هذا البابِ، وترتِّبُه عَلى الأهمّيَّة والأَولى في النَّشر، ثمَّ تبْدأُ بتشْكيلِ لجنةٍ لتحْقيقِه، ثمَّ طباعتِه.
ثمَّ عمَل ثبتٍ بِما طُبعَ في هذا الفنِّ ولكِن كانَت خِدمةُ النَّصّ فيهِ رديئةً لا تصْلحُ، وقَد خرجَ الكتابُ محرّفًا، ثمّ جمْع نُسَخِه وإعادة تحْقيقِه.
ثمَّ عمَل ثبتٍ بِما طُبعَ، وفيهِ بعضُ الأوْهامِ والأخْطاءِ، والَّتي لا تسْتدْعي إعادةَ تحْقيقِه مرَّة أُخْرى كاملًا، وعليْه يجبُ كتابةِ مَقالٍ لتقْويمِه وتسْديدِه.
س9: يعدُّ تحْقيقُ النُّصوصِ وخِدمتُها أحدَ أهمِّ المَجالاتِ -كَما لا يخْفى-، إلَّا أنَّه وبعْدَ أَن كانَ عمَلًا لَه رِيادتُه ولا يتَصدَّى لَه سِوى كبارِ العُلماءِ صارَ الآنَ صنعةً يتجرَّأُ عليْها الكَثيرونَ، وهُو ما أَنتجَ إشْكالاتٍ عديدةً حيثُ صدرتْ تحْقيقاتٌ لبعضِ الكتُبِ ولكنَّها تحْتاجُ لإعادةِ تحْقيقٍ أيضًا، كما مرَّ معَنا من قول الشّاهِد البوشيخي: «أغلَبُ المطْبوعِ في حكْمِ المخْطوطِ»، فَفي ضوْءِ اشتِغالِكُم بالتَّحقيقِ نودُّ لوْ نسمَعُ رأْيَكُم وتقْييمَكُم لِهذا الأمْر؟ وكيفَ يُمكِنُ التَّصدّي لهذِه المَسْألةِ مِن وجْهةِ نظرِكُم؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
إنَّ تخلُّفَ الجِهاتِ الوقْفيَّة عَن دوْرِها في القيامِ بِطباعةِ الكُتبِ، وتشْكيلِ فريقٍ مِن أهْلِ الخِبرةِ لتَحْقيقِها، هذا السَّببُ هُو صاحِب النَّصيبِ الأكْبرِ في هذِه المُصيبةِ، وإنَّ القَلبَ لَيتمزَّقُ حين نرى كتابًا يُطبَعُ لأوَّلِ مرَّةٍ وقَد تمزَّقَ وتشوَّه حتَّى لَو رآهُ مصنِّفُه لتبرَّأَ منْه، وليسَ هُناكَ جِهةٌ في العالَمِ تُدافِعُ عَن حقوقِ هذا المؤلّفِ المظْلومِ والَّذي لا يَستطيعُ الدِّفاعَ عَن نفْسِه وهُو في قَبرِه، إنَّها أمانةٌ ومسْئوليَّة، ويزْدادُ الأمرُ سوءًا عِندَما يتَحوَّل الأمْرُ في بعضِ الجِهاتِ الخيْريَّة إلى رِشوةٍ، وخيانةٍ ومحْسوبيَّة وليس بِجودةِ العمَل، وكما نَقولُ: وأكْل عيشٍ أحيانًا!
وأفضلُ طَريقةٍ في وجْهةِ نظَري لهذِه المُصيبةِ هي:
1- تصدّي الجهاتِ الخيْريَّة لنشْرِ الكتُب بخِدمةٍ لائِقةٍ، حتَّى لوْ باعتْها بنفْسِ الثَّمنِ الّذي تبيعُ بِه الجِهاتُ التِّجاريَّة، ولكِنّ الخدمةَ للنَّصِّ محْترمة.
2- عمَلُ مجلَّةٍ متخصِّصةٍ لتقْويمِ ما يُنشرُ مِن كتُبِ التُّراثِ، حتّى يرْتدِعَ المجْرمُ الَّذي يشوِّه التُّراثَ بغرضِ التَّربُّح، وهناكَ البعضُ قَد يقَعُ منْه الخطَأُ سهوًا، وهذا سيُوجّه وينبَّه عليْه في هذِه المجلَّة.
3- نشْرُ ثقافةِ احتِرامِ التُّراثِ، حتَّى ترجعَ حِشمتُه في قلوبِ النّاسِ، والتَّحذير ممَّا يرتَكِبُ هذا الجرْمَ.
4- صِناعةُ جيلٍ متميّزٍ في الدِّراسةِ والتَّحقيقِ عَلى أيْدي المخْلصينَ أصْحابِ الخِبرةِ الطَّويلةِ، ويكونُ هذا بشكْلٍ منظَّم ومنتشِرٍ في جامِعاتِ العالَم، وكذلِك خارِج الجامِعات.
س10: بغرَضِ الرَّغبةِ في نشْرِ التُّراثِ والعمَلِ عَلى تحْقيقِه، لا سيَّما وأنَّه يلْعبُ دوْرًا مهمًّا في الإقْلاعِ الحضاريِّ كَما لا يخْفَى، فتَحتِ الجامِعاتُ أبْوابَها لمنْحِ الرَّسائِل عَلى تحْقيقِ المخْطوطاتِ، إلَّا أنَّ هذا الأمْرَ اعْترضَ عليْه البعْضُ؛ فالدّكتورُ محْسن عبْد الحميدِ مثلًا كانَ ممَّن نادَى في سِياقِ اقتِراحاتِه لتطْويرِ البحْثِ في الجامِعاتِ في كِتابِه «أزْمة المثقَّفين» بضرورةِ منْع تسْجيلِ الرَّسائِل في قَضايا التَّحْقيقِ وترْك ذلِك للمؤسَّساتِ المتخصِّصة؛ كوْنَه صارَ متَّكأً للطَّلبةِ الضِّعافِ، ومن ثمَّ فتحْقيقاتُهم ليسَ لَها كبيرُ قيمةٍ علميَّة...فما تقْييمُكُم لِهذا الأمْر؟ وكيفَ تروْنَ إيجابيّاتِه وسلْبيّاتِه عَلى التّراثِ بوجْهٍ عامّ؟ وهَل تروْن في تركِ ساحةِ التَّحقيقِ للمؤسَّساتِ حلًّا ناجِعًا، لا سيَّما معَ تحوُّلِ الأمْرِ لأغْراضٍ ربْحيَّة أَنتجتْ واقعًا مُماثِلًا لِما انتقَدَه الدّكتور محْسِن عبْد الحَميد عَلى التَّحْقيقاتِ الجامعيَّة؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
في الجوابِ عَلى السُّؤالِ السّابِق، جزءٌ مِن الجوابِ عَلى هذا السُّؤالِ، وأكرِّرُ ما قُلتُه مِن عشْر سنَواتٍ، إنَّ بعضَ الطَّلبةِ الَّذينَ انتهَوا منَ الدِّراسةِ بالأمْسِ لا يَصْلحونَ لتحْقيقِ المخْطوطاتِ، بَل قَد يكونُ مِن النَّوعِ الَّذي يشوِّه التُّراثَ، ولكِن ليس هذا عامًّا، بَل هُناكَ طلبةٌ مميَّزونَ ومبْدِعونَ، وأصْحابُ همّةٍ لا يَنبَغي أَن تُوأَد، وعليْه فَلا ينبَغي تعْميمُ هذا الأمْر، ولكِن ينبَغي أَن تكونَ هُناكَ مُقابلةٌ معَ الطّالِبِ الَّذي يرْغبُ في التَّحْقيقِ، وبعْدَها يكونُ الحُكمُ.
أمَّا النَّوعُ الَّذي ليسَ لديْه مُمارسةٌ، وليسَ لديْه خلفيَّة علميَّة، فيخْضعُ للجوابِ السّابقِ، مِن دخولِ دوراتٍ وتعْليمِه بشكْلٍ جيّد في تخصُّصِه، وإن كانَ محبًّا فسيصِلُ، وإن كانَ لا يُحسِنُ ذلِك يُستبْعَد، حفاظًا على هذا التُّراثِ مِن أيْدي العابِثينَ.
إنَّ الجامِعاتِ الأوربّيّة إذا انتَسبَ إليْها طالبٌ يُعطَى ستَّة أشهُرٍ لتعلُّمِ اللُّغة، ثمَّ ستَّة أشهُرٍ للقِراءةِ في مجالِه، إنَّها التّربيةُ، وصناعةُ الرِّجالِ، وصناعةُ المناخِ المناسِب ليفْهمَ المتَخصِّصونَ لغةَ بعضِهم بعضًا، ولكنَّا بتْنا في بيئةٍ لا تفْهمُ لغةَ بعضِها، لأنَّهم ليْسوا على نفْسِ المُستَوى المطْلوبِ.
س11: ينتقدُ الكثيرُ قلَّة التَّحقيقِ في مَجالِ القُرآنِ الكريم وعُلومِه وضعْفِه أيضًا...فَفي رأْيِكم ما سبَب ذلِك الأمْرِ؟ وما تَقْييمُكُم للتَّحْقيقاتِ في هذا البابِ؟ وكيفَ يُمكِنُ النُّهوضُ بها؟
أ/ عبد العاطي الشرقاوي:
مجالُ القُرآنِ الكريم وعُلومِه مِن أفْضلِ مَجالاتِ خِدمةِ التُّراثِ وأشْرفِها؛ لتعلُّقِه بالوحْي الشَّريفِ، وقَد يكونُ هُناكَ بعْضُ القُصورِ في الأُصولِ الَّتي حُقِّقتْ في البابِ، وكذلِك هُناكَ الكَثيرُ مِن الرَّسائِل الصَّغيرةِ الَّتي بها إبْداعٌ في مُناقشةِ قضايا فرْعيَّة لمْ تُنشَر إلى الآن، وهُناكَ تفْسيرُ ابْن النَّقيبِ، وتفْسير العلامي في أرْبعينَ مجلّدًا، وكذلِك «الكَفيل بِمعاني التَّنزيلِ» للكنديّ في ثلاثةٍ وعشْرينَ مجلّدًا، لم يُدرسْ ولمْ يُحقَّقْ، والعَديدُ مِن المخْطوطاتِ تحْتاجُ إلى التَّعريفِ بها، وأمّا عَن سبَبِ ذلِك وكيفيَّة النّهوضِ بِه فيُراجَع الجَوابُ عنِ الأسئِلةِ السّابِقةِ.
[1] والنسبة إليها:«إبشيهي»، ونُسب إليها جماعة، منهم: أبو الفتح الإبشيهي صاحب «المستطرف في كلّ فنّ مستظرف»، وآخرون.
[2] منها: كتاب الكفاية في نظم النهاية لابن برْدس، وتَقْريب الغَريب لابن قطلوبغا، وتحْفة المنجد والمتْهم في غريب صَحيح مسْلم، وكتاب شرْح البُردة للزَّركَشي، وتثقيف الألْسنة للشّبْليّ، وفي القِراءاتِ خمْسةٌ بيْن كتابٍ ورسالةٍ لأبي حفْص النَّشّار، وثلاث منظومات في مُتشابِه القُرآن.
مواد تهمك
- تُراثنا المخْطوط وآفاق العِنايةِ؛ مخْطوطات القُرآن وعلومِه نموذجًا (2-2)
- طبعة دار الكتب العلمية لتفسير الوسيط للواحدي؛ قراءة نقدية
- رسالةٌ في الرَّدِّ على مَن حكَم بكُفر مَن جحَد قراءةً سَبعيَّة على الإطلاق للغُنَيمي
- مصادر النصّ المحقَّق وأثرُها في تقويم النصّ: نصوص علم القراءات أنموذجًا
- قراءة أبي جعفر: {بما حفظ اللهَ}؛ نظرات في توجيه القراءة، مع طرح توجيه جديد