توظيف النظائر القرآنية في التفسير عند الصحابة
أساليب التوظيف ووجوهه

تُعَدّ النظائر القرآنية أحد المصادر المهمّة في تفسير القرآن الكريم، وهذه المقالة تتناول توظيف النظائر القرآنية في التفسير عند الصحابة من خلال بيان أساليبهم في هذا التوظيف ووجوهه، بعد تمهيد في المراد بتوظيف النظائر القرآنية في التفسير.

مدخل:

  الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فتعدّ النظائر القرآنية أحد المصادر المهمّة في تفسير القرآن الكريم؛ لِمَا تُوليه من عناية كبيرة بالنصّ القرآني والنظر في سياقاته المختلفة.

وعلى الرغم من أهمية النظائر القرآنية في تفسير القرآن، إلا أن هذا المصدر -كغيره من مصادر التفسير- لم يلقَ عناية بدراسته من خلال تطبيقاته في كتب التفسير، ومن ثمَّ بناء القواعد والأحكام النظرية المتعلقة به انطلاقًا من تطبيقات المفسِّرين.

ولذا أردنا في هذه المقالة أن نتناول مسألة من أبرز المسائل المركزية التي تتعلّق بهذا المصدر من مصادر التفسير، وهي مسألة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير، من خلال تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- نظرًا لمركزية تفسير السَّلَف وأهميته.

وتأتي مقالتنا مقسومة إلى قسمين؛ نتناول في القسم الأول منها: أساليب الصحابة -رضي الله عنهم- في توظيف النظائر القرآنية في التفسير، وأمّا في القسم الثاني فنبين أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير، وذلك بعد تمهيد نبرز فيه فكرة توظيف النظائر القرآنية في التفسير وحدود تناولنا للمسألة في المقالة وطريقتنا في ذلك. 

تمهيد:

 اعتمد الصحابة -رضي الله عنهم- في تفسيرهم للقرآن على عدد من المصادر كالنظائر القرآنية والسنّة النبوية واللغة العربية والأخبار وغيرها، وتأتي فكرة المقالة في تسليط الضوء على إحدى المسائل المركزية المتعلقة بمصدر النظائر القرآنية، وهي مسألة أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير.

وقد سَلَكْنا في جمعِ مرويات النظائر القرآنية عند الصحابة -رضي الله عنهم- منهجًا استقرائيًّا دقيقًا، اعتمدنا فيه على أكثر من مائتي مصدر، وفصَّلنا منهجنا وطريقتنا في الاستقراء والجمع في دراستنا: (المفسرون من الصحابة -جمعًا ودراسة وصفية-)[1]، وعلى الرغم من اشتمال المصادر التي استقرَأْنَاها على تفسير الطبري إلا أننا خصصنا قضية توظيف القرآن في التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم -والتي من ضمنها النظائر القرآنية- باستقراءٍ خاصّ بها، يُعتبر الاستقراء الثاني لنا لتفسير الطبري لحصر تلك المرويات طلبًا للدّقة.

ومرادنا بمرويات النظائر القرآنية: (المرويات التي جاءت عن الصحابة وفيها توظيف لآيات قرآنية متقاربة المعنى).

ويجدر بنا أن ننبّه على أنّ التفسير عملية مركّبة من عدّة عوامل تسهم في إنتاج ثمرته النهائية[2]، ونعني بذلك أنّ الصحابي مثلًا عندما يوظِّف النظائر القرآنية في التفسير فيما يظهر لنا من خلال فهمنا لكلامه فإنه في الحقيقة لم يقتصر على توظيف النظائر القرآنية فقط وإنما هناك موارد كامنة أسهمت كذلك في إنتاج الصحابي لهذا المعنى أو غيره كاستخدامه للغة، فهو حتمًا قد وظَّف اللغة في إنتاجه لذلكم المعنى أو السياق، بالإضافة إلى ما يظهر لنا من توظيفه للنظائر القرآنية، فهي عملية مركّبة، ولكن لا سبيل لنا إلى دراسة تلك الموارد سوى عن طريق إفراد كلّ موردٍ وحده من خلال جمع مروياته والنظر فيها.

وقبل أن نشرع في بيان أقسام المقالة نلمح إلى واقع دراسة تلك المسألة في الدراسات المعاصرة، ثم نبيّن أهمية سلوك الطريقة التي انتهجناها في دراستها من خلال ما يأتي: 

- أولًا: واقع دراسة مسألة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير:

لم نقف -فيما طالعناه- على دراسات خصّت هذه المسألة بالدراسة بصورة تطبيقية، وإنما أغلب مؤلَّفات أصول التفسير تتناولها تحت فكرة (تفسير القرآن بالقرآن)، وهي فكرة تعتريها كثير من الإشكالات -كما بيَّنَتْه بعض الدراسات[3]-، بالإضافة إلى إشكال مهم في تناول كتب أصول التفسير لتلك المسألة، وهو عدم التأسيس لها من خلال التطبيقات العملية في كتب التفسير وَفق منهج استقرائي منضبط، وقد أثبتت بعض الدراسات أن المصدر الرئيس والأقوى تأثيرًا في تأسيس مادة مؤلَّفات أصول التفسير في هذه المسألة هو كتاب: (التفسير والمفسرون) للشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1977م)[4]؛ ما يعني أن تأسيس المسألة لم يتم بناؤه من خلال الواقع العملي لكتب التفسير، فضلًا عمّا حول تأسيس الذهبي للمسألة من نقود[5].

وهذا الإشكال نفسه واقع في مؤلَّفات مناهج المفسِّرين، والتي من المفترض عند دراستها لمنهج المفسِّر أن تقوم بدراسة تطبيقاته بصورة منضبطة، إلا أنّ هذه المؤلّفات لا تفعل ذلك بل تنطلق من التنظيرات المسبقة لتلك المسألة في كتب أصول التفسير وتقوم بتسييق هذه التنظيرات على التفسير الذي تدرس منهجه، فتجعل التفسير خاضعًا لهذا التنظير ولا تسمح بدراسة واقعه التطبيقي، وقد بينَّا أبرز إشكالات هذه الطريقة في دراسة مناهج المفسِّرين في مقالة مستقلّة[6].

بل إنّ هذا الإشكال قد وقع كذلك فيما طالعناه من دراسات خُصّصت لدراسة مصدر القرآن في التفسير[7].

إننا ومن خلال ما سبق يمكن لنا القول بأن دراسة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير في الدراسات المعاصرة قد جاء بصورة مشكلة ومجافية عن التفسير، ما يجعلها لا تحقّق شيئًا كبيرًا، ولا تنظر أصلًا إلى التطبيقات الواقعية في كتب التفسير، وبالطبع تأتي نتائجها غير دقيقة، ولا تفتح آفاقًا يمكن مباحثتها والمراكمة عليها في التفسير نفسه أو الاستفادة منها في معرفة منهج المفسِّر وبناء أصول التفسير. وفيما يأتي نبيّن أهمية دراسة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير وَفق الطريقة التي انتهجناها، والله الموفِّق.

- ثانيًا: أهمية دراسة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير:

تعدّ مسألة أوجه توظيف النظائر القرآنيةفي التفسير من المسائل شديدة الأهمية، وتبرز أهميتها على عدّة أصعدة، أبرزها ما يأتي:

1- تحديد أوجه توظيف المفسِّر للنظائر القرآنية في التفسير بصورة دقيقة:

إنّ الاستقراء التامّ لكافة الروايات والمواضع التي وظَّف فيها المفسِّر النظائر القرآنيةفي التفسير يتيحُ لنا الوقوفَ بدقّة على هذه الأوجه، وتحديدَ أيِّ هذه الأوجهِ أكثر حضورًا عند المفسِّر، ما ينعكس على اكتشاف وبيان كثير من المسائل المركزية في التفسير كمفهوم التفسير والحيثيات المكوّنة له في الكتب على اختلاف الأزمنة والمناهج والمقاصد.

2- معرفة منهج المفسِّر في توظيف النظائر القرآنية في التفسير:

إنّ من أبرز الانعكاسات على دراسة أوجه توظيف النظائر القرآنيةفي التفسير بصورة دقيقة عند المفسِّر أنها توقفنا على منهج المفسِّر وطريقته في هذا التوظيف بصورة واقعية من خلال تفسيره، بعيدًا عن تحكيم أيّ تنظيرات مسبقة لم تخرج من رحم كتابه، وبذلك نقف على المنهج الحقيقي للمفسِّر.

3- بناء أصول التفسير وقواعده:

يعدّ بناء أصول التفسير وقواعده مشغلًا من أهم المشاغل في حقل الدراسات القرآنية، وقد أبانت بعض الدراسات عن وقوع إشكالات مركزية في بنائه المعاصر[8]، وإنّدراسة أوجه توظيف المفسِّر للمصادر في تفسيره بصورة منهجية دقيقة لمن أهم الخطوات وأبرزها في الخطو إلى التأصيل الجيد والبناء الدقيق لأصول التفسير وقواعده حال القيام بها عند كافة المفسِّرين وبخاصّة المؤسسين والروّاد منهم في صناعة التفسير.

القسم الأول: أساليب الصحابة في توظيف النظائر القرآنية في التفسير:

بلغت مرويات النظائر القرآنية التي وظّفها الصحابة في التفسير من خلال استقرائنا (98) رواية[9]، ومن خلال النظر في هذه المرويات نلحظ أنّ الصحابة قد استخدموا في توظيف النظائر القرآنية بها ثلاثة أساليب رئيسة، وهي:

- الأسلوب الأول: التصريح ببيان العلاقة بين النظائر القرآنية:

والمقصود بهذا الأسلوب: تصريح الصحابي بالعلاقة بين النظائر القرآنية التي يوظّفها في التفسير، وهو الأسلوب الأكثر استخدامًا عند الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد بلغت مروياته: (85) رواية، أي ما تمثِّل نسبته (87%) من مرويات النظائر القرآنية عند الصحابة رضي الله عنهم.

ويأتي هذا الأسلوب على طريقتين، هما:

الطريقة الأولى: استخدام عبارة توضيحية لبيان العلاقة بين النظائر القرآنية، وتتنوع العبارات التي يستخدمها الصحابة -رضي الله عنهم- في هذه الطريقة، ومن هذه العبارات ما يأتي:

- وهي مثل الأخرى، هي كالتي في، ذلك أن الله قال لهم في سورة، وهو مثل قوله، هو كقول الله، هو كقوله، فهو قوله، فذلك قوله، هذا مما قال الله، وهو قوله، هي... الآيات في سورة، فذلك قول الله، هي بمنزلة الآية التي في، كما قال الله.

- ألم تسمع أنه قال، ألم يقل الله، أليس قال، ألم تسمع إلى قول الله، ألم تسمع أنه يقول.

- وتصديق ذلك في كتاب الله، تصديق ذلك في أول سورة كذا.

- ونحو هذا، ونحو هذا من القرآن.

ومن الأمثلة على هذه الطريقة ما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-: «قوله -عزّ وجلّ-: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق، هو واسع، وهو مثل قوله -عز وجلّ- في الأنعام: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ‌ضَيِّقًا ‌حَرَجًا﴾ [الأنعام: 125]، يقول: مَن أراد أن يضلَّه؛ يضيِّق عليه صدره حتى يجعلَ عليه الإسلام ضيّقًا، والإسلام واسع»[10].

الطريقة الثانية: شرح العلاقة بين النظائر القرآنية، ومن أمثلتها ما جاء عن أبي هريرة قال: «لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثتُ شيئًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ‌مَا ‌أَنْزَلْنَا ‌مِنَ ‌الْبَيِّنَاتِ﴾إلى آخر الآية [البقرة: 159]، والآية الأخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ‌لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ إلى آخر الآية [آل عمران: 178]»[11].

- الأسلوب الثاني: الاكتفاء بذِكْر النظائر القرآنية دون بيان أو تعليق:

والمقصود بهذا الأسلوب: ورود الرواية عن الصحابي فيها ذكر للنظائر القرآنية وحدها دون بيان العلاقة بينها أو تعليق عليها، وقد بلغت المرويات الواردة بهذا الأسلوب (7) روايات، أي ما تمثِّل نسبته (7%) من مرويات النظائر القرآنية عند الصحابة.

ومن الأمثلة على هذا الأسلوب ما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: «قوله -عز وجل-: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ ‌أُخْفِيهَا﴾ [طه: 15]، قال: ﴿لَا تَأْتِيكُمْ ‌إِلَّا ‌بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]»[12].

- الأسلوب الثالث: التصريح ببعض النظائر والإشارة إلى غيرها:

والمقصود بهذا الأسلوب: ورود الرواية عن الصحابي فيها تصريح بذِكْر بعض النظائر القرآنية والإشارة إلى النظائر الأخرى دون ذكرها بصورة صريحة، وقد بلغت المرويات الواردة بهذا الأسلوب (6) روايات، أي ما تمثِّل نسبته (6%) من مرويات النظائر القرآنية عند الصحابة رضي الله عنهم.

ومن الأمثلة على هذا الأسلوب ما جاءعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «القول اللين: قوله -عزّ وجل-: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ ‌إِلَى ‌أَنْ ‌تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 18- 19]»[13]، يشير بالقول اللين غالبًا إلى قوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ ‌يَتَذَكَّرُ ‌أَوْ ‌يَخْشَى﴾ [طه: 44].

ومن أمثلته أيضًا ما جاء عنعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ‌فِرَاشًا﴾ [البقرة: 22]، فهي فراش يُمشَى عليها، وهي المهاد، والقرار»[14]، يشير بالمهاد غالبًا إلى قوله تعالى:﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ ‌مِهَادًا﴾ [النبأ: 6]، وبالقرار غالبًا إلى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ‌الْأَرْضَ ‌قَرَارًا﴾ [غافر: 64]، أو غيرها من الآيات الدالة على هذ المعنى، والله أعلم.

القسم الثاني: أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم-للنظائر القرآنية في التفسير:

أشرنا فيما سبق إلى أساليب الصحابة -رضي الله عنهم- في توظيف النظائر القرآنية في التفسير، وفي هذا القسم نبيِّن ما ظهر لنا من أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير، وسنكتفي بالتمثيل لكلّ وجه من وجوه التوظيف بمثال واحد.

لقد تعددت أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير، ويمكننا أن نُرجِع هذه الأوجه إلى خمسة أوجه رئيسة، يمكن تشقيقها إلى أوجه أخرى أكثر دقّة عند دراستها التحليلية، وبيان الأوجه الرئيسة كما يأتي:

الوجه الأول: تأكيد المعنىوتثبيته: وعدد المرويات الواردة فيه (74) رواية، ومن أمثلته ما جاء «عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- في قوله-عزّ وجل-:﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ‌فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: 14]، قال: يصيران غبرة على وجوه الكفار، لا على وجوه المؤمنين، وذلك قوله -عزّ وجل-: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا ‌غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 40- 41]»[15].

وعن مسروق قال: «كنتُ متّكئًا عند عائشة -رضي الله عنها- فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلّم بواحدة منهن؛ فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: مَن زعم أنّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم-رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنتُ متّكئًا فجلستُ، فقلتُ: يا أمّ المؤمنين، أنظِريني، ولا تعجليني، ألم يقل الله -عزّ وجل-: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ ‌بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير: 23]، و: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ ‌نَزْلَةً ‌أُخْرَى﴾ [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنما هو جبريل -عليه السلام-، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين؛ رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَمُ خَلْقهِ ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: أوَلم تسمع أن الله -عزّ وجل- يقول: ﴿‌لَا ‌تُدْرِكُهُ ‌الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]؟ أوَلم تسمع أن الله -عزّ وجل- يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ‌إِلَّا ‌وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]؟. قالت: ومَن زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئًا من كتاب الله -عزّ وجل-؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ‌بَلِّغْ ‌مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67]. قالت: ومَن زعم أنه يخبر بما يكون في غدٍ؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‌الْغَيْبَ ‌إِلَّا ‌اللَّهُ﴾ [النمل: 65]»[16].

الوجه الثاني:تفصيل الإجمال:وعدد المرويات الواردة فيه (14) رواية، ومن أمثلته ما جاء «عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-في قوله -عزّ وجل-: ﴿‌تِسْعَ ‌آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: 101]، قال: وهي متتابعات، وهنّ في سورة الأعراف: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ‌بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف: 130]، قال: السنين لأهل البوادي، ونقص من الثمرات لأهل القرى، فهاتان آيتان. والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم؛ فهذه خمس. ويد موسى إذ أخرجها بيضاء من غير سوء -والسوء البَرَص-، وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين، وإذا ألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون»[17].

وعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: «﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا ‌مِنَ ‌الْجِنِّ ‌يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: 29]، قال: بنخلة. قال: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي العشاء الآخرة: ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ ‌لِبَدًا﴾ [الجن: 19])[18].

الوجه الثالث:بيان الاتفاق في اللفظ:وعدد المرويات الواردة فيه (7) روايات، ومن أمثلته ما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-:«﴿‌وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: 57]،قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله -عزّ وجل- فيه يوم القيامة في قوله -عزّ وجل-:﴿فِي ‌ظُلَلٍ ‌مِنَ ‌الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210]، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنه-: وكان معهم في التيه»[19].

وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: «﴿‌عِنْدَهَا ‌جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [النجم: 15]، قال: هو كقوله -عزّ وجل-: ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ‌نُزُلًا ‌بِمَا ‌كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 19]»[20].

الوجه الرابع:بيان الاتفاق في اللفظ والاختلاف في المعنى:وجاء فيه روايتان، فعن عبد الله بن عباس: «﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ‌غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ [الأعراف: 150]، يقول: أسِفًا: حزينًا، وقال في الزخرف: ﴿فَلَمَّا ‌آسَفُونَا﴾ [الزخرف: 55]، يقول: أغضبونا، والأسف، على وجهين: الغضب، والحزن»[21].

وعن عبد الله بن عباس قال: «الحينُ حِينان، حينٌ يُعرَف وحينٌ لا يُعرف، فأمّا الحين الذي لا يُعرف: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ ‌نَبَأَهُ ‌بَعْدَ حِينٍ﴾ [سورة ص: 88]، وأمّا الحين الذي يُعرف فقوله: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا ‌كُلَّ ‌حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: 25][22].

الوجه الخامس:بيان الاتفاق في الأسلوب:وجاء فيه رواية واحدة، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: «قوله -عز وجل-: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ ‌أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ [يس: 8]، قال: هو كقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ ‌مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: 29]، يعني بذلك أنّ أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير»[23].

ويلحظ أنّ أكثر الأوجه ورودًا في توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير هو تأكيد المعنى وتثبيته؛ وبلغت مروياته (74) رواية، ويليه تفصيل الإجمال؛ وبلغت مروياته (14) رواية، ثم بيان الاتفاق في اللفظ؛ وبلغت مروياته (7) روايات، ثم بيان الاتفاق في اللفظ والاختلاف في المعنى؛ وجاء فيه روايتان، ثم بيان الاتفاق في الأسلوب؛ وجاءت فيه رواية واحدة.

والرسم الآتي يوضح مقدار أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير:

 وقد جاء توظيف النظائر القرآنية في التفسير عن تسعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، والجدول الآتي يبيِّن مقدار الوارد عن كلّ واحد منهم، مرتبةً حسَب الأكثر: 

م

اسم الصحابي

عدد المرويات

1

عبد الله بن عباس

82

2

عبد الله بن مسعود

6

3

أبو هريرة

3

4

أبيّ بن كعب

2

5

الزبير بن العوام

1

6

سعد بن أبي وقاص

1

7

عائشة

1

 

خاتمة:

سلّطنا الضوء في هذه المقالة على مسألة مركزية في مصادر التفسير، ألا وهي مسألة أوجه توظيف النظائر القرآنية في التفسير عند الصحابة -رضي الله عنهم-، وبينَّا أساليب الصحابة -رضي الله عنهم- في توظيف النظائر القرآنية في التفسير، كما رصدنا أوجه توظيفهم لها.

وقد بلغت مرويات النظائر القرآنية التي وظّفها الصحابة -رضي الله عنهم- في التفسير (98) رواية، استخدم الصحابة -رضي الله عنهم- في توظيفها في التفسير ثلاثة أساليب وهي: التصريح ببيان العلاقة بين النظائر القرآنية، والاكتفاء بذِكْر النظائر القرآنية دون بيان أو تعليق، والتصريح ببعض النظائر والإشارة إلى غيرها.

وبلغت أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير خمسة أوجه رئيسة، وهي: تأكيد المعنى وتثبيته، وتفصيل الإجمال، وبيان الاتفاق في اللفظ، وبيان الاتفاق في اللفظ والاختلاف في المعنى، وبيان الاتفاق في الأسلوب.

وننبّه على أن ما ذكرناه في هذه المقالة إنما هو لبِنة في دراسة أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للنظائر القرآنية في التفسير، وأن هذا الموضوع بحاجة إلى تكثيفٍ للدراسات التحليلية حوله وتدقيق النظر في الأوجه التي ذكرناها، والتي يمكن تفريع بعضها إلى عدّة أوجه أكثر دقّة، وكذا إعادة النظر فيها بصورة عامة من خلال الدراسة التحليلية المعمّقة.

ومن خلال مقالتنا هذه ندعو المؤسّسات العلمية والبحثية والجامعات إلى العناية بدراسة أوجه توظيف السَّلَف بصورة عامة لمصادر التفسير دراسة تحليلية، وكذلك دراسة أوجه توظيف المفسِّرين لمصادر التفسير في تفاسيرهم، فهذا من المشاريع الرائدة شديدة الأهمية والتي تسهم بصورة كبيرة في تأسيس أصول التفسير ومعرفة مناهج المفسِّرين.

كما نرجو أن تكون هذه المقالات التي نسطرها حول أوجه توظيف مصادر التفسير عند الصحابة فاتحة خير لمزيد من البحوث والدراسات حول تفسير السَّلَف.

وصلى اللهُ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

 

 

[1] ينظر: المفسرون من الصحابة؛ جمعًا ودراسة وصفية، د/ عبد الرحمن المشدّ، إصدار مركز تفسير للدراسات القرآنية، عام 1437هـ= 2016م، (1/ 11- 34).

[2] وللتوسع في معرفة هذه الفكرة يمكن الرجوع إلى: (منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته -محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا-) للباحث/ خليل محمود اليماني، وهو بحث منشور على موقع مرصد تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871

[3] يراجع ما يأتي:
- (منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته -محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا-) للباحث/ خليل محمود اليماني، وهو بحث منشور على موقع مرصد تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871
- (تفسير القرآن بالقرآن من خلال كتاب أضواء البيان للشنقيطي؛ عرض وتقويم) للباحث/ هشام أحمد محمد، وهي مقالة منشورة على موقع مركز تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/article/5390

[4] ينظر: (أصول التفسير؛ دراسة وصفية موازنة)، إعداد: وحدة أصول التفسير، إصدار مركز تفسير للدراسات القرآنية بالرياض، ط1، عام 1437هـ= 2015م، ص195.

[5] أشارت دراسة (أصول التفسير؛ دراسة وصفية موازنة) إلى بعض هذه النقود المتعلقة بطبيعة الدراسة، ولعلّنا نتناول هذه المسألة عند الذهبي بالدراسة في مقالة مستقلة بمشيئة الله.

[6] وذلك من خلال مقالة بعنوان: (الطريقة الشائعة في دراسة مناهج المفسّرين؛ عرض وتقويم -كتاب منهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم للدكتور/ عبد الوهاب فايد أنموذجًا-)، وهي منشورة على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/article/5357

[7] ومن ذلك ما يأتي:
- (تفسير القرآن بالقرآن؛ دراسة تأصيلية) للدكتور/ أحمد بن محمد البريدي، وهو بحث منشور بمجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد 2، ذو الحجة 1427هـ، ص11- 67.
- (مقدمات أساسية في تفسير القرآن بالقرآن) للدكتور/ إبراهيم محمد إبراهيم سلطان، وهو بحث منشور بمجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدمنهور، العدد الخامس، الجزء الثاني، 2020م، ص130- 160.
- (من أصول تفسير القرآن بالقرآن) للدكتور/ عبد الفتاح محمد أحمد خضر، وهو بحث منشور بمجلة تدبر، العدد الثاني، السنة الأولى، 1438هـ= 2017م، ص237- 275.

[8] ينظر: (تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا؛ قراءة في منهجية التأسيس، مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم) للباحث/ خليل اليماني، وهو بحث منشور على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/research/67
- (أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة)، إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- (التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعدية) إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- ويمكن متابعة السجال الحاصل في قضية أصول التفسير ومناقشتها من خلال مطالعة المواد التي اشتمل عليها ملف أصول التفسير وقواعده من خلال الرابط الآتي: tafsir.net/article/5356

[9] ننبه هاهنا على أن العدد الكلي لما ورد في كتابنا (المفسرون من الصحابة) تحت عنوان تفسير القرآن بالقرآن قد جاء (268) رواية، ونظرًا لطبيعة الكتاب وتوسّعه في أمور كثيرة من تفسير الصحابة فقد اشتملت الإحصائية المشار إليها فيه على كافة الروايات المشتملة على توظيف لآيتين أو أكثر عند الصحابة -رضي الله عنهم- بغض النظر عن نوع ذلكم التوظيف؛ ولذا جاءت متضمنة لأنواع عديدة منها النظائر القرآنية، والسياق، ومرويات الناسخ والمنسوخ، وغيرها، وأمّا في مقالتنا هذه فقد خصصناها -كما هو واضح- بمرويات النظائر القرآنية فحَسْب؛ ولذا جاء عددها (98) رواية، ولا شك أن هذا الحصر يزداد دقة ووضوحًا في الدراسات التحليلية والتي نأمل عناية المختصين بها.

[10] أخرجه الطبري في جامع البيان (18/ 691).

[11] أخرجه الطبري في جامع البيان (3/ 252) (2377)، وابن أبي حاتم في التفسير (1/ 268) (1440)،

[12] أخرجه الطبري في جامع البيان (18/ 285).

[13] ذكره القرطبي في تفسيره (11/ 200).

[14] أخرجه الطبري في جامع البيان (1/ 365) (475)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي حاتم (1/ 85).

[15] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 543) (3847)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى البيهقي في البعث والنشور (8/ 268).

[16] أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 159) (287).

[17] أخرجه عبد الرزاق في التفسير (2/ 318) (1632).

[18] أخرجه محمد بن يحيى، وابن أبي شيبة كما في إتحاف الخيرة للبوصيري (5/ 1742- 1743) (5877)، وأحمد في المسند (3/ 45) (1435)، وابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3297) (18582)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن مردويه (7/ 452)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 129) (11442): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح».

[19] أخرجه الطبري في جامع البيان (2/ 91).

[20] أخرجه الطبري في جامع البيان (22/ 518).

[21] أخرجه الطبري في جامع البيان (13/ 121) (15126)، وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1569) (8996).

[22] أخرجه الطبري في جامع البيان (16/ 576) (20726)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر (5/ 24).

[23] أخرجه الطبري في جامع البيان (20/ 494).

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن المشدّ

حاصل على دكتوراه التفسير وعلوم القرآن من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))