قراءات المنهجية القرآنية (2- 4)
المنهجية القرآنية عند طه جابر العلواني
أولًا: تأسيس حاكمية الكتاب

الكاتب : طارق حجي
ضمن سلسلة «قراءات المنهجية القرآنية» يتناول هذا المقال الأفكار المركزية لطه جابر العلواني، أحد أعلام هذه القراءات، حيث يحاول بيان تصوره حول «الوحدة البنائية للقرآن»، وموقع هذه الفكرة ضمن التأسيس المنهجي لهذه المدرسة.

  هذا المقال هو المقال الثاني ضمن السلسلة التي تتناول قراءات (المنهجية القرآنية)، ونتناول فيه خطاب المفكر العراقي طه جابر العلواني؛ محاوِلين إبراز أهمية خطابه ضمن هذه القراءات، والمفاهيم التي اضطلع خطابه بتأسيسها، ومنهجيته في هذا التأسيس، يأتي هذا بعد تمهيد نجمل فيه ما ناقشناه في المقال السابق الذي يُعَدّ مدخلًا لهذه السلسلة.

تمهيد:

 كنّا في المقال السابق[1] قد حاولنا تحديد الأبعاد الرئيسة لـ(قراءات المنهجية القرآنية)؛ موقعها من واقعة (اهتزاز التقليد)، ومنطلقاتها، والسياق المعرفي المُنشِئ لها، ورهاناتها، وتوصّلنا هناك لكون هذه القراءات؛ هي قراءات نشأت بعد واقعة «اهتزاز التقليد»، في وضعية خاصّة تُمثِّل السياق المعرفي المُنشِئ لها وهي بروز عدد من النخب الإسلامية التي تجمع بين الهمّ النهضوي العربي الإسلامي وبين التكوُّن -أو الاحتكاك- الأكاديمي في الغرب، وأن هذا التكوُّن -أو الاحتكاك- المُفضِي لوعي أفضل بالحضارة الغربية قد أضاف لواقعة «اهتزاز التقليد» الحاسِمة تمامًا في بلورة القراءات الحديثة والمعاصرة للقرآن واقعة اهتزاز أخرى هي واقعة «اهتزاز النظام المعرفي المغربي».

وبسبب تضاعف واقعة الاهتزاز -المنهجية- هذه تم تشخيص الأزمة الفكرية العربية بل والعالمية من قِبَل روّاد هذه القراءات كـ(أزمة منهجية) بالأساس، ومع ارتفاع حِدَّة النقد الإبستيمي للنظامين المعرفيين الغربي والإسلامي الموروث مع فشل مشاريع النهوض العربية المُعتَمِدة على التقريب والمقارنة من جهة، ومع ارتفاع حِدَّة نقد النظام الحضاري الغربي حتى في الغرب نفسه من جهة أخرى، تم طرح القرآن كبديل منهجي مُؤسِّس لحلّ حضاري شامل مُتمثِّل في مشروع «الأسلمة»، مما يجعل هذه القراءة للقرآن لو حاولنا إجمال أبعادها في جملة واحدة، هي «قراءة تحاول ملء الفراغ/ العطب المنهجي المُعلّى حدّ الأزمة الأساس عبر استنباط وبلورة منهجية قرآنية مُعلَّاة حدّ الحل الحضاري الشامل»، فكما قلنا فإن اكتشاف (المنهجية القرآنية) يتخطَّى عند هذه القراءات وبفعل السياقات التي نشأت فيها كونه اكتشافًا لآلية تأويلية، أو بحثًا عن فهوم جزئية جديدة لبعض الآيات القرآنية، ليكون تقديمًا لحلّ منهجي شامل ومَخْرَجًا من الأزمة العالمية.

كما ركّزنا هناك على ما يعنيه هذا التشخيص للأزمة وهذا الاقتراح للقرآن كحلّ منهجي لها، من تعديل جذري ربما للتعامل مع القرآن يتجاوز التعامل معه ككتابِ هدي أو ككتابٍ حاوٍ للعلوم والمعارف إلى كونه وبالأساس كتابَ منهجٍ، وما يفرضه هذا التعامل من طرح طبيعة جديدة للنصّ القرآني، تعطيه موقعًا فريدًا في مواجهة النصوص السماوية السابقة وكذا في مواجهة المُدوَّنات المعرفية اللاحقة تُبرِّر -للمسلم ولغير المسلم- موقعه المُقتَرَح كمصدر (وحيد وحصري) للحل المنهجي للأزمة، وهذه الطبيعة/ الموقع هي ما تُعبِّر عنه هذه القراءات بـ«حاكمية الكتاب» كسمة مُنغرِسَة في المفاهيم المُؤطِّرة لحضور الشريعة الإسلامية الخاتمة شريعة التخفيف والرحمة والشريعة العالمية، في مقابل الشريعة اليهودية شريعة الإصر والخصوصية، وكذا في سمات الأمّة المُخرَجة والوسطية والشاهِدة في مقابل الأمة المُستبدَلَة.

في هذا المقال سننتقل من المُحدِّدات العامة لهذه القراءات إلى تناول خطاب أحد أعلام هذه القراءة، وهو العراقي طه جابر العلواني (1935- 2016)، في محاولة لاكتشاف أبعاد هذا الخطاب ومحُدِّداته الرئيسة ومنطلقاته ورهاناته الخاصّة، والتي تكشف لنا -كذلك وبصورة أكثر تفصيليةً وعمقًا كما سنوضح- أبعادَ «قراءات المنهجية القرآنية» في العموم، حيث يحتلّ خطاب العلواني موقعًا خاصًّا في هذه القراءات، حيث كان له الدور الأكبر في تأسيس وكشف آفاق الكثير من أفكارها ومنطلقاتها الرئيسة كما سيتّضح لنا بتناول خطابه.

لكن قبل الدخول في تفاصيل خطاب العلواني في هذا المقال والذي يليه، نودّ الإشارة إلى أنّ ثمة سببًا أوّليًّا يعطي لخطاب العلواني هذا الموقع الخاصّ في هذا القراءة؛ وهو تكوينه الأصولي في جامعة الأزهر، وكونه قد بدأ حياته بتحقيق كتاب من أهم كتب أصول الفقه؛ أي كتاب (المحصول في علم الأصول) للإمام الفخر الرازي، فلو عدنا للأسماء الأربعة التي بدأت مشروع المعهد العالمي وطرح مشروع الأسلمة كـ«بديل حضاري شامل» قائم على اكتشاف «المنهجية القرآنية الحاكِمَة» والتي ذكرناها في المقال السابق =فسنجد أن صاحب التكوين الأصولي الوحيد فيهم هو العلواني، وهذا التكوين له أهمية كبيرة في سياق تأسيس الأفكار والتصوّرات المركزية في هذا المشروع وفي هذه القراءات، حيث يمكن لهذا الحضور أن يعطي للنقودات العامة والإجمالية المُقدَّمة من قِبَل روّاد الأسلمة للعلوم التراثية -وفي مقدّمتها أصول الفقه وعلوم القرآن- طابعًا تفصيليًّا أكبر، كذلك فقد كانت لمعرفة العلواني الأصولية مزيةُ محاولةِ تأصيل كثير من تصوّرات هذه المدرسة في التراث الإسلامي، كذلك فإنّ هدفًا مثل «إعادة بناء علوم التراث على قاعدة قرآنية» وهو رهانٌ أساس لهذه المدرسة، هو هدف يصعب حتى وضع أساساته دون أن تكون ثمة قدرة على استيعاب مراحل تطوّر العلوم التراثية والبعد المعرفي لهذا التطوّر، وهو ما يحتاج لشخص له ربما بالتحديد تكوين أصولي.

في هذا المقال الأول حول طه العلواني، سنحاول أن نكتشف كيفية قيامه بالمهمّة الأولى الأكثر أهمية ربما بين كلّ المهام المنوطة به كعالم أصولي في تأسيس هذه القراءات، أي بلورة فكرة «حاكمية الكتاب» الفكرة - المركز في البناء المفاهيمي والمنهجي لهذه القراءات، وتأسيس سمات القرآن المُودَعَة فيه والتي تمنحه هذه الحاكمية أي ("وحدة القرآن البنائية" و"تَميُّز لسان القرآن") تأسيسَها، سواءٌ في مواجهة التراث أو بتأصيلها في بعض أفكاره المنسية والمُتجاهَلَة، وسندع للمقال الثاني عنه مهمّة اكتشاف كيفية قيامه ببقية المهام، وخصوصًا كيفية تشغيله فكرة «الجمع بين القراءتَين» كمُنطلَق في اقتراحه إعادة بناء علم أصول الفقه و«تأسيس المقاصد العليا الحاكمة»، وفي محاولته بلورة مداخل منهجية لتدبُّر القرآن، والذي يُعتَبَر -وكما سنوضح هناك- كشفًا عن رهانات الفكرة وإمكاناتها في مواجهة ما يُعَدّ قصورًا من قِبل المنظومتين الحضاريتين؛ الإسلامية الموروثة والغربية المعاصرة، والتي اقتصرت كلّ منهما على قراءة واحدة من القراءتين وأهملت الأخرى؛ وكذا بيانًا لاستيعاب القرآن للتاريخ وللصيرورة.

العلواني وتأسيس «حاكمية القرآن»، القرآن آية مُحكَمَة وحاكِمَة:

حين نستقرئ إنتاج العلواني حول القرآن فسنجد أنّ معظم هذا الإنتاج يندرج في إطار تأسيس فكرة (الحاكمية)، الفكرة - المركز والمُنطلَق الأساس والرهان المحوري في كتابات قراءات المنهجية القرآنية، وتأسيس سمات القرآن التي تعطيه هذه الحاكمية، فكتب (وحدة القرآن المجيد البنائية)، و(نحو موقف قرآني من إشكالية النسخ)، و(نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه)، كلّها تندرج في إطار تأسيس سمة «الوحدة البنائية» للقرآن ونفي الأحقّية المنهجية لما يُعتبَر «قراءات التعضية»، كما يندرج كتاب (لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب) مع الاشتغال المضموني في كتابات المحكم والمتشابه والنّسخ في إطار بيان نظري وتطبيقي لنظرته في «تَميُّز لسان القرآن» وضرورة الانطلاق من حاكميته على اللسان العربي الجاهلي لا العكس، ولعلّ هذا التخصيص لمعظم الكتب للاشتغال على هذه الفكرة - المركز تحديدًا يوضح ما قصدنا من الدور المهم لخطاب العلواني في سياق تأسيس هذه القراءات.

يدافع العلواني عن فكرة وجود (وحدة بنائية) للقرآن في كتبه عبر طريقين؛ الأول: هو محاولة تأسيس هذه الفكرة من داخل القرآن ومن داخل التراث الإسلامي، وهو ما قام به بالأساس في «الوحدة البنائية للقرآن المجيد». والثاني: هو نقد علوم القرآن التراثية انطلاقًا من كون هذه العلوم قد فوَّتت إدراك هذه الوحدة كمُحدِّد منهجي في القرآن، وتعاملت مع القرآن بعد تعضيته وتجزئته عبر ترسانة مفاهيمية ومنهجية تُكرِّس هذا التقسيم للقرآن إلى مساحات المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، وهذا هو ما تم في كتب (نحو موقف قرآني من النسخ)، و(نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه).

ونستطيع القول مبدئيًّا أنّ كلّ كتابة تستشكل مسألة (الوحدة القرآنية) في التراث الأصولي والتفسيري -اكتشافها والانطلاق منها كمُحدِّد منهجي في القراءة-، يكون عليها بالأساس محاولة الإجابة على سؤال مبدئيّ مطروح عليها ضِمنًا، وهو: لماذا فوَّت الأوَّلون القول بالوحدة؟ أو بتعبير آخر: لماذا جزَّأ الأوَّلون النصّ؟

ربما لا يوجد كتابٌ مهم تعرَّض لهذا الإشكال دون إثارة هذا السؤال[2]، وفي هذا الإطار يرى العلواني أن السبب الرئيس لنشأة هذا التراث التجزيئي للنصّ، هو عدم الوقوف على الدلالة الحقيقية لمفاهيم القرآن، خصوصًا تلك المفاهيم التي تُمثِّل لبِنات المنهج التأويلي القديم أي: (الآية)، و(النسخ) و(الإحكام) و(التشابه)، و(الإجمال) و(التفصيل)، فالدلالة المٌستخدَمَة لهذه المفاهيم على حساسيتها في البناء المنهجي لآليات القراءة؛ لم تنشأ عبر استقراء النصّ القرآني بل تم فرضها فرضًا على النصّ وَفقًا للعلواني.

لذا فإنّ العلواني وفي مواجهة هذا ومن أجل استعادة (الوحدة البنائية) للقرآن يحاول إعادة تحرير هذه المفاهيم من داخل القرآن ذاته، حتى يُبرِز عبر هذه المفاهيم المُنتَظِمَة كبناء منهجيّ ثاوٍ في النصّ «وحدة القرآن» الكامنة فيه والمُرتبِطة بالصفات التي يصف القرآن بها نفسه والوظيفة التي أرادها له المتكلِّم به، أي الله.

ونحن سنحاول هاهنا التعبير عن هذه المفاهيم التي أطَّر العلواني فيها القرآن باستخدام طريقة «الحقل الدلالي»، حيث نعتبر أن هذه المفاهيم تُشكِّل حقلًا دلاليًّا يوجد القرآن في مركزه، وتتعالق مفاهيمه في عدد من العلاقات التي تُشكِّل الإطار المنهجي الناظم للقرآن في علاقته بالقارئ وبالكون؛ فهذه الطريقة التي نستعيرها من إيزوتسو الباحث الياباني (1914- 1993) -وهي استعارة مُتناسِبة مع خطاب العلواني كما سنوضح بعد قليل- لِنُمَفْهِمَ بها نصّ العلواني =تستطيع أن تُقدِّم لنا ميزة كبيرة في بيان هذه المفاهيم وعلاقاتها، وهو ما يناسب تمامًا فكرة الوحدة البنائية عبر كشفها علائق هذه المفاهيم، كما أنها تستطيع كذلك أن تكشف لنا علاقات فكرة «وحدة القرآن البنائية» كأساس لحاكميته بفكرة كونه (منهجًا) بفكرة (الجمع بين القراءتين)، مما يعني أن هذه المفهمة تساعدنا في فهمٍ أكبر للعلاقات بين مجمل الأفكار الرئيسة لأصحاب (قراءات المنهجية القرآنية).

ونحن حين نتأمّل ما كتب العلواني في كتبه الثلاثة المذكورة وعبر استحضار فكرة الحقل الدلالي واستخدامها لاكتشاف العلاقات التي يفترضها العلواني بين المفاهيم التي يشتغل عليها كأساس لـ(وحدة البنائية للقرآن المجيد)، فسنجد أنّ العلواني يضع القرآن في حقل مفاهيمي له مركز هو القرآن، نواة هذه المركز هي الأوصاف التي وصف القرآن بها نفسه ("القرآن"، و"الآية"، و"الكتاب"، و"التبيان"، و"الرحمة"، و"الهدى"، و"الحكم"، و"الإحكام"، و"البشارة"، و"الإنذار"، و"التيسير"، و"البيان")، ويحيط بهذه المفاهيم مجموعة المفاهيم التي تُحدِّده وتُحدِّد أطر التعامل معه سلبًا وإيجابًا مثل مفاهيم ("العضين"، "الاختلاف"، "الإحكام"، "التشابه"، "الآية")، ويوجد حول هذا المركز بنواته بقية مفاهيم الحقل المفاهيمي والتي تتعلّق بتلاوة القرآن وبفتحه على أفق القارئ والكون (جملة مفاهيم "التلاوة"، "التدبر"، "التعقل"، "التبصر"، "النظر"، "التفكر").

هذا الرسم التصوّري يجعلنا أمام دائرة مركزها القرآن بسماته الخاصّة، وهي تنطلق منه لتُشِّع خارجه عبر جملة (مفاهيم التلاوة) -والتي كما سنبيّن في المقال القادم ونتيجة ارتباط مفاهيمها بأوصاف القرآن (مركز الحقل المفهومي) تحقّق تعدية هذا القرآن للواقع وانفتاحه عليه تحقيقًا لـ(الهدى) ولـ(الجمع بين القراءتين)- ونستطيع ما بين هذه المفاهيم تحديد ثلاثة مفاهيم مركزية ومُهيمِنَة تمامًا في سياق بلورة العلواني مفهوم «الوحدة البنائية»، حتى إنها تُمثِّل بنية هذا المفهوم، هي مفاهيم (الآية) و(النسخ) والزوج المفهومي (الإحكام/ التشابه)، وهذه المفاهيم هي كذلك المفاهيم التي يتمحور حولها الخلاف الأساس مع العدة المفاهيمية - المنهجية للعلوم التراثية المُتَّهَمَة بـ«تعضية القرآن» وَفقًا للعلواني.

فيرى العلواني أن مفهوم (الآية) في القرآن يشير إلى «أمر يوجده الله -سبحانه وتعالى- ليسوقه لتأييد دعوى، أو للتأكيد على صدق نبيّ أو رسول، فهي علامة تتجاوز المألوف، وتخرق العادة، لتبيِّن أنَّ صاحب الدعوى صادق في دعواه أمين في رسالته؛ لأنّ (الآية) التي أعطيها لا يمكن أن تصدر إلا عن الله، والله -تبارك وتعالى- قد أعطى كلّ رسول من الآيات ما على مثله آمن الناس، فأعطى صالحًا (آية الناقة)، وأعطى موسى (تسع آيات بيّنات)، وأعطى عيسى أن يصنع من الطين كهيئة الطير فيكون طيرًا بإذن الله وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله»[3].

لكن الأمر يختلف مع الشريعة المحمدية، «فخاتم النبيين حين سأله قومه أن يأتيهم بمعجزات كالتي جاء بها النبيُّون من قبله؛ نزل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]».

وهذا يعني أن كلّ آية من آيات الكتاب هي آية قائمة بذاتها تتجاوز أيّة آية من آيات الأنبياء السابقين، «فهي آيات متلوَّة معصومة محفوظة إلى يوم الدين، والقرآن أُحْكِمَت آياته كلها، ثم فُصِّلت بعلم الله -تبارك وتعالى- المطلق الذي أحاط بكلّ شيء علمًا».

وهو ما يُحدِّد القرآن كـ(آية) خاتمة لنمط سابق من الآيات، ويربط مفهوم (الآية الخاتِمة) بـ(الإحكام)؛ حيث «القرآن كلّه محكَم وكلّه يشبه بعضه بعضًا في الإحكام»، أمّا عن هذا التفريق الوارد في سورة آل عمران بين آيات محكَمة هي أم الكتاب وأخرى متشابهة، فيرى العلواني أن المقصود به، «أنّ المحكمات هُنّ ُمُّ الْكِتَابِ} وأصلُه؛ أمّا (المتشابهات) التي تشبه في دلالتها ومضامينها ما ورد في الكتب السابقة، فيتَّبعها الذين في قلوبهم زيغ وانحراف عن الهدى، واتّباع بعض أهل الكتاب (مثل نصارى نجران الذين نزلت فيهم الآية)؛ ابتغاء فتنة الناس، وصرفهم عن اتّباع النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- والاهتداء بما أنزل عليه».

فهذه الآيات وَفقًا للعلواني لا تُقسِّم القرآن، بل تشير لضرورة القراءة الكلية له والتحذير من تجزئته، وتفرض الانطلاق في قراءته من تحديد مفاهيمه ومقاصده العليا وغاياته وقيمه التي هي {أُمُّ الْكِتَابِ} التي تعصمنا من الزيغ في فهمه[4].

ويعتبر العلواني أن القرآن كـ«آية خاتِمة ومُحكَمَة» هو آية تختلف عن تلك الآيات المُرسَلَة للأقوام السابقة، وخصوصًا قوم موسى، حيث بينما تكون الآيات هناك آيات تخويفية وحِسّية، فإنّ الآية في إطار الشريعة المحمدية تكون تخفيفًا ورحمة، وهذا بالطبع يرتبط باختلاف الأمّتين والشريعتين ما بين شريعة خاصّة وحاكمية إلهية وعقاب حسِّي ومعجزات خارقة وأمّة مُستبدَلَة من جهة، وبين شريعة عالمية وحاكمية كتاب ومعجزة عقل ومنهج وأمّة شاهدة من جهة أخرى، فوَفقًا للعلواني فإن آية القرآن «المُحكَمَة» هي بديلة الآيات السابقة وناسختها والمُهيمِنَة عليها، وهذا يفضي بنا للمفهوم المتعالق تمامًا بمفهوم (الآية) وبمحدِّدها مفهوم (الإحكام) «القرآن كآية خاتِمَة مُحكَمَة» وهو مفهوم (النسخ).

فيرى العلواني أن الدلالة الموروثة والمُثبَّتة أصوليًّا عن مفهوم النسخ (كرفعٍ لحكم الآية) هي دلالة لا توافق الدلالة القرآنية، بل إنها تضادّها؛ لذا فهو يحاول العودة لورودات هذا المفهوم القرآنية حتى يُحدِّد المقصود بهذا المفهوم وَفقًا لسياقه القرآني، وقد وردت هذه اللفظة في موضعين هما محور الاستدلال على وقوع النسخ:

- في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل: 97- 102].

- وفي سورة البقرة: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 105- 109].

وقد اعتبر العلواني أن اكتشاف دلالة النسخ مرتبط باستحضار الآيات السابقة واللاحقة على الآيتين موضعي الاستدلال (الآية رقم 106) في البقرة، و(الآية رقم 101) في النحل[5]، ومرتبط كذلك باستحضار دلالة (آية) في القرآن، وعبر هذين الاستحضارَين يظهر وَفقًا للعلواني معنى (النسخ) في القرآن، بكونه «بيان انتهاء مدة (بني إسرائيل) ونَسْخ النَّسَق الذي قامت عليه أُمّتهم وآيتهم كما نُسخت دولتهم، وهدم كيانهم وهيكلهم مرَّات فلم يتعظوا ولم يرجعوا إلى صوابهم، واستمروا يعيثون في الأرض فسادًا. فمعنى (النَّسْخ) هنا بيان انتهاء مدَّة الأُمَّة اليهودية وآيتها واصطفائها، وتفضيلها على العالمين، واستبدالها بخيرٍ منها»[6].

يتبيّن من هذا أن القرآن -ووَفقًا لهذه الدلالات للمفاهيم المحيطة به والمُؤطِّرة له والمُحدِّدة لطرق التعاطي والتعامل معه- هو «آية مُحكَمَة وحاكِمة ومُهيمِنَة ومُخفِّفَة»، وهو ما يربط القرآن بوضوح بمفهوم «الأمّة الشاهِدة الوسطية التي عليها مهمة الشهود الحضاري»[7]، ويؤسِّس (حاكمية القرآن)، ويُبرِز كون آيته هي آية كامنة في (إحكامه) و(حاكميته المنهجية) على المنظومات الحضارية السابقة والآتية.

كما أن هذا التحديد للقرآن يُبرِز خطورة فعل «التعضية»، حيث لا تؤدِّي التعضية فحَسْب لتفويت بعض دلالات آيات القرآن، بل تؤدِّي لتفويت دلالة القرآن كآية مُحكَمَة وحاكِمة، ويُفقِد الأمة المُخرَجَة والوسطية ما يعطيها القدرة على تحقيق مهمة وجودها الأساس أي الشهود الحضاري بكلمة الله الباقية التي تُمثِّل هذه الأمة وعاءها.

هذا يجعل اكتشاف الوحدة القرآنية والتركيز عليها ليس فحَسْب تركيزًا على مُحدِّد منهجي في عملية تأويلية[8]، بل -وكما قلنا- اكتشافًا لسمة أساسية مُودَعَة في القرآن تعطيه حاكميته كجملة الله المُطلَقة إلى العالم.

ورغم اقتناع العلواني بجدة فكرة (الوحدة البنائية) -على الأقل في طرحها بهذا الشكل كإحدى سمات الحاكمية القرآنية- إلا أنه يحرص على تأسيسها رأسيًّا في التراث الإسلامي، حيث يرى أن هذه الفكرة الثاوية في منطق القرآن الداخلي ظلَّت قائمة في النظام المعرفي التراثي حتى ولو في بعض المساحات القليلة التي سجنها فيها سيطرة الفكر التجزيئي على هذا النظام، والمساحة الأساس التي ظهر فيها القول بالوحدة هي لا عند الأصوليين ولا عند المفسرين، بل في البلاغة، تحديدًا في إطار البحث عن الإعجاز القرآني حيث نظرية النَّظْم عند الجرجاني[9]، ثم في بعض الإرهاصات باكتشاف فكرة الوحدة في أقوال بعض العلماء كابن العربي والرازي، ونشأة علم التناسب بين السور والآيات، وإن لم يصل بالطبع أمر الاهتمام بالوحدة لهذا الإطار الخاصّ الذي يؤطِّر فيه العلواني الوحدة كسمة من سمات النصّ صاحب الحاكمية ومصدر (المنهجية المعرفية)، فهذا بالطبع يرتبط فحَسْب بالسياق المعرفي الخاص لنشأة قراءات المناهج القرآنية[10] التي يؤسِّس في سياقها العلواني مفهوم «وحدة القرآن».

ولعلّ هذا الاشتغال المضموني على تحرير المفاهيم القرآنية ورفض الاكتفاء بالمعاجم اللغوية أو الأصولية[11] في تحديد دلالة هذه المفاهيم، يُبرِز لنا بوضوح انطلاق العلواني من التأكيد على تلك السمة الثانية من سمات القرآن التي تعطيه حاكميته وَفقًا لرواد (قراءات المناهج القرآنية) وهي تَميُّز لسانه، وهذه المساحة كذلك شغلت قدرًا كبيرًا من اهتمام العلواني في سبيل تأسيسه فكرة (حاكمية القرآن).

فمحاولة البدء ببلورة معجم مفاهيمي قرآني هو انشغال يتبدَّى ربما لكلّ قارئ للعلواني باعتباره العمود الفقري لفكره، فكلّ المفاهيم التي يتحرّك فيها هذا الخطاب، (القرآن)(الآية)(التدبر)(الأمة)(العمران)(المنهج)، حاضرة كـ(مفاهيم قرآنية)، بل كما ذكرنا منذ سطور فإنّ نقد العلواني لما أسماه الآليات التجزيئية في البناء المنهجي التراثي مثل الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، تقوم هي أيضًا على فكرة المعجم المفاهيمي القرآني، حيث يعيد تحديد دلالة هذه المفاهيم من داخل القرآن رافضًا تلك المعاني الاصطلاحية -بنظرياتها المؤطِّرة لها- التي حُمِلَت على القرآن لإنطاقه بجدوى ومشروعية هذه الآليات التي استخدمها الأصوليون والفقهاء، حتى لكأنّ العلواني يعيد بناء منهج لقراءة القرآن عبر تحديد جديد لِلَبِنَات مفاهيمية جديدة مُستقاة بالأساس من داخل القرآن.

ودافع العلواني محاولة تحديد المفاهيم القرآنية، هو أنه يرى أنّ (المفهوم القرآني) قد تم سجنه من قِبَل المفسِّرين واللغويين في دائرة الرجز والشعر الجاهلي، «فقد تناقلوا جيلًا بعد جيل المعنى الضيق الذي التزموا به انطلاقًا من هذه الفرضية الخاطئة: القائمة على اعتبار (الحاكمية على لسان القرآن) للغة العربية ولقراءة الآيات وكأنها كيانات مستقلّة لا رابط بينها، في حين تأبى حاكمية القرآن هذا، فإنه وإن كان بالإمكان الاستئناس بما ورد عن العرب من قريش ومن إليها ممن نزل القرآن بلسانهم للحصول على مزيد من الفهم، يبقى القرآن متعاليًا مستوعبًا ومتجاوزًا»[12].

ورغم أن قضية تَميُّز اللسان القرآني وتَميُّز (المفردة القرآنية) هي فكرة أشار لها العديد من دارسي القرآن المعاصرين، إلا أن هذه الفكرة عند العلواني لها خصوصيتها التامة، فهي مُرتَبِطَة لا فحَسْب بتأسيس (الحاكمية) باعتبارها السمة الثانية إلى جانب سمة (الوحدة البنائية) المودَعة في النصّ والتي تعطيه حاكميته، بل إنها ترتبط كذلك بفكرة (المنهجية القرآنية)، حيث إنّ المفاهيم هي لبِنات هذا المنهج القرآني المراد اكتشافه، ولعلّ هذا يتّضح لنا تمامًا لو قارنّا رؤية العلواني للمفردة برؤية العلّامة الفراهي (1863- 1930) على سبيل المثال لنفس القضية، فبينما يعتبر الفراهي أن الخطأ في تحرير مفردة قد يُفْضِي للخطأ في تفسير آية فسورة فالقرآن، مما يعني عدم القدرة على الوصول للنظام المُوصِل التدبُّر فيه للهدي ولـ«حكمة الدين ونظام أموره»[13]، فإنّ تفويت دلالات المفاهيم القرآنية عند العلواني يعني تفويت المنهج الثاوي في النصّ، مما يعني أنّ تحديدها ليس طريقًا لفهمٍ كلّي فحَسْب بل طريقًا لاكتشاف هذا المنهج الذي يُمثِّل أساس الحل الحضاري الشامل المسؤول عن حمله وتبليغه «الأمّة الشاهِدة».

منهجية العلواني في استخراج وتحديد المفاهيم القرآنية:

منذ قليل كنّا قد استخدمنا فكرة الحقل الدلالي عند إيزوتسو في محاولة مَفْهَمَة اشتغال العلواني لبلورة فكرة (الوحدة البنائية)، ورغم أنّ الكتب المنشورة للعلواني ليس فيها إشارة لإيزوتسو، إلا أنّ ثمة مقالًا قد نُشر على موقع الملتقى الفكري للإبداع عام (2005) بعنوان: «النبوّة ومفاهيم القرآن» فيه تناولٌ لاشتغال العالم الياباني[14]، وهذا يجعلنا نظنّ أنّ ثمة استبطانًا لهذه الآليات في خطاب العلواني وفي تحريره المفاهيم القرآنية، حيث إننا في الحقيقة وعلى مستوى الاشتغال المنهجي الأدواتي لا نجد فارقًا كبيرًا بين طريقة العلواني وطريقة إيزوتسو في تحديد دلالات المفاهيم القرآنية -هذا ما دمنا نحن نتحدث عن التقنيات المنهجية دون الحديث عن الأطر المنهجية المختلفة بالطبع عند كلّ منهم-؛ فالعلواني يستخدم منهجًا شبيهًا في أدواته لإيزوتسو وإن كان دون تجريده في شكل هيكل منهجي منفصل عن التطبيق، بل إننا نعاينه مباشرة مطبقًا على المفاهيم في كلّ ما كتب، لكن مع فارق مهم في ظنّنا فرضته طبيعة مشروع العلواني؛ فبينما يقوم إيزوتسو لاستخراج دلالة المفهوم القرآني المتميزة، بتجريد ثلاثة سطوح دلالية، السطح الدلالي الجاهلي، السطح الدلالي القرآني، السطح الدلالي للمدونة المعرفية المشكلة بداية من عصر التدوين؛ فإنّ العلواني يعطي للسطح الدلالي الثالث ومقارنته بالقرآن ثقلًا أكبر «في كتاب لسان القرآن نجد تتبع للفظ (رجا) ولفظ (أمِّي) في معظم التفسيرات المعتبرة»، ولعلّ هذا مرتبط بكون نقد التراث وآلياته المعرفية هو محور رئيس في مشروع العلواني ومشروع الأسلمة المنشئ في العموم، وكذلك للجوء هذا السطح الدلالي -وَفق العلواني- في قدر كبير من قراءته للرجز والشِّعْر الجاهلي أيْ للسطح الدلالي الأول.

وربما هذا اللجوء لتقنية إيزوتسو يكشف أمرًا مهمًّا لا يرتبط فحَسْب بخطاب العلواني بل في الحقيقة بمجمل (قراءات المنهجية القرآنية)، حتى إن بروزه هنا في خطاب العلواني قد يُعَدّ فحَسْب تكثيفًا لهذه السمة الكامنة في معظم هذه الكتابات، وهو غياب (الأدوات المنهجية)، فرغم وضوح الإطار النظري والمنهجي والمفاهيمي لهذه القراءات، ورغم كذلك وضوح الرهانات والمنطلقات، إلا أن الأدوات المنهجية الدقيقة المطلوبة من أجل تشغيل هذه الأُطر المنهجية وكشف فعَّالية المنطلقات والتصوّرات المركزية تظلّ هي الغائبة بصورة كبيرة، وربما هذا يرجع لما قلناه عن ازدياد حِدَّة النقد الإبستيمي للغرب وللتراث في هذه القراءات، حيث يُقلِّل هذا من إمكانية الاستفادة المنهجية من بعض التقنيات بسبب مخافة الانزلاق للأُطر المنهجية الأعم والمُنغَرِسة في النظام المعرفي المُستعارة منه هذه التقنيات، وهذا يجعل هذه القراءات في ظنّنا قليلة القدرة على المثاقفة المنهجية سواءٌ مع الفكر الغربي أو مع المُدوَّنة التراثية، ولعلّ هذا يتضح تمامًا في نصوص هذه القراءات التي يخلو في مفاهيمها ومصطلحاتها بل وحتى مراجعها اللجوء لهذه المتون.

خاتمة:

بهذا يكون العلواني قد أسَّس الفكرة الأساسية والمركزية في قراءات المنهجية القرآنية، أي (الحاكمية) -وسندع تقييم هذا التأسيس للمقال القادم-، فضلًا عن أن اشتغاله على تأسيس هذه الفكرة قد كشف لنا بوضوح كيف ترتبط هذه الفكرة المركزية ببقية الأفكار الأساسية في خطاب روّاد هذه القراءة، (المنهج) و(الأمّة) و(الشهادة)؛ لذا فإننا نستطيع القول أن العلواني قد قدَّم لرواد هذه القراءة الأساس المنهجي الذي يستطيع تأطير اشتغالهم اللاحق، وإن كان وكما قلنا، فإن ما قدَّمه العلواني يظلّ عند حدود الإطار المنهجي العام، دون بلورة أدوات تستطيع ملء هذا المنهج بلبِناته المفاهيمية حتى.

لكن كما قلنا في المقال السابق، فإنّ الوحدة القرآنية المُفترَضة، وحتى تستطيع تحقيق تجاوز المنظومتين الإسلامية الموروثة والغربية المعاصرة، لا يمكن لها أن تقتصر على البنية الداخلية للنصّ، بل إنها بالأساس وحدة تفتح النصّ على الكون في إطار (الجمع بين القراءتين)؛ لهذا فإن الوحدة عند العلواني ليست فحَسْب بنائية، بل كذلك (وحدة مقاصدية) تنطلق عبر (المقاصد الخمسة العليا الحاكِمَة)لتشمل وتُوجِّه الفعل الإنساني في الكون، كذلك فمفردات القرآن المُتميِّزة عند العلواني ليست فحَسْب لاكتشاف منهج قرآني يظلّ يتحرك داخل القرآن، بل هي الأداة التي تفتح القرآن؛ على الكون عبر مركزية (المقاصد) في بلورة هذه المفاهيم، وعلى الإنسان حامل هذه الرسالة والمُطالَب باستلهامها واستدخالها في سياقه الفردي والأُمّتي، وهو ما سنحاول تناوله تفصيلًا في المقال القادم.

 

[1] قراءات المنهجية القرآنية (1- 4)، المحددات العامة لقراءات المنهجية القرآنية، طارق حجي، موقع تفسير. للاطلاع على الجزء الأول من المقال: tafsir.net/article/5474

[2] نجد هذا السؤال مطروحًا في كلّ محاولة لطرح فكرة (الوحدة القرآنية)، فقد طرحه العلّامة الفراهي في كتابه (نظام القرآن)، وكذا طرحه باقر الصدر في (المدرسة القرآنية)، وهما الكتابان المهمّان جدًّا في هذا السياق، وقد أجاب الفراهي عن هذا بتقديم ثلاثة أسباب رئيسة: 1) شيوع الاهتمام بتكثير التأويلات كدليل للتبحّر والمعرفة، «وذلك بأنّ النَّظْم إنما يجري على وحدة، فبحسَب ما تكثرت الوجوه تعذّر استنباط النظام، فمَن نظرَ في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة، تحيّر، لا يدري ماذا يختار منها؟ وأصبح في حجبٍ من النظم».
2) شيوع المذهبية التي تقضي أحيانًا بالخروج عن الواضح الجليّ من المعنى الكليّ لصالح أحد جزئياته التي توافق المذهب، «فلكلّ حزب تأويل حسَب مذهبه، وحينئذ لا يمكن رعاية النظام».
3) لكن السبب الأهم والذي نراه استبصارًا رائعًا هو خوف التعسّف؛ فالفراهي يرى أن كثيرًا من الأئمة الذي رفضوا القول بالنظام لم يرفضوه سوى لتعذّر الوصول لحقيقته، أو لأن ما توصّلوا إليه هم أنفسهم أو ما توصّل إليه غيرهم وعرفوه من تفسيرات كلية كان لا يخلو من تعسّفٍ ما، فرغم قبول الكثيرين للنظام إلا أنهم لم يعمّموه على كلّ القرآن؛ حيث هو في كثير من المواضع دقيقٌ وغامضٌ كما يقول الفراهي، فلم يقولوا به لـ«تبرئة كلام الله من كلّ عيب وشين»، وربما كان الأحوط -وكما يقول الفراهي- نسبة عدم فهم النظام لقصور الفهم أو لعوامل أخرى لا نفيه من القرآن ذاته، ومن جهتنا فإننا نعيد ما قلنا بالأعلى من ضرورة الاجتهاد في تحديد مرتكزات النصّ كخطوةٍ أُولى وكأساس منهجي راسخ يُنقِذ التفسيرات الكلية من التعسف لا أن يتم التضحية بالقول بالنظام خوفًا من هذا التعسف.

أمّا باقر الصدر فقد اعتبر أن النشأة الحديثية والروائية للتفسير هي أحد الأسباب المهمّة وراء شيوع التفسير التجزيئي، واعتبر أنّ ظهورَ التناقضات العقدية المذهبية في الإسلام هو نتيجةٌ لهذا التناثر والاتجاه التجزيئي لا سببٌ له. انظر: دلائل النظام، عبد الحميد الفراهي، المطبعة الحميدية، 1388، ص23، 24، 25، وانظر كذلك: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ط2، 2013، ص11، 12.

[3] نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه، طه جابر العلواني، مكتبة الشرق الدولية، القاهرة، ط1، 2010، ص84، 85.

[4] نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه، طه جابر العلواني، ص94.

[5] يشير العلواني لكون آية يونس: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 15- 16] هي التي تُفسِّر آية النحل (101). انظر: نحو موقف قرآني من النَّسْخ، طه جابر العلواني، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2007، ص41.

[6] نحو موقف قرآني من النّسْخ، طه جابر العلواني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2007، ص14، 17.

[7] مهم هنا الإشارة لخصوصية مفهوم (الأمة) في سياق هذه القراءات وفي سياقها المعرفي المنشئ، وقد قامت دكتورة منى أبو الفضل بمحاولة تأسيس هذا المفهوم في كتابها (الأمة القطب، نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام)، والذي كتب مقدمته طه العلواني، ومن المحددات الرئيسة لهذا المفهوم وَفقًا لمنى أبو الفضل والذي نريد التأكيد عليه هنا لارتباطه بموضوعنا، هو (عقدية) مفهوم الأُمّة، فالأُمة مرتبطة بظهور المجتمع المسلم الشاهد بوحدانية الله، وهي مستمرة دون ضرورة وجود تنظم سياسي معيّن، والأُمة هي وعاء القرآن، وهي مستودع الرسالة المحمدية، لكنها ليست مطبوعة بهذه السمات، وهذا يعني أنّ ثمة فارقًا بين المسلمين وبين أمّة الإسلام، فإذا كان المسلم قد يتكون عبر الميلاد، فالمسلم/ الأمة يتكون عبر قرارٍ واعٍ بالشهادة وحمل الرسالة القرآنية وتحقيق دور الأمة الوسط. انظر: الأمة القطب، منى أبو الفضل، الشرق الدولية، القاهرة، ط1، 2005.

[8] صحيح أننا نجد عند العلواني استخدامًا لهذه الفكرة كمحدد في تأويل بعض الآيات الخاصة ببعض القضايا أو في تفسيره سوة الأنعام وفي بلورته بعض الأدوات التفسيرية للسور مثل مفهوم «عمود السورة» و«نجوم السورة»، وكذا قراءته لآيات القتال في القرآن، إلا أنه تظلّ المساحة الأكبر لاشتغال العلواني هي في تأسيس هذه الفكرة كسمة من سمات حاكمية القرآن ككتاب منهج. انظر: تفسير سورة الأنعام، طه العلواني، دار السلام، القاهرة، ط1، 2012. وانظر مقالة: (آيات القتل: نموذج لتفسير القرآن بالقرآن) منشورة على موقعه على الشبكة: https://alwani.org/آيات-القتال-نموذج-لتفسير-القرآن-بالقر/

[9] الوحدة البنائية للقرآن المجيد، طه جابر العلواني، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2006، من ص38، إلى ص62.

[10] ولعل هذا قد يفسِّر لنا عدم شهرة بعض المحاولات القريبة جدًّا من منهج هذه القراءات والسابقة عليها، مثل محاولة الفراهي الذي كان من أول المعاصرين قولًا بـ(نظام القرآن) وبـ(تميّز المفردة القرآنية) كمحددات منهجية في التفسير، فربما قراءة بهذه الجذرية دعنا نقول في مواجهة التأويلية الكلاسيكية تحتاج لإطار معرفي يؤسّسها ويعطيها رهانتها وحوامل اجتماعية يمثل هذا الإطار النظري المعرفي بلورة لإشكالاتها وطموحاتها، وهو ما لم يتوفر في حالة الفراهي.

[11] يشير العلواني في أحد هوامش كتابه (نحو موقف قرآني من إشكالية النسخ) إلى تأثر المعاجم اللغوية في بيان دلالات المفردات بتحديدات الأصوليين والفقهاء وعلماء القرآن، وهو ما يراه مخالفًا للأصل، حيث المفترض بيان المعنى اللغوي الذي هو الأساسي، حيث معاني الأصوليين والفقهاء هي من قبيل النقل والمجاز وليست أصلية. انظر: نحو موقف قرآني من النسخ، طه العلواني، ص30.

[12] لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، طه جابر العلواني، ص76.

[13] دلائل النظام، عبد الحميد الفراهي، المطبعة الحميدية، 1388، ص34. وانظر: مفردات القرآن، نظرات جديدة في تفسير ألفاظ قرآنية، عبد الحميد الفراهي، تحقيق وشرح: محمد أجمل أيوب الإصلاحي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 2002، ص95.

الكاتب

الأستاذ طارق حجي

باحث مصري له عدد من المقالات البحثية والأعمال المنشورة في مجال الدراسات القرآنية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))