نقد د/ مساعد بن سليمان الطيار لمسار قواعد التفسير وقواعد الترجيح؛ عرض وتوصيف
مدخل:
يُعَدّ الدكتور/ مساعد الطيار من أهم المعاصرين المعروفين بالاشتغال البحثي حول قواعد التفسير وقواعد الترجيح، ويعتبر الدكتور/ الطيار هو مَنْ شقّ هذا المسار بصورته الحالية في الطرح المعاصر كما سنبيّن، وقد لاقت أطروحاته رواجًا واسعًا في الوسط العلمي، وتتابعتْ من بعده الكتابات متواردة على مفهومه وطريقة عمله، حتى تكاثرت وغصّت ساحتها بالإصدارات في هذا الحقل المهم حقل قواعد التفسير.
وفي ضوء حالة النقد الجذري التي وُجّهت لمنطلقات هذه المسارات في بعض الدراسات الحديثة، وما أبداه الدكتور/ مساعد نفسُه منذ قديم من مراجعات له وذِكْر لبعض الإشكالات الحاصلة في الطرح المعاصر في قواعد التفسير والترجيح، فقد أحببنا في هذه المقالة تسليط الضوء على هذه المراجعات التي ذكرها الدكتور/ مساعد، لا سيما وأنها جاءت في سياق محاضرةٍ لا تحريرٍ كتابيّ مستقلّ، وذلك بعد تمهيد نسلّط فيه الضوء على سياق سَبْق الدكتور/ مساعد بالتأليف في باب قواعد التفسير والترجيح وأثره في صياغة هذه المسارات.
تمهيد:
إنَّ شَقَّ الدكتور/ مساعد الطيار لمسار قواعد الترجيح وقواعد التفسير هو أمر مشتهر وشائع بين الباحثين، وذلك بكتابه: (فصول في أصول التفسير) الذي مَثَّل انطلاقةَ هذا المسار، والذي انتهى منه الدكتور في عام 1412هـ، وهو كتاب ما زال يتداول بين أيدي الباحثين، وله حضور في قاعات الدّرس النظري للتفسير في عددٍ من مدارس العلم في العالم الإسلامي.
ويحكي الدكتور/ مساعد الطيار قصّةَ تشكُّل هذا المسار وكواليس تكوّنه، فيقول: إنه في أول أمره كان محبًّا للاطلاع على التفاسير التي تُعْنَى بالمشكلات والإيرادات مثل تفسير الرازي، وكان مُعْرِضًا عن التفاسير التي تَعْتَنِي بالمنقول عن السلف، فلما قدّر اللهُ له قراءةَ تفسير الطبري فكأنه قد وقع على وجبة دسمة، ووجد هذه المعلومات الرائعة في تفسير الطبري، والذي كان يُصَوَّر لهم على أنه تفسير بالمأثور وليس فيه من الرأي شيء، فأخذ يجمعها على طُرّة الكتاب ثم عَنْوَن لها بالقواعد الترجيحية، وجمع منها ما جمع، ثم ألقى محاضرة في جامع صالح الراجحي، وكانت بهذا العنوان، ثم دَرَّسها في مادة أصول التفسير في كلية المعلمين، ثم كتب كتابه: (فصول في أصول التفسير) في نهاية عام 1412هـ، وسلّمه للطباعة، لكنه تأخّر نشره لظروف خاصّة بدار النشر، فتم طبعه في عام 1413هـ، ثم أراد الدكتور/ الطيار أن يقدّم هذا الموضوع لكلية أصول الدّين لنيل درجة الماجستير، وكان وكيل القسم حينئذ الدكتور/ محمد الشايع، فاقترح عليه أن يدع هذا الموضوع للدكتوراه؛ لأنه موضوع كبير، ثم قدّر اللهُ أنْ زاره الدكتور/ حسين الحربي، وهو يبحث عن موضوع للبحث في الماجستير، فعرض الدكتور/ الطيار هذا الموضوع فقبله وزاد عليه وجعله: (قواعد الترجيح عند المفسّرين)، وقد ذكر الدكتور/ الطيار أنه لما أصدر كتابه: (فصول في أصول التفسير) أهداه الدكتور/ خالد السبت، وقد استفاد منه الدكتور/ السبت في دراسته: (قواعد التفسير؛ جمعًا ودراسة) كما هو ظاهر في الكتاب[1].
وهذان الكتابان اللذان صدرَا عن طرح الدكتور/ الطيار واستلهماه؛ صارَا فيما بعد مواردَ رئيسة لكلّ الْكَتَبَة في حقل قواعد التفسير وقواعد الترجيح[2].
وعليه فإنه ظاهر جدًّا كون طرح الدكتور/ الطيار هو الذي مَثّل شرارة انطلاق هذا المسار، وأنّ الكتابين الرئيسين اللذَيْن كرَّسَا للعمل في هذا المسار على هذا النحو؛ قد استقيَا منطلقاتهما وطريقة عملهما من طرح الدكتور/ مساعد الطيار، وهو الذي أكّدته بعض الدراسات[3]، حيث رصدتْ حالةَ تأثّرٍ ظاهرة لمنطلقات كتاب الدكتور/ خالد السبت في العمل في قواعد التفسير بكتاب: (فصول في أصول التفسير) للطيار، وهو أمرٌ شديدُ الظهور كذلك في كتاب: (قواعد الترجيح) للحربي، الذي لا يختلف في منطلقات عمله في قواعد الترجيح عن منطلقات كتاب د/ الطيار.
وفي ضوء حصول مراجعات من قِبَل الدكتور/ الطيار لهذا المسار في أمور مهمّة تمسّ العمل في هذا الحقل بدا لنا إبرازها وتسليط الضوء عليها، خاصّة وأنّ هذه المراجعات والتأمّلات التي نودّ أن نسلّط الضوء عليها لم تُنْشَر في كتاب، إنما نُشِرَتْ على هيئة لقاءات علمية للدكتور/ الطيار، فَدَفَعَنَا هذا إلى رصْد هذه التأمّلات وإدخالها حيز التداول الكتابي العلمي لما لها من أهمية بالغة كونها مراجعات تتعلّق بمسار أنشأه المراجِع المتأمّل نفسه؛ بما يعني أنّ هذا يمثّل أهمية كبرى لكلّ معتنٍ بهذا الحقل.
كما أنّ هذه المراجعات تبدو مهمّة في رصدها وبيانها، خاصّة مع ما شهدته مؤخرًا الساحة البحثية في قواعد التفسير من نقد جذري لمنطلقاتها في بعض الدراسات، ما يجعل مراجعات د/ الطيار شديدةَ الأهمية، وربما يكون لها دورٌ في حسم بعض مساحات هذا الجدل القائم.
الدكتور الطيار؛ تأمّلات ومراجعات لحقل قواعد التفسير:
بدا لنا أنّ جَهْرَ الدكتور/ الطيار بهذه المراجعات والتأمّلات لهذا المسار الذي انبنى على جهوده جاء متأخرًا، فأوّلُ ما نُشر من ذلك لقاءٌ له مع جمع من أساتذة التفسير وعلوم القرآن، في حلقة نقاشية جرى فيها حديث الدكتور/ الطيار، وقد نُشَرت عبر قناة مركز تفسير على اليوتيوب بعنوان: (تساؤلات حول قواعد التفسير)[4]، وهي منشورة بتاريخ 25 /6 /2016م، وأعقبها الدكتور/ الطيار بلقاءات أخرى كرّر فيها نفس الملاحظات والمشكلات التي تعتري العمل المعاصر في هذا الحقل.
وظاهرٌ أنّ هذه الملاحظات التي أبداها الدكتور قد جاءت في سياق لقاءٍ عَرَضَ فيه لهذه الملاحظات؛ إلا أنه ظاهر لمن طالع المحاضرة أنه قد جرى تحضير وإعداد مسبَّق لهذه الملاحظات، ولم تكن هكذا عفو الخاطر، بل هي نتاج بحث وتتبّع ورصد مطوّل للدكتور، بما يضفي أهمية زائدة على هذه الملاحظات، باعتبارها نتاجًا بحثيًّا للدكتور/ الطيار.
وقد جرى كلامُ الدكتور/ الطيار بصورة رئيسة في عددٍ من رؤوس الإشكالات رصدناها هنا محاولِين اختصار كلامه تحت هذه العناوين التي قصد إلى إبرازها، وسيجري رصد خلاصة كلام الدكتور/ الطيار في صلب المقالة، والتعقيب على كلامه بما يبرز محصوله، كما سنحاول في الحواشي تثويرَ عددٍ من الإشكالات حول طرح الدكتور نفسه.
ابتدأ الدكتور/ الطيار حديثه حول أهمية مراجعة الأفكار، ومدى جدوى النقد في ساحات الفنون، وذكر القصة السالف ذكرها حول تشكّل هذا المسار لديه، وتأثّر الباحثين بكتاباته، وكيف أنّ هذا النقد ينصرف أوّل ما ينصرف إلى ذاته هو شخصيًّا باعتباره يتحمّل مسؤولية شقّ هذا المسار على هذا النحو من العمل فيه، وساق حديثه في صورة عددٍ من الإشكالات كما يلي:
أولًا: إشكالية المصطلحات:
وقد اعتنى الدكتور في هذا الصدد بتسليط الضوء على إشكالات تتعلّق بعدّة مصطلحات يجرى تداولها في هذا السياق ويكثر اللغط حولها:
1- مصطلح التفسير:
يشير الدكتور إلى الخلاف الحاصل بين المعاصرين في مفهوم التفسير، ويقرّر الدكتور أن أكثر الخلاف في هذا المصطلح ناشئ عن عدم التحرير والاستقراء، ذكر الدكتور أنه قد حَرَّر مفهومًا للتفسير ما زال مستقرًّا عليه وهو دائر حول بيان معنى الآية، ويتمثّل هذا التباين الدلالي لمفهوم التفسير من وجهة نظر الدكتور/ الطيار في أنه طبقًا لمفهوم الباحث للتفسير؛ فإنه سينبني على ذلك مفهوم قواعد التفسير عند الباحث، وبالتالي عملية اعتماد القواعد أو استبعادها ستكون مبنية كثيرًا على مفهوم التفسير عند الباحث.
وجملة نقد الدكتور هنا دائرة حول قلّة العناية لدى الباحثين في القواعد بتحرير مفهوم التفسير مع ما له من انعكاسات خطيرة على مسار العمل في القواعد.
2- مفهوم القاعدة وكليتها:
وفي هذا المقام ركز الدكتور/ الطيار على فكرة شيوع القول بكلية القواعد التفسيرية والنزاع في أغلبيتها، لكنه نعى على الدّرس المعاصر عدم الـمَيز بين ما هو قاعدة كلية لا تنخرم وبين ما له مستثنيات وتقع فيه انخرامات، وأن ما هو من هذا القبيل قد يُعَدّ من قبيل القرائن ونحوه.
ومحلّ نقد الدكتور في هذا الصّدد هو عدم تحرير الفرق بين هذه المقامات المختلفة لدى الدكتور/ الطيار. وفي هذا الصدد أشار الدكتور إلى ضرورةٍ بحثيّة للتفريق بين ما يمكن أن يعتبر قاعدة كلية وبين ما هو قرينة في التفسير، وبهذا يكون الدكتور/ الطيار قد آل إلى التفريق بين قواعد التفسير وبين قرائن يمكن أن تعتبر في التفسير.
وضرب الدكتور مثالًا على ذلك بالنصّ الآتي: متى ثبت التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يُصَار إلى غيره.
ويُعَقِّب الدكتور بقوله: لو تأملنا هذه المعلومة سريعًا لوجدناها كليّة لا تنخرم؛ لأنه متى ثبت الدليل طاح ما دونه، وهذه قاعدة كلية واضحة، فينبغي أن نبحث كم عندنا من القواعد بمثابة هذه القاعدة؟ وهو ما يمكن اعتباره قاعدة كلية.
وأما مثلًا قولهم: (إذا دار التفسير بين الأشهر والأقلّ شهرة حُمِلَ على المشهور من لغة العرب) سنلاحظ أن لهذه القاعدة مستثنيات، فتعتبر أغلبية لا كلية[5].
وخلص الدكتور إلى القول بأن هناك ثلاث مراتب مختلفة:
- قاعدة كلية.
- قاعدة أغلبية.
- قرينة تفسيرية.
وعقّب الدكتور بقوله: فلو صح لي هذا الترتيب؛ فإنّنا بحاجة إلى بحث الفروق بين هذه الأمور المختلفة، وكلّ منها بحاجة إلى بحث، وكثير مما كتبناه على أنه قواعد هو في الحقيقة قرائن تفسيرية لا أكثر.
ثانيًا: إشكالية تداخل العلوم بالنسبة للتفسير:
وفي هذا الصدد أشار الدكتور/ الطيار إلى أنّ العلوم الأخرى -كالفقه والأصول والنحو- مادتها الموضوعية معلومة ومحدّدة، بخلاف الإشكال القائم في علم التفسير، ويحدث إشكال كبير في الوسط التخصّصي من اعتبار كلّ ما في كتب التفسير من الموضوعات هو صلب التفسير والغفلة عن الماهيات وعدم تحديدها.
وعقّب الدكتور/ الطيار بقوله: وهاتان الإشكاليتان بمثابة مقدمة لما سيأتي من مشكلات منهجية في تقرير قواعد التفسير.
ودلف الدكتور بعد هاتين المقدّمتين إلى تقرير عددٍ من الإشكاليات على ما سيأتي:
1- الاعتماد على كتب العلوم الأخرى وإغفال كتب التفسير في استخراج القواعد:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ كثيرًا من الكتب التي شاركت في الكتابة في قواعد التفسير نجد كثيرًا منها قد أغفل كتب التفسير، وليس بأن أهملوها البتة، ولكن أغلب القواعد هي من كتب العلوم الأخرى وطُبقت في كتب التفسير، والمقصود أنّ المنطلق كان من كتب العلوم الأخرى، ككتب الأصول واللغة، وهنا يجب الانتباه إلى أمرٍ هام، وهو أنّ كلّ علم تُبنى قواعده من داخله، ولا يستند إلى قواعد علم آخر، وليس الحديث عن التداخل؛ إنما الحديث عن أصل القضية، وذلك أنك لا تجد أحدًا يكتب في قواعد علم الحديث مثلًا، ويرجع في ذلك إلى كتب التفسير! وإنما يكون الانطلاق من تطبيقات أهل الفنّ ومحاولة التأصيل من خلالها، وهو خلاف الحاصل تمامًا في شأننا نحن، فإننا عمدنا إلى كتب اللغة وكتب الأصول...إلخ؛ لنخرج منها قواعد التفسير، والإشكال أن بعض مَنْ كَتَبَ في القواعد نَصَّ على استبعاد كتب التفسير في تقرير القواعد[6]. ثم بَيَّن فضيلتُهُ بعد ذلك أنّ هذا يُعَدّ إشكالًا كبيرًا في رأيه، والصواب أن نخرج قواعد التفسير من تطبيقات المفسّرين.
وظاهر أنّ الدكتور يقرّر أولوية كتب التفسير في الاستقراء والتأمّل في استخراج القواعد، وأنه من الضروري استخراج قواعد التفسير من تطبيقات المفسّرين، وأن التقريرات القائلة باستبعاد كتب التفسير من الاستقراء لاستخراج القواعد؛ تقريرات ظاهرة الغلط[7].
2- أخذ القواعد المقرّرة سلفًا من العلوم الأخرى دون تحرير وتطبيقها في التفسير:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ من ينظر في كتب قواعد التفسير؛ يجد أنها تجلب القواعد الأصولية من كتب الأصول وتنسبها للتفسير، وربما تجد أنه أخرج عبارة من وسط سياق في كتب المسودة، أو كتاب المحصول، واعتبار هذه الجملة المنتزعة من السياق قاعدة تفسيرية، وهذا يوقعنا في إشكالات كبيرة، ويجعلنا نُغْفِل قواعد التفسير التي هي قواعده، ونلهث خلف هذه القواعد الأصولية واللغوية[8].
إنّ الدكتور/ الطيار ينعى على كتب القواعد القصد إلى كتب الفنون الأخرى، واجتزاء نصوص منها واعتبارها قواعد في التفسير في حين أنه لم يجرِ التثبّت من قاعديتها في التفسير من قِبَل كتب القواعد.
3- بروز القواعد الأصولية واللغوية في مقابل القواعد التفسيرية الصّرفة:
يقول الدكتور/ الطيار: ومن نظر في كتب القواعد يجد أن مسردها أكثره معلومات أصولية ولغوية في مقابل القواعد التي تفيد في تحرير المعنى، وتوجيهه، والترجيح بين أقوال المفسّرين، وهو الأمر الذي يعيدنا مرة أخرى إلى تحرير مفهوم التفسير، والتركيز على القواعد الخاصّة بتحرير المعنى، وليس الأمور اللغوية والأصولية، ولا حتى القواعد المتعلّقة بعلوم القرآن، فالإشكال الحاصل أنّ مَنْ كتب في القواعد؛ صارت كتبه ساحة للقواعد اللغوية، والأصولية، والخاصّة بعلوم القرآن، لكن نحن نريد القواعد المتعلّقة بالمعنى مباشرة وتوجيهه وتحريره.
وجملة هذا النقد منصبّة على تحرير القواعد في ضوء مفهوم محرّر للتفسير[9] والاكتفاء بقواعد التفسير دون سائر القواعد، وهو أمرٌ محلّ إشكال وتخبّط في كثير من الدراسات في القواعد.
4- بناء القواعد على مصطلحات مختلف في تفاصيلها:
يقول الدكتور/ الطيار: وأضرب لذلك مثالًا مما يقرّرونه من قواعد كقولهم: (القول الموافق لعصمة الأنبياء أَوْلَى من القول المخالف لها)، وهذا النصّ لا إشكال في عمومه، لكن الإشكال يبقى في تنزيل هذا النصّ، وحدوده، وإعماله وإهماله، وكلّه مبنيّ على الخلاف في حدود العصمة، وكذلك عدد من القواعد المبنية على أمور مختلف في تفاصيلها، وبالتالي يقع خلل في هذا الشأن.
ثالثًا: إشكالية عدم المزج بين الاستقراء وبين التتبّع التاريخي لتعامل المفسّرين مع القواعد:
يقول الدكتور/ الطيار: من الإشكاليات التي نشهدها في موضوع القواعد؛ أنه قد يقول قائل: فلان استقرأ، وفلان...إلخ، لكن قَلّ من تجده يتتبع الأمر تتبعًا تاريخيًّا ينظر كيف تعامل مفسرو السلف مع هذه القاعدة، إلى أن يصل إلى مَنْ أَلَّف في التفسير، فهذه ربما تكشف لنا عن أمور لا ننتبه لها، مثال ذلك: ابن جرير الطبري لم يستعمل مصطلح قواعد الترجيح، إلا أنه ينصّ على أنه يذكر علل الأقوال التي يذكرها في تفسيره، وليس بالضرورة كلّ ما علّل به ابن جرير يكون قاعدة، لكن تجدها عندنا مسماة بقاعدة كذا...إلخ، وتجد بعضهم يأخذ شيئًا ويدع شيئًا، أنت عندك ميزان حكمت به لإدخال هذا وإخراج هذا، لكن ما أبرزتَه لنا؛ لأنه بهذه الصورة تعتبر انتقائية، وربما إذا أبرزت ميزانك في الاختيار ظهر فيه إشكال، فربما تضطر أن تعيد النظر في الأمر كله.
إنّ ملاحظة الدكتور/ الطيار في هذا المقام منصرفة إلى محاولة إعادة قراءة هذا النتاج في ضوء تاريخ علم التفسير وفي ضوء مدوناته عبر التاريخ، وهو أمر كفيل أن يغيّر من تنظيرات كتب القواعد على صُعُدٍ عديدة.
رابعًا: إشكالية الصياغة في قواعد التفسير:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ من الإشكاليات في موضوع القواعد؛ مشكلة الصياغة، ومن ينظر في صياغات القواعد التي بين أيدينا يجدها إما:
- منقولة بنصّها من كتب التفسير أو كتب العلوم الأخرى.
- أو مُصَاغة صياغة قاعدية من قِبَل الباحث.
وسواءٌ هذه أو هذه فإنّ بها إشكالاتٍ كثيرة جدًّا، وهو موضوع بحثي يحتاج إلى بحث وتحرير، وقد جرّبته مع الطلاب في الدراسات العليا لمّا دَرَّسْتُ قواعد التفسير، وحاولتُ إعادة صياغة بعض القواعد، ومحاولة تقويم بعض القواعد، وليس عندي ما يمكن أن يكون نظرية في صياغة القواعد، لكن أدعو الباحثين للاعتناء بهذا الجانب.
ثم ذكر الدكتور بعض الملامح الرئيسة للعمل في صياغة القواعد على النحو التالي:
- الأصل في صياغة القاعدة أن يكون فيها إحكام واختصار وأداء للمضمون بلا احتمال حسب الطاقة البشرية.
- الأصل في القواعد ندرة المستثنيات في القاعدة.
ومن يراجع مَنْ كتب في القواعد يجدهم مرّة يقولون: الأصل كذا... إلا إذا دلّ الدليل، ومرة لا يقولون، فإذا سألتَ فربما لا تجد جوابًا، ويظهر الأمرُ وكأنه انتقاءٌ محضٌ.
- الأصل في القواعد أن تكون مصوغة لتخدم عملية التفسير.
وإذا نظرتَ لبعض القواعد تجدها مصوغة لتخدم مسائل غير مسائل علم التفسير، كمسائل تتعلّق بالأمر والنهي ونحوها من مباحث علم الأصول مثلًا، فما علاقة هذا بعلم التفسير؟! وهو الأمر الذي يجعلنا نلحّ دائمًا: ما هو التفسير؟ ولكن على الأقلّ يحصل شِبه توافق حول بعض القواعد كونها تتعلق بالتفسير أم لا.
- الأصل أن توجد تطبيقات كثيرة للقاعدة.
يقول الدكتور: والعجيب أنّ بعضهم يذكر قاعدة ليس لها إلا مثال واحد، وبعضهم ذكر قاعدة ليس لها مثال أصلًا، ويقول ما وجدت لهذا القاعدة مثالًا، كيف تقول إنها قاعدة، وتقول لا مثال لها[10]! ومثال ذلك: أني وضعتُ قواعدَ للرسم في كتابي: (فصول في أصول التفسير)، والآن في نفسي منها شيء، فهل يوجد لهذه القاعدة تطبيقات كثيرة، بحيث يقال إنها قاعدة.
ثم يعلّق الدكتور/ الطيار مجملًا القول في إشكالات الصياغة، بقوله: وإجمالًا نحن بحاجة إلى معرفة متى يُقال (يجب) في صياغة القاعدة، ومتى لا يُقال؟ ومتى يُقال (إلا إذا دلّ الدليل) ومتى لا يُقال؟ وهل القاعدة تكون مقرِّرةً للنتيجة ومتى لا تكون؟ وغيرها من الأمور المهمّة في صياغة القواعد.
إنّ إشكالية الصياغة أمر أبرز الدكتور/ الطيار عنايته به، وملاحظتَه إشكالات واسعة في تطبيقاته، بما يتضمّن إعمال المشتغل بالصياغة ذوقه في ذلك؛ دون أن تكون هناك سمات منهجية واضحة في صياغة القواعد، وفي ضوء ذلك طرح الدكتور/ الطيار عددًا من الملامح الرئيسة التي ينبغي مراعاتها في صياغة القواعد التفسيرية كما مرّ.
خامسًا: مشكلة مقاصد العمل في القواعد:
يقول الدكتور/ الطيار: إنّ من المشكلات التي نقع فيها هي غياب الهدف من موضوع القواعد، فأكثر مَنْ كتب في القواعد عندهم هَمّ هو قضية الجمع لمجرّد الجمع[11]، والدليل عليه واقع الكتب، ومن المفترض أن نضع عددًا من الأهداف للقواعد، منها:
- ضبط عملية التفسير.
- ضبط التعامل مع النصّ القرآني.
-ضبط التعامل مع مصادر التفسير.
وهو الأمر الذي لو راعيناه لخرجت كثير من القواعد مما يقال إنها قواعد للتفسير.
سادسًا: الاستدلال لقواعد التفسير:
وهذه القضية من القضايا الغائبة عن العمل في القواعد، بل أقول: إنها من القضايا الغائبة تمامًا عن واقعنا في قواعد التفسير، ولم يكتب فيها أحدٌ ممن كتب في قواعد التفسير إطلاقًا[12]، وهو الذي يدفعنا نحو سؤالين:
الأول: كيف نستدلّ للقواعد؟
ولا بد من ملاحظة أمرٍ مهمّ وهو أن هذه القواعد استقرائية، تضعف أو تقوى بحسب تمام الاستقراء أو نقصه، متى يمكن أن تكون قطعية، ومتى لا تكون كذلك؟ وأنا نفسي لو سألتني: ما هي الأدلة على بعض ما كتبته من قواعد قديمًا؟ لا أجد جوابًا، ولا ينفع أن يقال: استخدمها فلان وفلان...إلخ.
الثاني: كيف نستدلّ بالقواعد؟
وهو أمرٌ يقع فيه إشكالٌ كبيرٌ، ومثاله: أن يأتي أحد بقاعدة تقول: (تُحْمَل ألفاظ كتاب الله على العموم)، وتطبيق هذه القاعدة بإطلاق يوقع في إشكالات، وهذه قاعدة استخدمها ابن جرير الطبري بلا شك، لكنّه نفسه يأتي في مواضع ويخصّص ويقول هذا من قبيل العام الذي أُريد به الخصوص، فَأَخْذُ هذه القاعدة بإطلاق يجعلك تأخذ جادّة الطريق دون عقلية المفسّر.
وبهذا نكون قد وقفنا على مجمل الملامح الكليّة التي طرحها الدكتور/ الطيار نقدًا لهذا المسار والذي تتلخص نتائجه فيما يلي:
- وجود إشكالات تتعلّق بمفهوم القاعدة، ومفهوم التفسير لدى الطرح المعاصر.
- وجود إشكالات تتعلّق بتداخل العلوم وعدم وجود حيثية خاصّة لهذا الفنّ لدى كثيرين، وبالتالي لا حيثية خاصّة لقواعد هذا الفنّ.
- كثرة القواعد الأصولية واللغوية في مقابل القواعد التفسيرية.
- إشكالات في الصياغة بحيث لا يوجد قانون يحكم هذه الصنعة لدى البحث المعاصر.
- وجود إشكالية كبرى تهدّد وجود هذا البناء بكامله تتمثّل في عدم وجود أدلة على كون هذه النصوص قواعد للمفسرين، فضلًا عن أن تكون قواعد التفسير، وهو الأمر الذي يجب إعادة النظر فيه بجديّة وتحرير.
خاتمة:
قامت هذه المقالة على رصد موقف الدكتور/ مساعد الطيار من مسار قواعد التفسير، ومصيره إلى القول بوجوب إعادة النظر في مخرجات هذا المسار، وكذا مراجعة عمله الشخصي المتمثّل في كتاب: (فصول في أصول التفسير)، وما نجم عنه من كتابات متكاثرة في قواعد التفسير والترجيح.
وأخيرًا فإنّ هذه الحركة النقدية من أحدُ أبرز رموز الكتابة في حقل أصول التفسير وقواعده، تشير إلى وجود إشكالات حقيقية في هذا المجال، لا سيما وأن شَاقَّ هذا الطريق ومؤسِّسه الأول قد عاد بالمراجعة والتقويم على نفسه، وبالضرورة على كثير مما يطالُ سائر الكتابات كما هي نصوصه، فهي دعوة لمراجعة القول في هذا المضمار حتى تتحرّر أُطُرُه ومنطلقاتُه. والله الموفِّق.
[1] محاضرة (تساؤلات حول قواعد التفسير) للدكتور/ الطيار، تحت هذا الرابط:
[2] انظر: التأليف المعاصر في قواعد التفسير، دراسة نقدية لمنهجية الحكم بالقاعدية، ص85، نشر مركز تفسير، تحت هذا الرابط: tafsir.net/publication/8018
[3] انظر: التأليف المعاصر في قواعد التفسير، دراسة نقدية لمنهجية الحكم بالقاعدية، ص85، نشر مركز تفسير، تحت هذا الرابط: tafsir.net/publication/8018
[4] محاضرة (تساؤلات حول قواعد التفسير) للدكتور/ الطيار، تحت هذا الرابط:
[5] إنّ قليلًا من التأمّل يظهر فارقًا بين ما هو كلي بمعنى اطراده لدى جميع المفسرين في جميع المواضع، بما يمكننا معه أن نعتبرها قاعدة فنيّة حاكمة على الفنّ، جرى اعتبارها لدى جميع المشتغلين بهذا الفنّ، وهو ما يؤكّد نسقيتها وكليتها، وبين أمور أخرى يجرى استعمالها في سياقات معينة لدلائل معينة ومرجّحات خارجية تؤكّدها، وقد يخالفها جَمْعٌ من المفسّرين لاعتبارات لديهم أدلّ منها، فلا يمكن عقلًا ولا نظرًا المساواة بين المقامين.
[6] وأول مَنْ أشار إلى ذلك ونصّ عليه -كما ذكرتْ بعض الدراسات- هو الدكتور/ خالد السبت في كتابه: (قواعد التفسير؛ جمعًا ودراسة).
[7] وظاهر أن الدكتور قد آل إلى الرجوع عن ما ذكره من مصادر استمداد القواعد في كتابه: (فصول في أصول التفسير)؛ إلى القول بأولوية كتب التفسير في الاستقراء والتأمّل في استخراج القواعد، وهي خطوة مهمّة بلا شكّ، فأيّ مصدر أولى لاستنباط قواعد المفسّرين من صميم تطبيقاتهم ومسالكهم في التحرير والتفسير، والغوص في ذلك، وجمع النظائر، ومحاولة تأمّل هذه النظائر المختلفة أو المؤتلفة ومحاولة إدراك منهجية المفسر في التعامل مع هذه النظائر ومسالكه الخفية في ذلك، وهذا العمل يتوجب صنيعه في ضوء حدوث هذا العمل التقعيدي في تاريخ علم التفسير.
[8] إنّ إشكالية غياب التفسير كفنّ خاصّ له حيثيته الخاصّة التي في ضوئه تتحرّر وتتشكل قواعده، بحيث يكون من المشكل جدًّا جلب القواعد المقرّرة لخدمة علوم خاصّة لها حيثيتها الخاصّة؛ ومكاثرة ساحة التفسير بها، وهو الأمر الذي يكرس لعدم علمية هذا الفنّ، وعدم وجود قواعد لها نسق خاصّ به، بحيث من يمارسها ينتج معرفة خاصّة بهذا الحقل، وهي نظرة غائبة تمامًا عن أكثر الْكَتَبَة في حقل قواعد التفسير.
[9] نشير في هذا الصدد إلى أن الدكتور/ الطيار يذهب إلى قصر التفسير على بيان المعنى، وهو الأمر الذي سيشكل في ضوئه العمل في القواعد على هذا النحو الضيق، وهذا القصر نفسه في المفهوم أمر لا يخلو من إشكالات على صُعُدٍ عدّة.
[10] لو تنبه الدكتور -حفظه الله- إلى هذا الملمح الدقيق، وهو أن القاعدة لا تأخذ قاعديتها إلا بالتتبّع والاستقراء، ويكون الحكم بالقاعدية نتيجة لسبحٍ مطوّل مع قيود وشروط وضوابط= لاختلف كلامه تمامًا في منطلق العمل، ولرأى أن القواعد تحتاج إلى بناء من الأصل لا مجرّد عملية ضبط وإحكام لما هو موجود، ولكن هذه الخطوات مهمّة أيضًا في طريق تحرير منطلق العمل في القواعد.
[11] ومما ينبغي ملاحظته في هذا السياق أنه مع كون الدكتور/ الطيار نعى على هذه الكتابات قصدها للجمع لمجرّد الجمع إلا أنه لم يُبْدِ اعتراضًا على فكرة الجمع ذاتها، بما يعني تقرّر قواعد التفسير في التاريخ على نحوٍ ما، لكنها تحتاج إلى جمعٍ واعٍ، في حين أنّ هذه الإشكالية تمثّل ساحة الاشتباك الحقيقية مع المؤلّفات في قواعد التفسير، كما رصدته دراسة: (التأليف المعاصر في قواعد التفسير)، هذه الإشكالية التي لو تصدّى لها الدكتور/ الطيار وحاول أن يشتبك معها؛ لربما آل في نقد هذه الكتابات إلى قول آخر تمامًا، يتعذّر معه التسليم بقاعدية أيّ من هذه القواعد التي جمعتها الكتب، ولربما تسنّى له القول بأن هذه الكتابات لم تَخْطُ إلى بناء أيّ قاعدة على الحقيقة.
وهذه المساحة من الاشتباك من المفترض أن تكون هي محلّ التباحث الحقيقي في تحرير منطلق العمل في هذا الحقل، ومسّ هذه القصية يعتبر ولوجًا لمفترق الطرق بين طرائق الاشتغال في بحث القواعد، وهو ما لم يَلِجْه الدكتور/ الطيار، بل القرائن الظاهرة في نقد الدكتور/ الطيار تدلّ على أنه مُقِرّ إجمالًا بصحة هذا المسلك، بما يعني موافقته لهذه الكتابات جميعًا في منطلق العمل، وتبقى هذه الملاحظات ثانوية في إطار التحسين والتجويد، بخلاف ما إذا كان الدكتور مخالفًا لها في هذا المنطلق أصلًا، بما يعني أنه ناقد لصلب الاشتغال ومنطلقه، وبالتالي لكلّ ما تأسّس عليه، وهو الأمر الذي لم يظهر بتاتًا في نقد الدكتور/ الطيار، بما يمكننا القول أن نقده يبقى نقدًا مفيدًا بقدرٍ محدودٍ وليس نقدًا ماسًّا لصلب عمل الاشتغال المعاصر بالقواعد.
[12] من العجيب جدًّا تنزيل هذه الملاحظة على نقد الدكتور، ومحلّ الاستغراب ليس في تأخّرها رتبة، بل فيما تحمله هذه الملحوظة من دلالة خطيرة، إن هذا القول لو صحّ للدكتور/ الطيار للزم منه منهجيًّا وعلميًّا انهيار هذا البناء المسمى بقواعد التفسير في الدرس المعاصر بكامله، إِذْ ما معنى أن تجتهد في إعادة صياغة وضبط وتحرير شيء لم يسبق الاستدلال على أصل وجوده، ولم يسبق إقامة البرهان على مشروعية النظر فيه، ومن المستغرب جدًّا أن تأتي انتقادات الدكتور تكميلية تحسينية لهذا المسار، وهو ما زال في شكّ من وجود أدلة لهذه النصوص، بل ظاهر كلامه أنه في يقين أنه لا أدلة على هذه النصوص، فكيف ساغ لأحد أن يعتبرها قواعد ولمّا يقم دليل على ذلك؟! بما يعني أن الأمر كلّه دائر في فلك الاستحسان والذّوق الشخصي بعيدًا عن أن تكون هذه قواعد المفسّرين، فضلًا عن أن تكون قواعد نسقية حاكمة على فنّ التفسير!