مقالة: هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
للباحث/ محمود حمد السيد
عرض وتقويم
نُشرت -مؤخرًا- على موقع مركز تفسير مقالة بعنوان: «هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟» للباحث الفاضل/ محمود حمد السيد[1]، وقد تعرّضَتْ لموضوع مهم؛ حيث حاولَت استكشاف منهج ابن جرير الطبري في إيراد المرويّات الإسرائيلية في تفسيره، وهل الإسرائيليات تُعَدّ مصدرًا في التفسير عند الطبري أم لا؟ وقد خرجَت المقالة ببعض النتائج الجديدة، وأنّ الإسرائيليات لم تكن معتبرة عند الطبري في مزاولة العمل التفسيري بخلاف ما يشيع عن الطبري واستثماره لهذه المرويات في صنيعه التفسيري، ومن خلال تأمّلي لطرح المقالة بدَا لي عليه بعض الملحوظات، فجاءت هذه المقالة التي بين أيدينا، والتي سأحاول فيها بيان بعض الإشكالات التي تحتفّ بمقالة الباحث/ محمود حمد، وتعكّر على قبول نتائجها، وذلك بعد عرض طرح المقالة أولًا.
مقالة: (هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري)؛ عرض ووصف:
تقوم هذه المقالة على محاولة الإجابة عن سؤال يتعلّق بمصدرية الإسرائيليات في التفسير لدى ابن جرير الطبري، وتنطلق هذه المقالة من فكرة مفادها أنّه يظهر في تفسير ابن جرير اعتماده لعدد من المصادر؛ كاللغة وظاهر الآي...إلخ، فهل الإسرائيليات عند ابن جرير بهذه المثابة؟
وقد حاول الباحثُ الجوابَ عن ذلك من خلال محورَيْن ارتآهما:
أولهما: توصيف حضور المرويات الإسرائيلية في تفسير الطبري:
جملة توصيف الباحث لحضور هذه المرويات في تفسير الطبري هو أنّ مَن يتأمل صنيع ابن جرير الطبري «يجد أنه رَوَاها عن السّلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وليس أنه عاد إلى كُتب أهل الكتاب فاستقى منها هذه المرويات وفسَّر بها كتابَ الله تعالى، ومَنْ يُطالع تفسيره من أوّله إلى آخره لن يجد فيه رجوعًا مباشرًا من الطبري إلى كُتب أهل الكتاب، وإنما سيجد رجوعًا إلى مقولات السّلف وحكايةً لها»[2]، ويرى الباحث أن هذا «لا يُعَدّ طاعنًا بذاته في عمل المفسّر»[3].
ثانيهما: هل اعتمد الطبري على الإسرائيليات في بيان معاني القرآن الكريم أو الموازنة بين الأقوال فيه؟
جُملة ما توصّل إليه الباحث أنّ هذه المرويات الإسرائيلية «لم يكن لها عنده أيّ اعتبارية مطلقًا، فلا هي من مصادر التفسير عنده، ولا دليل من أدلّته، ولا دلالة من الدلالات التي يُتَوَصّل بها إلى الفصل بين الأقوال أو التعرُّف على وجه الصواب فيها»[4].
وقد توسّل الباحث إلى هذه النتيجة من خلال تأمّل صنيع ابن جرير الطبري على مستويَيْن: النظري والتطبيقي؛ فعلى مستوى التحرير النظري قد وجد الطبري يقرّر في مقدّمته أهمية البيان النبوي واللغة كمصدرَيْن لتفسير القرآن، وعلى مستوى التطبيق يستحضر ابن جرير عددًا من الأمور؛ كظاهر الآي وإجماع الحُجّة واللغة...إلخ، كأدوات لقبول الأقوال أو نقدها أو الموازنة بينها[5].
وعليه فيرى الباحثُ أنّ الطبري كمفسِّر لم يكن للإسرائيليات عنده أيّ قيمة، فلم يعتمد عليها ولا استأنس بها على ترجيح معنى أو قول[6].
ومن خلال نظرنا في هذا الطرح الذي قدّمَتْه المقالة ألفيناه مشكلًا، وفيما يأتي ما يَرِد هذا الطرح من إشكالات:
مقالة: (هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري)؛ نقد وتقويم:
قبل الولوج لتقويم المقالة يجدر الإنباه إلى: غلط سؤال المصادر التفسيرية الذي انطلقتْ منه المقالة وعدم وجاهته إزاء تفسير الطبري.
إنّ الناظر في المقالة يجد أنّ الباحث منطلِق فيها من فِكْرة حضور موارد تفسيرية عند الطبري، وكأنّ الطبري مفسِّر يُنتج المعنى بالأساس، على أنّ الناظر في صنيع الطبري يجد عَمَلَه قائمًا -بالأساس- على الموازنة بين الأقوال المنقولة عن السَّلف، وبالتالي فهو ليس مؤسِّسًا للمعنى، ولا مُنْشِئًا له أصالةً، وإنما هو ناقِل ومُوازِن -بالأساس- وبالتالي فيكون السؤال عن موارده التفسيرية غلطًا ظاهرًا؛ لأنه لا موارد له على الحقيقة في إنتاج المعنى، لأنّه لا ينتج المعنى بالأساس بل هو موازن بين المنقول، وبالتالي فعلى الحقيقة؛ فإنّ ابن جرير الطبري لا يُسأل عن موارد تفسيرية على الإطلاق، وإنما يكون السؤال عن القرائن التي يُجري من خلالها الموازنة والترجيح بين هذه الأقوال وهو ما يجعل سؤال الباحث المعنوَن بـ(هل اعتمد الطبري على الإسرائيليات في بيان معاني القرآن...) سؤالًا مشكِلًا غير متّجه على مَن يقوم عمله بالأساس على الموازنة والترجيح بين المنقول من الأقوال،
إنّ سؤال الباحث يتّجه إزاء مفسِّر كابن عباس مثلًا أو ابن مسعود أو مجاهد...إلخ، ممن ينتجون المعنى أصالةً، وبالتالي يظهر في إنتاجهم موارد من خلالها يُنتجون ويقدِّمون ويؤخِّرون، وهو ما يمكن في ضوئه السؤال عن مصادرهم، وهو الأمر الذي لا يتجه -إطلاقًا- عند ابن جرير الطبري[7].
إنّ ابن جرير الطبري لا يقوم عمله -بالأساس- على إنتاج المعنى أصالةً، وإنما هو موازِن بين الأقوال ومرجِّح بينها، وبالتالي كان من المفترض أن يتّجه السؤال عن أدلّة المعاني أو ما يمكن أن نسميها بـ(قرائن الترجيح بين الأقوال)، وهو أمر خَلَط فيه الباحثُ خلطًا جعل المناقشة غير متّجهة أساسًا كما مرّ معنا، والفرق كبير جدًّا بين أن يكون البحث متعلقًا بموارد التفسير، وهو ما يقتضي أن يكون المتعاطي معها قاصدًا لإنتاج المعنى بالأساس، وهذا المورد هو الذي يجري من خلاله -متراكبًا مع الموارد الأخرى- إنتاج المعنى المراد في الصنعة التفسيرية، وهذه الموارد هي التي تجعل المفسِّر يقدِّم ويؤخر ويبني من خلالها المعنى ويُنتجه دون إنتاج سابق أو نقل لقول مُفَسِّر آخر؛ ويندرج تحت هذا: القراءات القرآنية، والنظائر القرآنية، والأحاديث النبوية، ولغة العرب، والمرويات التاريخية...إلخ، وهذه الموارد ليست بالضرورة أن تكون ما سميناه بـ(قرائن الترجيح)، فالثانية أوسع من الأولى[8]، وعليه فعدم ظهور الإسرائيليات [وهي جزء من مورد المرويات التاريخية] كقرينة ترجيح لدى ابن جرير لا يعني كونها ليست بمورد تفسيري عنده، وإن كنّا نرى من الغلط التساؤل عن موارد التفسير عند ابن جرير أصالةً -كما مرّ معنا-.
وعليه فإنّ النقاش سيتّجه في ضوء اعتبار الإسرائيليات دليلًا ترجيحيًّا أم لا؟ فهذا ما يتّسق مع واقع تفسير الطبري الذي يقوم على الموازنة بين الأقوال لا إنتاج الأقوال ابتداءً.
لقد اعتمد الباحثُ في مقالته -كما مَرّ في تسويغ نتائجه- على جانب نظري وآخر تطبيقي، وفيما يأتي مناقشة لكلّ جانب منهما وبيان ما يَرِد عليه من نقد.
- أولًا: الجانب النظري الذي اعتمده الباحث ومناقشته:
إنّ الباحث قد تنبّه إلى أمر حاصل في تفسير الطبري وهو أنّ ابن جرير الطبري لم يؤصِّل في مفتتح تفسيره للإسرائيليات ومحلّها من الاعتبار عنده، ولا هو يستدعيها للمفاصلة بين الأقوال، ولا في بيان المعنى، وهذا الواقع أوَّله الباحثُ على أنه يُعَدّ دليلًا ظاهرًا على عدم اعتبارية الإسرائيليات كمصدر تفسيري عند ابن جرير الطبري[9].
وأمّا الواقع الذي رصده الباحث؛ فهو صحيح إلى حَدٍّ بعيد -ظاهرًا-، وأمّا تأويله وتسييقه للأمر فهو ما نراه محلّ نظر وموضع إشكال لما يأتي:
- أنه لو كان عدم بروز الإسرائيليات كمستند ترجيحي يعني عدم اعتبار الطبري لها كدليل لتقرير المعاني في التفسير، فإنه يلزم من هذا أن يُقال عن أمور كثيرة كما يُقال في الإسرائيليات؛ فالباحث مُقِرّ أنّ اللغة مثلًا مصدر من مصادر التفسير عند ابن جرير الطبري[10] -على حدّ تعبيره- ومع ذلك فإنّنا -بنفس المسلك- لم نجد ابن جرير الطبري يقول في تفسيره -على سبيل المثال-: (وهو أَوْلى الأقوال بالصواب لدلالة الشاهد الشعري الفلاني عليه... أو لقول الشاعر كذا...)، وهو الأمر الذي يجعل عدم حضور الإسرائيليات أو الشاهد الشِّعري ليس دليلًا أبدًا على عدم اعتباريتهما عند ابن جرير الطبري.
إنّ حضور الإسرائيليات -طبيعة- في الاستدلال التفسيري أو في التأسيس البياني أصالةً -كما يدلّ عليه الاستقراء المطوّل لهذا الحضور عامّة- هو بمثابة الاستدلال بالشاهد الشِّعري، فما يُقال في هذا يُقال في هذا، يقول الباحث خليل اليماني: إنّ توظيف الإسرائيليات يشبه تمامًا توظيف الشعر الجاهلي في تقرير المعاني[11]، ونحو هذا يقول به الأستاذ شاكر -رحمه الله-[12].
ثم إنّ مسلك الباحث في اعتبار عدم الحضور الظاهري كدليل ترجيحي يدلّ على عدم اعتبارية في الاستدلال مطلقًا؛ يشكِل عليه السؤال عن عدم حضور الاستدلال بالنظائر القرآنية ظاهرًا كما يطلبه الباحث، وكذلك عدم حضور القراءات القرآنية كدليل ترجيحي ظاهر لدى الطبري، فهل غياب هذه الأمور في الاستدلال الصريح على المعاني يدلّ على عدم اعتباريتها عند ابن جرير[13]؟!
- غلط النتيجة التي خرج بها الباحثُ في ضوء منهج الطبري القائل بحجيّة تفسير السلف[14].
إنّ النتيجة التي يرمي الباحثُ إلى الخروج بها هى القول بأنّ الإسرائيليات لا تعني شيئًا بالنسبة لابن جرير كمورد تفسيري، وهو أمر مشكِل جدًّا في ضوء إقراره بحجيّة تفسير السلف لدى ابن جرير، فيبقى الإشكال كيف يكون مذهب ابن جرير هو التقيّد بنتاج السلف في الفهم وهو غير معتبر لمورد أصيل من موارد منهج السلف في التفسير؟!
إنّ التقيّد بالسلف -إن جاز القول به- إنما يكون في المنهج والموارد التي اعتبروها قبل التقيّد بنتاج هذه المناهج، فكيف يسوغ القول بأنّ ابن جرير لا يُعْمِل الإسرائيليات في الفهم والتفسير في ظلّ كونها تمثّل موردًا رئيسًا من موارد تفسير السلف؟! على اعتبار أنّ صنيع السلف -كما هو ظاهر- صنيع استدلالي تأسيسي لا صنيع استئناسي[15].
إنّ القول بأنّ ابن جرير لا يُعْمِل الإسرائيليات ولا يعتبرها يضعُ ابن جرير في مأزق التناقض الصارخ بين القول بحجيّة تفسير السلف وبين إهمال مَوْرد رئيس من موارد تفسير السلف -كما أثبتته بعض الدراسات-، ثم أيّ حجيّة تبقى للسلفِ وقولِهم في ظلّ القول بأنهم قد أَعْملوا موردًا مشكلًا في التفسير، أو موردًا لا حاجة له أصلًا؟! ويتفاقم الأمر ويعظم إشكاله حينما تطالع الحضور الواسع لهذا المورد في تفسير السلف[16]، فيكون هذا القول رميًا للسلف بالجهالة والعماية إِذْ أوغلوا في استخدام مَوْرِد لا قيمة له في تفسير القرآن، وهذه النتيجة التي خرج بها الباحثُ ولوازمها تُصادِم تمام المصادمة ما يقرّره الباحث من حُجية تفسير السلف لدى ابن جرير الطبري.
- ثانيًا: الجانب التطبيقي الذي اعتمده الباحث ومناقشته:
إنّ مَنْ يُطالع صنيع ابن جرير الطبري لَيجد لديه مسلكًا جليًّا آخر في اعتبار المرويات الإسرائيلية والاستناد إليها، والباحث الفاضل يُقِرّ -تمامًا- أنّ ابن جرير يعتمد في ترجيح الأقوال والموازنة بينها على محاولة استكناه مستندات هذه الأقوال، ومن ثم يرجِّح بما ظهر له قوة دلالته في هذا الموضع بناء على اعتباراته في هذه المقامات، ومن ثم فإنّ اختيار معنى مستدلّ بالإسرائيليات يُعَدّ اعتبارًا للإسرائيليات، وإلّا فبناء المعنى على قول مستدل بالإسرائيليات -مع اعتقاد عدم اعتباريتها[17] كمصدر للتفسير- أمر متعذّر تمامًا، ومن ذلك صنيعه عند قول الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}[آل عمران: 93]،قال أبو جعفر: «وأَوْلَى هذه الأقوال بالصواب، قول ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أن ذلك، العروق ولحوم الإبل؛ لأنّ اليهود مُجْمِعَة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلها».
ولا يقال إنه ناقل لقول السّلف ومختار لما أسّسوه على الإسرائيليات من غير أن يعتمد هو الإسرائيليات؛ إِذ اختيار القول وترجيحه هو إقرار بالأساس لما بُنِي عليه من مسلك، وإلّا فكيف يسوغ اختيار قول مبنيّ على شيء لا اعتبار له، ودخول الإسرائيليات في بناء هذا القول مما لا نزاع فيه.
وكذلك عند قول الله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}[البقرة: 51]، قال أبو جعفر: «أي: بتمامها، فالأربعون ليلة كلّها داخلة في الميعاد. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاءَ أربعين ليلة، أي: رأس الأربعين، ومثل ذلك بقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف: 82]، وبقولهم: (اليوم أربعون منذ خرج فلان)، (واليوم يومان). أي: اليوم تمام يومين، وتمام أربعين.
قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل»[18].
وظاهر جدًّا أنّ قول أهل التأويل هنا مبنيّ ضمن ما بُني عليه على الإسرائيليات، فاعتماد قولهم هو اعتماد للمصدر الذي أخذوا منه، ولا يقول أحدٌ أنه يلزمه القول بأن هذا صواب لموافقته أهل الكتاب.
ومن المواضع التي صرّح فيها ابن جرير بالاستدلال بالإسرائيليات فيما يستدلّ له من أقوال السلف عند قول الله تعالى: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}[الكهف: 94]، علّق ابن جرير بقوله: «فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ على أنّ الذين قالوا لذي القرنين: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}، إنما أعلموه خوفَهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوْا منهم فسادًا كان منهم فيهم أو في غيرهم. والأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفسادٌ.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينّا، فالصحيح من تأويل قوله: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}؛ إنّ يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض»[19].
وهذا الموضع شديد الظهور في المسلك الاستدلالي الذي يسلكه ابن جرير في الإسرائيليات.
وقد يختار ابن جرير أحد أقوال السّلف المبنية مباشرة على توظيف المرويات الإسرائيلية، ومثال ذلك: ما اختاره من قول ابن عباس، في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[يوسف: 86]، يقول: «أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له»[20].
وكذلك يُورد ابن جرير المرويات الإسرائيلية في مقام التعليل للمعنى، كما عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}[يوسف: 24]، وكذلك عند قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}[البقرة: 102][21]، وكذلك عند قوله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}[القصص: 7][22]، والمواضع كثيرة جدًّا.
والعجب أنّ المرويات الإسرائيلية قد حضرت في تفسير الطبري أكثر من 322 مرة بحسب بعض الدراسات الاستقرائية، بما لا يمكن معه أبدًا أن يكون هذا الاستحضار بلا فائدة أو بلا قيمة عند ابن جرير، والمواضع كثيرة جدًّا تستدعى مقامًا آخرًا.
وأخيرًا، فإنّ مَنْ يلاحظ منهجية الباحث في التوصّل لنتيجته يجده يسلك مسلكًا عجيبًا في ذلك فيقول: «لكنّنا إذا جئنا إلى المرويات الإسرائيلية لم نظفر بشيء من هذا، فهو لا يقول في تفسيره: هذا القول أقرب؛ لأنه المشهور عن أهل الكتاب، ولا نراه يقول مثلًا: إنّ فلانًا من السّلف أثبتُ في النقل عن أهل الكتاب فيؤخذ بقوله فيما فيه اختلاف، ولا وجَدْناه يقول في بداية تفسيره لآية من آي القرآن: ذكَر أهلُ الكتاب كذا أو كذا، أو: اختلف أهل الكتاب في كذا، أو أيّ من العبارات التي تُفيد اعتباره لها أو احتكامه إليها»[23].
وبالمثل يعتبر اللغة أو ظاهر الآي أو إجماع الحُجّة مصدرًا عند ابن جرير؛ حيث يجد ابن جرير يعلّل بها كمستند لما يرجحه من الأقوال[24]، ويعتبر أنّ ما لم يَرِد كمستند وتعليل لدى ابن جرير لا يعتبر كمصدر عند ابن جرير، وهذا أمر مشكل، بل يصادم عملية التفسير تمامًا؛ فبحثه عن مواضع يصرّح فيها ابن جرير الطبري بأنّ مستنده في ذلك الإسرائيليات، إضافة إلى أنه أمر غير لازم لاعتبار مصدرية الإسرائيليات عند ابن جرير، فإنه أيضًا يُعَدّ غفلة عن حقيقة الصَّنْعة التفسيرية والتي هي صنعة تركيبية بالأساس، وتتداخل في صناعة المعنى مجموعة أدوات تنصهر معًا في إخراج المعنى، وتَصَوُّر الباحثِ أنّ التعليل الذي قد يذكره: «ابن جرير كمستند للأقوال أنه هو الأداة التي أنتجت المعنى هو تصوُّر مشكِل جدًّا؛ لأنه لا يمكن لأداة واحدة أن تنفرد بإنتاج المعنى معزولة عن بقية الأدوات التي تشترك معها في إنتاج المعنى، وهذا المسلك المشكِل وحده كفيل بأن يُشْكِل على هذه النتيجة التي خرجتْ بها المقالة، وبالجملة فإنّ اعتماد الباحث في تأسيسه على طلب موضع يصرّح فيه ابن جرير بانفراد المروية بتقرير المعنى يُعَدّ أمرًا مشكلًا وغلطًا جليًّا في تصوّر الصّنعة التفسيرية بالأساس.
خاتمة:
قامت هذه المقالة لمساجلة طرح الباحث/ محمود حمد في مقالته الموسومة بـ(هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟) بتقرير أنّ الإسرائيليات لا تمثّل دليلًا من أدلة التفسير عند الطبري، وقد اعتمد في ذلك على مسلكين: أحدهما نظري يتمثّل في عدم تأصيل الطبري لهذا الدليل في مقدّمته، ولا ذكره بشيء، والآخر تطبيقي يتعلّق بعدم استعمال الطبري هذا الدليل صراحة في الترجيح الظاهر بين الأقوال، وقد حاولْنا في مقالتنا النقدية هذه تناول إشكال الجانبين الذين قام عليهما طرح الباحث/ محمود حمد، وخلصنا من خلال المناقشة أن طرح الباحث/ محمود حمد يحتوي على إشكالات منهجيّة على أكثر من مستوى، سواء في تأمّل منطلقات ابن جرير أو مستوى تطبيقاته أو المنهجية التي تتعلّق بصنعة التفسير ذاته، بما يجعلنا لا نَثِقُ في هذا الطّرح ونعتبر أن نتيجته مشكلة لا يمكننا قبولها بحال.
[1] نُشرت المقالة في قسم المقالات بتاريخ 21 شوال 1442هـ، الموافق 2 يونيو 2021م، تحت الرابط الآتي:tafsir.net/article/5353
[2] هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟ محمود حمد.
[3] هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟ محمود حمد.
[4] هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟ محمود حمد.
[5] انظر مقالة: هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟ محمود حمد.
[6] هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟ محمود حمد.
[7] قد أفدتُ هذا الملحظ من الباحث الفاضل/ خليل محمود اليماني، فقد أشار إليه على صفحته الشخصية على «فيس بوك».
[8] وقد أشار إلى هذا أيضًا الباحث الفاضل/ خليل اليماني فيما أشار إليه في هذا الشأن على صفحته الشخصية على «الفيس بوك».
[9] انظر مقالة: هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
[10]ظاهر أنّ تقرير الباحث للّغة كمصدر عند الطبري -بحسب تعبيره- أمر وكأنه ظاهر مطّرد عند الطبري، إلّا إنه عند الولوج تطبيقيًّا عند الطبري نجد أنّ ثمة مشكلات ترد على هذه التقريرات النظرية التي يقرّرها الباحث، فنجد الطبري في مواضع كثيرة يردّ أقوالًا صحيحة من جهة اللغة، ثم هو لا يعتبرها بل يردّها، ومن ذلك قوله في تفسير: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}[الكهف: 81]، فقال: وقد يتوجّه الكلام إلى أن يكون معناه: وأقرب أن يرحماه، غير أنه لا قائل من أهل تأويلٍ تأوّله كذلك، فإذْ لم يكن فيه قائل، فالصواب فيه ما قلنا لِمَا بينّا. انظر: تفسير الطبري (18/ 78).
وهو ما يَشِي بأن هذه التقريرات النظرية التي يطلقها الباحث لا تزال بحاجة إلى إعادة تأويل في ظلّ معقِد رئيس ينضبط به الكلام حول منهجية الطبري، وهو ما لم يحاوله الباحث في نظري، وهنا أشير لمامًا إلى ذلك ليتبين أنّ مقالة الباحث تحاول مقاربة منهجية عند الطبري وهي لمـّا يستقم لها الإمساك بالمعقد المنهجي الرئيس لدى ابن جرير الطبري.
[11] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية، خليل محمود اليماني، مركز تفسير، 2021، ص200. ويراجع أطروحات الباحث الكثيرة عن هذا الموضوع والمنشورة على موقع تفسير في ملف المرويات الإسرائيلية في التفسير.
[12] تفسير الطبري، ت: شاكر (1/ 435).
[13] في رأينا أن عدم ظهور الإسرائيليات على النحو الذي يقرّره الباحث يرجع إلى أمر مهم عند ابن جرير الطبري -وهو أمر لا يجري استحضاره كثيرًا في النظر لتفسير الطبري- وهو أنّ ابن جرير الطبري منطلق أصالةً من القول بوجود بيان نبوي شامل كامل للنصّ القرآني، وقد توسّعت دراسة (حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، دراسة تحليلية نقدية) للباحث/ خليل اليماني؛ في تتبع دلائل ذلك بصورة كبيرة، وهو الأمر الذي ينضبط به النظر لتفسير الطبري، وتتجه معه كثير من الاستشكالات التي يجري استحضارها في تفسير الطبري، ويبقى الأمر أنه ما دام الأمر بيانًا نبويًّا منقولًا متمثلًا في تفسير السلف كصدى أو وعاء لهذا البيان فإنّه من الطبيعي عدم حضور فكرة الاستدلال بالأساس؛ لأننا بالأساس أمام بيان منقول لا استدلال محصول، وبرأيي أنّ تتبع هذا المعقد والتحليل في ضوئه سوف يضبط النظر ويكثّفه ويجعلنا أكثر قدرة على تحليل مدونة الطبري ولحظ مشكلاتها بصورة أدقّ وأعمق.
[14] وهذا النقاش متّجه على القول بحجية تفسير السلف لأيّ سبب مما يطرحه الباحثون؛ كعلمهم بالمقامات السياقية أو الحالية للنصّ وخلافه، لكن القدر اللازم هو القول بحجية تفسير السلف لدى ابن جرير أيًّا كان منطلقه.
[15] يراجع: منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل، مقالة للباحث/ خليل محمود اليماني، وهي منشورة على موقع تفسير تحت هذا الرابط: tafsir.net/article/5201
[16] يراجع: المفسرون من الصحابة، وأيضًا: منطلقات دراسة توظيف الإسرائيليات في تفسير السلف؛ تحرير وتأصيل، خليل محمود اليماني، مقال منشور على موقع تفسير تحت هذا الرابط: tafsir.net/article/5201
ونحوها من الدراسات التي تثبت التأسيس الواسع لمفسِّري السلف على مورد كالإسرائيليات في عملهم البياني التركيبي.
[17] تفسير الطبري (6/ 15).
[18] تفسير الطبري (2/ 61).
[19] تفسير الطبري (18/ 111).
[20] تفسير الطبري (16/ 227).
[21] تفسير الطبري (2/ 355).
[22] تفسير الطبري (18/ 158).
[23] مقالة: هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟
[24] مقالة: هل الإسرائيليات مصدر من مصادر التفسير عند الطبري؟