منهج دراسة المصطلح القرآني؛ عرض وتقويم
كتاب «مفهوم الآية في القرآن الكريم والحديث الشريف» للدكتور أمحمّد الينبعي أُنموذجًا

برزت في الآونة الأخيرة محاولات لدراسة المصطلح القرآني باعتبار ذلك مما يفيد بصورة كبيرة في فهم النّص القرآني؛ وتهدف هذه المقالة إلى التّعريف بمنهج دراسة المصطلح القرآني وتقويم هذا المنهج، وذلك من خلال أحد المؤلفات المعاصرة التي تعرضت لهذا الجانب.

مدخل:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

  وبعدُ، فقد برزت في الآونة الأخيرة محاولات لدراسة المصطلح القرآني باعتبار ذلك مما يفيد بصورة كبيرة في فهم النّص القرآني؛ إلّا أنّ هذه الدراسة بصفتها لونًا من ألوان التفسير الموضوعي ما زالت تعاني نقصًا في التأصيل، لا سيما وأنّالتفسير الموضوعي ذاته نهجٌ حديث الولادة ما زال يحاول أنْ يفرض نفسه في ساحة التفسير.

ومن هنا تأتي أهمية هذه المقالة التي تهدف إلى التعريف بمنهج دراسة المصطلح القرآني، وتقويم تطبيقه على المفاهيم القرآنية في ضوء أصول التفسير الشائعة لدى العلماء؛ وذلك من أجل الإسهام في التأصيل للتفسير الموضوعي، والاحتراز من الزلل في فهم موضوعات القرآن الكريم، وسيأتي طرحنا مقيدًا بكتاب «مفهوم الآية في القرآن الكريم والحديث الشريف» للدكتور أمحمّد الينبعي.

وفي هذا السياق، تمّ تقسيم هذه المقالة إلى قسمين يسبقهُما تمهيد يُعرِّف بالمنهج، وبالمصطلح القرآني، وسبب تقييد اشتغالنا بكتاب الينبعي. وأمّا القسمان فهُما على الشكل الآتي: يتناول القسم الأول عرض منهج المصطلح القرآني، ويتناول القسم الثاني تقويم منهج الدراسة المصطلحية للقرآن الكريم.

التمهيد:

تعريف المنهج:

- المنهج لغة: «النون والهاء والجيم أصلان متباينان: الأول النَّهْج، الطّريق. ونَهَج لي الأمر: أوضَحَه. وهو مُستقيم المِنْهاج. والمَنْهج: الطَّريق أيضًا، والجمع المناهج. والآخر الانقطاع»[1]؛ أي إنّ المعنى اللغوي للمنهج الذي له مناسبة مع المعنى الاصطلاحي هو: الطريق الواضح.

- والمنهج اصطلاحًا هو: «مجموعة من القواعد المنضبطة، تُعتمد باستعمال مجموعة من الوسائل والأساليب المناسبة عبر مراحل، لبلوغ أهداف محدّدة»[2].

تعريف المصطلح القرآني:

- لغة:«الصاد واللام والحاء أصلٌ واحدٌ يدلّ على خِلاف الفَساد»[3]، و«اصطلح القومُ: زال ما بينهم من خلاف. و- على الأمر: تعارفوا عليه واتفقوا»[4].

- واصطلاحًا:فإنّالمصطلح يعبر عامّة عن «اللفظ الدالّ على مفهوم خاصّ في مجال علمي معيّن»[5].

- والمصطلح القرآني: يدلّ على «ألفاظ الوحي التي تُعبِّر عن مفاهيم خاصّة ضمن تصورات الوحي عامّة»[6].

ومنهج دراسة المصطلح القرآني هو منهج حادث يحاول تطبيق منهج الدراسة المصطلحية على المفاهيم القرآنية؛ ممّا يُبَرِّر فكرة محاكمة وتقويم هذا المنهج في ضوء أصول التفسير الشائعة لدى العلماء.

محدِّدات معالجة الموضوع:

تقتصر هذه المعالجة على كتاب الينبعي: «مفهوم الآية في القرآن الكريم والحديث الشريف -دراسة مصطلحية وتفسير موضوعي-» الذي يُمثِّل أُنموذجًا مُهِمًّا في بيان منهج دراسة المصطلح القرآني والصعوبات التي تعترضه.

والدكتور أمحمّد الينبعي -رحمه الله- كان أستاذًا بكلية الآداب بفاس المغرب، وُلِد يوم 1/ 1/ 1968م بالريصاني المغرب، وأصل الكتاب الذي بين أيدينا رسالة علمية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2003م.

قسّم المؤلِّف كتابه إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول عبارة عن مدخل نظري حول منهج الدراسة المصطلحية، وعرَّفَ الباب الثاني بالآية ومُتَعلِّقاتها في القرآن الكريم والحديث الشّريف، وتناول الباب الثالث المركّبات الاصطلاحية والقضايا المفهومية ذات الصلة بالآية في القرآن الكريم[7].

إنّ تطبيق د. الينبعي لمنهج دراسة المصطلح القرآني على نموذج «مفهوم الآية» يُعطي أهمية لهذا الكتاب في عَرْض وبيان هذا المنهج؛ ولذا فإننا آثرنا التقيد به في فهمنا لهذا المنهج وتقويمه.

القسم الأول: عرض منهج دراسة المصطلح القرآني:

يَعْرِض هذا القسم لمنهج دراسة المصطلح القرآني من خلال كتاب الينبعي، ويُبيِّن درجة استمداده من منهج الدراسة المصطلحية أو ما يُعرَف بالنظريّة الخاصّة لعلم المصطلح.

أوّلًا: تطبيق عناصر منهج الدراسة المصطلحية على المفاهيم القرآنية -مفهوم الآية أنموذجًا-:

من عناصر الدراسة المصطلحية: التعريف وما يتعلّق به، الخصائص والصفات، العلاقات، الضمائم والمشتقات، القضايا أو المستفادات.

التعريف:

إنّ وضع تعريف دقيق وسليم للمصطلح القرآني يستلزم «تتبُّع دلالة اللفظ في المعاجم اللغوية، قصد تذوقه ومعرفة مأخذه ومداره. ثم في المعاجم الاصطلاحية قصد معرفة التطورات الدلاليّة التي طرأت عليه عبر مسيرته التاريخية. ثم بعد ذلك تتبُّعه في كلّ النصوص القرآنية والحديثية التي تضمّنته»[8].
فمثلًا، باستيعاب الموارد اللغوية والقرآنية والحديثية، ركَّبَ د. الينبعي تعريفًا للآية على أنّها
«ما تستيقنه نفوس أهل النظر من البيِّنات المشهودة أو المسموعة التي جعلها الله دليلًا على وحدانيته وصدق أنبيائه وحقيقة رسالته»[9].

الخصائص والصفات:

تُعتبر الخصائص من «المؤشرات الأكبر التصاقًا بطبيعة المفهوم، إذْ بها يُستدلّ على موقع المصطلح داخل الجهاز المفهومي الذي ينتمي إليه، وعلى وظيفته في هذا النّسق، وبها يُقاس مدى القوة أو الضّعف الاصطلاحيين فيه»[10]، ويتضمّن رصد صفات المصطلح: الصفات المصنفة كالوظيفة التي يؤدّيها والموقع الذي يحتله، والصفات المبينة التي تحدد القوة أو الضيق في اصطلاحية المصطلح، والصفات الحاكمة التي تفيد حكمًا على المصطلح كالنعوت التي يُنعت بها.

ومن خصائص وَصِفات "الآية":

- موقع الآية داخل أسرتها المفهومية: فهي «تشكل مع مصطلحات الكتاب والسورة والكلمة شجرة مفهومية وارفة الظلال»[11].

- وظائف الآية في النسق المفهومي للقرآن[12]؛ ومنها: بيان الحقّ تفصيلًا وإجمالًا، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت: 53].

- القوة الاصطلاحية لمفهوم الآية الذي «يتبوّأ مكانته ضمن المصطلحات المؤسسة لأصول العقيدة وأحكام الشريعة، فكثُر وروده في القرآن تبعًا لذلك، وتشعّبت علاقاته، وتعدّدت معانيه، وامتدّت قضاياه في صفحات القرآن كله»[13].

- نعوت الآية، حيث وُصِفت في القرآن بعدة صفات منها[14]: الإحكام والتشابُه، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران: 7].

العلاقات:

إنّ الكشف عن طبيعة علاقات المصطلح القرآني «بالأسرة المفهومية التي ينتمي إليها، قد تزيد دلالته ظهورًا وبيانًا؛ إذ الألفاظ بعلاقاتها تظهر وتبين»[15].

ومن علاقات "الآية":

- علاقة الترادف:وممّا اعتبر مرادفًا للآية مصطلح (البيِّنة)[16]،كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}[طه: 133].

- علاقة التداخُل: ومنها تداخل (الآية) مع (الحق)[17]، كقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}[الأنعام: 4، 5].

ضمائم المصطلح:

المفهوم القرآني «يمتدّ اصطلاحيًّا عبر ضمائم الإضافة والوصف ليشكل من خلالها مفاهيم جديدة»[18]، والضميمة في منهج الدراسة المصطلحية، هي «مركّب مصطلحي مُكوَّن من لفظ المصطلح المدروس، مضمومًا إلى غيره، أو مضمومًا إليه غيره، على سبيل الإضافة أو الوصف»[19].

ومن ضمائم "الآية":

- ضمائم الإضافة، ومنها[20]: «آيات الكتاب» كقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}[الحجر: 1].

- ضمائم الوصف، ومنها[21]: {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}[آل عمران: 7]، و{أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران: 7]؛ حيث إنّ الآيات المحكمات «واضحات الدّلالة، بيِّنات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أمّ الكتاب وأصله، الذي يجب أن يردّ إليه ما سواه ليُفهم على ضوئه»[22]؛ وعكسُها الآيات المتشابهات.

القضايا:

المصطلح القرآني يمتدّ أيضًا مفهوميًّا عبر «القضايا النظرية والموضوعات العلمية التي ترتبط بمفهومه ضربًا من الارتباط»[23].

ومن قضايا (الآية):

قضية الآية والنسخ: خلص د. الينبُعي من خلال السياق العام لآيات القرآن التي تناولت موضوع النسخ، إلى أنّنا «لا نكاد نجد في واحد منها دلالة قطعية على نسخ شيء من آيات الكتاب الكريم»[24].

ثانيًا: منهج الدراسة المصطلحية للقرآن الكريم وتأثُّره بخصوصية المفاهيم القرآنية:

بعد استعراضه لمجموعة من التعاريف، ركَّبَ د. الينبعي تعريفًا للدراسة المصطلحية على أنّها «منهجية جامعة تتبيَّن مفاهيم المصطلحات من نصوصها، وتُبيِّن المقومات الدلاليّة الذّاتية للمصطلح وامتداداته داخل النسيج المفهومي للنصّ عبر ضمائمه واشتقاقاته والقضايا الموصولة به، بغية تمثُّل الرؤية الكامنة فيه والفلسفة التي تؤويه»[25].

ومنهج دراسة المصطلح القرآني يتأثّر بالمصطلح المدروس من حيث «طبيعة التنزيل ودقّة النتائج، وأنّ التفاوت حاصلٌ بين مصطلح وآخر من حيث القابلية لعناصر الدرس المصطلحي»[26]؛ لأنّ القرآن الكريم «أعاد صياغة لغة العرب، فتجلّلت بجلاله كما أعاد صياغة قلوبهم وأعمالهم، فتأثّرت بروحه، وتفاعلت مع هديه. ومن ثَمَّ فإنّ فهم مطالب فكرهم وأحوال حياتهم كما صاغها القرآن الكريم، مشروط بفهم الألفاظ التي بواسطتها تلقّى المسلمون تلك المطالب»[27].

وإذ تبيَّن أنّ «المصطلح القرآني يختلف عن المصطلح البشري بحكم ربّانيته وشموليته وعالميته، فإنّ الخصوصيات النابعة من طبيعة المصطلحات القرآنية نفسها أكثر من أنْ تُحصى أو تُحصر، وتبعًا لذلك التنوُّع والاختلاف في الخصوصيات يختلف ويتنوَّع آليات المنهج على المصطلح المدروس، وفق قاعدة: لكل مقام مقال (...)، دونما تقيُّد مطلق بنمطية المنهج»[28].

وبالنّظر إلى مؤشر حجم الورود، تختلف طريقة تناول المصطلح ذي الحجم الكبير عن تناول المصطلح ذي الحجم الصغير... ففي الأول تركيز وتدقيق واختصار، وفي الثاني تفصيل وتحليل وإسهاب، شريطة أن لا يكون الإيجاز في الأوّل مُخِلًّا، ولا الإطناب في الثّاني مُمِلًّا.

وبخصوص مؤشر دلالة الورود، تنقسم المصطلحات في القرآن الكريم إلى مصطلحات كُبرى لها فروع وجذور تشكل مع غيرها شجرة مفهومية وارفة الظلال متعددة الأغصان، مثل: الإيمان، الكفر... وإلى مصطلحات صغرى تُعتبر فروعًا لغيرها من جهة الدلالة، والمقصود أنّ مسار منهج الدراسة المصطلحية للمصطلح هنا محكوم بما توفره مادّة نصوصه، وطبيعته داخل النّص بمعنييه الخاصّ والعامّ.

وتبعًا لمؤشر شكل الورود تنقسم المصطلحات القرآنية إلى قسمين: مصطلحات تنمو وتمتدّ مفهوميًّا من الخارج عبر أشكال المشتقّات وصورها المعروفة في باب الصّرف، مثل: العلم، الصبر، الجهل... ومصطلحات تنمو وتتّسع من الدّاخل فقط عبر أشكال الضمائم المعروفة: الإضافية والوصفية والإسنادية، مثل: الآية، الجنّة...[29].

يتبيّن ممّا سبق أنّ منهج دراسة المصطلح القرآني راجع بالأساس لمنهج الدراسة المصطلحية، ولكنه ليس صورة مطابقة منه؛ لأنّ «الدراسة المصطلحية، وإنْ كانت تدخل فيما يُسمّى بـ(النظرية الخاصّة) لعلم المصطلح أو المصطلحية =فإنّها تستفيد من ذلك كله، ثم تتميّز بمفهومها الخاصّ الذي يفصلها عن غيرها من المجالات العلمية»[30]، وذلك استجابةً لخصوصية المصطلح القرآني.

القسم الثاني: تقويم منهج الدراسة المصطلحية للقرآن الكريم:

يتناول هذا القسم تقويم دراسة المصطلح القرآني في ضوء منهج الدراسة المصطلحية نفسه من جهة، وفي ضوء مُقرّرات وأصول التفسير الشائعة عند العلماء من جهة أخرى.

أوّلًا: تقويم تطبيق منهج الدراسة المصطلحية على المفاهيم القرآنية:

في ما يخصّ الدراسة المصطلحية للمفاهيم القرآنية، فقد تواجهنا إشكالات وتساؤلات في بعض عناصر الدراسة:

ففي التعريف:لا نجد في النصّ القرآني تعريفًا لأيّ مفهوم من المفاهيم، ممّا يستدعي الاستعانة بفهوم أخرى شارحة ومُفسِّرة للقرآن[31].

وقد تجاوز د. الينبعي هذا الإشكال بمحاولة توفيقه بين المعاني اللغوية للآية، ومعانيها في الاصطلاح العامّ، وفي السياق الخاصّ للقرآن الكريم[32].

أمّا الصفات:فإنّ أنواعها الثلاثة لا تَطَّرِد في المفاهيم القرآنية[33]:

 - إذ يتعذّر إيجاد صفات مُبَيِّنة في نصوص القرآن تشير إلى قوة الاصطلاحية أو ضعفها، مع العلم أنّ مصطلحات القرآن لا جدال في اصطلاحيتها.

- أمّا الصفات المـُصَنِّفة: فإنّ ضوابطها في المفاهيم القرآنية مختلفة، فتحديد موقع المصطلح داخل النّسق المفهومي العامّ ووظيفته في الجهاز المصطلحي قد يُستفاد من حجم ورود المصطلح أو من علاقاته بمفاهيم أخرى أساسية في النّسق المفهومي القرآني.

فمثلًا، وَرَدَ مصطلح الآية ورودًا واسعًا سواء من حيث الكثرة في أكثر من 51% من مجموع سور القرآن الكريم، أو من حيث التعدّد والثراء في المعاني التي استعمل فيها المصطلح جمعًا وإفرادًا، تعريفًا وتنكيرًا، أو من حيث التنوع في الأساليب البيانية والتراكيب الاستدلالية[34].

- أمّا الصفات الحاكِمة على المفهوم أو النُّعوت: فهي تَتّخِذ في النصّ القرآني أشكالًا أخرى تنسجم مع التصوّر القرآني العامّ؛ كالحِلّ والحرمة، والكراهة والنّدب، والثّواب والأجر، والمغفرة والعقاب، والجزاء والعذاب، والخير والشرّ. وقد أضاف د. الينبعي الإيمان والكفر، والإحكام والتشابُه؛ لكن أدرجها ضمن الصفات والخصائص المصنفة لمصطلح (الآية)[35].

أمّا العلاقات:فبالنسبة للمصطلح القرآني فإنّ علاقات الائتلاف والاختلاف تؤول إلى ما يُصطلح عليه بالوجوه والنظائر أو الأسماء المشتركة (كمختلف المعاني التي يدل عليها مصطلح الآية)، والأسماء المتواطئة (كالآية والبيِّنة). وبالنسبة لعلاقات التكامل والتداخل فهي تؤول إلى العلاقة بين مختلف دلالات الألفاظ القرآنية كالمجمل والمبيَّن، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والعامّ والخاصّ...كالعلاقة مثلًا بين الآية والسورة، حيث إنّ «السورة أعمّ من الآية، وأقوى منها حُجّةً وإعجازًا»[36].

أمّا الضّمائم:فليست «صيغ الإضافة والوصف وحدها تتولّد من خلالها الضّمائم في مجال المفاهيم القرآنية، بل قد تكون الضمائم صيغًا فعلية واسمية أخرى»[37]. مثلًا بالنسبة للضميمة الوصفية (آيات محكمات)، فيدلّ عليها أيضًا قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}[هود: 1][38].

أمّا بالنسبة للقضايا:فإنّ دراسة قضايا المفهوم القرآني كما تطوّرت في اللغة والأصول والكلام قد يُخرج الدراسة من خصوصية الدراسة المصطلحية إلى غيرها. لذلك فإنّ الضابط في دراسة القضايا أنْ تُدرس ضمن التصوُّر القرآني المحض دون النّظر في امتداداته خارج القرآن الكريم، كما أنّ بعض المفاهيم قد يصعب فيها الفصل بين القضايا والعلاقات والصفات حيث تتداخل فيما بينها[39]. مثلًا: «العبرة في القرآن الكريم، قد تأتي مرادفة للآية، وقد تأتي الآية موضوعًا للعبرة والاعتبار»[40].

وكذلك «النعوت والعيوب التي يوصف بها مفهوم معيّن قد تُدرس في القضايا»[41]؛ مثل: (الآيات المحكمات) و(الآيات المتشابهات)، وعلاقتهما بقضية المحكم والمتشابه؛ حيث إنّ «الدراسة المفهومية لمفاهيم القرآن الكريم تقتضي ترتيبًا خاصًّا في عناصرها تُرتّبفيه القضايا مباشرة تبعًا لصفات المفهوم وعلاقاته وضمائمه»[42].

يتبيّن إذن أنّ محاولة تكييف منهج الدراسة المصطلحية مع دراسة المصطلح القرآني تعترضه صعوبات كثيرة؛ خاصّة وأنّ «مدار الإحسان في البحث بمنهج الدراسة المصطلحية، على مدى قدرة الباحث على تذوق المنهج وحسن فهمه، ومن ثمَّ تكييفه كي يستجيب لخصوصية المصطلح»[43]، دون الانتباه أحيانًا إلى أصول المعتبرة في تفسير القرآن الكريم.

ثانيًا: تقويم منهج دراسة المصطلح القرآني في ضوء أصول التفسير المعتبرة:

من مقررات وأصول التفسير الشائعة عند العلماء التي يُمكن أنْ يُحاكم في ضوئها منهج دراسة المصطلح القرآني:

تفسير القرآن بالقرآن:

وهو أعلى مراتب التفسير؛ إذْ «لا بُدّ في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يُلتفت إلى أصلها في القرآن، فإن وُجدت منصوصًا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك، وإلّا فمراتب النظر فيها متعددة (...)، كل دليل شرعي فإمّا مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم»[44].

فمثلًا: في ضوء هذا الأصل من أصول التفسير، فإنّ د. الينبعي توفَّق إلى حدٍّ مَا في تحديد الفرق بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وذلك باستقراء كافّة موارد هاتين الضميمتين الوصفيتين في القرآن الكريم.

التفسير بالسنّة النبوية الصحيحة:

إنّ السنّة «توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم، فتخرج كثيرًا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة؛ وتعلم بذلك أن بيان السنّة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ، فإذا طُرحت واتُّبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالًّا في نظره، جاهلًا بالكتاب خابطًا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها»[45].

فمثلًا: يمكن أنْ نقول بأنّ د. الينبعي توفَّق من جهة في تعريف الآية باستيعاب الموارد القرآنية والحديثية، ولم يتوفّق من جهة أخرى في إنكاره لوقوع النسخ في القرآن الكريم لعدم استيعابه للموارد الحديثية في قضية النسخ.

التفسير بفهم الصحابة والتابعين:

قال الشاطبي -رحمه الله-: «يُنظر في تفسير السلف الصالح له، إن أعوزته السنّة، فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلّا فمطلق الفهم العربي لمن حصّله يكفي فيما أعوز من ذلك. والله أعلم»[46].

فمثلًا: عندما تحدّث د. الينبعي عن قضية الآية والنسخ لم يذكر أقوال الصحابة والتّابعين في هذه المسألة، خاصّة وأنّ بعض هذه الأقوال لها حكم المرفوع؛ ممّا أثار إشكالات عديدة في فهمه لهذه القضية، ومنها:

اعتبار «آية البقرة[47] عامّة في المعجزات قولية كانت أو فعلية»[48]؛ أيْ أنّ د. الينبعي يرى بأنّ النّسخ وقع فقط في «الشرائع والخوارق السابقة»[49].

وهذا يتناقض مع قول الصحابي الذي يُثبت وقوع النّسخ في القرآن؛ ومثاله ما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآن: (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ)، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ»[50]‏.

فمن الواضح في هذا المثال أنّ «الحكم، وهو التحريم بعشر رضعات معلومات، منسوخ. وكذلك هذه (الآية) منسوخة التلاوة؛ ولذا لم يكتبها الصّحابة -رضي الله عنهم- في المصحف حين جمعوا القرآن. والمراد بقولها: (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) أنّ التلاوة قد نُسخت ولم يبلغ ذلك كلَّ الناس إلّا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتوفي وبعض الناس يقرؤها»[51].

التفسير بلسان العرب ومعهودهم:

إذا أعوزتنا الأصول السابقة، فلا بُدّ حينئذٍ «مِن اتباع معهود الأميين -وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم- فإن كان للعرب في لسانهم عرفٌ مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جارٍ في المعاني، والألفاظ، والأساليب»[52].

فمثلًا: توفَّق د. الينبعي إلى حدٍّ ما في استيعابه للموارد اللغوية في تعريفه لمفهوم الآية، والمحكم والمتشابه، ولمفهوم النّسخ؛ كما أجاد عندما تحدّث عن القوة الاصطلاحية للفظ الآية في النّسق القرآني الذي «ألبس الآية لبوسًا جديدًا، وضمَّنها معاني جديدة لم تكن معروفة عند أهل الجاهلية(...)، لذلك وجبَ على من يتصدّى للقول في الكتاب العزيز أنْ يُحيط بالدّلالة القرآنية التي استقرّ عليها المصطلح في ظلّ الإسلام»[53]؛ لكنه مع الأسف لم يبين معنى الآية في الجاهلية، ولم يبين معنى الآية عند الصحابة والتابعين في ظل الإسلام، والفرق بين هذين المعنيين.

يتبيّن ممّا سبق بأنّ منهج الدراسة المصطلحية قد يكون مُفيدًا في ضبط المفاهيم القرآنية داخل السياق القرآني؛ لكنْ تعترضه بعض الإشكالات في التطبيق نظرًا لخصوصية تعريف هذه المفاهيم وتداخُل عناصرها، ونظرًا لعدم احتكام هذا المنهج في بعض الأحيان إلى أصول التفسير.

الخاتمة:

قُمنا في هذه المقالة بعرض وتقويم منهج دراسة المصطلح القرآني من خلال كتاب الينبعي، وتَبيّنَ من خلال ذلك إمكانية تطبيق منهج الدراسة المصطلحية على المفاهيم القرآنية أثناء التفسير الموضوعي للقرآن الكريم؛ شريطةَ استجابته لخصوصية هذه المفاهيم، ولأصول التفسير المعتبرة عند علماء هذه الأمة.

كما تُظهر هذه المقالة أيضًا أهميّة النّظر دائمًا في المناهج التفسيرية الجديدة وتقويمها، وذلك من أجل تبيّن المناهج الأصيلة منها والدّخيلة؛ فلا يمكن قبول هذه المناهج الحادثة إلّا إذا كانت نابعة من تراثنا التفسيري وخاضعة لأصوله ومقرّراته.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، مادة: (ن.هـ.ج)، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، (5/ 361).

[2] المنهج القرآني في بناء العقيدة، قاسمي السعيد، بحث دكتوراه تحت إشراف: د. سعيد فكرة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية- الجزائر، 1434- 1435هـ، ص9- 13.

[3] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة: (ص.ل.ح)، مرجع سابق، (3/ 303).

[4] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية- مصر، مادة: (ص.ل.ح)، مكتبة الشروق الدّولية، ط4، 1425هـ- 2004م، ص520.

[5] مفهوم الآية في القرآن الكريم والحديث الشّريف، د. أمحمَّد اليَنْبُعِي، مؤسسة مبدع- المغرب، ودار السلام- مصر، ط1، 1435هـ- 2014م، ص54.

[6] نفسه، ص54.

[7] يُنظر: المرجع السابق، ص1- 243.

[8] نفسه، ص69.

 [9] نفسه، ص221.

[10] نفسه، ص97.

[11] المرجع السابق، ص98.

[12] يُنظر: المرجع نفسه، ص99- 103.

[13] نفسه، ص99.

[14] يُنظر: المرجع نفسه، ص104- 112.

[15] نفسه، ص117.

[16] يُنظر: المرجع نفسه، ص117- 123.

[17] يُنظر: المرجع السابق، ص123- 129.

[18] نفسه، ص137.

[19] نفسه، ص139.

[20] يُنظر: المرجع نفسه، ص139- 147.

[21] يُنظر: المرجع نفسه، ص147- 156.

[22] نفسه، ص153.

[23] نفسه، ص137.

[24] نفسه، ص172.

[25] المرجع السابق، ص38.

[26] نفسه، ص59- 60.

[27] نفسه، ص58.

[28] نفسه، ص58.

[29] يُنظر: المرجع السابق، ص58- 59.

[30] المصطلح الأصولي عند الشّاطبي، د. فريد الأنصاري، المعهد العالي للفكر الإسلامي، ط1، 1424هـ- 2004م، ص56.

[31] يُنظر: "الدراسة المفهومية؛ تعريفها وأنواعها وعناصرها المنهجية"، د. فريدة زمرد، مجلة دراسات مصطلحية، معهد الدراسات المصطلحية، فاس-المغرب، العدد: 5، 1427هـ- 2006م، ص58.

[32] يُنظر: مفهوم الآية، مرجع سابق، ص69- 94.

[33]يُنظر: "الدراسة المفهومية"، مرجع سابق، ص58.

[34] يُنظر: مفهوم الآية، مرجع سابق، ص72- 84.

[35]يُنظر: المرجع نفسه، ص98.

[36] نفسه، ص128.

[37] "الدراسة المفهومية"، ص59.

[38] يُنظر: مفهوم الآية، ص148.

[39] يُنظر: "الدراسة المفهومية"، ص59.

[40] مفهوم الآية، ص123.

[41]"الدراسة المفهومية"، ص59.

[42] نفسه، ص59.

[43] مفهوم الآية، ص58- 60.

[44] الموافقات في أصول الشريعة، إبراهيم بن موسى الشاطبي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية- بيروت، (3/ 239).

[45]نفسه، (3/ 14).

[46]محاسن التأويل، محمد القاسمي، تحقيق: محمد باسل، دار الكتب العلمية- بيروت، (1/ 82).

[47]{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة: 106].

[48] مفهوم الآية، ص172.

[49] نفسه، ص168.

[50]صحيح مسلم، رقم الحديث: 1452، كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة- الرياض، ط1، 1427هـ- 2006م، ص663.

[51] الواضح في علوم القرآن، د. مصطفى ديب ومحيي الدين ديب، دار الكلم الطيب ودار العلوم الإنسانية- دمشق، ط2، 1418هـ- 1998م، ص145.

[52] الموافقات، (1/ 52).

[53] مفهوم الآية، ص99.

الكاتب

إبراهيم بنيحيى

حاصل على شهادة الإجازة تخصص العقيدة والفكر، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))