وقفات مع سورة الكوثر
موضوعاتها، وأحكامها، وطرف من إعجازها

الكاتب : رشيد الذاكر
أقصر سور القرآن هي سورة الكوثر، وقد اشتملت على قِصَر آياتها على ما لا يُحصى من الكنوز والدقائق، وهذه المقالة تقف مع موضوعات هذه السورة، وما ورَدَ فيها من أحكام، وتشير إلى طرف من إعجازها وبلاغتها.

تمهيد:

  كل كلام تستطيع النسج على منواله، ومحاكاة صاحبه ومجاراة لسانه، إلا كلام الله تعالى، فكما يستحيل وجود الشبيه له تعالى في ذاته وصفاته، فكذلك يستحيل في كلامه، الذي هو فرع عن صفاته. كما أنّ كل كلام مهما أطال صاحبه وأطنب؛ تَسْهُلُ الإحاطة به، والقدرة على تفكيك بُنيانه، وإنهاء البحث فيه من كل أطرافه، إلا كلام الله تعالى، الذي لا يزيد ترداد النظر فيه إلّا وقوفًا على سعة معانيه، وسيلانِ أسراره، وتشعُّب حِكَمِهِ وأحكامه، وكيف لا وهو كلام رب العزة سبحانه! وليس هذا في جملة القرآن فحسب؛ بل هو في أقصر سوره وآياته، والتي لو رام الإنسان تتبُّع خيوطها، وسبك معانيها، لانقطعت دونه الأنفاس، ونادى على نفسه بالإفلاس.

فإذا بَانَ هذا واتضح؛ فلنقف جميعًا مع أقصر سورة من كتاب الله تعالى في محاولة للفهم والتأمل لما تحتوي عليه هذه السورة من الكنوز، وما ترشد إليه من المعاني والأحكام، وما تنتظمه من وجوه البلاغة والإعجاز.

قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[الكوثر: 1- 3].

فهذه السورة هي أقصر سور القرآن على الإطلاق، وعلى قِصَر آياتها فهي عظيمة الشأن، كثيرة المعاني والدروس والعِبر والأحكام، تغطي مساحات عقدية وعلمية وسلوكية وأخلاقية، وغيوب ماضية ومستقبلية، يصعب معها الحصر والتتبع والاستقراء، يقول فخر الدين الرازي: «اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف»، وذكر منها: «أنها كالمقابِلة لسورة الماعون، وذلك أن الله تعالى وصف المنافق في سورة الماعون بأمور أربعة: (البخل، وترك الصلاة، والمراءاة فيها، والمنع من الزكاة) فجاءت سورة الكوثر متضمنة: (العطاء، والصلاة، والإخلاص، والتصدق)، ثم ختم السورة بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دنياه أثر ولا خبر، وأمّا أنت فيبقى لك في الدنيا الذِّكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل»[1]، ثم قال بعدما ذكر جملة من الفوائد: «اعلم أنّ مَن تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر»[2]، وقال أيضًا: «فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى»[3].

وسنقف في هذه المقالة مع الموضوعات التي تعرّضت لها سورة الكوثر، والأحكام التي تضمنتها، كما نقف مع طرف من إعجاز هذه السورة العظيمة.

أولًا: الموضوعات الكبرى للسورة:

1- العطاء الإلهي غير المحدود:

(الكوثر) والذي معناه في الأصل: العطاء الكثير، ويدخل فيه بالقصد الأول: نهر الكوثر في الجنة، وحوض النّبي في عرصات القيامة. ويدخل فيه بالقصد الثاني: الشّفاعة العظمى، والإسلام والتوحيد والنُّبوة والقرآن، ووضوح المعجزات وتنوعها، وكثرة الأصحاب والأمة والأشياع، والفتح على الإسلام في الدنيا، والفوز في الآخرة، وجعل أمّته أكثر أهل الجنة[4].

ولكي ندرك عظم العطاء، ينبغي أن نستحضر عظمة المعطي -جل وعلا- الذي لا تنفد خزائنه ولا تنقضي عطاياه؛ فقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «يا عِبادِي، لو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإِنسَكُم وجِنَّكُم قامُوا في صَعِيدٍ واحِدٍ فَسَألُوني فَأعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسْألَتَه، ما نَقَصَ ذلكَ مِمَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحرَ»[5].

كما أن السورة تقدِّم -على جهة الاستدلال العقلي- عدّة صفات لله تعالى، صاحب العطاء والأمر؛ أمّا صفات الذات: فالعِلمُ المطلق لله الذي عَلِم بوجود محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمّته المستحقّين لهذا العطاء قبل خلق السماوات والأرض، والعالِم الذي يعطي العطاء الكثير؛ هو متصف بالقدرة والإرادة والمُلك المطلق. وأمّا صفة الأمر: فهو الأمر الإلهي الوارد في السورة، الصادر من قِبل الله تعالى؛ كما يثبت إمكان النبوة، ومخاطبة الله تعالى لخلقه.

2- المتلقِّي للعطاء الرباني:

وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- ابتداءً، وأمّته تبعٌ له؛ ولذلك استقبل إعلان هذا العطاء بالفرح والانشراح والسرور، فعن أنسٍ، قال: بَيْنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يَومٍ بينَ أَظْهُرِنَا إِذ أَغْفَى إِغفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مُتبَسِّمًا، فَقُلنَا: مَا أَضْحَكَكَ يا رسولَ الله؟ قال: «أُنزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[6]، وكيف لا يفرح ولا نفرح معه؛ وفيها البشارة ودفاع الله عنه، وتطمين قلبه، وإعانته، ووعده بالجزاء العظيم الذي لا يجمع تصوره الأذهان.

3- العبادة لله تعالى:

{فَصَلِّ}...{وَانْحَرْ} فالسورة تأمر أوّلًا بالعبادات البدنية بأعظم أنواعها: وهي الصلاة؛ سواء كانت من الفرائض أو النوافل، والتي هي ركن الإسلام وأعظم دعائم الدين، ثم عقب ذلك بالنحرِ الذي يتَجلَّى فيه جانبُ العبادة المالية مع ما يختصّ به من التقرب إلى الله -تعالى- بالذبح، وهو عامّ في كل ذبح، ومن أعظمه: نحر الهَدْي والأضاحي؛ فالعبادة الأُولى لأجل تنظيم العلاقة مع الله ومع النفس. والثانية: لتنظيم العلاقة مع الله ومع غيره -سبحانه-.

4- الإخلاص والشكر لله تعالى:

أمّا الإخلاص فهو الأمر بتعليق الأعمال الواردة في السورة بالله تعالى {لِرَبِّكَ} أي: أخلِصْ عملك لله دون سواه. وأمّا الشكر: فإن الأمر بالعبادة وَقَعَ بعد ذِكر العطاء، والعطاء يستلزم الشكر؛ وأرفعُ أنواعِ الشكرِ الشكرُ بالعمل.

يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله-: «فاجعل صلاتَك كلَّها لربِّك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصَّك به، من إعطائه إيّاك الكوثر»[7].

5- نهاية خصوم الرسول في الدنيا والاخرة:

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: إنّ مُبْغِضَك يا محمد، ومُبغِضَ ما جئتَ به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبترُ الأقلّ الأذلّ المنقطع عن خيرَي الدنيا والآخرة، والذي لا يبقى ذِكره بعد موته[8].

والنتيجة: أنّ مُبْغِضِي النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به مِن شرعِ ربه هُمُ المنقطعون عن خيرَي الدنيا والآخرة، والذين لا يبقى لهم ذِكر مسموع بعد موتهم؛ لأنهم لم يؤمنوا برسالة الحق، ولم يعملوا من أجل الحق والخير المحض لله -سبحانه وتعالى-[9].

ثانيًا: الأحكام الواردة في السورة:

1- مشروعية الصلاة والنحر:

والصلاة تشمل الفريضة وغيرها، والنحر عامّ أيضًا في الزمان والمكان والنوع؛ مما أباحت الشريعة ذبحه أو نحره.

وفي الآية إشارة إلى وجوب ترتيب الصلاة مع النحر يوم العيد، أيْ تقديم الصلاة على الذبح {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، ويشهد له من السُّنة حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَومِنَا هَذَا نُصَلِّي، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ»[10].

كما تضمّنَتْ أيضًا وجوب النية في العبادات: والتي منها الصلاة، والنحر، وحكم الأضحية الوارد في الأمر بها، والذي أقلّ درجاته الاستحباب[11].

2- ضرورة مخالفة المشركين وأهل الجاهلية في سلوكياتهم القبيحة:

فإذا كانوا يعبدون غير الله ويُشركون معه غيره، ويذبحون للأصنام والأوثان، فإن المؤمن ينبغي أن يكون صاحب إيمان، وعطاء، وصلاة، وإخلاص لله رب العالمين. يقول ابن العربي: «فاعبد ربك ولا تعبد غيره، وانحر له ولا تنحر لسواه من الأصنام والأوثان والأنصاب حسبما كانت عليه العرب وقريش في جاهليتها»[12].

3- وجوب الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرة دينه وشريعته:

وهو موضوع لا يحتاج إلى بيان، وذلك بقدر ما لدى المسلم من المحبة الكبيرة التي لا يدانيها شيء لنبي الله -صلى الله عليه وسلم-، ويُستدل على هذا الوجوب من السورة بدفاع الله عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-. والمؤمن كما يلتزم أوامر الله يلتزم أفعاله التي يجوز للإنسان فعلها والقيام بها؛ وهي هنا الدفاع. كما يُستدل له بمفهوم المخالفة، وبيانه: أنه إذا كان البُغض والمعاداة سببَين للبتر والخسران؛ فإنّ المحبة والنصرة موجبتان للصلة والفلاح، والمؤمن يتطلب من الدنيا الفلاح في الآخرة، فوجب بذلك نصرته لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، والنصوص في هذا الموضع في القرآن والسُّنة أكثر من أن تُحصى.

ثالثًا: الإعجاز في السورة، وبيانها البلاغي:

سورة الكوثر هي أقصر سور القرآن، والقرآن كلّه معجِز في مجموعه وفي أقصر سورة منه؛ ولذلك كانت سورة الكوثر من السور المتحدَّى بها، التي أعجزت الناسَ منذ بدايات نزول القرآن الكريم وإلى اليوم، ولم يستطع أحد النجاح في المواجهة، رغم كثرة الخصوم والأعداء وعدم انقطاعهم منذ الزمن الأول وإلى يومنا هذا؛ مما يُثْبِتُ أنّ هذا القرآن من لدن عليم حكيم. وذلك أن هذا الكتاب الكريم «يأبَى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وُجِد ملقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أنْ ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه»[13].

ويتجلى هذا في السورة في عدّة جوانب:

- الفصاحة والفخامة وعذوبة اللفظ وسهولة سيلانه على اللسان ومدى تقبل السمع لجرسه وحسن صوته:

كل هذا رغم اختلاف الموضوعات وتنوعها؛ من الحديث عن عطاء الله تعالى، إلى تشريع الأحكام، ثم الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو رُمْتَ أنْ تنظم كلّ هذا في غير أسلوب القرآن، لرجعتَ القهقرى، وعدتَ بخُفَّي حُنَين؛ لأن كل ذلك كلام رب العالمين.

- الإعجاز التشريعي:

المتضمن في الأحكام الواردة في السورة؛ (من الأمر بالصلاة، ووجوب النية فيها، والأمر بالذبح، وتقديم الصلاة على الذبح في العيد، وضرورة التصدق، ومخالفة المشركين، ونصرة النبي الأمين... كل هذا يُجمَع في كلمات معدودة: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء: 88].

ثم يكون كل ما تأمر به السورة هو نهاية ما تطمح إليه النفوس، من دوام التعلق بالخالق، وإيصال النفع للمخلوق، والسكينة القلبية والنفسية التي تصل إليها البشرية؛ إنْ صَبغَتْ حياتَها بحبّ الله وطاعته والأُنس به، ثم زيّنَت وجودها بالأُخُوّة والتعاون والنُّصْرة.

- الإعجاز الغيبي:

ولك أنْ تتخيل أنْ تنزل هذه السورة على رجل لا يستطيع أن يصلِّي عند الكعبة من شدة أذى المشركين، وهي تبشر المصطفى الأمين بالعطاء في الدنيا والآخرة، والذي منه النصر والتمكين، ثم يكون كذلك في زمانه، وتعلن السورة عن خُسران كلّ مَن يقف ساخرًا أو مستهزئًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فله نصيبه من القَطْع والخُسران... ولك أن تمدّ عينيك في مسار التاريخ إلى يومنا هذا لِتَرى أين أولئك، وما أسماؤهم، وماذا حصّلوا غير الخزي والعار ومذلّة التاريخ؟ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82].

يقول فخر الدين الرازي كاشفًا عن جوانب من إعجاز السورة فهي «مع قِصَرِهَا وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة؛ وذلك لأنها مشتملة على المعجِز من وجوه:

أولها: أنّا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع، أو على كثرة الأولاد، وعدم انقطاع النّسْل كان هذا إخبارًا عن الغيب، وقد وقع مطابقًا له، فكان معجِزًا. وثانيها: أنه قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدِرَ على النحر، وقد وقع، فيكون هذا أيضًا إخبارًا عن الغيب. وثالثها: قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وكان الأمر على ما أخبر، فكان معجزًا. ورابعها: أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها، فثبت أنّ وجه الإعجاز في كمال القرآن إنما تقرر بها؛ لأنهم لمّا عجزوا عن معارضتها مع صغرها، فَبِأَنْ يعجزوا عن معارضة كلّ القرآن أَولَى. ولمّا ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة، وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع، وتقرر الدين والإسلام، وتقرر أنّ القرآن كلام الله، وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة. فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد، فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى»[14].

أمّا الحديث عن بلاغة السورة:

فهي أيضًا كثيرة ومتنوعة؛ وحسب هذه المقالة بعض الإشارات والتي منها:

- المطابقة بين أول السورة وآخرها؛ في: {الكَوْثَر * والْأَبْتَر}؛ فالكوثر: الخير الكثير، والأبتر: المنقطع عن كل خير[15].

- الالتفات من التكلُّم إلى الغَيبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}، والأصل: (فَصَلِّ لنَا)، ولكنه عَدَل عن ذلك؛ لأنّ في لفظ الرب حثًّا على فعل المأمور به، لأنّ مَن يُربِّيك يستحق العبادة[16].

- العدول عن المضارع إلى الماضي؛ حيث قال: {أَعْطَيْنَاكَ} بالماضي، ولم يقل: (سَنُعطِيكَ)، مع أنه لم يتحقق العطاء بعدُ؛ للدلالة على تحقُّقِ وقوعِ الوعدِ مبالغةً، كأنّه حدَثَ ووقع.

- أضف إلى هذا فخامة صيغة الجمع الدالة على التعظيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} وليس: (أَنَا أعطيتُك)، وتصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسَم {إِنَّا}؛ لأن أصلها (إِنَّ ونحن). والمجيء بصيغة (فَوْعَل) في الكثرة؛ لأجل المبالغة. والتكريم والتشريف في الإِضافة {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}. مع حَصْرِ الشانِئ في الأبتر: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[17].

فهذه بعض الإشارات البلاغية[18] تخبر بما تكتنزه هذه السورة والتي على وجازتها جمعَت فنون البلاغة والبيان؛ فسبحان منزل القرآن[19]!

وخلاصة الكلام أنّ هذا هو القرآن سواء في مجموعه أو في أقصر سورة منه، كتاب معجز في لفظه ومعناه كل سورة منه شاهدة أنه من عند الله، وكل سورة فيها من الإرشاد والتوجيه ما يُعيد للأمة حياتها، إن عادت لكتاب الله تعالى حفظًا، وتدبرًا، ومدارسة، وعملًا وتطبيقًا، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء: 9].

 

 

[1] مفاتيح الغيب، الرازي فخر الدين، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الثالثة، 1420هـ، (23/ 307)، بتصرف.

[2] مفاتيح الغيب (32/ 322).

[3] مفاتيح الغيب (32/ 316).

[4] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الآلوسي عبد الله الحسيني، تحقيق ماهر حبوش، مؤسسة الرسالة، ط1، 1431هـ- 2010م، ص(263- 264).

[5] صحيح مسلم: حديث أبي ذر الغفاري، رقم (2577).

[6] صحيح مسلم، رقم الحديث (400).

[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار عالم الكاتب، ط1، 1424هـ- 2003م، (24/ 696).

[8] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر- بيروت، دمشق، 1418هـ، (30/ 434).

[9] التفسير المنير، (30/ 435).

[10] صحيح البخاري رقم الحديث (951)، وصحيح مسلم رقم الحديث (1961).

[11] أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، تحقيق: رضى فرج الهمداني، المكتبة العصرية، 1430هـ- 2009م، (4/ 352- 355).

[12] أحكام القرآن، (4/ 351).

[13] النبأ العظيم، عبد الله دراز، دار القلم للنشر والتوزيع، ص106.

[14] مفاتيح الغيب، الرازي فخر الدين، (32/ 316).

[15] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، دار الأفق، 1424هـ- 2004م، (3/ 586).

[16] إعراب القرآن وبيانه، أحمد مصطفى درويش، دار اليمامة؛ دمشق- بيروت، ط7، 1420هـ- 1999م، (8/ 429).

[17] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، (3/ 586).

[18] راجع في هذا الباب: ما كتبه الإمام الزمخشري في رسالته المطبوعة بعنوان: «إعجاز سورة الكوثر»، تحقيق: حامد الخفاف، دار البلاغة.

[19] صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، (3/ 586).

الكاتب

رشيد الذاكر

أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي، وحاصل على الماجستير الماجساير من كلية الآداب بمكناس.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))