قراءة القرآن من منظور طه عبد الرحمن؛ عرض وتحليل (2-4)
تعريف النظر القرائي الجديد بماهية آيات النصّ القرآني

الكاتب : محمد كنفودي
تسلِّط هذه المقالة -وهي الثانية من سلسلة التعريف بالنظر القرائي لطه عبد الرحمن- الضوءَ على جملة من الملامح الكلية التي تُشَكِّل ماهية تعريف المقروء-القرآن، بالنظر إلى كون القرآن هو القوام الأساس لاجتهاد طه عبد الرحمن؛ سواء في النقد أو التأسيس.

  نتناول في المقالة الثانية من سلسلة المقالات التعريفية بالنظر القرائي لآيات النصّ القرآني من المنظور الطهائي، تحديدَ جملة من الملامح الكلية التي تشكِّل ماهية تعريف المقروء-القرآن، بالنظر إلى كون القرآن -كما سبق البيان في المقالة الأولى[1]- القوام الأساس لاجتهاد طه عبد الرحمن؛ سواء في النقد أو التأسيس.

تسهيم:

يقول طه عبد الرحمن: «إنّ الخطاب القرآني كلام عملي بالصورة المثلى، فلم يُنْزَل إلى الناس إلّا لكي يتعبّدوا به للحقّ سبحانه، ولا تعبّد بغير تغلغل في العمل»، «وأنه أُنزِل من أجل أن يُنشِئ عملًا متميزًا جديدًا»[2].

يعدّ القرآن (نصًّا مؤسّسًا)[3] انبثقَت عنه نشوءًا جملةُ أنساقٍ فكرية ومذاهب اجتهادية شتى، منذ (القراءة المحمدية) في المرحلة النبوية زمن النزول، مرورًا بمختلف التفاسير في أزمنة التأويل والتأسيس في تاريخ الفكر الإسلامي، وصولًا إلى المرحلة المعاصرة، مقلدين أهلها كانوا أو مبدعين. وقد اختلفت الأنظار الاجتهادية في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر في سبيل التعريف بماهية النصّ القرآني، وهو اختلاف يشتدّ بين فئة التراثيين وفئة الحداثيين تقليدًا، وفيما بين الحداثيين أيضًا، الذي تجده بقدر ما يعكس روح مواصلة الاجتهاد تجاوزًا أو تكميلًا أو تصحيحًا ونحو ذلك، يعكس أيضًا التباين وتعدّد التعاريف لمعرّف واحد، بالنظر إلى اختلاف مناهج النظر فيه. والناظم الكلي للاجتهاد الطهائي للتعريف بالنصّ القرآني أنه ينتظم في ناظم (القراءة الحداثية-المبدعة)، المتشبِّعة بـ(روح الحداثة)، التي تقتضي عدم تقليد القول الجاهز، خصوصًا القول السياقي، باعتباره مانعًا موضوعيًّا من موانع التأسيس الإبداعي الإمكاني، خصوصًا القول السياقي المفصول. بناء عليه يقوم تحديد ماهية التعريف على ما يأتي:

أولًا: منطلقات أولية تمهيدية:

1. التعريف الطهائي بمفهوم (القرآن) لا يعتمد فيه على مقرّرات التراث الإسلامي العربي، خصوصًا ما تقرّر في مصنفات (علوم القرآن)، وإن اعتمد على بعض منها، فهو يورده في سياق اجتهادي خاصّ بما يتغيَّا تحقيقه، خصوصًا بما تعلّق بـ(النسخ في القرآن)، أو بـ(لغة القرآن)، أو بـ(القراءات القرآنية بالمعنى التراثي) ونحو ذلك[4].

2. اجتهاد طه عبد الرحمن في التعريف بـ(القرآن) انتظم في السياق الكلي الجامع لتأسيساته، وهو أن سياق التأسيس يأتي تبعًا لسياق النقد، فيكون بذلك التأسيس نظريًّا كان أو عمليًّا تاليًا للنقد، وهذا من أهم ما يتعيّن أخذه منهجيًّا بالاعتبار[5].

3. يركز المتن الطهائي في التعريف بـ(القرآن) على ما يُتوَسَّل به لتحقيق الأغراض الكبرى لما سمّاه بـ(الفلسفة الائتمانية)؛ سواء في اتصاله بالنصّ المؤسّس، أو مختلف فروعها ومتجلياتها ومحدداتها المنهجية والمعرفية[6].

4. لم يعتمد طه عبد الرحمن في التعريف بالقرآن جملة من المسائل المعتمدة في التعريف به في فضاء (القراءات الحداثية المقلدة) حسب الوصف الطهائي، خصوصًا ما تعلّق بالتمييز في القرآن بين (مرحلة الخطاب) و(مرحلة النصّ)[7]، أو التمييز بين (ترتيب النزول) و(ترتيب المصحف) وغيره[8]، فضلًا عن آثار هذا التقسيم المتعلقة أساسًا بسلامة النصّ القرآني من (التحريف اللغوي أو اللفظي)[9].

ثانيًا: من المداخل الأساسية للتعريف بماهية القرآن:

يعتمد طه عبد الرحمن في سبيل تقديم تعريف بالنصّ القرآني، على مجموعة من المداخل المنهجية والمعرفية، نورد منها ما يتّصل بوجه من الوجوه المفيدة في الإلمام بالتعريف، ومنها:

1. مدخل نصّي تأسيسي:

يتأسّس هذا المدخل على قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل: 5]، فتكون بالتبع (حقيقة القرآن) عقديًّا: أنه عبارة عن (قول ثقيل) موجّه أول الأمر إلى متلقِّيه الأول، الرسول الخاتم -عليه الصلاة والسلام-. وقد وُصف النصّ المُلقَى-القرآن بـ(القول الثقيل)، من هذا التحديد الكلي استخرج طه عبد الرحمن ما سمّاه بـ(أركان القول الثقيل)[10]، والتي تنحصر في ثلاثة، نبيّن إبرازًا معالم معنى (الثقل) فيها، وهي:

أ. (الثقل) في المُلقِي-الله سبحانه، وهو عبارة عن (ذات قدسية) تتكلم من وراء حجاب الحسّ، الذي هو عبارة عن عالم غيبي مطلق غير معهود للناس، إذ إنه في حقيقته فوق طور العقل الإنساني، وإن تكلمت فتعلّق كلامها بالذوات الحسيّة المشهودة، بل إنها -حسب التعبير الطهائي- هي التي (تخلق الكلام الحسي في مختلف الذوات المحسوسة المعتادة)، وهي التي تتكلّم بطريقة من طرق البيان التي تفوق الحصر البشري المعتاد؛ لذلك، فإنّ (الثقل في الملقِي)-القائل سبحانه وتعالى، هو (التعالي المطلق)[11].

ب. (الثقل) في المُلقَى-القرآن الحكيم، وهو عبارة عن خطاب-كلام (لا ينفد، ولا يُحصى، ولا يبلى، ولا يُمَلّ، ولا يتزحزح عن موضعه، ولا ينفك يفعل ويخلق حيثما قيل)[12]، إذ هو من جنس علاقة (كن فيكون). فيكون (الثقل في الملقَى) الذي هو آيات القرآن، هو (اللا تناهي) أو (السعة المطلقة)، من حيث مضمونه الدلالي والحكمي والأخلاقي ونحو ذلك[13].

ج. (الثقل) في المُلقَى عليه-المتلقِّي تكليفًا، وهو عبارة عن (مجموع العوالم الممكنة في الوجود)، أو عوالم الشهادة المادية أو المرئية، ما علمنا منها وما لم نعلم، أو قُلْ اختصارًا: (الخلق كلّه)، ممثلًا في شخص الرسول -عليه الصلاة والسلام-. فـ(الثقل في الملقَى عليه)، هو (الكونية) أو (العالمية المطلقة) من حيث تعلّق الخطاب بالتكليف[14].

من هذا الحيث، تتحدّد ماهية القرآن بكونه (قولًا ثقيلًا)، من حيث كونه (متعاليًا) و(كونيًّا) ولا (متناهيًا) بصورة مطلقة[15]. وفي هذا السياق أورد المتن الطهائي من باب الاستدلال قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]؛ ليستدلّ به على أن القصد بـ(ضرب المثل) بـ(الجبل)، هو أن (الجبل) رمز (الثقل المطلق)، إذ لو أنزل عليه (القرآن) لخشع وتصدع وهبط، ذلك أن (القرآن أثقل من كلّ ثقيل) في الوجود الممكن مطلقًا. وأمارة ذلك، أن متلقِّيه الأول -عليه الصلاة والسلام-، كان أثناء النزول عليه يجد شيئًا من أثر هذا (الثقل) على بدنه كما هو ثابت في نصوص السنة النبوية[16]، مع العلم أن فؤاده ثُبِّت بما لم تُثَبَّت به الجبال[17]، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود: 120]، وقوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان: 32].

تعزيزًا لهذا النظر التأسيسي، اعتبر طه عبد الرحمن أن (ترجمة القرآن) مهما كانت علمية ودقيقة[18]، لا يتسنى لها تأدية معاني (القول الثقيل-القرآن) أداء أمثل، باعتباره (قولًا إلهيًّا عربيًّا ثقيلًا من كلّ ثقيل)، ذلك أن (الترجمة) لا تتجاوز تأدية معاني (القول الخفيف)، بل إن (الترجمة) في أصلها (أخفّ من كلّ خفيف)، ومهما كانت دقتها فإنها لا تغني عن أصلها الإنساني العادي، فكيف بالقول الإلهي الصريح (الثقيل-القرآن). ويتحدّد دلاليًّا مفهوم (القول الخفيف) بكون (قائلِه الأعجمي غيرَ متعالٍ)، و(مضمونِه الدلالي متناهيًا)، و(متلقِّيه) أو (المخاطَبِ به غيرَ كوني)[19].

في سياق بيان متجليات (الثقل) في النصّ القرآني، بيّن طه عبد الرحمن  أن (لغة القرآن) ليست مجرد لغة طبيعية مثلها مثل أيّ لغة إنسانية خاصة أو قومية، وإنما هي في الأصل (لغة كونية)، وكونيتها خاصة. وتتمثل الخصوصية الكونية في أمرين:

أولهما: أن الإله سبحانه تكلّم بها في (عالم الملكوت). ومعلوم أن (لا كونية تعلو على كونية الألوهية المطلقة).

ثانيهما: أن الإنسان تعبّد بها في (عالم الملك). ومعلوم أن (العبادة لا تصح بغيرها)، فتكون (لغة القرآن) بالتبع لغة الناس أجمعين في صلتهم بـ(عالم الملكوت)[20].

في سياق آخر متعلق بـ(تلقي القرآن) ميّز طه عبد الرحمن بين مفهومين، هما: مفهوم (التنزل)، ومفهوم (النزول)؛ فالمفهوم الثاني إن كان قد تم وانتهى بموت المتلقِّي الأول -عليه الصلاة والسلام-، فإن مفهوم (التنزل) راهني الوجود، إذ هو عبارة عن مختلف صور التلقي المتجدد لمعاني (القول الثقيل) في مختلف السياقات والحالات التي يكون عليها مطلق المتلقي الآخر، الذي تم نزوله بألفاظه على المتلقي الأول -عليه الصلاة والسلام-[21].

2. مدخل تحديد وبيان خصائص النصّ القرآني المؤسّس:

القرآن بوصفه (نصًّا ثقيلًا مؤسسًا) ليس من جنسه أيّ نصّ، من ذلك أنه انبنى على عدّة مقومات منهجية ومعرفية كلية عامة كانت أو جزئية خاصّة، في صورة خصائص اتخذت وصف من أسّسها نصًّا لا اجتهادًا. من هذا الحيث، حدّد طه عبد الرحمن جملة خصائص انماز بها (القرآن) بوصفه (رسالة الإسلام النصي)، وهي ناظمة لمختلف (آيات القرآن)، نورد في هذا السياق بعض ما يتصل بإسعافنا على تقديم التعريف الطهائي بالقرآن، ومن تلك الخصائص:

أ. رسالة إسلام القرآن كونية عالمية:

إنّ (القرآن) بحكم هذه الخصيصة أصبح خطابًا كونيًّا شاملًا لعالم الجنس الإنساني كلّه، بل لمختلف عوالم الوجود المرئي الممكنة، وهذا ما لم يثبت نصًّا وواقعًا لأيّ كتاب آخر، باعتبار أن (الكونية) كما ينصّ طه عبد الرحمن، عبارة عن (وصف كلّ شيء يتجاوز حدود ما هو خاصّ)، بمجال قومي ضيّق. فكان بذلك (القرآن) بوصفه (رسالة الإسلام النصي) أول مَن علّم الإنسان كيف يكون (كونيًّا)، بوصفه هو أول من جاء بفكرة أو مفهوم (الكونية) أو (العالمية) في بُعدها المطلق، وليس الثورات الغربية وحداثاتها السياقية كما يزعم المدعي، ذلك أن (القرآن) خاطب جميع العالمين، من نعلم بوجودهم ومن لا نعلم بوجودهم، من هم أمثالنا ومن هم ليسوا بأمثالنا[22]. فتكون بذلك (كونية رسالة إسلام القرآن) بوصفها (حقيقة عقدية) قد اتخذت صورتين:

الأولى: أنه موجّه إلى العالم كلّه، لا إلى مجتمع مخصوص، إذ إنه جاء للناس كافة بشيرًا ونذيرًا.

الثانية: أنه موجّه إلى التاريخ الإنساني كلّه، لا إلى فترة زمنية محدّدة، إذ إنه أُنيط بالإنسان رأسًا[23].

إذا كان ذلك متحقّقًا تأصيلًا، فإنه على مستوى السريان والتنزيل، بيّن طه عبد الرحمن أن المسلمين أخطأوا -وخصوصًا في الزمن والسياق المعاصر- طريق (رسالة القرآن) إلى (العالمية) و(الكونية) في عهد (الحداثة)؛ إذ ربطوها رأسًا بـ(مجرد الدفاع الأجوف عن رسالة الإسلام)[24]؛ لذاك، نصَّ طه عبد الرحمن على ضرورة التخلي عن هذا المسلك القائم على (الدفاع المجرد)، والعمل على استبدال طريق العطاء الإبداعي الفائق به نظرًا وعملًا، لتحقيق أنموذج فاعل في الوجود، قصد الإسهام في (حداثة إسلامية جديدة)، قائمة على ما سمّاه بـ(المجتمع العالمي)، الذي يقتضي ترسيخ مفهوم ناظم أطلق عليه اصطلاح (التفكير المتعدي)، بالنظر إلى كونه هو الذي ينسجم مع (عالمية رسالة إسلام القرآن)؛ ليتم بذلك تجاوز المفهوم الناظم الذي يقوم عليه مسلك الدفاع الأجوف المجرد، وهو (التفكير القاصر)[25].

يقتضي مفهوم (التفكير المتعدي) -بوصفه عينًا كونية- و(عالمية رسالة إسلام القرآن)، أن يفكر المسلمون في الإسلام في صلته بمختلف الأديان الأخرى الموجودة في مختلف المجتمعات الإنسانية، منزَّلة في الأصل كانت أو غير منزَّلة، من باب المقارنة لتبيان ما ينماز به قرآن الإسلام النصّي عن مطلق ما سواه، لكي يبرهنوا كيف أنه أعقل منها في مختلف المسائل التي تشغلهم وينشغل بها سواهم. وهذه (التعدية الفكرية) تفضي بهم حسب تقدير طه عبد الرحمن إلى النظر في مختلف الأديان بنوعيها بعين (عقلانية الآيات)، التي يتعين التوسل بها في النظر إليها، لا (عقلانية الآلات)، أو (العقلانية النقدية) التي تعمل على (نقد الأديان) والحطّ من قدرها واعتبارها في أعين متبعيها قبل دارسيها، كما هو منهج أهل النظر النقدي التاريخي في النظر إلى الأديان مطلقًا دون تمييز، قصد تمحيص صحيحها من زائفها حسب زعمهم[26]. بهذا المنظور الطهائي، يتمكن الفكر الإسلامي المعاصر من الاستفادة من الإمكانات العقلية التي ينشئها مفهوم (التفكير المتعدي)، قصد تأسيس (عقلانية موسعة)، تقتفي آثار (الآيات المنفتحة)، بديلة عن (العقلانية الضيّقة) التي تقتفي آثار (الآلات المنغلقة). فتكون بالتبع (عالمية رسالة إسلام القرآن) ليست مجرد (كونية سياقية أو قومية تاريخية محايثة)، وإنما هي (كونية غير سياقية منفتحة موسعة مطلقة مفارقة متعالية)، بوصف هذا التحديد عبارة عن (حقيقة خبرية نصية)، لتعم وتشمل في الخطاب، وتسري وتتسع قاعدتها وصلاحيتها في العمل[27].

ب. رسالة إسلام القرآن محفوظة من التحريف:

وَرَد تناوُل طه عبد الرحمن لتأسيس النظر في كون نصّ القرآن محفوظًا من كلّ أضرب (التحريف اللفظي) أو (اللغوي) زيادة ونقصانًا، كما حدث تاريخيًّا لنصوص الأديان المنزلة، خصوصًا التوراة والإنجيل =في سياق إبطال تعميم (النقد التاريخي) على كلّ نصوص الكتب الدينية المنزلة، دون مراعاة لناظم الخصوصية لكلّ واحد منها، أو لبعضها مقابل بعض، إذ هي -كما نرى تفصيل القول في هذا لاحقًا- لا يحكمها جمعًا قانون (التسوية المطلقة) في الاعتقاد أو في العمل أو في غيرهما. ومقاصدهم من وراء تعميم (النقد التاريخي) متعددة تعدّد نظرهم النقدي المنقول أو قل: المفصول، ومن أهمها: إبطال دعوى التمسك بالأديان كلًّا أو بعضًا في السياق الحداثي المعاصر، بدعاوى متعددة[28]. والناظم البنائي الذي يعتمده طه عبد الرحمن في سبيل تأسيس القول بسلامة نصّ وحي آيات القرآن من التحريف اللفظي، يمكن تفريع عرضه إلى ما يأتي:

- إن الاعتقاد النصّي الصريح بكون رسالة إسلام القرآن خاتمة لمطلق الأديان المنزلة خصوصًا، يقتضي ضرورة سلامتها الأبدية من (التحريف اللغوي)[29]. وسيتم تناول هذه الخصيصة إفرادًا بالتفصيل من المنظور الطهائي لاحقًا.

- إنّ الاعتقاد النصّي الصريح بأن رسالة وحي القرآن ناسخة لمطلق الأديان المنزلة السابقة، يحتم القول بالضرورة بأن نصّ القرآن وحي محفوظ من (التحريف اللفظي)[30]. وسيتم تفصيل القول في هذه الخصيصة إفرادًا من المنظور الطهائي لاحقًا.

- إن نصّ وحي الكتاب الذي وصلتنا لغته الأصلية التي نزل بها زمن نزوله على الرسول الذي بعث به -عليه السلام-، يكون أسلم من (التحريف اللفظي) من نصّ وحي الكتاب الذي لم تصلنا لغته الأصلية التي نزل بها زمن نزوله على الرسول أو النبي. ويلزم من هذا، أن نصّ الكتاب الذي وصلنا بلغة نزوله يكون محفوظًا من نصّ الكتاب الذي وصلنا بغير لغته التي نزل بها زمن النزول. وهذا الأمر الكلي ينطبق حصرًا على نصّ وحي القرآن، دون سائر نصوص الكتب المنزلة قبله؛ كالتوراة والإنجيل. لذلك، فإن الأمر منهجيًّا يقتضي بالضرورة أن يكون (النقد التاريخي) منصبًّا على النصوص الدينية المنزلة التي فقدت لغات نزولها الأولى تاريخيًّا، خصوصًا تلك اللغات الميتة، لا أن يكون منصبًّا على نصّ وحي كتاب ما زالت لغة نزوله حيّة محفوظة ومتداولة. إلّا أن هذه الفروق الموضوعية في نظر أهل (النقد التاريخي)، القائم على أساس (التسوية) بين النصوص الدينية لا يقيمون لها اعتبارًا، لا جهلًا بها وإنما تركًا لها؛ سواء كانوا حداثيين غربيين، أو كانوا عربًا ومسلمين مقلدين[31].

ج. رسالة إسلام القرآن محتفّة بناظم المعقولية الكلية:

 تتحدّد (معقولية) نصّ القرآن بمجموعة من المحدّدات الكلية، والتي هي عبارة عن أصول منهجية ومعرفية معرِّفة بماهية النصّ القرآني، ومنها:

- معقولية الخُلُق في أخبار وتشريع نصّ القرآن:

 إذا خُيّر طه عبد الرحمن في تعريف نصّ القرآن خصوصًا وتحديد رسالة الإسلام النصي عمومًا، لما عَرَّفه بغير كونه (نصًّا مؤسسًا للأخلاق) المقصودة فيه بالقصد الأول أصالة لا بالقصد الثاني تبعًا[32]. وينبني هذا المنظور الكلي على مجموعة من الاعتبارات، نورد منها:

- إن كلّ الأديان المنزلة باعتبار تعدّد نصوصها تنزيلًا، هي حسب قول طه عبد الرحمن عبارة عن (أطوار متعاقبة تعكس تطورًا تغييريًّا مستمرًّا ومتواصلًا)؛ بحيث يكون الطور اللاحق أكمل وأشمل وأجمع من الطور السابق وهكذا تواليًا. و(روح) كلّ طور من أطوارها ينتظم في كونها عبارة عن (مجموعة من القيم والمقاصد الضرورية)، التي تنطوي عليها أحكامه التشريعية وأخباره القصصية، والالتزام بها تطبيقًا وسريانًا يفضي إلى (تعميم تخليق الإنسان)، بوصف (التخليق) هو (معيار إنسانية الإنسان). ولمّا كان (نصّ إسلام القرآن) قد ختم أطوار تعاقب الأديان المنزلة تكاملًا، كانت روحه أقدر من غيرها على تخليق الإنسان في (زمنه الأخلاقي)[33]، الذي بدأ بنزوله على الرسول الخاتم -عليه الصلاة والسلام-، وينتهي بانتهاء الزمن الدنيوي في العالم المرئي. فالآثار الأخلاقية التي تتركها أحكامه وأخباره هي وحدها التي يتم بها (تخليق الإنسان تخليقًا أنموذجيًّا)[34].

- إنّ الناظم الأخلاقي في معقولية تشريع وأخبار نصّ القرآن ليس عبارة عن نسبة أو رتبة واحدة ثابتة أو ساكنة جمودًا، وإنما هي عبارة عن ثلاث رتب على الأقلّ تنتظم السلوك الإنساني كلّه، والتي ينزل في مقاماتها ومنازلها مختلف أفراد الجنس الإنساني على قدر تخلقهم بها؛ وهي: (رتبة أخلاق الإسلام)، (رتبة أخلاق الإيمان)، و(رتبة أخلاق الإحسان). وكلّ رتبة من هذه المراتب الأخلاقية التي ينزل منازلها الفعل الإنساني تترجم من المنظور الطهائي إلى الأخلاق الآتية: (الأخلاق المجرّدة)، و(الأخلاق المسدّدة)، و(الأخلاق المؤيّدة). وكلّ رتبة من هذه المراتب الأخلاقية الثلاث -ما عدا الأولى- يورثها بالضرورة اتّباع منصوصِ رسالة إسلام القرآن؛ فـ(أخلاق الإسلام والإيمان) هي عبارة عن (أخلاق مسدّدة)، يقوم ناظمها اللاحم على تقديم اعتبار (ظاهر النصّ القرآني على روحه)، والفرق بينهما أن التسديد في الأولى يدخل على (الأفعال)، أمّا في الثانية فيدخل على (الأحوال). و(أخلاق الإحسان) فهي عبارة عن (أخلاق مؤيّدة)، يقوم ناظمها اللاحم على مراعاة (روح النص)، فضلًا عن (ظاهره)، فهي بالتبع أخلاق يورثها الاشتغال بروح وحي نصّ القرآن، فضلًا عن الاشتغال بظاهره نصًّا[35].

- إنّ من أهم التشبيهات التي قدمها طه عبد الرحمن في سياق تحديد ماهية نصّ وحي القرآن، هو أنه اعتبره في حقيقة أمره أشبه بـ(المؤسّسة) منه بـ(النظرية)، وكونه (مؤسسة) مقتضاه أنه عبارة عن (مجموعة من الأحكام والمعايير التي تحدّد العمل من أجل تلبية ضرورات معيّنة)؛ لذلك، لزم أن يتضمن إلى جانب (الأقوال الخبرية) حسيّة كانت أو غيبية (أقوالًا وجوبية) أو (كتبية) تحدّد العلاقات بين الموجودات، في سبيل جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضرات وتقليلها. وبهذا الاعتبار، لا تكون أقوال النصّ القرآني خبرية كانت أو وجوبية إلّا أخلاقية. فيلزم أن يكونَ نصُّ القرآن -بقدر ما هو أنباء خبرية وأحكام وجوبية- قيمًا أخلاقية أيضًا. ويكونُ الخُلُق في النصّ القرآني ملازمًا للخبر والحكم معًا، أو يكونان هما معًا تابعَيْن له وجودًا وعدمًا. ومن هذا الحيث، يكون -كما يؤكد طه عبد الرحمن- حمل نصّ القرآن على الخُلق أولى من حمله على مجرد الخبر والحكم، قصد استنهاض الهمم للقيام بالأفعال والعلاقات على أحسن وجه ممكن[36].

- معقولية العمل في أخبار وتشريع نصّ القرآن:

 إذا خُيّر طه عبد الرحمن في وضع حدٍّ جامع لنصّ القرآن، فما يزيد على القول بأنه (نصّ عملي). ومقصود (العمل) فيه أصليّ أوليّ لا تبعيّ ثانٍ، بل إن القرآن أنزل من أجل أن ينشئ (عملًا متميزًا جديدًا)، بل إن ناظم (العمل) فيه لا يشكل هدفًا من أهدافه، وإنما هو على الحقيقة (روحه الخالصة). ومن هذا الحيث، تبطل مقولة كون القرآن مجرد (شعائر ظاهرة) خفيفة عابرة، بل هو عبارة عن معانٍ خفية ثقيلة متضمنة تحتها، تتعدّد بتعدد القيام بأفعال ظواهر الشعائر. فيكون مفهوم (العمل) داخلًا في ماهية تعريف نصّ القرآن من جهتين:

الأولى: أنه عبارة عن (كلام عملي بالصورة المثلى) حسب تنصيص طه عبد الرحمن؛ لأن التعبد به لا يتحقق على وجهه المعتبر بغير تغلغل في العمل[37].

الثانية: أنه عبارة عن نصّ خبري وحكمي يترك آثارًا عملية ظاهرة بعد القيام بالشعائر على الوجه الذي ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي.

وكلما (حصل التّغلغل في العمل) من هاتين الجهتين -بوصفه مجموعة أفعال- خرج الإنسان من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام ارتقاء، بناء على نظرية (التراتب) أو (النسَب) في الحقيقة الدينية، بشرط إذا كانت تلك الأعمال صادرة عن قصد معيّن ولداعٍ مخصوص وتستهدف غاية محدّدة، لا مجرد أعمال عبثية اعتباطية غير منتظمة ولا منسقة[38]. وما يتميز به العمل في هذا السياق هو أنه في حقيقته عبارة عن طريق يوصل المرئي بالغيبي، وصلًا يمكّن الإنسان من اقتحام عقبات الحياة على الوجه الأفضل[39]، ويتكون العمل في هذا السياق من المنظور الطهائي من أربعة أنساق:

الأول: نسق الاعتقادات الشاملة.

الثاني: نسق القيم الروحية.

الثالث: نسق القواعد الموجهة.

الرابع: نسق النماذج الحيّة[40].

من أهمّ ما تتأسّس عليه (معقولية النصّ القرآني)، اعتبار طه عبد الرحمن أن القرآن يتضمن (قوة استدلالية لا نظير لها في أيّ نصّ ديني آخر)، والتمكن منها خصوصًا على مستوى امتلاك آلياتها يفجّر أمام الناظر (عقلانية استدلالية) عزّ نظيرها في عالم الإمكان[41].

د. رسالة إسلام القرآن خاتمة:

اقتضت مشيئة الله تعالى أن تكون نصوص الوحي المنزل متتابعة، وهي وإن تباعدت أزمنتها نزولًا، إلّا أنها دعت في كثير مما جاءت به إلى قواسم مشتركة واحدة. وبحكم تعاقبها في أزمنة الدعوة، فقد حكم ناظم تواليها الزمني قاعدة أنّ في كلّ زمان دينًا واحدًا صادقًا ومصدِّقًا لما صدَق من الأديان في الأزمان التي سبقته، فضلًا عن تصحيح التحريفات واستشراف التطوّر الإنساني في مجالات شتى، ثبت بذلك أن اللاحق ينسخ السابق[42]. ومن أهم القواسم المشتركة بين نصوص الوحي في مختلف أزمنة النزول ما جرى التعبير عنه اختصارًا -حسب تنصيص طه عبد الرحمن- بـ(إسلام الوجه لله تعالى)، وهو في حقيقة أمره عبارة عن (الروح الدالة على العقيدة الجامعة والكاملة في نصّ القرآن). وما تفرد به القرآن لخاتميته، أنه انطوت فيه نصوص الوحي المنزلة كلّها، وإلّا فلا أقلّ من أنه انطوى فيه كمالُ روحها[43]. ومما يدلّ على خاتمية نصّ القرآن أيضًا من المنظور الطهائي، أنه لم يوجد دين منزل لم يخبر بظهور رسالة النصّ الخاتم، ولم يوجد دين منزل لم يذكر اسمًا أو وصفًا أو ما يقوم مقامهما لنبي ورسول النصّ الخاتم، ولم يوجد نبي ولا رسول لم ينسب نفسه إلى إسلام رسالة القرآن[44].

إنّ خاتمية نصّ وحي القرآن ليست مجرد طرح نظري القصد منه إثبات خصوصيته على ما سواه انفرادًا، وإنما خاتميته اقتضت عدّة أمور كلية منهجية ومعرفية، نورد منها ما يأتي:

-الصلاحية المطلقة والراهنية الدائمة؛ بحيث إنّ راهنية صلاحية النصّ القرآني ليست مقتصرة على زمن دون آخر، أو مجال دون غيره، أو سياق دون سواه، وإنما تعمّ كلّ الأزمنة والمجالات والسياقات ومختلف شؤون ونواحي الحياة، ولا يشذّ عن هذا الناظم الكلي أيّ أمر مما سبق، إنْ على سبيل الإجمال أو التفصيل؛ وذلك لجامعيته الكلية، إذ إنه يمدّ الإنسان بما سماه طه عبد الرحمن بـ(أسباب الصلاح في الدنيا)، فضلًا عن (أسباب الفلاح في الآخرة). ومن هذا الحيث، كان نصّ القرآن مؤسسًا لما سماه طه عبد الرحمن بـ(الحداثة الصالحة)، التي تجد أسسها المناسبة لها في (الممارسة الإسلامية) دون سواها[45].

-المعيارية الحاكمة العليا؛ بحيث إن نصّ القرآن هو وحده -حسب التنصيص الطهائي- المعيار الحاكم على مطلق ما سواه، بوصفه لم ينشأ عن الواقع المتعين وجوبيًّا، وإن جاء حاكمًا عليه وضابطًا له في مختلف مجالات سريانه. من هذا الحيث، اعتبر طه عبد الرحمن أن النصّ الإسلامي المؤسّس هو وحده الأجدر والأحقّ بدرءِ شتى الآفات النظرية والعملية السائدة في كلّ أرجاء المعمورة، بل إنه لا عاصم للإنسانية كلّها من طوفان الآفات إلّا سفينة الوحي الإلهي، بالنظر إلى كونه ممتلكًا لمنهج التصحيح والتصويب، فضلًا عن أهليته لإنقاذ حياة عالم الإنسان كلّها؛ المادية منها والروحية على حدّ سواء[46].

-الكمال الكلي الأعلى؛ بحيث إن النصّ القرآني المؤسّس جاء حاملًا لمنهج كلي كامل ومتكامل، يحيط بمختلف فعاليات الإنسان في تكاملها وتعالق بعضها ببعض، مهما تجردت معانيها أو تجسدت مظاهرها. من هذا الحيث، كان النصّ القرآني المؤسّس أكمل من مطلق ما عداه، من أيّ جانب من جوانب النظر الممكنة[47].

هـ. رسالة إسلام القرآن ناسخة لمطلق النصوص المنزلة:

إنّ النصّ المؤسس للإسلام النصّي إذا كان ناسخًا غير منسوخ، فإن مقولة تساوي نصوص الأديان منزلة كانت أو وضعية تبطلُ كليًّا حسب التنصيص الطهائي؛ سواء من منظور النظر والدراسة، أو من منظور الإيمان والاعتقاد، ذلك أن بينهما فروقًا شتى؛ سواء بالنظر إلى أن المتأخر ناسخ للمتقدم زمانيًّا، أو أنه أعقل منه، أو أنه أكمل منه، أو أنه أجمع منه، أو أنه أصحّ منه، أو أنه أصدق منه ونحو ذلك. وهذه المحددات التفريقية، اجتمعت وتكاملت تلاحمًا في نصّ القرآن، ولم تجتمع لغيره في مختلف نصوص الأديان المنزلة، وبالأولى أن لا تجتمع في الوضعية أصالة أو بالتبع[48].

و. رسالة إسلام القرآن مقدّسة:

إن النصّ المؤسس في الإسلام يتحدّد أكثر ما يتحدد به أنه (نصّ مقدس)؛ بحيث إنه ليس في الأديان المنزلة كلّها مَن له قداسته. ومحدّد ناظم (القدسية) أنه بقدر ما يتجلى في كون النصّ القرآني (لا ثغرة قدسية) في تعامله، بقدر ما أنه يقتبس قدسيته أخذًا من تعلقه بـ(الذات الإلهية) نفسها؛ بمعنى -حسب قول طه عبد الرحمن- أنه «لا حبسة ظهورية» لها في هذا الزمان، فكذلك هو. فكان النصّ القرآني بهذا الاعتبار متصفًا بـ(الأزلية) و(السرمدية)، فضلًا عن كونه هو (الفطرة)؛ إِذْ كلّ النصوص المؤسسة للأديان السابقة كانت (وقتية)، أمّا نصّ القرآن فإنه هو (الفطرة). ومن حيث كونه فطريًّا، فإنه (غير متبدل) و(لا متجزئ)[49].

 في سياق تحديد (التنزيل) أو (المنزل الإلهي-القرآني) بكونه (مقدسًا) أو صورة من صور (المقدّس)، فقد اعتبر صفة (القداسة) على مستوى التعريف بها بوصفها من محدداته، أنها دالّة على (الطهارة المطلقة التي يمتنع أن يلحقها سوء) كـ(الدنس)، فهي بالتبع (صفة روحية سنية يختصّ بها مَن مصدره غيبي)، أو منزل من الغيب، والتي تعكس بتحديدها هذا (الكمال المطلق) في الوجود. والسعي في سبيل إزالتها عنه، أو إلحاقها بمن سواه، ممن هو ملازم لسلّم النقص، فقد وصف هذا المسلك بوصفه (تغييبيًّا)[50].

3. مدخل التعريف الائتماني بآيات النصّ القرآني:

 يعدّ المدخل (الائتماني) من أولى المداخل التي يعتمدها طه عبد الرحمن في مقاربة مختلف القضايا القرآنية والإسلامية والأخلاقية والاجتهادية المعاصرة؛ سواء في إطار ناظم التأسيس والتأصيل، أو في إطار ناظم التقويم والنقد. إذ الفلسفة الكلية التي استقر عليها الاجتهاد الطهائي في هذه المرحلة، هي ما سمّاه بـ(الفلسفة الائتمانية) كما سلف القول في المقالة السابقة، فبعد أن قام بتأسيس أصولها ونواظمها، اعتبرها معيارًا للنظر والتأسيس. وقَصْدَ بيان تحديد التعريف (الائتماني) للنصّ القرآني، بيّن طه عبد الرحمن أن النظر في النصّ القرآني -من حيث قصد العلم بمحمولاته المبثوثة فيه جمعًا أو نشرًا- يتنوع إلى ثلاثة أنواع منهجية أساسية؛ وهي:

أ. منهج النظر الاجتهادي: وهو عبارة عن منهج يحدّد النظر في النصّ القرآني، من حيث كونه يحمل أحكامًا شرعية، فيجتهد أهله في سبيل استنباطها من مختلف أدلة النصّ القرآني. وهذا المنهج في النظر يعتمده مَن سمّاهم المتن الطهائي بأهل (الفقه الائتماري).

ب. منهج النظر الأصولي: وهو عبارة عن منهج يشتغل صاحبه بالبحث في النصّ القرآني عن الأصول والقواعد المعتبرة، التي تعتمد في سبيل استنباط الحكم من مختلف دلالات النصّ القرآني وغيره من الأدلة التفصيلية الأخرى. وهذا المنهج في النظر في النصّ القرآني يعتمده (الفقه الائتماري) في استنباط الاحكام الشرعية.

ج. منهج النظر التفكُّري: وهو على ضربين:

-منهج النظر التفكري الائتماري: وهو عبارة عن منهج النظر الذي يختص بـ(البحث في المبادئ أو الأصول العامة التي ينبني عليها ظاهر الأحكام الشرعية)، المستنبطة من أدلة النصّ القرآني، ومختلف الأدلة الأخرى المعتمدة مذهبيًّا.

-منهج النظر التفكري الائتماني: وهو عبارة عن منهج في النظر الذي يختصّ بـ(البحث في المبادئ أو الأصول العامة) التي تنبني عليها القيم الأخلاقية المنطوية في الأحكام الشرعية النصيّة في القرآن، وغيره من الأدلة المعتبرة. أو هو النظر المؤسّس لـ(علم أصول الأخلاق)، بالنظر إلى النصّ القرآني ليس مجرد شعائر جامدة ينظر إليها بـ(عين العلم) فقط، وإنما هي على الحقيقة والقصد الأول المصدر في الاعتبار (جملة أخلاق حيّة)، ينظر إليها بـ(عين العمل)[51].

 وعليه؛ فإن المدخل الائتماني في النظر في آيات نصّ وحي القرآن، لا يقتصر حصرًا على استنباط الأحكام الظاهرية أو الباطنية من الآيات القرآنية نصًّا أو اجتهادًا، وإنما يشتغل أساسًا بالنظر في النصّ القرآني بوصفه منظومة قيم أخلاقية كاملة ومتكاملة وناظمة للوجود الإنساني مبثوثة في مختلف أحكامه وتشريعاته، فضلًا عن كونها محمولة في (الفطرة)، والتي يتعين رعايتها وإقامتها بالقصد الأصلي الأول مِن قِبَل المكلفين قَبْل غيرها مِن (الأحكام الشرعية)، التي هي في حكم الوسائل لا غير. وهذا النظر الكلي في النصّ القرآني يعدّ فرعًا من فروع أصل من أصول النظر الطهائي، وهو أن كلّ نصّ أو حكم من نصوص وأحكام القرآن، شرعيًّا كان أو خبريًّا أو عقديًّا، إلّا ويلازمه بالضرورة خلق محدّد يتعيّن طلبه، بل هو مصدّر في الاعتبار والقصد عن الحكم الشرعي مهما كان موضوعه. والقصد من هذا النظر في النصّ القرآني ردّ الاعتبار للأخلاق والقيم الأخلاقية القرآنية، التي قلّ الاهتمام بها نظرًا وعملًا في تاريخ النظر في النصّ القرآني تفسيرًا كان أو تأويلًا وقراءة؛ بحيث هيمنت على مناهج النظر في تاريخ التفسير استنباط الأحكام، وهذا نقص يتعيّن تفاديه وسدّ ثغره، خصوصًا إذا علمنا أن كلّ ما تعاني منه المجتمعات الإنسانية اليوم في مختلف أقطار الأرض، ناتج عن ناظم الأخلاق، تركًا لها أو إهمالًا أو استبدالًا أو سوء فهم، ونحو ذلك من ضروب التعامل معها[52].

في ختام إمكان المقالة الثانية، يمكن أن نخلص إلى أن تعريف طه عبد الرحمن بماهية القرآن يتحدّد أساسًا بإبراز الخصائص الكلية النصية الناظمة للنصّ القرآني؛ اللفظية والمعنوية، مع تقديم ذلك في نسق اجتهادي يحمل ما يؤطر اجتهاده. في المقالتين الآتيتين؛ الثالثة والرابعة، نبرز جملة من معالم (النظر القرائي الطهائي الجديد)، خصوصًا لمّا يتعلق الأمر ببعض آيات ومواضيع القرآن الحكيم، على المستوى الإيماني والأخلاقي أساسًا.

 

 

[1] المقالة الأولى من سلسلة: (قراءة القرآن من منظور طه عبد الرحمن؛ عرض وتحليل): tafsir.net/article/5318.

[2] سؤال العمل، ص191. النظر إلى نصّ القرآن بوصفه (حقيقة عملية)، يرجع إلى النسق الفلسفي الذي يقيمه طه عبد الرحمن، إذ إنه وصفه بـ(الحي)، ولا حياة بغير عمل كما هو مقرّر في (الممارسة الإسلامية)، إذ (القول الذي ليس تحته عمل لا يعتبر)، كما أن (الفعل الذي ليس تحته قصد لا يعتبر)؛ لذلك تكون هذه الحقيقة مزدوجة، عملية وقصدية. سؤال العمل، ص52، 13-39. فقه الفلسفة، ج2، ص18. الحق العربي، ص95، 148. من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص86.

[3] روح الحياء، ج1، ص24. الوصف الغالب إطلاقه على القرآن من منظور المتن الطهائي، أنه (نصّ مؤسّس)، بالنظر إلى أن أغلب التأسيسات الطهائية قائمة عليه لفظًا أو معنًى أو روحًا.

[4] ذلك أنّ التعريف بالقرآن من المنظور التراثي استقرّ على مجموعة نواظم، عبارة عن محدّدات تعريفية؛ سواء تعلقت بتقسيم الآيات، نحو تقسيم آيات القرآن وفق ثنائية المكي والمدني، أو تعلقت بالمفاهيم، نحو مفهوم (المحكم) و(المتشابه) و(المطلق) و(المقيد) و(الناسخ) و(المنسوخ)، ونحو ذلك.

[5] هذا الناظم للمتن الطهائي يكاد يعم مختلف المواضيع التي كتب فيها طه عبد الرحمن.

[6] سبق التعريف بـ(الفلسفة الائتمانية) باعتبارها ناظمًا للاجتهاد الطهائي في المقالة الأولى.

[7] كما هو الأمر عند محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد.

[8] كما هو الأمر عند محمد عابد الجابري.

[9] (حفظ القرآن من التحريف المادي)، هو في فضاء (القراءات الحداثية للقرآن) بين أمرين؛ أدناهما: (التشكيك في سلامته من التحريف اللفظي)، وأقصاهما: (الزعم بكون النصّ القرآني محرَّفًا لغويًّا)، كما هو الأمر على سبيل المثال عند محمد أركون، والطيب التيزيني.

[10] سؤال العمل، ص191. إن وصف (الثقل) ليس وقفًا على (القول) القرآني، وإنما يشمل أيضًا (العمل)، فهو أيضًا موصوف به تحديدًا. نفسه، ص26.

[11] سؤال العمل، ص192. في هذا التحديد الطهائي مسألتان مقررتان على غير المنهج المعتاد في المذهب السني-الأشعري أساسًا، وهما: أن كلام الله تعالى ليس مخلوقًا، وإن كلّم أو أنزل على ذوات مخلوقة، وأن الله تعالى ليس جسمًا، فيوصف بما توصف به الأجسام، وإن ورد الخبر ببعض ذلك تعيّن صرفه إلى ما ينزّه الله تعالى عنه، كـ(الثقل) مثلًا، بوصفه من صفات الأجسام المادية.

[12] حسب الوصف النبوي للقرآن، كما في حديث الترمذي في كتاب فضائل القرآن.

[13] سؤال العمل، ص192. كون آيات النصّ القرآني تحتوي تعددًا دلاليًّا لا نهائيًّا؛ مسألة من أهم المسائل المسلّمة في فضاء (القراءات الحداثية البِدعية) حسب الوصف الطهائي، وطه عبد الرحمن بدوره من أهم ما اعتمده في التعريف بالقرآن على المستوى الدلالي الذي عبّر عنه بـ(التكوثر).

[14] سؤال العمل، ص192. ذلك مما هو ثابت نصًّا في القرآن. تأمل الآيات الآتية: [الأعراف: 158]، [الأنبياء: 106]، [سبأ: 28].

[15] سؤال العمل، ص199.

[16] من ذلك ما رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث رقم2.

[17] سؤال العمل، ص192.

[18] حديث طه عبد الرحمن عن ترجمة القرآن خصوصًا جاء في سياق النقد ليوسف الصديق بوصفه يمثل (نموذج الترجمة التأصيلية الفاسدة للقول الثقيل). سؤال العمل، ص196-198. بعد النقد عمل على بيان (مقومات الترجمة التأصيلية للقول الثقيل). سؤال العمل، ص198-208.

[19] سؤال العمل، ص192، 193. في هذا السياق تناول طه عبد الرحمن التمييز بين (الأداء) و(النقل الجبريلي) و(البروميثي). سؤال العمل، ص193، 194.

[20] سؤال العمل، ص52.

[21] سؤال العمل، ص204.

[22] روح الحداثة، ص31، 61. سؤال العمل، ص40.

[23] سؤال العمل، ص51.

[24] روح الحداثة، ص61.

[25] روح الحداثة، ص62، 63.

[26] روح الحداثة، ص63، 64.

[27] سؤال العمل، ص51، 52. روح الحداثة، ص66.

[28] بؤس الدهرانية، ص76. روح الحداثة، ص63، 64. سؤال العمل، ص228.

[29] ثبتت خاتمية القرآن نصًّا، من ذلك قوله تعالى في سورة [الأحزاب: 30].

[30] الحق الإسلامي، ص15. فضلًا عن أن حفظه ثابت نصًّا بقوله تعالى في سورة [الحجر: 9].

[31] سؤال العمل، ص52.

[32] من أهم المنطلقات التي تحدد النظر الطهائي في النصّ القرآني، أن أيّ أمر ورد في آيات القرآن، يرهن وجودًا وعدمًا بالأخلاق أو بالآثار الأخلاقية التي تتركها أحكامه وأخباره. الحق العربي، ص176.

[33] روح الحداثة، ص17، 87. الحق العربي، ص179، 180.

[34] روح الحداثة، ص216. من أهم ما يتوسل به طه عبد الرحمن لتحقيق الإصلاح الروحي أو الباطني، مفهوم (التخلق) و(التخليق)؛ إذ هو في نطاق (النموذج الشاهدي) يقيم (تجديد الإنسان). وصور (التخليق) المرجوة التحقيق، حددها المتن الطهائي في: (الائتمانية)، (العَبْدية)، (الإنسانية)، (الأخلاقية)، (الأسمائية)، (الاعتراضية-الاعتراض على الذات)، وناظمها جمعًا، أنها عبارة عن (ممارسات عملية لا مجرد توجيهات تصورية). وطريق التحقيق الأمثل: (المجاهدة)، بوصفها تقوم على (بذل أقصى الجهد) المترجَم في: (مخالفة الأهواء)، و(محاسبة النفس). سؤال العنف، ص92، 93، 162. اللسان والميزان، ص223، 242.

[35] روح الحداثة، ص215. سؤال الأخلاق، ص226. الحق العربي، ص176.

[36] سؤال الأخلاق، ص44.

[37] سؤال الأخلاق، ص187. سؤال العمل، ص191، 228.

[38] سؤال الأخلاق، ص226.

[39] سؤال العمل، ص231. سؤال الأخلاق، ص226. حديث طه عبد الرحمن عن (العمل) في صلته بهذا السياق الاعتباري، جعله يحدد له الصفات التالية باعتباره أصله الكلي: أنه عبارة عن عبادة، أنه أداء للأمانة، أنه تخلّق، أنه إحياء. دين الحياء، ج3، ص175-177.

[40] سؤال العمل، ص230، 231.

[41] الحوار أفقًا للفكر، ص34، 35.

[42] سؤال العمل، ص228. تأمل آية سورة [آل عمران: 80].

[43] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص34. دين الحياء، ج1، ص77.

[44] روح الحداثة، ص215. تأمل الآيات الآتية: [البقرة: 130، 131، 132]. [آل عمران: 66]. [يوسف: 101].

[45] روح الحداثة، ص18. سؤال الأخلاق، ص187. سؤال العمل، ص229. يقول طه عبد الرحمن: «تقتضي الخاتمية أن الأصل في الحقائق والقيم النصية في القرآن لا تصدق في زمن بعينه، وإنما تصدق في الأزمنة كلّها إلى حين نهاية الدهر، ولا يصار إلى اعتبارها صادقة في زمن مخصوص إلّا بدليل». سؤال العنف، ص34، 35.

[46] روح الحداثة، ص86، 87.

[47] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص34. دين الحياء، ج1، ص77. سؤال العمل، ص229. سؤال الأخلاق، ص187.

[48] دين الحياء، ج1، ص77. روح الحداثة، ص64. اللسان والميزان، ص287-289. في هذا السياق أكثرَ المتن الطهائي من نقد مقولة (التسوية بين الأديان).

[49] روح الحداثة، ص215. بؤس الدهرانية، ص34، 35، 49، 75، 77. دين الحياء، ج1، ص14. يميز طه عبد الرحمن في (الدين المنزل) بين صورتين؛ أولاهما: (الصورة الفطرية)، وهي الصورة -حسب التنصيص الطهائي- التي نزل بها الدين أول ما نزل إيمانًا بها وعملًا بمقتضاها، والتي تتّحد مع فطرة الإنسان، باعتبارها ذاكرة أصلية تحفظ آثار سابق اتصالها بالغيب. ثانيتهما: (الصورة الوقتية)، وهي الصورة التي يتخذها الدين في كلّ فترة. بؤس الدهرانية، ص32.

[50] ثغور المرابطة، ص30. سؤال العمل، ص225.

[51] دين الحياء، ج1، ص21، 22، 24.

[52] هذا راجع بالأساس إلى المنزلة العليا التي تنزلها (القيم الأخلاقية) من منظور طه عبد الرحمن، في مختلف المواضيع التي نظر فيها نقدًا أو تأسيسًا؛ سواء تعلق الأمر بالتعريفات، أو الانتقادات، أو البناءات، ونحو ذلك.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))