قراءة القرآن من منظور طه عبد الرحمن؛ عرض وتحليل (1-4)
مدخل تعريفي

الكاتب : محمد كنفودي
تتناول هذه السلسلة بالعرض والتحليل النظرَ القرائي لطه عبد الرحمن للنصّ القرآني، وتأتي المقالة الأولى للتعريف بالنظر القرائي الطهائي الجديد للقرآن، والذي وسَمه بـ(النظر الائتماني)، مع عرض أبرز أسسه ومبادئه ومسوّغاته.

  نتناول في هذه السلسلة من المقالات المتعلّقة بقراءة طه عبد الرحمن للقرآن الحكيم، بيانَ المحدّدات المنهجية والمعرفية الناظمة التي تتأسّس عليها قراءته؛ سواء في بُعدها النقدي أو التأسيسي؛ إِذْ لم يجتهد طه عبد الرحمن في تقديم قراءة إمكانية للقرآن -كما سيتبيّن في المقالات تِباعًا- إلّا بعد أن وقف على جملة أعطاب ومزالق تخلّلت سائد النظر القرائي لآيات نصّ القرآن.

في المقالة الأولى نتوقّف عند التعريف بالنظر القرائي الطهائي الجديد للقرآن، الذي وسَمه بـ(النظر الائتماني)، بكونه مدخلًا محققًا لـ(القراءة الحداثية الـمُبدعة)، فضلًا عن مقوّمات نظره لما قُدّم من اجتهادات في سياق النظر في آيات النصّ القرآني في تاريخ الفكر الإسلامي.

تسهيم:

يقول طه عبد الرحمن: «إنّ الفلسفة الائتمانية تستمد عقلانية التأييد من النصوص المؤسّسة للتراث الإسلامي، متضمنة لفلسفات ثلاث، هي: فلسفة الشهادة، وفلسفة الأمانة، وفلسفة التزكية؛ لذلك، كانت جديرة بأن توصف بأنها فلسفة إسلامية حقيقية، أو حتى فلسفة إسلامية خالصة»[1].

أولًا: التعريف بماهية النظر القرائي الائتماني الجديد:

يعدّ مدخل (الفلسفة الائتمانية) من أهم المداخل المنهجية والمعرفية التي يعتمدها طه عبد الرحمن في سبيل التأسيس الحداثي لقراءة آيات النصّ القرآني وغيره من مواضيع النظر التأسيسي[2]. فبعد أن أقام بنيانها وأحكم القول في مقوماتها ومتعلقاتها الكلية والجزئية بصورة تدريجية متتالية القفزات التأسيسية[3]، فرّع عنها ما سمّاه بـ(الفقه الائتماني)، قصد مقاربة العديد من القضايا التاريخية والمعاصرة، في مقابل (الفقه الائتماري) كما سنبيّن ذلك في مقالة لاحقة[4]. نروم في هذا السياق التعريف بـ(الفلسفة الائتمانية) بصورة مجملة، باعتبارها من أهم نواظم التأسيس الفلسفي المعاصر لقراءة النصّ القرآني (قراءة حداثية). فـ(الفلسفة الائتمانية) بهذا الاعتبار، ليست مجرّد فكرة أو منظور جزئي ذري عابر أو مُلقى على الغارب، وإنما هي عبارة عن منهج مقرّر ورؤية ناظمة محدّدة لمنهجية النظر ومعرفية العمل معًا[5]، وبالنظر إلى محوريتها في (القراءة الحداثية) الطهائية، نعرض التعريف بها في هذه المقالة وفق ما يأتي:

1. تحديد دلالة النظر الفلسفي الائتماني:

يطلق المتنُ الطهائي على (النظر الجديد) الذي اتخذه منهجًا للتأسيس والنظر والنقد، تعابيرَ شتى وصفًا وتحديدًا، نحو: (النظرية الائتمانية)، (الفلسفية الائتمانية)، (النظر الائتماني)، (المنظور الائتماني)، (الأنموذج الائتماني)، (الرؤية الائتمانية)، (المقاربة الائتمانية)، (الفقه الائتماني)، (الفكر الائتماني). من هذا الحيث اعتبره طه عبد الرحمن قائمًا على ناظم (النظر الإمكاني الإبداعي العربي الإسلامي)[6]، وهو كذلك -بحسب طه عبد الرحمن- «فكر عالمي معاصر» بالنظر إلى أصله المؤسّس، وهو النصّ القرآني[7].

إنّ الناظم الكلي للمنظور الفلسفي الذي يؤسّسه المتن الطهائي، هو أخلاقي باعتبار الأصل الأول المصدّر في الاعتبار[8]، والذي يمتح إمكاناته المعنوية من النصّ القرآني المؤسّس[9]، فهو بالتبع عبارة عن (فلسفة أخلاقية إسلامية خالصة بحقّ)[10]. لذلك، تجد أن (الفلسفة الائتمانية) قائمة في الأصل على قيمة (الأمانة) ومبدأ (الائتمان) بـ(شرط الاختيار)، فهي من هذا الحيث ذات وجهين: (تعبدي) و(تدبيري)، أو قل جمعًا: (التعبّد التّدبيري)، إذ إن (الأمانة) من المنظور الطهائي لها وجهان يختلفان باختلاف النظر إليها؛ فإذا تم النظر إليها من حيث تعلقها بـ(العالم الغيبي)، الذي طَوْره هو فوق طور (العقل المجرد)، سميت (تعبّدًا)، وإذا تم النظر إليها من حيث تعلقها بـ(العالم المرئي)، الذي طوره هو طور (العقل المستقل)، سميت (تدبيرًا)، فهي بهذا الاعتبار النظري تفيد أن الإنسان «تحمّل حفظ الأحكام الإلهية لا في ظواهرها كأوامر» فحسب، وإنما «في بواطنها كشواهد» أيضًا؛ سعيًا نحو توسيع الوجود إلى أقصى مدى ممكن حسب الجهد المبذول المتواصل اجتهادًا وجهادًا[11]. فكانت (الفلسفة الائتمانية) بهذا التحديد، عبارة عن النظر الذي يختصّ بالبحث والتفكير في الأصول والمبادئ العامة التي تنبني عليها القيم الأخلاقية المنطوية في الأحكام الشرعية النصيّة المؤسّسة لها، اشرئبابًا نحو أفق (الشاهدية الإلهية) و(ائتمانية القيم الأخلاقية)[12]. وقد أطلق عليها طه عبد الرحمن اسم (النظرية الائتمانية)، باعتبار المبدأ الذي تنبني عليه، وهو (مبدأ الائتمان)، وهو عبارة عن علاقة بالأشياء تُضاد علاقة (النسبة) أو (الإضافة)، أو علاقة (الامتلاك) و(التملك)؛ ذلك أن العلاقة بالأشياء من المنظور الائتماني ذات طبيعة (روحية) أخلاقية مجرّدة، تقوم على ناظم إضافة الشيء إلى مالكه الحقيقي سبحانه استخلافًا، أمّا العلاقة بها من المنظور النسبي أو الامتلاكي، فهي ذات طبيعة (نفسية) مادية محايثة؛ تقوم على ناظم إضافة الشيء إلى الذات تملكًا وحيازة[13]؛ بناء على الفرق بين مفهوم (النفس) ومفهوم (الروح) في المتن الطهائي[14]. وينبني هذا التمييز بينهما من المنظور الطهائي أيضًا، وفق تسمية أو اصطلاح آخر، وهو أن خلق (الأمانة) و(الائتمان) غير خلق (الخيانة) و(الاحتياز)، بل إنهما متضادان[15].

يرى طه عبد الرحمن أن المدلول الاستعمالي لمفهوم (الائتمان)، يتحدّد وفق دلالتين؛ أولاهما: ائتمنه بمعنى (استرعاه)، وهو طلب الرعاية والرعي تعهدًا. ثانيتهما: ائتمنه بمعنى (استودعه)، وهو ترك الوديعة عند المؤتمن. و(الوديعة) هي (كلّ شيء محفوظ إلى حين ردّه إلى المستحفظ). فـ(الاسترعاء) يتحدّد بكونه التزامًا برعاية شيء مخصوص. و(الاستيداع) يتحدّد بالالتزام بحفظ شيء مخصوص. وخصوصية دلالة الاستعمال لـ(الرعي) و(الحفظ)، أنهما إن تداخلا فهما لا يترادفان؛ ذلك أن (الحفظ) يفيد (صيانة شيءٍ ما في محلّ مخصوص إبقاءً له على حاله التي استحفظ فيها)، بينما (الرعي) يفيد (العناية بالشيء من غير اشتراطٍ لحفظه على حاله التي استُرعِي فيها). فيستعمل بالتبع مصطلح (المسؤولية) للدلالة على معنى (الرعي) الذي يوجبه (الاسترعاء)، ومصطلح (المستودَعية) للدلالة على معنى (الحفظ) الذي يوجبه (الاستيداع). فتكون بذلك (الأمانة) التي تَعهّد واختار الإنسانُ حملها بعدما واثَق الله على ذلك وهو في (عالم الغيب)[16]، تتفرّع إلى (أمانة المسؤولية) والتي شرطها (الاختيار)، و(أمانة المستودَعية) وشرطها (الاحتفاظ)، ومن هذا الحيث، فإن ما يناقض (أمانة المستودَعية) هو (الحيازة)، ذلك أنها عبارة عن علاقة ملكية تسيدية. وما يناقض (أمانة المسؤولية) هو (الإجبار). فـ(الائتمان) بالتبع ليس (علاقة مِلك) وإنما (علاقة احتفاظ)، ولا (علاقة مُلك)، وإنما (علاقة اختيار)[17].

إنّ (الأمانة) في الإسلام كما يرى طه عبد الرحمن، مجالات التفكير فيها واسعة، بالنظر إلى أن (المسؤولية الائتمانية) هي ذات (أصل ملكوتي)، حصلت بمقتضى (ميثاق مخصوص)، فهي تتّسع بالتّبع لكلّ شيء يقع في أفق الإنسان من الموجودات، أو يدخل في إمكانه من المفعولات، وذلك بحكم خاتمية نصّها المؤسّس[18].

في سياق التأصيل القرآني لـ(الفلسفة الائتمانية) بوصفها فلسفة إنسانية، بيّن طه عبد الرحمن أنها تتأسّس على مفهوم (الأمانة) الوارد في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72]. ذلك أن (ميثاق) أو (مبدأ الائتمان) حسب منطوق النصّ القرآني، يكون به الإنسان قد حمل (الأمانة) باختياره، وأُخذ منه (الميثاق) على ذلك تصريحًا. وتحديد معنى (الأمانة) في النصّ القرآني، يقوم على ضابطين منهجيين؛ أولهما: أن يكون المعنى المعطى لها قريبًا من المعنى اللغوي، فهو بذلك، «الشيء الذي يؤتمن المرء على حفظه، فلا يحقّ له أن يحوزه متصرفًا فيه»، فيكون بالتبع لـ(الأمانة) ضدان؛ هما: (الخيانة) و(الحيازة). ثانيهما: أن ينبني المعنى المعطى لها على نصّ قرآني، وهو في هذا السياق قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]. فتحمل (الأمانة) على معنى (العبادة) بالمعنى الواسع[19]، التي خلق من أجلها الإنسان في (العالم المرئي) أو في (عالم المُلك). فتكون (الأمانة) هي (العبادة)، و(العبادة) هي (حفظ القيم الأخلاقية) التي تنطوي عليها الأحكام الشرعية النصية[20].

2. من الأسس البانية للنظر الفلسفي الائتماني:

تتأسّس (الفلسفة الائتمانية) -التي قدّم طه عبد الرحمن اجتهادات شتى في سبيل إقامتها تنظيرًا وتطبيقًا- على جملة عمد ناظمة تقيم بنيانها وتؤصّل منظورها النظري والعملي، نورد من أهمها:

أ. أساس النصّ المؤسّس؛ بحيث إنّ النصّ الشرعي المؤسّس -القرآن والسنة-، هو أصل الأصول لنظرية (الفلسفة الائتمانية)، فضلًا عن عموم اجتهادات طه عبد الرحمن التأسيسية اجتهادًا، التي تستلهمها استعمالًا ومفهومًا ودلالةً ومقصدًا، ونحو ذلك من أضرب العلاقة بالنصّ الشرعي؛ لذلك اعتبر أن هذه النظرية هي (فلسفة إسلامية حقّة)، أو هي (فلسفة إسلامية خالصة)[21]، باعتبار قيام بنيانها على النصّ الشرعي، إنْ بطريقٍ مباشر أو غير مباشر.

 إنّ (النظرية الائتمانية) بالنظر إلى كونها تتأسّس على (حقيقة إناسية)، وهي (أن الإنسان فُطِر على الدّين)، ومَن أنكره يكون في مقام مَن أنكر خلقه، فهي من المنظور الطهائي تعدّ (نظرية أخلاقية) تتأسّس على (حقائق الإنسان التي اشتركت فيها الأديان المنزلة وتوارثتها الحضارات)؛ سواء أقرّت بـ(أصولها الدينية) أو (أنكرتها)[22].

ب. أساس العقل المؤيّد الموسّع أو الاتّساعي أو المتقلّب أو المتكَوثِر؛ بحيث إن هذا الأساس الذي تقوم عليه نظرية (الفلسفة الائتمانية) محدّد مركزي في مقابل عموم الفلسفات التي تتأسّس على (العقل المستقل) أو (النظر المجرد)، أو قل: (المضيّق)، كـ(الفلسفة الدّهرانية) ونحوها. بهذا كانت (نظرية الفلسفة الائتمانية) ليست من جنس ما يسمى في التراث الإسلامي العربي بــ(الفلسفة الإسلامية)، أو ما يسمى بـ(الفلسفة الغربية) حداثية كانت أو غيرها، إذ كلتاهما قام بنيانه النظري تأسيسًا على ناظم ما سماه طه عبد الرحمن بـ(العقل المجرد)؛ سواء تأثرًا بـ(المنقول اليوناني) كشأن الفلسفة الإسلامية، أو كشأن الفلسفة الغربية الحداثية في كثير من متجلياتها التي نشأت على ناظم (الفصل)، أمّا (الفلسفة الائتمانية) فقد تأسّست على ناظم (العقل المؤيد) الموصول والممدود الصلة بالنصّ الشرعي الإسلامي[23].

ج. أساس خلق الائتمان؛ بحيث إنها سميت به جوهرًا وروحًا وفضاءً، وهو في هذا السياق التأسيسي عبارة عن فعل سلوكي روحي ينتظم في إضافة الشيء إلى مالكه الحقيقي استخلافًا[24]؛ بحيث لا يضيف الشاهد المشهود أيًّا كان إلى نفسه، ولا بالأولى أن يملكه، وإنما يرعاه باعتباره وديعة اؤتمن عليها، يؤدي المتّصف به واجبات حفظه ورعايته، قبل استيفاء الحقوق التي خوّلها له مالكه الحقيقي سبحانه. فلا ائتمان إذًا من المنظور الطهائي، إلّا مع تقدم (الواجبات) على (الحقوق)، وهو بهذا الاعتبار على عكس (الاختيار). فيكون هذا الخلق قائمًا بالتبع على وجوب تقديم اعتبار (الأمانة) على اعتبار (الملك)، أو قل: «أسبقية الواجب الائتماني على الحقّ الامتلاكي»[25].

3. من المبادئ الكلية للنظر القرائي للفلسفة الائتمانية:

ينتظم المنظور الائتماني بوصفه (فلسفة إسلامية أخلاقية خالصة بانية) في مجموعة من المبادئ الكلية، وهي حسب تنصيص طه عبد الرحمن، «مفاهيم محورية في الثقافة الإسلامية»، كونها (تعارض التصورات المعرفية الأساسية)، التي تنبني عليها الفلسفة الدهرانية الغربية بشتى تعلقاتها واتجاهاتها المجالية[26]، ومن أهمها:

أ. مبدأ أو ميثاق الائتمان؛ بحيث إن مبدأ (الائتمان) به تتحدّد مسؤولية الإنسان في الكون، بدءًا بـ(الائتمان الغيبي)، وانتهاء بما سماه المتن الطهائي بـ(الائتمان على الائتمان)، الذي هو في الأصل متفرّع عن (ميثاق الائتمان)، الذي هو بدوره يقوم في ناظمه الجامع على إدراك الصلاحيات العملية في الحركات الوجودية وجودًا وعدمًا[27]. ذلك أن هذا المبدأ يجعل الإنسان يتجرد كليًّا مِن هَمّ أو روح (التملك)؛ رمزيّه قبل ماديّه، الذي يُفْضِي به إلى أن يكون متحملًا كافة مسؤولياته التي يوجبها عليه كمال عقله، بدءًا بالمسؤولية عن الأفعال، وانتهاء بالمسؤولية عن الكائنات الحية، وعن الأشياء كلّها في هذا العالم، بل المسؤولية عن الكون نفسه؛ بالنظر إلى أن كلّ الموجودات في العالم أو في الفضاء الائتماني عبارة عن (أمانات) بين يدي الإنسان، الذي اؤتمن عليها إيمانيًّا وتعبديًّا واستخلافيًّا واستعماريًّا[28].

ب. مبدأ أو ميثاق الشهادة أو الشاهدية؛ بحيث إنّ مبدأ (الشهادة) به تتحدد الهوية الوجودية للإنسان في الكون، بدءًا بـ(الشهادة)، وانتهاء بما سماه طه عبد الرحمن بـ(الشهادة على الشهادة). ومبدأ (الشهادة) أو (ميثاق الإشهاد) متفرّع عن (ميثاق الائتمان)، الذي يقوم في الأصل على إدراك الكمالات الإلهية في العالم المرئي، أو قل: في عالم الشهادة. و(الشهادة) بوصفها رؤية الشيء بعين الروح والبصيرة، فهي تفيد درجة عالية من اليقين، كاليقين المتحقّق برؤية الشيء بجارحة العين؛ لذلك كانت متضمنة لما سمّاه طه عبد الرحمن بـ(الآمرية)[29]. إنّ (الشهادة) أو (الشاهدية) بهذه المعاني وغيرها، تجعل الإنسان يستعيد فطرته محصلًا حقيقة هويته ومعنى وجوده، بدءًا بشهادة الإنسان في العالمَين؛ المرئي والغيبي، التي يقرّ فيها بوحدانية الله تعالى وشهادة الخالق على هذه الشهادة، وانتهاءً بالشهادة على الذات والآخرين، مرورًا بالشهادة بمعنى المعاينة والحضور والإشهاد[30]. بذلك كان مقتضى (الشاهدية الإلهية) الأصل في كلّ تخلّق، ما دام أن الله تعالى يأمر ويرى، أي: يشهد؛ يشهد ظاهر الأعمال وباطنها، حاكمًا عليها قبولًا وردًّا، فيكون تخلّق الإنسان متحقّق بحصول هذه (الشهادة الإلهية). بل إنّ الإنسان المؤيد قد يرتقي من خلال (الشهادة) إلى مقام (التقرُّب)؛ بحيث ينتفي معها الشعور بقهر الأوامر والنواهي ومشقاتها التكليفية، ويحلّ محلّها الشعور بالأنس والاسترواح وتذوّق الجمال[31]. فـ(مبدأ الشهادة) بالمعنى العام المفضي إلى (التخلّق)، أو بالمعنى الخاصّ المفضي لـ(التقرُّب)، الموصل لإسراء الإنسان بالعمل، وعروجه بالتخلّق، تنتج عنه من المنظور الطهائي نتيجتان؛ أولاهما: أن القيم والمعاني الأخلاقية تتحوّل إلى قيم ومعانٍ جمالية؛ بمعنى أن التخلّق يتحوّل بسببها إلى تجمّل. ثانيتهما: أن القيم الجمالية تتحوّل إلى قيم معرفية؛ بمعنى أن التجمّل يتحوّل إلى تعرُّف[32]. تأصيلًا لهذا المبدأ الائتماني استدلّ طه عبد الرحمن بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف: 172-174]. ومقتضى الآية، أن الإنسان قد شهد في (عالم الملكوت) بربوبية الخالق سبحانه، فأخذ منه (ميثاق الإشهاد) على ذلك؛ بالنظر لخصوصية (مبدأ الإشهاد)، فقد كان (عين الشهادة) إقرارًا عن عيان، على عكس (علم الشهادة) المتعلق بـ(عالم الملك) الذي يكون بنعت البيان، فكانت بذلك (عين الشهادة) إدراكًا عيانيًّا روحيًّا خالصًا، على عكس إدراك (عالم الشهادة)، الذي هو إدراك عيان القلب[33].

ج. مبدأ التزكية وميثاق الترقي الروحي؛ بحيث إنّ مبدأ (التزكية) به تتحدّد فاعلية الإنسان في الوجود الذاتي والغيري، بدءًا بـ(تزكية النفس)، وإسراء بها بالتخلق، وانتهاء بـ(عروج الروح)، باعتبار أنه يصل (عالم الملك) بـ(عالم الملكوت)، الذي يشهد أخذ هذين الميثاقَين من الإنسان[34]. فـ(التزكية) بمختلف مراتبها وإن كانت خيارًا من المنظور الطهائي، إلّا أنها لا ثاني لها؛ بالنظر إلى كونها تجعل الإنسان يجاهد نفسه لتحقيق القيم الخلقية والمعاني الروحية المنزلة ابتغاء مرضاة الله تعالى في أعلى نِسَبِها الممكنة[35]. فيكون الأصل في (التزكية) أنها تتصل بـ(التنمية المعنوية) للإنسان، إذ المتصف بها لا ينقطع عن طلب الأسباب للارتقاء بها إلى أرقى نسبة ممكنة، مثلها في ذلك مثل اجتهاد الإنسان في سبيل الارتقاء بـ(التنمية المادية). لذلك، فإن (التزكية) حسب تنصيص طه عبد الرحمن لا سقف يحدّ من تشوّفها إلى مزيد من الاستكمال. ومن هذا الحيث، تعيّن على الإنسان المعاصر طلب (التنمية الروحية) على الأقل على قدر طلبه (التنمية المادية)، ليقع التوازن بين المكونات المادية والروحية للإنسان[36]. ويتميز مبدأ (التزكية) عن غيره من أشكال التربية الخلقية بكونها أعلق بالمستقبل البعيد منها بالحاضر القريب؛ إذ إنها تتولى بالأساس تفجير الممكنات الأخلاقية والمكنونات الروحية لدى الأفراد والجماعات، سعيًا للارتقاء بإنسانيتهم التي بها ينمازون عن غيرهم من المخلوقات في هذا الوجود المشهود؛ بحيث إنّ الأصل فيها هو (الترقية الروحية) و(التنمية الخلقية)، ذلك أن واجب الإنسان في العالم الائتماني ليس هو أن يطلب التقدّم بنوعيه؛ المادي والروحي، بل أن يجعل التقدّم المادي تابعًا للتقدم الروحي، وإلّا فلا تقدّم في إنسانية الإنسان بغير التقدّم الروحي. بهذا الاعتبار الطهائي، فإن (التزكية) بوصفها تربية فردية وجماعية، فهي الأقدر من غيرها على التصدي لكلّ العلل الاجتماعية، بل للآفات العالمية؛ خلقية كانت أو روحية، لاعتبارات ثلاثة؛ أولها: أنّ اتباع منهج (التزكية) في التربية يُخرِج الفرد من التعلّق بالوجود الدنيوي الضيّق، إلى أفسح وجود إمكاني. ثانيها: أن تحقيق ثورة الفرد الخلقية والروحية، بوصفها ثمرة للتفاعل داخل الجماعة يسهم في تحقيق النهوض بواجب تقدم الإنسانية جمعاء. ثالثها: أن المكنونات المتحققة بـ(التزكية) تفضي إلى طلب التنمية المعنوية أو الروحية بغير انقطاع[37]. تأصيلًا لهذا المبدأ الائتماني، استدلّ طه عبد الرحمن بقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة: 151، 152]. يقتضي هذا المبدأ الائتماني أن يرتقي المتزكي من رتبة (الإدراك الملكي) بوصفه «عيان قلبي مقيد تجزيئي امتلاكي»، إلى (الإدراك الملكوتي) بوصفه «عيان روحي مطلق تعبدي تكاملي يسع الأعمال جميعًا على وجه الائتمان»، فكان بذلك (شهادة عيانية) لا ريب فيها، و(عبادة حقّية) لا مِلك معها، من باب وصل التلازم بين (الشهادة) و(العبادة) الذي لا حدّ يقف عنده، باعتبار أن قانون الملكوت هو (اللا تناهي)، فكانت بذلك (التزكية) رتب لا تتناهى ومراتب لا نهاية لها، فاتخذت (التزكية) بذلك صورتين جامعتين؛ أولاهما: (الارتقاء بالخُلق تقربًا)، المتجلي في كون (التزكية تخرج الإدراك المُلكي من شهادته البيانية إلى شهادة عيانية). ثانيتهما: (الارتقاء بالعمل تجردًا)، المتجلي في أن (التزكية تخرج الإدراك المُلكي من عبادته الحظية إلى عبادة حقيّة)[38].

د. مبدأ الآياتية الواصل الحي، أو مبدأ ردّ الظواهر إلى الآيات؛ لما كان مقتضى (الآياتية) بدلالاتها (المعنوية الكونية الكلية) أن يجعل النظر يتمّ في العالم من منظار كونه مجموعة (آيات)، وليس مجرد (ظواهر)، فيكون بذلك العالم مجموعة من (الآيات التكوينية)، نظير كون الدين مجموعة من (الآيات التكليفية). و(الآية) في بعدها التكويني من المنظور الطهائي غير (الظاهرة)[39]، نظير كون (الملكوت) غير (الملك)؛ ذلك أن النظر في الكون يتعيّن أن يتم وفق قانون أنه آيات عظمى دالة على أن لها موجدًا نصبَها أمارة شاهدة عليه سبحانه تعرفًا وتقربًا، نظير كونها دالة على مجموعة من القيم الأخلاقية والمعاني الروحية تمثلًا وسريانًا، التي لا ينفذ إليها إلّا صاحب البصيرة المتّقدة الحيّة، أو صاحب النظر الآياتي، فيكون قانون (الآيات) يوجب ألّا تنفك عن الدلالة على الشاهد الإلهي، فيتعيّن حسب المنظور الائتماني أن لا يتوقف النظر عند ملاحظة الظاهرة في بعدها المادي الصرف القابل للنفاذ، كما هو منهج (الأنموذج الدهراني)[40]، القائم على التصوّر الخارجي البراني للأشياء، وإنما يتعين اتخاذها واسطة للوصول إلى معانيها وقيمها التي لا تنفذ، كما هو منهج (الأنموذج الائتماني)، القائم على التصوّر الداخلي الجواني للأشياء التي لا ينفذ. ذلك أن الأصل كما ينصّ طه عبد الرحمن في النظر إلى الأشياء هو (النظر الآياتي)، الذي من شأنه أن يوسع آفاق النظر في العالم المنظور، واصلًا له بعالم غير منظور، والعالم غير المنظور الملازم للعالم المنظور، هو ما يسمى بـ(عالم الملكوت)، بوصفه (عالم المعاني الروحية والقيم الأخلاقية). وبهذا الاعتبار فإن الأصل في وجود (الظواهر) هو المعاني أو القيم (الآياتية)، الدالة على ما وراءها من المعاني الإيمانية[41].

هـ. مبدأ الإيداعية الأخلاقي الفاعل؛ بحيث إن مقتضى (الإيداع) جعْل مطلق الأشياء التي في يد الإنسان (ودائع)، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان ينسب هذه الودائع إلى بارئها وشاهدها نسبة مطلقة، وإلّا فلا أقلّ من أنْ ينسُبها إلى خالقها قبل أن ينسبها إلى نفسه. ونسبة الأشياء التي في يد الإنسان إلى الخالق سبحانه هي في أصلها (نسبة روحية)، في حين نسبتها إلى الإنسان هي (نسبة نفسية) بالمعنى الوجودي. وبقدر ما ينسب الإنسان الأشياء إلى الخالق خلقًا، فإنه تعالى ينسبها إلينا فعلًا؛ لأنه تعالى (عطاء كلّه) وفيض لا ينقطع ولا ينفذ. فتكون علاقة الإنسان بالأشياء، هي علاقة من ملّكه الله إياها؛ بحيث يصبح ما يُملّك (آية تكوينية)، وملكه (آية تكليفية)، فيفضي به الأمر إلى أن يشهده سبحانه قبل أن يشاهد الأشياء، ويتعامل معه سبحانه قبل أن يتعامل معها، بل يتخذ التعامل معها سبيلًا إلى التعامل معه سبحانه. وهذا التمليك الإلهي الذي يورث تخلقًا شاهديًّا روحيًّا، هو مقتضى (الإيداع)، الذي هو أن تملك ما تملك لا ابتداء، أي: بنفسك، وإنما بواسطة، أي: بخالقك الشاهد لك وعليك؛ بحيث يكون ما ملّكك إياه المالك الحقّ سبحانه عبارة عن أمانة يودعها لديك كـ(الوديعة). و(الوديعة) حسب تنصيص طه عبد الرحمن، هي: (الشيء الذي يجعله الخالق الشاهد في حوزتك، موكلًا إليك أمر رعايته، وكلّ ما يوكل إليك الخالق رعايته، يقتضي حقوقًا لك وحقوقًا عليك، إلّا أن التمتع بحقوقك فيه موقوف على أداء التي عليك بشأنه). ولا يخفى أن تقديم حقوق (الوديعة) على أمر التّمتع بها يفضي أيضًا إلى الحدّ من نزوع الإنسان نحو اختزالها في الملك ماحيًا صفتها كـ(آية تكوينية)، كما أن فيه توسيعًا لنطاق شعوره بالمسؤولية إبرازًا لصفته كـ(آية تكليفية). ومقتضى هذا (الإيداع) -حسب طه عبد الرحمن- أن يورث التحقّق بخلق (الفتوّة)[42]. لذلك، فإن هذا المبدأ (الإيداعي) الائتماني، من شأنه أن يسلم إلى تغيير علاقتنا بالأشياء المملوكة تغييرًا جذريًّا، قصد الخروج من صورة (الامتلاك) إلى صورة (الائتمان)، لتحقيق النهوض بالمسؤولية نحوه، ما دام الإنسان يتخذ الشاهد الإلهي واسطة في التعامل معها، الذي يورثه تخلقًا روحيًّا داخليًّا يصل المتصف به إلى الأفق الأعلى، مرتقيًا بذلك في مدارج الكمال الخلقي والروحي[43].

و. مبدأ الفطرية وتوريث الخلق الشامل؛ بحيث إن مقتضاه الأصلي أن (الأخلاق) مأخوذة من (الفطرة)[44]. وأصل حقيقة نشوء (الفطرة) الخطاب الإلهي لأرواح الآدميين في عالم الغيب الذري الأول، عالم الإشهاد الروحي، وناظمه أن لا إله إلا هو سبحانه، هذا الناظم الذي تولى مختلف الأنبياء والرسل -عليهم السلام- نقله إلى أقوامهم في مختلف مراحل عالم الشهادة. ويلزم من ذلك حسب التنصيص الطهائي، أن (الفطرة) و(التجسيد) نقيضان لا يجتمعان. و(النموذج الائتماني) الذي يجتهد طه عبد الرحمن في سبيل تأسيسه ينبني على أن (الأخلاق) الحيّة مستمدة أصلًا من (الفطرة) التي خلق عليها الإنسان؛ لأنها تحفظ ذكرى شهادته للإله بالوحدانية، كما تحفظ شهادة الإله على هذه الشهادة. فكانت هذه (الأخلاق) التي تورثها (الفطرة)، (ائتمانية) (روحية) (وجوبية) (أسمائية) (ربانية)[45].

ز. مبدأ الجمعية اللاحمة بين المتقابلات؛ بحيث إنّ (الدين) من المنظور الطهائي بكليته (أخلاق)، وذلك لسببين؛ أولهما: أن إنسانية الإنسان تتحقق بـ(الأخلاق المسددة)، وليس بـ(العقلانية المجردة). ووظيفة (الدين) تحقيق (كمال التخلق) بـ(التسديد). ثانيهما: أن الأخلاق تعمّ جميع أفعال الإنسان، وليس بعضها فقط، فتكون جمعية الإنسان متحققة بجمعية الدين، كما أن كمال أخلاقه متحقق بكمال أحكامه. وقد استدلّ طه عبد الرحمن على كون الدين المنزل بكليته أخلاق (بقاعدتين)؛ الأولى: قاعدة تأسيس العلاقة بين الدين والعلم على ناظم (الآياتية)، وهي تفضي إلى نتيجتين؛ أولاهما: أن أسماء الصفات الإلهية المنزلة، ليست مجرد تعريفات شرعية دالة على الذات الإلهية، وإنما هي تجليات كونية حاملة قيمًا ومعانِيَ على قدرها، وهي عبارة عن أصول القيم والمعاني المتخلق بها إنسانيًّا، فيتحقق التخلق على قدر التعرف[46]. الأخرى: أن الأحكام بوصفها أوامر ونواهي، ليست مجرد أعمال ظاهرة، وإنما هي أحكام تكليفية تقترن بمقاصد أخلاقية وآفاق روحية، وهي التي يتعين على الإنسان اتباعها، فيتحقق التخلق على قدر العلم. الثانية: قاعدة تأسيس الشاهدية الإنسانية للإلهية على ناظم (الملكوتية)، وهي تفضي إلى ثلاثة نتائج، أن الإيمان والعبادة هما في الأصل أخلاق روحية، وأنهما ينزلان منزلة الأصل الذي تنبني عليه أعمال الدين كلها، وأنهما الغايتان اللتان خلق من أجلهما الإنسان في وجود عالم الشهادة[47]. وفي هذا السياق، تبطل دعوى بناء الأخلاق على غير أصل الدين، إذ لا تكون الأخلاق روحية [48].

وعليه؛ فإن مبادئ نظرية (الفلسفة الائتمانية)، بقدر ما هي مفاهيم إسلامية بمحمولات دلالية دينية أخلاقية روحية، فهي نواظم منهجية ومعرفية إصلاحية لعموم الأنظار الفلسفية دهرانية كانت أو غيرها؛ سواء في بُعد مسلك (الفصل)، أو في بُعد مهيع (التجريد).

4. من خصائص نظرية الفلسفة الائتمانية:

أ. إنها فلسفة فطرية ملكوتية روحية دينية؛ بحيث إن (الإنسان الغيبي) في طوره الخُلقي الأول (طور الكمون)، قد أخذ منه العهد على (الائتمان)، كما أخذ منه العهد على (الإشهاد) على حدّ سواء. و(ميثاق الائتمان) الذي اختاره الإنسان هو «ميثاق مقدس من مقدس على أمور مقدسة»؛ فالمقدس هو «أول مكوّن فطري قاعدي اؤتمن عليه الإنسان» كما يقول طه عبد الرحمن. وطور هذا العالم، (عالم الملكوت)، هو عبارة عن (عالم المواثيق بين الخالق والمخلوق)، والناكر له هو في مقام من أنكر خلقه الأول، وإن كان غيبًا صريحًا، أو وجودًا بالكمون والقوة[49].

ب. إنها فلسفة وصلية لا فصلية؛ بحيث إن نظرية (الفلسفة الائتمانية)، تجدها محتفّة بناظم الوحدة المتصلة الأصلية، بين مختلف موضوعات النظر الطهائي، كـ(الوحدة بين الأخلاق والدين)، (الأخلاق والإنسان)، (الإنسان والدين)، (السياسة والدين) أو (التدبير والتعبد)، و(الغيب والشهادة) أو (الوجود والتواجد) ونحو ذلك، وهذه الوحدة الكلية الأصلية المتصلة تجدها ترِد في المتن الطهائي محتفّة بمجموعة من إجراءات (الوصل)، ودافعة لمختلف ضروب (الفصل)؛ بالنظر إلى أن وحدة (الوصل) هي الأصل السابق، أمّا مختلف أضرب (الفصل) فهي طارئة من باب الشذوذ[50].

ج. إنها فلسفة عقلية موسعة متكوثرة؛ بحيث إن (عقلانية الروحانيات الائتمانية) من المنظور الطهائي تستوعب (العقلانية المجردة) السائدة، مع السعي نحو صرف عموم آفاتها، وآفة آفاتها الكبرى اتباعها لمسلك (الفصل)؛ بحيث إن عقلانيتها مفصولة عن الوحي-الدين، إذ إنها لا تأخذ منه لا المقاصد ولا الوسائل على الأقلّ في الظاهر، في حين إن (العقلانية الائتمانية) تتزود من عقل الوحي بالمقاصد ليحصل اليقين في نفعها، فضلًا عن الوسائل ليحصل اليقين في نجوعها، فكانت بذلك فلسفة عقلية موسّعة، أو قل: متكوثرة دلالة ونِسبَة[51]؛ لذلك كانت (فلسفة إسلامية حقّة) أو (خالصة)[52].

د. إنها فلسفة استيعابية تكاملية لا تجزيئية؛ بحيث إنّ أيّ مقاربة من منظور المتن الطهائي، إمّا أن تكون (مقاربة فلسفية محضة)، تنهج مسلك (المنهج الجدلي)، الذي لا يتقيد بـ(القيم الأسمائية)، أو تكون (مقاربة فقهية ائتمارية)، تنهج مسلك (المنهج الوعظي)، الذي يتقيد بـ(القيم الأسمائية) نظرًا أو عملًا، أو تكون (مقاربة فقهية ائتمانية)، تنهج مسلك (المنهج الحِكمي)، الذي يتقيد بـ(القيم الأسمائية) نظرًا وعملًا واستعمالًا. و(النظر) أو (المقاربة الفلسفية الائتمانية) في مقابل كلّ ما سلف، تقوم على ناظم استيعاب كلّ تلك المقاربات، على أساس أنها مقاربات متداخلة، بالمعنى الاصطلاحي والمنطقي لمفهوم (التداخل)، الذي يفيد معنى (التضمن)، فيتحدّد وفق الناظم الآتي: (دخول الأشياء بعضها في بعض على ترتيب مخصوص)، تحقيقًا للتكامل من الأدنى إلى الأعلى. و(النظر الائتماني) الجامع لهذه المقاربات المتداخلة يقتضي (التقلب) بين طرقها العقلية، فتكتمل بذلك (المنهجية التكاملية) لـ(النظر الفلسفي الائتماني)[53].

في سياق التأسيس لـ(الفلسفة الائتمانية) بوصفها إمكانًا، وتوسيع مداراتها وآفاقها، أطلق المتن الطهائي مجموعة من المفاهيم المتصلة بها؛ سواء اتصال تأسيس أو تفريع أو تمثيل أو نقد أو وصف أو تأريخ ونحو ذلك، ومنها: مفهوم (عالم ما بعد الأمانة)، (أمانة الأمانة)، (ثقافة الائتمان)، (الوحدة الائتمانية)، (الائتمان العدمي)، (الحلّ الائتماني)، (المعاني والقيم الائتمانية)، (الإنسان الائتماني)، (الوصل الائتماني)، (التخليق الائتماني)، (النقد الائتماني)، (الأنموذج الائتماني)، (المعيار الائتماني)، (العالم الائتماني).

بناء على ما تقدم، فإن (الفلسفة الائتمانية) بوصفها (أنموذجًا إسلاميًّا حداثيًّا)، بقدر ما تتأسّس على النصّ الشرعي المؤسس -خصوصًا على ناظمه الأساس (القيم الأخلاقية) الصريحة منها والضمنية- فقد جعل منها منهجًا في النظر إلى النصوص والظواهر، ينبني على (الإمكان الاجتهادي الواسع)، فإنها تقوم على (رؤية) تجعل الإنسان -كما يقول طه عبد الرحمن- «يعقل الأشياء والقيم على جهة الإمكانات الائتمانية التي تنطوي عليها»، فتتحدد بالتبع «معقولية الأشياء وفق ائتمانيتها»[54].

 تظهر معالم (النظر الائتماني) من حيث كونه (نظرًا حداثيًّا) في آيات النصّ القرآني، فيما يأتي؛ سواء من حيث رصد ضوابط منهج النظر، أو تحديد ماهية نصّ القرآن، أو من حيث إنشاء مفاهيم جديدة؛ كمفهوم (الإنسان الكوثر)، أو من حيث قراءة بعض الآيات القرآنية؛ كآيات الأسماء الحسنى، أو آيات اللباس- الحجاب ونحوه، كما سنرى تفصيل ذلك في المقالات الآتية.

ثانيًا: التعريف بماهية النظر القرائي الطهائي الجديد لآيات القرآن:

نصّ طه عبد الرحمن في كثير من السياقات النصيّة ومختلف المصنفات على ناظم كلي، يكاد يصل درجة التسليم المطلق، مفاده: (أن الدخول إلى الحداثة اليوم، يتوقّف أساسًا على قراءة حداثية جديدة تجديدية لآيات القرآن بالمعنى الإنشائي الجمالي)، وأن هذه (القراءة الحداثية للقرآن) يتعين أن تكون مبدعة على الوجه الذي يجب، وأنّ إبداعها المعتبر في التأسيس ينبني على أساس ناظم (الإبداع الموصول/ المأصول/ المتصل)[55]، باعتبار أن هذا النوع من (الإبداع) هو الذي يوفي بمقتضيات (القراءة الحداثية للقرآن) بما لا يوفي به (الإبداع المفصول/ المنفصل/ المنقول)، الذي انبنت عليه (القراءة الحداثية المقلِّدة)[56]، فهذا الإبداع المفصول وإن كان ضربًا من (القراءة الحداثية) في الظاهر إلّا أنه في الجوهر (تحديث خارجي)، باعتبار مخالفة المجال والسياق والروح الناظمة للحداثة؛ إذ قد حصل وفق نماذج مقتبسة، فضلًا عن أنه (وهمي)، باعتبار أن ما تحقّق في المجال الأصلي ليس ممكنًا أن يتحقق في المجال المنقول إليه، كما أنه تقليد تعبدي كذلك، باعتبار التقيد المطلق به، دون القدرة على التحرر منه.

في سياق التأريخ لقراءة آيات القرآن، يرى طه عبد الرحمن أن قراءة القرآن في سياق تاريخ الفكر الإسلامي، مرّت على الأقل بمرحلتين مفصليتين؛ أولاهما: مرحلة (القراءة النبوية) أو (البيان النبوي) للقرآن، وهي بفضل تحققها الأنموذجي دشنت (الفعل الحداثي الإسلامي الأول) في تاريخ التفاعل مع القرآن. ثانيتهما: مرحلة (القراءة الحداثية) أو (المعاصرة) أو (العصرية) للقرآن[57]، وهي التي يتعيّن السعي في سبيل تدشينها، لتحقيق (الفعل الحداثي الإسلامي الإمكاني الثاني)، والتي يقوم ناظمها المنهجي الكلي على قاعدة تجديد الصلة بـ(القراءة النبوية)، ومعيار حصول هذا التجديد أو التحديث في القراءة، هو أن تكون قادرة على (توريث الطاقة الإبداعية) في هذا العصر، كما أبدعتها وأورثتها القراءة المحمدية في عصرها[58].

بناء عليه، يكون ناظم (القراءة الحداثية) المعتبرة في هذا الزمن التأويلي المعاصر هو تحقّق (الإبداع) بدلالته الطهائية التي سبق تفصيل القول فيها سابقًا، والتي يتبين في ضوئها أن الكثير من (القراءات) التي يزعم أصحابها أنها (حداثية) هي في حقيقة أمرها ليست من (الحداثة) في شيء، بالمعنى الطهائي للحداثة، وإنما هي في أصلها (قراءات مقلدة)؛ وفقًا لعدّة اعتبارات؛ أهمها: (النقل الجاهز) عن الغير، الذي أفضى إلى (التقليد التعبدي) أو (التقديسي). فيكون بالتبع العيب ليس في نقل إبداعات الآخر جاهزة من سياقات ثقافية وحضارية مختلفة، ولكن العيب -بالمعنى المعرفي- أن الناقل يفتقد القدرة على (إعادة إبداع الإبداع المنقول) وفق سياقاته الخاصّة وشروط مجاله التداولي، كما أن العيب أيضًا ليس في التقليد إذا كان تقليدَ منافسة أو مماثلة أو تشبّه، ولكن العيب يتحقّق لما يكون عبارة عن (محاكاة تعبدية مطلقة)، من باب التقديس والتعالي الذي يطغى عليه التسليم والوجوب، وعدم القدرة على التحرّر من وصايته، ونحو ذلك[59].

في سياق الوضع التأسيسي لمفهوم المنهج القرائي، بيّن طه عبد الرحمن أن (القراءة) مفهوم اتصف بمجموعة من المحددات، جعلت منه ما لا ينسجم مع النصّ الإسلامي شرعيًّا كان أو تراثيًّا، منها:

 1. إنّ (القراءة) مفهوم (منقول قلق)، وعلامة ذلك: اضطرابه عند منظّريه في سياق نشوئه الأصلي، سياق الفكر الحداثي الغربي، ناهيك عمن نقلوه عنهم تسليمًا من أهل الولع بتقليد المنقول ولو كان معلّلًا. والقاعدة المحكمة في التعامل مع جنس (المنقول)، هي: «أن كلّ منقول معترض عليه، حتى تثبت بالدليل صحته وفائدته». والمطلوب من (الاجتهاد الإثباتي) في هذا السياق، اعتماد مسلك (الإبداع المستقل)، الذي لا يكون وجوبيًّا، وإنما يكون إمكانيًّا قدر المستطاع[60].

 2. إن مفهوم (القراءة) بوصفه منقولًا، يفضِي بمتبنِّيه -حسب تنصيص المتن الطهائي- إلى (إضعاف الهمّة) في سبيل وضع (نظرية مأصولة) جديرة بالاعتبار جدةً وأصالةً، بل قد يبلغ به الأمر الحدّ الذي يتولى فيه صرف كلّ جهد لبناء نظرية جديدة غير مألوفة ولا معهودة، بل مناهضة لكلّ معرفة مستقلة جديدة[61].

 3. إنّ مفهوم (القراءة) تجده خاليًا مما سمّاه طه عبد الرحمن بـ(المقابلة)، بما أنها من باب (التأويل)، بل إنّ ناظم حقيقتها (التداخل بين القارئ والمقروء)، فتطغى الوظيفة الوجدانية لمعنى (القراءة) على الوظيفة (المعرفية) المطلوبة للقراءة، حتى إنها قد تأخذ مكانها، فتخلو (القراءة) بالتبع من كلّ اعتبار لما هو نصي ثابت، وتغرق في التقويم الوجداني وحده[62].

بناء على ما شاب مفهوم (القراءة) من عيوب ونواقص دقيقة كانت أو جليلة، نصّ طه عبد الرحمن على ضرورة استبدال مفهوم (النظر) بمفهوم (القراءة)؛ بالنظر إلى عدّة اعتبارات؛ أهمها:

 أ. إن مفهوم (النظر) حسب التنصيص الطهائي (مأصول متمكّن)؛ باعتبار وروده في آيات النصّ القرآني أساسًا في سياقات متنوعة. والقاعدة المحكمة في هذا السياق -كما سلف القول- هي أن «كلّ مأصول مقبول، حتى يثبت بالدليل عدم فائدته»[63].

 ب. إن مفهوم (النظر) يختزن إمكانات إجرائية عديدة، فقد يُكتشف بواسطته نظرية مخصوصة؛ إذ قد اشتُقّت النظرية من النظر تعبيرًا وتأسيسًا، وذلك أن الهدف من ممارسة النظر هو (الظفر بنظرية معينة)، فيتجه الناظر بمقتضى هذا الاشتغال إلى العمل على إخراج ثمرات نظره في صورة نظرية. ويقصد بـ(النظرية) على مستوى الضبط الحدّي: «مجموعة أقوال بعضها أصول مسلّمة وبعضها الآخر فروع مستنبطة منها، استنباطًا يجعلها جميعًا أصولًا وفروعًا تؤلف نسقًا واحدًا ينتفع به في إحكام المعرفة في مجال مخصوص»[64]. لذلك، أسّس طه عبد الرحمن ما سماه بـ(النظرية الائتمانية)، بوصفها (أنموذجًا للنظر) النقدي والبنائي معًا.

 ج. إنّ مفهوم (النظر) في النصّ بناء على ما تقدم، هو عبارة عن الفعل الإدراكي-العقلي الذي يطلب أمرًا معيّنًا من مكنونات النصّ بطريقته هو أولًا، أو بطرق أخرى ممكنة ومعتبرة، شرط عدم مخالفتها ومنافاتها لمقتضياتها النصيّة أو السياقية الجوهرية، اعتقادًا من الناظر بأن هذه الطرق تمكن من الظفر بالمطلوب. فيكون المنظور فيه هو المطلوب إدراكه، والناظر هو كلّ من يصوّب فكره في المنظور فيه لإدراكه، وبذلك يكون (النظر) دالًّا على بذل وُسع العقل واستفراغ قدراته من أجل الاقتراب من حقيقة الشيء الممكنة[65].

 د. إنّ مفهوم (النظر) بوصفه قائمًا على ناظم (المقابلة) بين النظر والمنظور فيه، تكون وظيفته الأساسية (عقلية معرفية) بشكل صرف[66].

 هـ. إنّ مفهوم (النظر) يلازمه من منظور طه عبد الرحمن مفهوم (التجديد)، ذلك أن (تجديد النظر) في الأمر يقتضي أن الأنظار اللاحقة تأخُّرًا لا تعيد الأنظار السابقة تقدُّمًا على مستوى الزمن، فيصير المعنى الكلي لمفهوم (النظر) في الأمر، هو «تقليب النظر في المنظور فيه تقليبًا يبلغ الغاية في التغيير»، حتى يكون (انقلابًا). ومفهوم (التقليب) من المنظور الطهائي يقتضي أمرين؛ أحدهما: أن (التقليب) لا يكون تغييرًا تحكميًّا، وإنما لداعٍ يدعو إليه، فيصير معنى (تجديد النظر): «تقليب النظر في المنظور فيه تقليبًا يبلغ الغاية في التغيير لداعٍ يدعو إليه». ثانيهما: أن (التقليب) لا يكون تغييرًا مباشرًا لا سبب له، وإنما يكون تغييرًا يتوسّل بأسباب محدّدة، أو قل: يكون تغييرًا متسبّبًا. فيصير معنى (تجديد النظر) في الأمر: «تقليب النظر في المنظور فيه لداعٍ يدعو إليه، تقليبًا يتوسل بأسباب تغيير هذا الأمر تغييرًا يبلغ أقصى مدى ممكن»[67]. من هذا الحيث، اعتبر طه عبد الرحمن أن (النظر العقلي)، يتعين أن يبقى ناهضًا بمهمة (التقلب)؛ لأن به تتحقق باقي محددات (النظر العقلي المجدد)، إذ يكون (حيًّا) و(فعليًّا) و(متكوثرًا) و(متكاملًا) و(متصاوبًا) ونحوها[68].

بناء على ما تقدم من تحديد مفهوم (النظر)، يكون بذلك قابلًا لأن (يجدد) و(يعاد)، أو (ينتقد) و(ينتقض) ونحو ذلك، في علاقة المتأخر بالمتقدم زمانيًّا[69]. بالنظر إلى أن (معيار البتّ في النظر)، ليس (الصلة بالدين)، وإنما مناط ذلك (الصلة بالاستدلال)[70].

من حيث التمييز بين المفاهيم دلاليًّا تحقيقًا، اعتبر طه عبد الرحمن أن حقيقة (تجديد النظر في النصّ) تختلف عن حقيقة (تجديد النصّ)؛ ذلك أن تجديد النظر في النص لا يتجاوز همّ (تجديد معنى النصّ)، أمّا (تجديد النصّ) فيطغى عليه السعي لاستبداله بغيره، سواء كان السبيل إلي ذلك (تحريفًا) أو (تعويضًا) أو إحلالًا ونحو ذلك[71].

 إنّ التحديد الدلالي للمفاهيم على المستوى المنهجي ولو إجرائيًّا من المنظور الطهائي، لم يتوقف عند مفهوم (القراءة) و(النظر) و(التجديد)، وإنما تعلّق أيضًا بمفهوم آخر، وهو مفهوم (التأويل)، باعتباره من المفاهيم المتوسّل بها لتحديد دلالات النصّ القرآني. فقد نصّ على أن القرآن مقترن بمفهوم (التأويل)؛ إذ كلّ نظر فيه قراءة كان أو تفسير يعدُّ تأويلًا، وكلّ تأويل لنصّ منظور فيه يعدّ قراءة، فهما متلازمان؛ بمعنى أنهما متكافئان، فيجوز بالتبع منهجيًّا الاستغناء بأحدهما عن الآخر، خصوصًا وأن (التأويل) مما هو مأصول مقرّر في الاستعمال والتداول في نصوص (التراث الإسلامي العربي)[72].

 يقوم (الإبداع الحداثي) باعتبار أن (الحداثة الحقة) هي (حداثة القيم) لا (حداثة الزمن)[73]، على جملة أسس ومقومات من المنظور الطهائي، نورد منها ما يأتي:

 1. أن يكون الاجتهاد الموسوم بـ(الحداثة) قائمًا على ناظم متعلقات (روح الحداثة) لا على (واقعها) كما سلف القول.

 2. أن يكون الاجتهاد الإبداعي موصولًا لا مفصولًا؛ إذ إن (الإبداع الموصول) حسب التسمية الطهائية، هو إبداع لا يقطع المجتهد فيه صلته بالتراث السياقي الحي الذي ثبت نفعه، وإنما يقطع مع الميت أو ما اضمحل أثره، وأصبح ضرره أعظم من نفعه، ولا يبالي بالزمن أقريبًا كان أو بعيدًا[74]. وهو بذلك يضاد (الإبداع المفصول)، كما سبق الحديث عنه. ومن أهم ما يعكس متجليات مفهوم (الوصل)، (الوصل بالمصادر الأصلية للتراث)، خصوصًا (المصدر المؤسس) القرآن الكريم، إذ يقتضي أن (نجدد استخدامنا) لها؛ ليتولد من خلالها (تراث غير مسبوق)، فهي بالتبع (لا تُتجاوَز) أبدًا، وإن أمكن تجاوز ما نشأ في ظلالها، وهذا من أهم محددات مفهوم (الحداثة) في السياق الإسلامي، الذي يتعين مراعاته[75].

 3. أن يكون الاجتهاد المسمى إبداعيًّا مستقلًّا ومسؤولًا؛ إذ إنه يقتضي أن المجتهد يختار منهجه شكلًا ومضمونًا بنفسه، مما يمكنه من إطلاق العنان لطاقاته الكامنة، كما يحدّد بنفسه نوع الوصاية التي عليه واجب التخلص منها، ويحدّد من خلاله أيضًا أسباب الاتصال بالآخر زمانيًّا كان أو مكانيًّا، وهو بهذا يضاد (الاستقلال المنقول)[76]، وقد تم تفصيل القول فيه أيضًا.

 4. أن قراءة النصّ القرآني قائمة على ناظم (الاجتهاد)، فضلًا عن جهاد الموانع، كما سلف القول. وما دام أن الاجتهاد والجهاد فعلان عقليان، فإن أخلاقيات الفعل العقلي في قراءة النصّ القرآني تقتضي أمرين:

 أ. الارتقاء بجهد قراءة النصّ في مختلف مراحل وسياقات النظر والتكليف، ومن أهم ما ينافي هذا الأمر: أن يكون النظر في النصّ القرآني (مخطوفًا لا مدروسًا)، فضلًا عن كونه جامدًا على ظاهر النصّ وقفًا دون تعدية[77].

 ب. الارتقاء بجهد الاستنتاج من النصّ المقروء، ويتحقّق هذا الأمر على وجهه بكون المستنتِج قد بذل جهده في الوفاء بمقتضيات أمرين متلازمين: (التجرد) و(التجريد)؛ فأمّا الأول فهو يقوم على «صرف الاعتبارات غير الموضوعية». وأما الثاني فيفرض «صرف الجزئيات غير المجدية»[78].

 5. كون القراءة الحداثية متوقفة على بيان الفساد الذي لحق فهم النصّ القرآني، خصوصًا الفساد الذي انبنت عنه ما سمّاه بـ(ظاهرة التشدد الديني)، و(أسباب العنف والتكفير)، وأصل هذا الفساد في النظر القديم الحديث حسب التنصيص الطهائي: «الجمود الحرفي الظاهري على النصوص، مع إغفال المقاصد الشرعية التي من ورائها»[79]، فتكون بالتبع إساءة الفهم قائمة على تضييق أفق النصّ المؤسس؛ لذا فإن (الغفلة) عن (المقاصد الشرعية) في النظر إلى النصّ القرآني، هي التي يتعين أن تُصدَّر في الاعتبار لقراءة النصّ القرآني، بالاحتكام إلى أرواح وبواطن المعاني للنصّ لتجاوز هذه الظاهرة وأسبابها، علمًا أن «امتلاك المقصد أصعب من امتلاك الحرف»[80].

 6. كون القراءة الحداثية قائمة على ناظم حرمة ووحدة النصّ القرآني؛ ففي السياق المعاصر طغى ما يسمى بمسلك (التطبيع) مع المغتصب، والذي تجد أن أهله تطاولوا على حرمة ووحدة النصّ القرآني، وذلك من خلال أن (المطبِّع) المسلم يهون عليه أن يعبث بالنصّ القرآني، على قدر ما يطلبه الوضع التطبيعي وسياقه، إذ تجده يؤول الآيات القرآنية على غير وجهها، ليًّا لمادتها وسياقها وتعلقها الموضوعي، بل إنه يحذف من القرآن السور والآيات التي تقصّ مثلًا أخبار اليهود في بيان نكث العهود ومخالفتهم المواثيق وعبادتهم الأوثان وقتلهم الأنبياء ونحو ذلك. مع العلم أن التصديق بهذه الأخبار المحذوفة شرط التحقق بالإيمان. بل إنك تجد (المطبِّع) -كما يؤكّد طه عبد الرحمن- يتجرأ على عدّ (الجهاد) (إرهابًا)، حتى في صورته (الدفاعية). وبهذا المسلك في النظر إلى النصّ القرآني (يتدنّس المقدّس ويحرّف المنزل)[81].

ثالثًا: من مسوغات تأسيس القراءة الطهائية لآيات القرآن:

اعتمد المتن الطهائي في سبيل تسويغ أو إعادة تأسيس (قراءة حداثية) للنصّ القرآني من منظور إمكاني آخر لمفهوم (الحداثة)؛ سواء بمقتضى مفهوم (التجديد المأصول)، أو بمقتضى مفهوم (التحديث المنقول)، على ناظم (النقد)؛ بوصفه -كما هو معلوم- من نواظم (روح الحداثة). وقد انصبّ النقد الطهائي أساسًا على كشف معالم النقص ومظاهر القصور منهجيًّا ومعرفيًّا، من منظور قرآني أو شرعي تارة، ومن منظور اجتهادي صرف منهجيًّا ومعرفيًّا تارة أخرى. نجتهد في هذا السياق في بيان بعض أهم مواطن النقد الذي أبرزه المتن الطهائي، خصوصًا المتصل بالبناء والتأسيس قصد التجاوز والتخطي، والسعي في سبيل وضع بديل إمكاني آخر، يتجرد عن أساسيات النقص ومعالم القصور. نبدأ أولًا بعرض نقد طه عبد الرحمن لاجتهاد التفسير التراثي الإسلامي أولًا، ثم نثنّي بنقده للاجتهاد الحداثي في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر المتّصل أساسًا بالقرآن تفسيرًا وتأويلًا ثانيًا، ونقدم ذلك وفق ما يقتضيه العرض الإجمالي:

1. النقد الطهائي لاجتهاد التفسير التراثي لنصوص ومفاهيم القرآن:

تتنوع المواضيع التراثية المتصلة بتفسير النصّ القرآني، والذي تولى المتن الطهائي نقدها منهجيًّا ومعرفيًّا، من خلال بيان عيوبها وأعطابها وكشف قصورها ونقصها وعدم سلامتها وانسجامها، مع السعي في سبيل تصحيحها من خلال إعادة تأصيلها وتأسيسها لتسلم ما أمكن من النقص وتتوافق مع النصّ القرآني المؤسّس. نقتصر في هذا السياق على بعضٍ منها من باب التقريب والتمثيل، ومما يمكن التوقف عنده في هذا الصدد تمثيلًا، نورد المسائل العامة الآتية:

الأولى: قصور منهج تأويل القول الشرعي:

يرى طه عبد الرحمن على أن مجمل (القيود) و(الحدود) التي وضعتها الممارسة التأويلية، كما ظهرت في حقول (التراث الإسلامي العربي)، ولا سيما حقل (الأصول)، فقهية كانت الأصول أو كلامية، قصد (تأويل النصّ القرآني)، لا تكفي في تحقيق (التأويل الصحيح) المعتبر للقول الشرعي، ومستنده في ذلك، أمور عديدة من أهمها:

 1. إنّ مختلف (الحدود) الموضوعة تأصيلًا للنظر في النصوص الشرعية، لا تمنع من تأويل ظاهر النصّ الوارد في تحديد دلالته ومعناه بصورة من الصور الظاهرة التي تستبعد الـتأويل. وبهذا الاعتبار، قد اختل فيها ناظم (الجمع) و(الحصر) الموضوعي المستقل، وهو ما يفضي إلى الإخلال بإحكام القول المنهجي في تصنيف نصوص القول الشرعي، خصوصًا باعتبار النصوص القابلة للتأويل من عدمه[82].

 2. إنّ مجمل (حدود) و(قيود) تأويل النصّ الشرعي، لم يتم الاتفاق عليها بين عموم مذهب أهل التأويل للقول الشرعي الحكمي أساسًا، خصوصًا وأن الاختلاف في تأويل آيات الأحكام يشتدّ كثيرًا في فضاء (أهل البرهان)[83].

 3. إنّ جملة (حدود) وضوابط النظر في النص الشرعي قرآنًا وحديثًا، تفسيرًا وتأويلًا، استوى بناؤها التأسيسي خارج مدارات النصّ الشرعي دلالة وحكمًا، إذ إنها قام بنيانها في فضاءات التأويلات المذهبية فقهية كانت أو كلامية أو غيرها، إلّا أنها نُزّلت على النصّ الشرعي، فكانت بذلك خارجية محمّلة[84].

من المعلوم أن منهج التعامل مع النصّ الشرعي تفسيرًا وتأويلًا في عمومه، تأسس واستوى منهجه في مباحث (علم الأصول) بنوعيه؛ الفقهي والكلامي. ولطه عبد الرحمن نقد لـ(علم أصول الفقه) تحديدًا، فضلًا عن تجديد تأسيسي أدخله عليه، ليتحقق الاستناد إليه تأصيلًا وتأسيسًا في سياق الفكر الإسلامي المعاصر.

الثانية: قصور منهج الفقه الائتماري:

يرى طه عبد الرحمن أن بعد مرحلة التأسيس في تاريخ الفكر الإسلامي، هيمن التعامل مع النصّ القرآني وفق ما سماه بمنهج مفهوم (الفقه الائتماري)، أو (النموذج التقليدي لفهم الدين)، أو (القراءة الأمرية)، أو (النظري الأمري)، أو (النموذج الأمري-القانوني)[85]، بالنظر إلى كونه ينبني على مقومات منهجية محددة، أفضت إلى تعطيل وتضييق العديد من دلالات النص القرآني. ومن أهم الأساسيات المنهجية التي يتحدّد بها منهج مفهوم (الفقه الائتماري)، كما هو عليه في مصنفات الفقه الإسلامي بمختلف تعلقاتها الموضوعية المهيمنة، نورد منها ما يلي:

 1. تقديم الاهتمام والاعتبار للأوامر الشرعية في جانبها القانوني على جانبها الأخلاقي، أو قل: تقرير أولوية الوجه القانوني من الأوامر على أولوية الامتثال للأوامر على وجهها الأخلاقي[86].

 2. تقديم الامتثال للجانب القانوني من الأوامر الشرعية على التعرف أو معرفة الآمر الأعلى سبحانه وتعالى[87].

ناظم المحددين جمعًا، طغيان الاهتمام بظاهر النصّ الحكمي دون باطنه الروحي. وقد لاحظ طه عبد الرحمن أن الآفة الجامعة لهذا (النموذج التقليدي)، (تشدد) الاجتهاد الفقهي في السياق المعاصر (في العمل به)، (حتى بعد اضمحلال الأسباب الداعية لهذا التشدد). وبحكم هيمنته، (لم يَعُد مقتصرًا على التعامل مع النصوص الشرعية)، بل إنك (تجد أنه عمّ مناحي الحياة ووجوه التعامل بين الأفراد اجتماعيًّا)[88].

ترتبت عن منهج (الفقه الائتماري) مجموعة من المآلات، جعلت طه عبد الرحمن ينصّ على أنه (نموذج متجاوَز)[89]؛ بالنظر إلى قصور الفهم والنظر، لا لكونه تراثيًّا أو تاريخيًّا، ومن أهم ما أفضى إليه حسب القول الطهائي:

 أ. أنه نموذج يقيم العلاقة بين الإنسان والله تعالى على قاعدة (الغياب)؛ بحيث إن الأمر يصدر عن الآمر إلى المأمور، لا باعتبار حضور ذاته، وإنما باعتبار حضور سلطته، إذ إن سلطته تغني عن ذاته، فيستوي بالتبع غيابه وحضوره بالنظر إلى نفوذ أمره.

ب. أنه نموذج يضفي (العنف) على (العلاقة الأمرية)؛ بالنظر إلى التلازم القائم بين (خاصية الغياب) و(سلطة الأمر) المجرد عن (الآمر)[90].

بناء على ما تخلل (النموذج الأمري) من أعطاب في قراءة وتفسير النصّ الشرعي المؤسس، أكّد طه عبد الرحمن على ضرورة إصلاحه، والذي هو جدير بتحقيقه، هو ما سماه بمنهج (النموذج الائتماني الشاهدي)، القائم أساسًا على قلب أولويات (النموذج التغييبي)؛ وذلك بأن يتم النظر إلى النصّ القرآني من خلال العمد الآتية:

 الأولى: تقديم أو إعطاء الأولوية للقيم أو الوجه الأخلاقي للحكم الشرعي، على الوجه القانوني.

 الثانية: تقديم أو إعطاء الأولوية للتعرّف على الآمر الأعلى، قبل معرفة أو امتثال الأمر الشرعي[91].

 الثالثة: تأسيس الأوامر والنواهي الشرعية على معرفة الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلى[92].

 ناظمها جمعًا، تقديم الاهتمام بباطن النصّ الشرعي في متجليه الروحي الشاهدي على الاهتمام بظاهره القانوني الائتماري.

ينبني عن هذه العمد الثلاثة وغيرها، سعي الاجتهاد الطهائي في سبيل إنشاء مفهوم سماه بـ(الفقه الحي)، في مقابل (الفقه الصناعي) أو (التقني)، اللذَين نبسط القول فيهما لاحقًا.

 لذلك، تكون العلاقة في (النموذج الائتماني) في متجليه (الشاهدي) قائمة على قاعدة (الحضور التعرفي التقربي الحي)، إذ إن (تحقق الإنسان بالقيم الأخلاقية)، معياره أن تكون (مشهودة في سلوكه)، أمّا معيار (التحقق بالمعرفة الإلهية)، فهو أن يداوم الإنسان على (استحضار مشاهدة الله سبحانه له)[93].

2. النقد الطهائي للقراءات الحداثية المقلّدة للآيات القرآن:

إن (القراءات الحداثية) لآيات النصّ القرآني لم يتم تناولها من لدن طه عبد الرحمن بالتكميل والتتميم أو التطوير أو التوضيح ونحو ذلك من دواعي التأليف والنظر فيمن تقدم في تاريخ الفكر الإسلامي أساسًا، بل عمل مجتهدًا على أساس هدمها ونقضها والسعي إلى تجاوزها كلية، بالنظر إلى كون منهج نظرها لم يكن (حداثيًّا) بالمعنى الطهائي لمفهوم (الحداثة)، الذي ينتظمه ناظم (الإبداع)، القائم على (الإنشاء الجمالي غير المعهود)، ويتجرد في المقابل عن ناظم (التقليد التعبدي) كما يتصوره طه عبد الرحمن. وقد شكّل نقده لـ(القراءات الحداثية) للقرآن أهم الدواعي والمسوغات لإعادة تأسيس ووضع منهج إمكاني آخر يستجيب لمفهوم (القراءة الحداثية) الحقيقية للقرآن. نجتهد في هذا السياق لبيان أهم الأعطاب المنهجية والمعرفية التي اعتورت (القراءات الحداثية) لآيات القرآن في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر.

بين يدي تقديم النقد الطهائي، استثنى طه عبد الرحمن ثلاثة أنواع من (القراءات) لآيات القرآن من النقد، وقد ورد ذلك في سياق التأريخ لقراءة القرآن؛ أولها: (القراءات التأسيسية)، وهي التي قام بها المتقدمون من أهل التراث الإسلامي؛ سواء كان مصدرها مصنفات التفسير أو الفقه أو الكلام أو اللغة أو التصوف ونحو ذلك. ثانيها: (القراءات التجديدية)، وهي التي قام بها المتأخرون من أهل الاجتهاد في تاريخ الفكر الإسلامي؛ سواء كانوا سلفيين أو إصلاحيين، أو سلفيين أصوليين إسلاميين أو علمانيين. وهذه التفاسير بنوعيها يجمعها -حسب التنصيص الطهائي- ناظم اعتقادي معرفي واحد، وهو أنها «تضع للإيمان أسسه النظرية وتقوي أسبابه العملية»، فكانت بذلك (قراءات ذات صبغة اعتقادية صريحة)، فضلًا عن أنها من الناحية المنهجية، توسلت بما سماه طه عبد الرحمن بـ(الإبداع الموصول) في تحقيق ما حققته. أمّا ثالثها: فهي (القراءات المعاصرة) أو (العصرية)، وهي غير (القراءات الحداثية المقلدة) أو (البِدعية)، التي ترتبط بـ(أسباب التاريخ الحضاري والثقافي للمجتمع الغربي)، وإنما هي على الحقيقة (تأخذ بمختلف منجزات العصر)، فلا ينشغل (القارئ المعاصر) بالتبع بـ(إعادة إنتاج نفس الأسباب التاريخية الخاصة بتلك المنجزات)، بل يسعى إلى أن يستبدلها بأسباب تاريخية أخرى تخصّ المجال التداولي الذي شهد قراءته وتلقاها[94].

بناء على ما تقدّم، فإن الضوابط المنهجية الحاكمة لمنهج (القراءة الحداثية المقلدة البِدعية ذات الإبداع المفصول) للآيات القرآنية، أو (القراءات العَلمانية)[95]، وقعت في شراك خلل أصلي، وهو الذي تفتقت عنه باقي الأعطاب الأخرى، ذلك أنها على مستوى بداية بدايات تأسيسها، ابتعدت كليًّا عن ما سماه طه عبد الرحمن بـ(روح الحداثة)، التي تقتضي محددات منهجية ومعرفية أساسية؛ من أهمها:

أ. إن الاجتهاد الحداثي أو القراءة الحداثية بحكم (روح الحداثة) لا بـ(واقعها)[96]، قائم على ناظم (الإمكان) الذي هو بطبيعته متعدّد، الذي يفضي دومًا إلى اجتراح وإنشاء أساسيات (الإبداع) في أيّ سياق ثقافي، فهي وإن كانت واحدة بحكم ماهية إنّيتها، إلّا أنها بحكم سريانها وتطبيقاتها محكومة بالتعدّد؛ سواء باعتبار الأمكنة أو الأزمنة أو المجالات أو الأقطار ونحو ذلك. أمّا اعتبارها مجرد إمكان واحد وجوبي غير متعدّد، والذي تَمثّل في (الأنموذج الحداثي الغربي السياقي)، والذي يقتضي التقيّد به واتباعه دون الحيد عنه قيد أنملة، كما ترسخ ذلك في الأذهان، فضلًا عن الأعيان، وإلّا لم تكن (القراءة) (حداثية)، فهو في حقيقة الأمر منظور مَن أُشرب في قلبه التقليد إلى درجة التعبّد والتقديس، الذي جعله مولعًا بنقل ما ظفر به في واقع الحداثة الغربية السياقية بحذافيره، باعتباره أنموذجًا متعاليًا يُحتذى؛ لذا فإنّ (حداثة الاجتهاد) أو (حداثة الفعل) أو غيرهما من متعلقات (الحداثة)، لا يتحقّق في الأذهان أو الأعيان من المنظور الطهائي، بدون أولوية وسبق ناظم (الإمكان) القائم على نواظم (روح الحداثة)، الممهد لمختلف متعلقات (الإبداع) المتحرّر من أسر (التقليد) السابق الجاهز نقلًا[97].

 ب. إنّ (حداثة الاجتهاد) في أبسط تحديداتها الطهائية، لا تتجاوز كونها (روح العصر)، فهي بذلك تقتضي تحفيز الفرد قدرة وإرادة على مسايرة (حداثات العصر) نظريًّا وعمليًّا من عنده، مندمجًا باجتهاده في زمانه السياقي، لا في زمن غيره مع اقتران الزمانين. إذ بموجب (الشهود في العصر) يحقق (الاجتهاد الحداثي) إبداعات غير معهودة ولا مألوفة إنشاءً وجمالًا في أيّ سياق زماني، ولو من باب (إعادة إبداع الإبداع). فالحداثة بهذا المعنى القائم أصلًا على الاجتهاد تعدّ من منظور طه عبد الرحمن (واجبًا عينيًّا على كلّ فرد)، إذ لا حداثة من غير اجتهاد)، كما (لا إبداع بدون اجتهاد)، فيكون (الاجتهاد) بالتبع أساس (الحداثة) نظرًا أو فعلًا[98].

 ج. إنّ طبيعة النظر الفكري في (الاجتهاد) (ركوب أمواج المبادرة والاصطبار) في سبيل تحقيق المنشود والمأمول الفائق، الذي قلّ نظيره أو انعدم مضارعه، وليس أنه عبارة عن (نقل خبري يحفظ وينقل جاهزًا) كما هو شأن القول الشرعي المنزل، دون نقد أو اعتراض أو تصويب أو رفض، أو دون مراعاة للفارق التداولي أو دون فعل فيه، ونحو ذلك من أضرب التفاعل[99].

إنّ (القراءات الحداثية) لآيات القرآن السائدة في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر، بحكم تجردها عن (روح) مقتضيات (القراءة الحداثية) أو (الاجتهاد الحداثي)، كانت بالتبع تلك (القراءات) في أصل نشوئها محكومة بالنواظم الكلية الآتية:

 الناظم الأول: إنها (قراءات مقلدة)؛ بحيث إن (القراءات آيات القرآن) التي وسمها أصحابها بـ(الحداثية)، هي ليست من (الحداثة المعتبرة في شيء)، باعتبار (روح الحداثة) القائمة أساسًا على ناظم (الإبداع)، وإنما هي على الحقيقة (قراءات حداثية مقلدة صريحة)، ذلك أن أصحابها قلدوا (واقعًا حداثيًّا) كما هو مجسّد في (واقع الحداثة الغربية بخصوصياته السياقية)، ولم يشاركوا في تحصيله بأيّ سبب من الأسباب المعتبرة إنشاءً. الأمر الذي جعلهم، بعد أن افتتنوا به افتتانًا عظيمًا، كلّما ظهر اتجاه فكري فيه تهافتوا على القول به جملةً وتفصيلًا، دون نظر ولا مراعاة للسياق، بل إنهم يأخذون به ولو كان منافيًا لناظم (الإمكان)، الذي هو خميرة كلّ اجتهاد، بل ولو كان هادمًا للنصّ المقروء-القرآن. فضلًا عن أن تقليدهم لكلّ ما ظفروا به كان على قدر فهمهم واستيعابهم لـ(واقع الاجتهاد الغربي الحداثي)، الذي جعل نظرهم يهيمن عليه ناظم (روح التسليم المطلق)، الذي أفضى بهم إلى عدم الخروج عنه قيد أنملة[100]. فكانت بذلك قراءاتهم عبارة عن نصوص أظهرت -كما نصّ طه عبد الرحمن-: «المحتويات الفكرية للحداثة الغربية المقلدة، دون أن تظهر اجتهاداتهم الحداثية»، مع أنها أخفت في المقابل «الأسباب الفاعلة في تلك المحتويات إنشاءً وإبداعًا، جهلًا بها أو تركًا لها»[101]؛ لذلك نفى طه عبد الرحمن عنها بوصفها مقلدة نسَب (الإصابة)، باعتبار أن المقلد لا يصيب ولو ادعى الاجتهاد؛ إذ صوابه المتوهم تحقيقه معدود في حكم الخطأ؛ لأنه (صواب بغير عقل مصيب)، فضلًا عن أيّ متبع لطريق من طرق القراءة، أسبابها عند غيره لا عنده، فهو (لا يبدع)، وإنما (يبتدع)، و(كل ابتداع) فهو في حقيقة أمره (شذوذ)[102].

الناظم الثاني: إنها (قراءات إسقاطية)؛ بحيث إنّ أهل (القراءات الحداثية) نظرًا لتقليدهم لـ(واقع الحداثة الغربية)، الذي شكّل في أعينهم أنموذجًا كاملًا مطلقًا متعاليًا مقدسًا، جعلهم يسقطون كلّ ما ظفروا به على مقروئهم-آيات النصّ القرآني، بغضّ النظر عن أيّ اعتبار آخر، ودون مراعاة الفروق بين المجالين؛ الإسلامي العربي والحداثي الغربي. ومن أهم متجليات المنهج الإسقاطي المتَّبَع مِن قِبَلِهم، أنهم أسقطوا كلّ المنهجيات والآليات والوسائل التي ظفروا بها في حدود استيعابهم لها دون نقد ولا تمحيص ولا غربلة ولا إعادة إبداع ونحو ذلك[103]. فضلًا عن أنهم بإسقاط المفاهيم المنقولة على المفاهيم المأصولة، أفضى الأمر بهم إلى محو خصوصية المفاهيم المأصولة. ومن المعلوم أن منهج الإسقاط الآلي الاستنساخي الاتباعي لا إبداع فيه، أو قل: لا حداثة فيه ألبتة[104].

الناظم الثالث: إنها (قراءات نقلية)؛ بحيث إن التسليم بـ(النقل الجاهز) عن (واقع الحداثة الغربية) تعبدًا وتقديسًا، يمكن عدُّه أصلَ تفتُّقِ أعطابٍ منهجية ومعرفية شتى عند أهل (القراءات النقلية)، إذ تجدهم يتسابقون مهرعين نحو نقلِ كلّ ما وجدوه في فضاء الاجتهاد الغربي الحداثي، دون النظر في أيّ أمر آخر. وهذا لا يعني -كما ينصّ طه عبد الرحمن-: «أن النقل كلّه مذموم في حدّ ذاته»، بل إنه يتضمن إمكانات شتى لإبراز الخصوصية واجتراح أسس ومقومات النظر الخاصّ، فضلًا عن (إعادة إبداع الإبداع)، شرط كون الناقل يبدي أثناء (عملية النقل ملامح إبداعه الخاص)؛ بحيث يصير (المنقول) بين اجتهاداته على صورة غير صورة أصله الغربي أو غيره (المنقول)، فيصير بالتبع له وجهان: (وجه إبداعي إسلامي عربي خاص)، و(وجه إبداعي غربي منقول)، ذلك أن (المنقول) من المنظور الطهائي لا يقوى على أن يثبّت جذوره في المجال التداولي العربي الإسلامي، إلّا إذا تمت (إعادة إبداعه) من جديد[105].

الناظم الرابع: إنها (قراءات قاصرة قروسطية)؛ بحيث إن أهل (القراءات الحداثية) في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر بمختلف منهجياتهم المنقولة دون إعادة نظر أو بحث أو تأسيس، يعكس اجتهادهم السمة الكلية الناظمة لروح قراءاتهم؛ ذلك أنهم بقراءاتهم الحداثية المزعومة، قد رجعوا إلى زمن ما قبل (الحداثة)، وهو زمن الوقوع تحت (الوصاية) قهرية كرهية كانت أو اختيارية طوعية، إن لم نقل تحت (العبودية الاختيارية). فكانت بالتبع قراءاتهم عبارة عن (قراءات القاصرين) لا (قراءات الراشدين)، مع العلم أن أهم أساس من أساسيات (الحداثة) من منظور الفكر المنقول، الخروج من (الوصاية) تحررًا والولوج إلى فضاء الاجتهاد الإبداعي انعتاقًا، ما دام أنّ (التقليد عبودية) و(الإبداع تحرر)[106].

الناظم الخامس: إنها (قراءات مفصولة)؛ بحيث إن (القراءات الحداثية) المتوسلة قصرًا بـ(المنقول الحداثي الغربي)، تعدّ من منظور طه عبد الرحمن عبارة عن (قراءات مفصولة)؛ نظرًا لقطيعتها أو انقطاعها عن التراث الإسلامي العربي كلية، وهذا من أهم أمارات تقليدهم التعبدي المغشوش، ما دام أنها كانت (قراءات خارجية) مولعة بهمّ الاتباع المطلق تسليمًا. مع العلم أن لا تلازم منطقيًّا منهجيًّا أو معرفيًّا بين (القطيعة) و(التقليد). وكلّ قراءة كان هذا شأنها، لا تكون من جنس (القراءات المبدعة)، وإنما تكون في أصلها (قراءات بِدعية)، وكل ابتداع فهو شذوذ، كما أن كلّ إبداع فهو اجتهاد أصيل[107].

الناظم السادس: إنها (قراءات علمانية)؛ بحيث إن الناظم اللاحم جمعًا بين أهل (القراءات) الموسومة بـ(الحداثية) في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر، هي من منظور طه عبد الرحمن (ذات صبغة علمانية)؛ سواء بصورة جليلة أو دقيقة، ومن أهم ذلك: أن من مقاصد قراءاتهم لآيات القرآن، ليس هو تحصيل اعتقاد مخصوص مستمَد منها، وإنما قراءاتهم (انتقادية) لا (اعتقادية)، إذ إنها تمارس مختلف عمليات النقد على آيات القرآن، بواسطة (المنقول الحداثي الغربي) تقليدًا، دون إدراك الفرق الذي صنع الفرق بين المقروءين ولا السياقين[108].

وفي ختام إمكان المقالة الأولى، نخلص إلى القول بأن النظر القرائي الذي يجتهد طه عبد الرحمن في وضع مقوماته البانية ومبادئه المحددة، بقدر ما استثمر في بناء عُدّته التأسيسية النصّ الشرعي الإسلامي، وخصوصًا النصّ القرآني؛ سواء على مستوى المفاهيم أو المعاني؛ إذ عمل على صهرها في نسق فلسفي عربي إسلامي، يحمل صبغة نصّه المؤسس، بقدر ما اجتهد في تبيان ما تخلل بعض الأنظار القرائية في تاريخ الفكر الإسلامي؛ سواء في (التراث التفسيري) أو (القراءات الحداثية).

في المقالة الثانية، نعرض التعريف الطهائي للقرآن، بالنظر إلى كونه أسَّ مادة اجتهاده مفاهيميًّا ودلاليًّا؛ إيمانيًّا وأخلاقيًّا.

 

 

[1] بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، ص19.

[2] طه عبد الرحمن من مواليد نواحي مدينة الجديدة-المغرب سنة 1944، تلقّى الدراسة الابتدائية والثانوية والإجازة في الفلسفة بالمغرب، وأكمل الدراسة الجامعية العليا بجامعة السربون بفرنسا؛ بحيث حصل على دكتوراتين؛ الأولى متعلقة بفلسفة اللغة، وهي بعنوان: اللغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود، وهي منشورة بالفرنسية سنة 1979. والثانية متعلقة بالمنطق، وهي بعنوان: رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه. ومنذ سنة 1970، بدأ التدريس في الجامعة المغربية، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تدريس مناهج المنطق وفلسفة اللغة، إلّا أنه وجد صعوبات شتى في ترسيخ تدريس علم المنطق الحديث داخل الجامعة، الأمر الذي جعله يجتهد أكثر في سبيل تعريبه ووضع الكثير من مصطلحاته، لتأسيس أرضيته؛ لذلك كان اجتهاده في هذا الباب يتحدّد بالإتيان بمنطق، كما يقول: «لا نكون معه مقلدين ولا ناقلين ولا شارحين»، بل يقوم على «اختراع مفاهيم، وتوليد مصطلحات، وبيان لفروق، وإنشاء لدعاوى، وصوغ لمبادئ، ووضع لقواعد، وترتيب لقوانين، وتدليل على مسائل، واستخلاص لنتائج، وتصحيح لآراء، وإيراد لشبه» ونحو ذلك. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ص18. فيكون بذلك الاختصاص الطهائي يتعلّق بفلسفة المنطق وفلسفة اللغة، أو المنطقيات والعقلانيات، وبالأخصّ العلاقات بين المنطقيات واللسانيات. الأمر الذي جعله يناظر -معترضًا ومنتقدًا- كبار المناطقة؛ سواء في تاريخ الفكر الإسلامي، أو في فضاء الفكر الغربي، من ذلك أنه اجتهد في تجديد الصلات بين المنطق والأصول؛ بحيث جعل علم الأصول جزءًا من علم المنطق، فضلًا عن أنه جعل البناء النسقي الفلسفي قائمًا على الدين، عكس سائد الفكر الحداثي الغربي ومقلديه. ونظرًا لباعه الإبداعي في مجالات اجتهاده -المنطق، الفلسفة، اللغة- أصبح زائرًا في عدّة جامعات عربية، فضلًا عن عضويته في العديد من الجمعيات والمنظمات الفلسفية والمنطقية واللغوية العالمية. طه عبد الرحمن، وإن كان متقنًا للغة العربية والفرنسية والإنجليزية، إلّا أنه عكس أترابه، إذ تجد أن أغلب تآليفه باللغة العربية. كانت المرحلة الأولى للكتابة في حياة طه عبد الرحمن متعلّقة بالشعر، إلّا أنه عقب هزيمة 1967، تحوّل من الكتابة الشعرية إلى الكتابة الفكرية، ناظرًا في ماهية العقل المنهزم والمنتصر على حدّ سواء. إن طه عبد الرحمن، نظير غيره من المفكرين المعاصرين، جعل من هذا (الحدث التاريخي الإنساني) سبب التحول من الكتابة الأدبية الشعرية إلى الكتابة الفكرية الفلسفية. الحوار أفقًا للفكر، ص17. ثم تحول من فضاء الفكر، إلى فضاء التجربة الروحية، دامجًا له في بيان حدود (العقل المجرد)، وكاشفًا عن كمالات (العقل المسدد). الحوار أفقًا للفكر، ص17-20. والناظم الكلي للاجتهاد الطهائي، هو تحقيق (الإبداع) والتحرّر من (التقليد) وفق (الخصوصية التداولية)، باجتراح آليات الخروج من (المعهود) ببرهنة عقلية وليس بتشهّي تحكمي. وقد بلغ عنده أمر (الإبداع) في مواضيع نظره، كما يقول، «حدّ الهوس». نفسه، ص68.

[3] تم ذلك تواليًا في كتبه الآتية: روح الدين مِن ضيق العَلمانية إلى سَعَة الائتمانية، بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، شرود ما بعد الدهرانية النقد الائتماني للخروج من الأخلاق، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني (3. ج)، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، ثغور المرابطة مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية.

[4] انظر المقالة المتعلقة بقراءة آية الحجاب.

[5] بؤس الدهرانية، ص19. لذلك أطلق عليها على مستوى الاصطلاح الكلي مفهوم (الأنموذج الائتماني). نفسه، ص93. دين الحياء، ج1، ص13.

[6] سؤال العنف، ص11، 32.

[7] من مظاهر (عالمية الفكر الائتماني)، نورد ما يلي: أولًا: إنه في أصله (فكر أخلاقي)، ومفهوم (الأخلاق) في فضائه، عكس المعنى السائد القائم على (الفصل) و(التضييق)، إذ هو من المنظور الائتماني يشمل (جميع أفعال الإنسان) بدون استثناء، بل إن (الأخلاق) هي المقوم الأساس لماهية الإنسان. ثانيًا: إن (الفكر الائتماني) بالنظر إلى تأسيسه على (عالمية النصّ الإسلامي المؤسس)؛ بحيث إنه (لا يصار إلى اعتبار كونه متعلقًا بزمن مخصوص إلّا بدليل)؛ لذلك يجتهد (الفكر الائتماني) في إبراز ما تشترك فيه البشرية جميعًا، خصوصًا ما يتعلق بالحقائق والقيم التي جاء بها النصّ المؤسّس. ثالثًا: إن كون (الفكر الائتماني) ينبني على (خاتمية النصّ المؤسس)، القائمة على قاعدة أن الحقائق والقيم التي جاء بها لا تصدق في زمن بعينه دون تعدية، وإنما هي تصدق في مطلق الأزمنة إلى نهاية الدهر، ولا يصار إلى اعتبارها تصدق في زمن مخصوص إلّا بدليل، الأمر الذي جعل الفكر الائتماني يجتهد في سبيل إبراز مختلف الجوانب التي تنطوي عليها حقائقه وقيمه. سؤال العنف، ص33-35.

[8] يقول طه عبد الرحمن: «تحتكم الائتمانية إلى القيم الأخلاقية والمعاني الروحية». سؤال العنف، ص48.

[9] يكثر المتن الطهائي وصف القرآن بالنصّ (المؤسِّس)، وسنبيّن إيحاءات ذلك في المقالة الثانية المتعلقة بـ(التعريف بالقرآن من المنظور الطهائي).

[10] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص96. بؤس الدهرانية، ص19.

[11] روح الدين، ص449.

[12] دين الحياء، ج1، ص21.

[13] يقول طه عبد الرحمن: «الفعل الائتماني كي يؤتى به على الوجه المطلوب، ينبغي أن يبقى، هو الآخر، موصولًا بالعالم الملكوتي، والطريق التي تحفظ صلته بهذا العالم، هو أن ينهض الفاعل بمقتضيات ميثاق الائتمان، وأحد هذه المقتضيات، أن لا يتملك ما استودع لديه. فالأصل هو الائتمان، والامتلاك إنما هو طارئ على عالم الملك». سؤال العنف، ص82، 83.

[14] شرود ما بعد الدهرانية، ص21، 27.

[15] شرود ما بعد الدهرانية، ص27. ثغور المرابطة، ص201.

[16] بهذا الاعتبار الإيماني الغيبي، ينظر طه عبد الرحمن إلى (الإنسان) من الجانب الروحي، وذلك بالنظر إليه بوصفه عبارة عن «مخلوق غيبي قبل أن يصير مخلوقًا عينيًّا»، وقد أخذ منه (ميثاق الإشهاد) و(الائتمان) عهدًا في هذا الطور الأول من وجوده. للتدليل على ذلك، اعتبر طه عبد الرحمن أن (آية الميثاق) أو (الإشهاد) كما يسميها بناءً على آية الأعراف [172]، جعلت العلاقة بين الإله والإنسان (علاقة أخذ)، و(الآخذ فيها هو الله تعالى)، و(المأخوذ منه هو الإنسان الغيبي-الروحي)، وقد أخذ منه ذلك من (مأخذ مخصوص)، وهو (ظهور بني آدم). فيلزم بناءً على ما تقدم، أن كلّ شيء متعلّق بالإنسان كامن في هذا المأخذ المخصوص. ومعلوم كما ينصّ طه عبد الرحمن أن (الكُمون)، أو (الوجود بالقوة)، هو على خلاف (الوجود بالفعل). فيكون بالتبع حدّ (الإنسان الغيبي)، أنه عبارة عن (كائن كمون، لا كائن وجود). شرود ما بعد الدهرانية، ص221، 271، 272. فقه الفلسفة، ج2، ص404.

[17] ثغور المرابطة، ص40، 121-123.

[18] ثغور المرابطة، ص136. سؤال العنف، ص153.

[19] دين الحياء، ج1، ص49-51. ثغور المرابطة، ص122، 123، 201.

[20] دين الحياء، ج1، ص51.

[21] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص96. بؤس الدهرانية، ص19.

[22] ثغور المرابطة، ص12.

[23] بؤس الدهرانية، ص14، 20. ثغور المرابطة، ص235، 240.

[24] المراد بـ(الشيء) في هذا السياق المتصل بـ(الائتمان): كلّ ما يمكن للإنسان التدخل أو التصرف فيه، بدءًا بالذات وانتهاء بالكون، مرورًا بمختلف الأشياء المادية؛ بحيث إنّ المنظور الائتماني ليس مجرد (فلسفة) نظرية تجريدية فحسب، بل هي أيضًا -وهذا هو الأصل فيها- (تربية) تنشئ فضاءً تربويًّا أو علاقة ائتمانية بين (الفقيه الائتماني) أو المربي وعموم مَن يتلقى رسالته. دين الحياء، ج2، ص85.

[25] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص97. شرود ما بعد الدهرانية، ص27. ثغور المرابطة، ص45، 47، 48.

[26] يقول طه عبد الرحمن: «الأنموذج الائتماني يتأسّس على مبادئ خمسة مأخوذة من مفاهيم محورية في الثقافة الإسلامية، وهي: الشهادة، والأمانة، والآية، والفطرة، والجمع». بؤس الدهرانية، ص22، 93. فنظرية (الفلسفة الائتمانية) حسب تنصيص طه عبد الرحمن، لا تتأسس على مبادئ العقل الأُولى التي تتحد بها الفلسفة غير (الائتمانية)، وهي: (مبدأ الهوية)، (مبدأ عدم التناقض)، و(مبدأ الثالث المرفوع)، وإلّا كانت من جنسها (فلسفة عقلية مجردة). بؤس الدهرانية، ص13، 14. لذلك وضع لها مبادئ مؤيدة خمسة لتكون (فلسفة مؤيدة) وسيلةً ومقصدًا.

[27] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص90. دين الحياء، ج1، ص49، 57.

[28] بؤس الدهرانية، ص15. يتصل هذا المبدأ بالتعريف العام بنظرية (الفلسفة الائتمانية) السالف الذِّكر. هذا المبدأ الائتماني يناقض من المنظور الطهائي (مبدأ عدم التناقض المجرد)، أو (مبدأ الاتساق المجرد)، بوصفه من مبادئ الأنموذج الدهراني. بؤس الدهرانية، ص15.

[29] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص96، 97. بؤس الدهرانية، ص14، 15، 93. دين الحياء، ج1، ص275.

[30] بؤس الدهرانية، ص14.

[31] بؤس الدهرانية، ص93 يقابل (مبدأ الشهادة) في نظرية (الفلسفة الائتمانية)، (مبدأ الهوية المجرد) في الأنموذج الدهراني. بؤس الدهرانية، ص15.

[32] بؤس الدهرانية، ص94، 95.

[33] دين الحياء، ج1، ص47-49.

[34] من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، ص90.

[35] بؤس الدهرانية، ص16.

[36] بؤس الدهرانية، ص16، 17، 18.

[37] بؤس الدهرانية، ص17، 18. يقابل هذا المبدأ الائتماني (مبدأ الثالث المرفوع المجرد)، أو قل: (مبدأ البدل المجرد) في الأنموذج الدهراني. نفسه، ص19.

[38] دين الحياء، ج1، ص54-56.

[39] التمييز بين (الظاهرة) و(الآية)، هو في مقام التمييز بين (النظر) أو (العالم الملكي) و(النظر) أو (العالم الملكوتي).

[40] جعل طه عبد الرحمن (الأنموذج الدهراني) مقابلًا لـ(الأنموذج الائتماني)، باعتبار تباين المنطلقات واختلاف المقاصد، وتباعد المسالك.

[41] بؤس الدهرانية، ص95، 101. ثغور المرابطة، ص45، 46. يقابل هذا المبدأ الائتماني مبدأ من مبادئ الدهرانية، وهو مبدأ الشاهد الملاحظ الظاهر ملكيًّا. في هذا السياق، حدد طه عبد الرحمن وجوه الاتصال الآياتي بين العلم والدين. بؤس الدهرانية، ص95- 98.

[42] بؤس الدهرانية، ص99، 100.

[43] بؤس الدهرانية، ص98-100. يقابل هذا المبدأ الائتماني مبدأ من مبادئ الدهرانية، وهو التسيد الملكي.

[44] شرود ما بعد الدهرانية، ص278، 279، 323، 234.

[45] بؤس الدهرانية، ص100- 103. ثغور المرابطة، ص46. شرود ما بعد الدهرانية، ص323.

[46] نبين في مقالة لاحقة كون الأسماء الحسنى أصلًا من أصول الأخلاق، أثناء الحديث عن النظر الائتماني في آيات الأسماء الحسنى.

[47] بؤس الدهرانية، ص103-106.

[48] بؤس الدهرانية، ص106. 107. إن (الائتمانية) تتأسس أيضًا على المبادئ الآتية: مبدأ (الاقتران بين الائتمان والحرية)، مبدأ الجمع بين (الإيمان والائتمان)، مبدأ (رؤية الإرادة الإلهية في العالم) وغير ذلك. سؤال العنف، ص11، 12، 48. ثغور المرابطة، ص20، 36، 47. شرود ما بعد الدهرانية، ص386.

[49] شرود ما بعد الدهرانية، 221، 271، 272، 275، 257. سؤال العنف، ص62، 63. ثغور المرابطة، ص12، 30، 40.

[50] روح الدين، ص509.

[51] بؤس الدهرانية، ص164.

[52] من الإنسان الأبتر، ص96. بؤس الدهرانية، ص19.

[53] دين الحياء، ج2، ص371، 372.

[54] ثغور المرابطة، ص201.

[55] روح الحداثة، ص144، 193. الحوار أفقًا للفكر، ص88، 89، 90. (لا دخول للمسلم إلى الحداثة من غير تجديد قراءته للقرآن). (قراءة حداثية للقرآن بالمعنى الإنشائي والجمالي). نفسه.

[56] روح الحداثة، ص175.

[57] ميز طه عبد الرحمن بين (القراءة الحداثية) و(القراءة العصرية) أو (المعاصرة). روح الحداثة، ص177.

[58] روح الحداثة، ص193.

[59] روح الحداثة، ص175، 176. الحوار أفقًا للفكر، ص89، 90.

[60] سؤال المنهج، ص45.

[61] سؤال المنهج، ص46.

[62] سؤال المنهج، ص45.

[63] سؤال المنهج، ص45.

[64] سؤال المنهج، ص46.

[65] سؤال المنهج، ص46. العمل الديني وتجديد العقل، ص23، 25. و(النظر) في حد ذاته (رأي)، إلّا أن للفظة الرأي من المنظور الطهائي دلالة خاصة، وهي أنه عبارة عن «بذل الجهد لاستخراج الحكم العملي من النصوص الشرعية»، فيكون الرأي بهذا التعريف مرادفًا لـ(معنى الاستنباط العقلي)، كما هو مقرر في علم الأصول. اللسان والميزان، ص133.

[66] سؤال المنهج، ص45.

[67] سؤال المنهج، ص47.

[68] حوارات من أجل المستقبل، ص5. سؤال المنهج، ص147-150، 151.

[69] سؤال العمل، ص295، 303، 417.

[70] دين الحياء، ج1، ص27. بهذا الاعتبار عرف طه عبد الرحمن مفهوم (الفقه). نفسه.

[71] سؤال المنهج، ص48.

[72] سؤال المنهج، ص45. انظر الحديث عن (نظرية التأويل) في: اللسان والميزان، ص165 وما يليها.

[73] روح الحداثة، ص68.

[74] روح الحداثة، ص143. سؤال العمل، ص49.

[75] الحوار أفقًا للفكر، ص87، 88.

[76] روح الحداثة، ص143.

[77] سؤال العنف، ص88، 89.

[78] سؤال العنف، ص90، 91.

[79] يقول طه عبد الرحمن: «ليس أضرّ بقوى العقل والوجدان من الجمود على ظاهر النصوص». ثغور المرابطة، ص68.

[80] سؤال العنف، ص66، 67، 77. والذي عمّق أزمة (فساد الفهم للنصّ المؤسس)، ما سماه طه عبد الرحمن بـ(فساد فهم الواقع)، وذلك من خلال (إغفال الأسباب الموضوعية للأفعال والظواهر)، إذ إن منشأ (سوء الفهم) يتحدّد في (فهم الواقع بتجاهل أسبابه). وهذه (الغفلة المزدوجة) (إغفال المقاصد الشرعية)، وذلك بـ(التمسك بحرفية النصوص مع إهمال المقصد)، و(إغفال الأسباب الموضوعية)، وذلك بـ(التمسك بصورية الأعمال مع إهمال الروح)، هي من منظور طه عبد الرحمن أهم أسباب ظهور (العنف) و(التكفير) و(التشدّد) و(الإيذاء المسرف)، خصوصًا للمخالف، في الرأي كان الخلاف أو في المذهب أو في الدين ونحو ذلك. نفسه، ص67، 77.

[81] ثغور المرابطة، ص31.

[82] حوارات، ص94. 95.

[83] سؤال العنف، ص140 وما يليها.

[84] حوارات، ص94، 95.

[85] نتعرف أكثر على معالم هذا المنهج، في مقالة تطبيقية آتية.

[86] سؤال العنف، ص69.

[87] سؤال العنف، ص72.

[88] سؤال العنف، ص70.

[89] سؤال العنف، ص70.

[90] سؤال العنف، ص70. 72. اعتبر طه عبد الرحمن أن (النموذج الأمري) أورث الجيل المعاصر من المسلمين، أو قل: من المتدينين، في (المجتمع الأمري)، (نفسية بلا خيرة، وعقلية بلا سعة). وهذه الحالة الأمرية الوجودية الناظمة تراكمت عبر مراحل متتالية. سؤال العنف، ص71.

[91] سؤال العنف، ص71، 72. ثغور المرابطة، ص117.

[92] سؤال العنف، ص143. نبيّن في مقالة آتية علاقة (القيم الأخلاقية) بـ(الأسماء الحسنى).

[93] سؤال العنف، ص71. ثغور المرابطة، ص116-118.

[94] مثّل طه عبد الرحمن لهذا النوع الثالث من القراءة، (القراءة المعاصرة) لمحمد شحرور، كما هي في كتابه: الكتاب والقرآن، و(القراءة العصرية) لعبد الكريم شروس، كما هي في كتابه: القبض والبسط في الشريعة. والدليل -حسب الاعتبار الطهائي- أنّ الحداثيين العرب نفوا خصوصًا عن (القراءة المعاصرة) لمحمد شحرور صفة (الحداثة). روح الحداثة، ص177.

[95] تكثر الأوصاف التي يطلقها المتن الطهائي على (القراءات الحداثية) في فضاء الفكر الإسلامي، والناظم لها جمعًا، أنها غير متوافقة مع القرآن، ولا متجانسة مع روح الحداثة أو السياق الإسلامي العربي. وهي في عمومها تقتصر على قراءة آيات من سور معدودة؛ لذلك ارتضى أن توصف بـ(القراءات الحداثية لآيات القرآن). روح الحداثة، ص176. الحوار أفقًا للفكر، ص89، 162.

[96] يميز طه عبد الرحمن بين (روح الحداثة) وبين (واقع الحداثة)، حيث يعتبر أن واقع الحداثة هو تمظهر لمبادئها في سياق تداولي محدد.

[97] الحوار أفقًا للفكر، ص85، 106، 107، 162. روح الحداثة، ص16، 69، 175. فقه الفلسفة، ج1، ص23.

[98] الحوار أفقًا للفكر، ص85، 86، 151.

[99] الحوار أفقًا للفكر، ص85، 105. فقه الفلسفة، ج2، ص34.

[100] الحوار أفقًا للفكر، ص104، 161. روح الحداثة، ص68، 175. نفسه، ص267.

[101] روح الحداثة، ص124. فقه الفلسفة، ج1، ص23.

[102] فقه الفلسفة، ج1، ص23. فقه الفلسفة، ج2، ص34. الحوار أفقًا للفكر، ص112.

[103] الحوار أفقًا للفكر، ص161. روح الحداثة، ص189، 190.

[104] روح الحداثة، ص12، 193. الحوار أفقًا للفكر، ص89، 162.

[105] الحوار أفقًا للفكر، ص105. روح الحداثة، ص13-15.

[106] روح الحداثة، ص193. فقه الفلسفة، ج2، ص11-17.

[107] روح الحداثة، ص177. فقه الفلسفة، ج1، ص23. روح الحداثة، ص188، 189.

[108] الحوار أفقًا للفكر، ص161. روح الحداثة، ص176، 177، 178.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))