المصطلح القرآني
مفهومه، وأهميته، وواقع البحث فيه

الكاتب : سمير فريدي
للمفاهيم دورٌ مهمّ في تقدُّم الأمم وانحطاطها باعتبارها الوعاء الذي يحوي ثقافتها وفكرها، مما يؤكّد ضرورة العناية بالمصطلحات والمفاهيم القرآنية ودراستها باعتبار مركزية القرآن في بناء الفكر الإسلامي وصناعته، وهذه المقالة تعرِّف بالمصطلح القرآني، ثم تعرِّف بأوجه العناية به بين الماضي والحاضر، وتكشف جذور العناية به في التراث الإسلامي.

  نشأت العلوم الإسلامية انطلاقًا من الوحي قرآنًا وسُنّةً، ولما كان القرآنُ العظيم مفتاحَ التغيير والتبديل، كانت مصطلحاته أيضًا عبارة عن مفاتيح لهذه العلوم التي انبثقت منه؛ لهذا يعتبر المصطلح القرآني النواة الأولى لفهم القرآن، والمنطلق الأساس لبناء الحضارة والعمران، ومنبع تفجير العلوم والمعارف على مَرّ الأزمان؛ لهذا خُصَّ بالرعاية مذ تنزُّله، كما لحقته العناية بعد اكتمال نزوله. ولا غرو أن الأمة الآن تشهد حالة من التعثّر والتبعثر؛ التعثّر على مستوى استئناف السير الحضاري، والتبعثر على مستوى منهج التعامل مع النصّ القرآني، ولا سبيل إلى الخروج من هذه الحالة إلا من خلال الانطلاق مِن تدبُّر القرآن الكريم، بدءًا بمصطلحاته باعتبارها الخطوة الأولى لفهم الخطاب القرآني ومعرفة مقاصده، والمفاتيح الكاشفة عن مكنونه والمكتنزة لدلالاته الحضارية والمعرفية، فمن لم يتبيّن معناها أشكل عليه فهم الخطاب جملة.

 ومن المعلوم أنّ للمفاهيم دورًا مهمًّا في تقدُّم الأمم أو انحطاطها باعتبارها الوعاء الذي يحوي ثقافتها وفكرها، فبمجرد استعارة مصطلح من ثقافة معيّنة أو من حقل معرفي آخر ثم يتم تداوله على أساس التطابق والتماثل مع المصطلح الأصل، يبدأ الخللُ يتسرَّب إلى النظام الفكري والثقافي للأمة، وإن بقي هذا الزيغان المفاهيمي مستمرًّا سيتآكل جسدها إلى أن تنهار أصولها وثوابتها وأركانها التي قامت عليها، وبعد ذلك سننتقل من حالة تسرُّب المصطلح من ثقافة أخرى إلى حالة ترسُّب مضمون ذلك المصطلح الوافد على ثقافة الأمة، ومن ثم تلحق مفاهيمها عدّة أمراض من قَبِيل الميوعة والغموض والتشويه.

 وقد عرف المصطلح القرآني تحوّلات مختلفة على مدى أربعة عشر قرنًا، حيث أُفرغ من محتواه القرآني وحمل دلالة تاريخية في كثيرٍ من الأحيان وصارت هي الموجهة للأمة بدل الدلالة القرآنية، وهذا ما يستدعي أهمية العناية بهذا الأمر لاستعادة المفاهيم القرآنية وإزاحة الغبار عن اصطلاحاتها، وبيان الجهود الحاصلة في ذلك عسى أن يسهم ذلك في التعريف بها وإذكاء البحث في هذا المجال، وهو ما نستهلُّه أولًا بإطلالة حول بيان مفهوم المصطلح القرآني وأهميته سيّما في البُعد المعرفي.

أولًا: المصطلح القرآني؛ مفهومه، وأثره في التأثيل المعرفي:

يقصد بالمصطلح[1] بشكلٍ عامّ ذلك اللفظ الذي يؤتى به من المجال اللغوي العام ليدلّ على مفهوم خاصّ في مجال علمي معيَّن، أمّا المصطلحات القرآنية فقد تعدَّدت تعريفاتها، وأبرز هذه التعريفات تعريف الدكتور الشاهد البوشيخي، حيث عرّفها بقوله: «كلّ أسماء المعاني وأسماء الصفات المشتقة منها في القرآن الكريم، مفردة كانت أم مركبة، ومطلقة كانت أم مقيدة، وعلى الصورة الاسمية الصريحة، أم على الصورة الفعلية التي تؤول بالاسمية»[2].

 وبذلك فالمصطلح القرآني «إجمالًا هو: كلّ لفظ قرآني عبَّر عن مفهوم قرآني، وتفصيلًا: هو كلّ لفظ من ألفاظ القرآن الكريم مفردًا كان أم مركّبًا اكتسب داخل الاستعمال القرآني خصوصية دلالية قرآنية، جعلت منه تعبيرًا عن مفهوم معيَّن له موقع خاصّ داخل الرؤية القرآنية ونسقها المفهومي»[3].

فالمصطلح القرآني يتَّسم بتعاضده مع غيره داخل البنية النسقية للقرآن المجيد، ولا يمكن فهمه إلا من داخلها، وبهذه الخصوصية يتفرّد عن غيره من مصطلحات مختلف العلوم والفنون.

وقد أحدثت هذه المصطلحات القرآنية طفرة مفهومية، فظهر ما سُمي بالتخصيص أو تضييق المعنى، والتوسّع الدلالي، وظهرت أسماء أخرى لم تعهدها العرب في كلامها، حتى ظُنَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغيّر أسماء الأيام والشهور والبلدان، فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيّ يوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظننّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يوْمَ النَّحْرِ؟ قلنا: بلَى، قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَننَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فقَالَ أَلَيْسَ ذُو الحَجَّةِ؟ قلنا: بَلَى، قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَننَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ أَلَيْسَتْ بِالْبلْدَةِ الحَرَامِ؟ قُلْنَا: بلَى...»[4].

 ومما يوضح تباين المصطلح القرآني مع غيره ما رواه البخاري في صحيحه أنه «لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام: 82]، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تقُولُونَ؛ {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13]»[5].

 وعن عَدِيِّ بن حاتِم -رضي اللَّه عنه- قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ، أَهُمَا الخَيْطَانِ؟ قَالَ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الخَيْطَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ»[6].

 وغير ذلك كثير مما يوضح أن مصطلحات القرآن الكريم أحدثت ثورة دلالية، كما أنها كانت المنطلق الأساس لمختلف علوم المسلمين في شتى المجالات، هذا ما يفسّر حجم الإنجازات التي وصلت إليها الأمة في عصورها الذهبية، لكون القرآن كان هو المصدر المؤسّس للعلوم والمعارف، فكان أخذهم له بقوة، فمنحهم من الهدايات المعرفية ما مكّنهم من تحقيق الشهود الحضاري، وعندما أخذناه بضعف كان قمة انحطاطنا وتخلفنا، وهذا ظلم في حقّ القرآن؛ فالقرآن بطبيعته كريم، فبقدر المشقّة والمداومة في طلب الاستمداد منه يعطي لطالبه بقدر جهده في الطلب، لكن عندما تم إغفال مصدريته المنشئة للمعارف والعلوم، وتم البحث عن الهُدى خارجه، لم تمدنا مصطلحاته بالنور الذي به نستطيع أن نهتدي في ظلمات البر والبحر؛ لأننا أصبحنا نؤصّل لعلومنا من دائرة أخرى غير دائرة القرآن، وبمفاهيم أخرى غير مفاهيم القرآن، لهذا فأثر تأثيل المعارف والعلوم من داخل القرآن الكريم يمهد لتحقيق شهود الأمة والحضارة، والتخلي عن تأصيلها بعيدًا عن مصطلحاته ومفاهيمه لا يزيد الأمة إلّا خسارًا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء: 82].

 إذن فلمصطلحات القرآن الكريم دور مهم في بناء المعرفة وفي تحقيق الشهود الحضاري، هذا ما دفع العلماء قديمًا وحديثًا للاعتناء بمصطلحاته أشدّ العناية؛ لأنها السبيل الموصل لتدبُّر معانيه والكشف عن مقاصده، واكتناه أسراره، وفيما يلي نبيِّن جانبًا من هذه الجهود.

ثانيًا: دراسة المصطلح القرآني؛ بين الماضي والحاضر:

 ترجع جذور العناية بألفاظ القرآن وتحرير دلالاتها إلى مرحلة مبكّرة من تاريخ الإسلام، إذ «لا يخفى أن ما أحدثه نزول القرآن الكريم وبيان السُّنة النبوية من تغييرات جذرية في بنية الألفاظ التي كانت سائدة من قبل، بتزويدها بالمضامين الشرعية، قد خلق واقعًا لغويًّا وعقديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وعلميًّا وسلوكيًّا... جديدًا كان سمة الأمة المخرجة إلى الناس»[7]، مما جعل الصحابة الكرام على مدى ثلاث وعشرين سنة يحرصون على فهم معانيه حتى يعملوا بما استمدوه منها من الهدى والعلم، «كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}[النحل: 47]، فإنه سئل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوُّف عندنا التنقُّص، ثم أنشده:

تخوَّف الرَّحْل منها تامِكًا قَرِدًا .. كما تخوَّف عودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

فقال عمر: أيها الناس، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم»[8].

فإذا تبيّن مدلول اللفظ تحصّل المعنى، ولا بد «أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود»[9].

 ونجد أن القرآن الكريم نفسه هو الذي بيّن منهج التعامل مع المصطلحات والمفاهيم وعدم الخلط بينها، مع ضرورة إدراك الفروق بينها، يقول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}[البقرة: 104]، وقال -جل ثناؤه-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: 14]، ففي هذه الآيات وجّهنا الله تبارك وتعالى إلى استبدال ألفاظ بألفاظ وكذا إلى حسن الدقّة والتمييز بينها. وأيضًا في الحديث النبوي الشريف نجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكّد على ضرورة تسميات الأشياء بمسمياتها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، وَلاَ تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»[10]. ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُسَمَّى المغرب العشاء، فقال: «لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ المَغْرِبِ»[11]. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي»[12].

وفي ضوء ذلك اعتنى التراث الإسلامي عناية كبيرة جدًّا بالنصّ القرآني وألفاظه وضبط دلالات هذه الألفاظ، وقد تنوّعت تلك الجهود التي بذلها العلماء على مَرّ العصور في هذا الصدد بتنوّع توجهاتهم ومذاهبهم، ومن الكتب والفنون التي تناولت المفردة القرآنية بالدراسة ما يأتي:

كتب غريب القرآن:

 من أبرز كتب الغريب:

- تفسير غريب القرآن لزيد بن علي (ت120هـ).

- غريب القرآن وتفسيره لليزيدي (ت202هـ).

- مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت210هـ).

- غريب القرآن للأصمعي (ت213هـ).

- غريب القرآن للأخفش الأوسط (ت215هـ).

- غريب القرآن للقاسم بن سلام (ت224هـ).

- تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ت276هـ).

- غريب القرآن للهروي (ت401هـ)

- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ت502هـ).

- تفسير غريب القرآن العظيم للرازي (ت666هـ).

كتب الوجوه والنظائر[13]:

 يقول ابن الجوزي في كتابه (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر): «قد نُسب كتاب في "الوجوه والنظائر" إلى (عكرمة عن) ابن عباس -رضي الله عنهما- وكتاب آخر إلى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس»[14].

 «وممن ألّف كتب الوجوه والنظائر: الكلبي، ومقاتل بن سليمان، وأبو الفضل العباس بن الفضل الأنصاري. وروى مطروح بن محمد بن شاكر عن عبد الله بن هارون الحجازي عن أبيه كتابًا في الوجوه والنظائر، وأبو بكر بن محمد بن الحسن النقاش، وأبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني، وأبو عليّ البنّاء من أصحابنا، وشيخنا أبو الحسن علي بن عبيد الله بن الزاغوني. ولا أعلم أحدًا جمع الوجوه والنظائر سوى هؤلاء»[15].

كتب الفروق:

 من الكتب التي اعتنت بالمفردة القرآنية كذلك كتب الفروق، ويبدو أن الراغب الأصفهاني من خلال مقدمة كتابه كان يريد أن يكتب كتابًا في الفروق بين الألفاظ القرآنية، حيث قال: «وأُتْبِـعُ هذا الكتابَ -إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل- بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كلّ خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذِكر القلب مرّة والفؤاد مرة والصدر مرة. ونحو ذِكره تعالى في عقب قصّةٍ: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الروم: 37]، وفي أخرى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24]، وفي أخرى: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 230]، وفي أخرى: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}[الأنعام: 98]، وفي أخرى: {لِأُولِي الْأَبْصارِ}[آل عمران: 13]، وفي أخرى: {لِذِي حِجْرٍ}[الفجر: 5]، وفي أخرى: {لِأُولِي النُّهى}[طه: 54]، ونحو ذلك ممّا يعدّه من لا يُحِقُّ الحقّ ويُبطِل الباطل أنّه باب واحد؛ فيقدّر أنه إذا فَسّر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}[الفاتحة: 2]، بقوله: الشكر لله. و{لا رَيْبَ فِيهِ}[البقرة: 2]، بـ: لا شك فيه =فقد فسّر القرآن ووفّاه التبيان»[16].

 لكن هذا الكتاب لم يصل إلينا، ومن المحتمل أن الراغب أدركته الوفاة قبل تصنيفه.

ومن الكتب التي اعتنت بالفروق اللغوية:

-بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب للحكيم الترمذي (320هـ).

- الفروق ومنع الترادف للحكيم الترمذي (320هـ).

- كتاب الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري (395هـ).

- فروق اللغات- في التمييز بين مفاد الكلمات- لنور الدين بن نعمة الله الحسيني الجزائري (1158هـ).

 بالإضافة إلى هذه الكتب، بُذلت جهود أخرى في العناية بالألفاظ القرآنية، فعُنيت كتب المعاجم وفقه اللغة بالمفردة القرآنية، كماأن المفسرين كان لهم قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام -خصوصًا اللغويين منهم-، وأقدم تفسير لغوي للقرآن الكريم وصَلَنا هو مسائل نافع بن الأزرق عن ابن عباس، فكان ابن الأزرق يسأل ابن عباس عن مسألة فيجيبه عنها ويأتي بمصداق ذلك من لغة العرب، وجاء في أسئلته على سبيل المثال لا الحصر: قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله -عزّ وجل-: {...وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ}[الرحمن: 35]، ما النّحاس؟ قال: النّحاس: هو الدّخان الذي لا لهب فيه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أمَا سمعت بقول النابغة[17]:

يضيء كضوء السّراج السّليط .. لم يجعل اللهُ فيه نحاسًا

قال: صدقت[18].

ومن زاوية أخرى تناول المتكلمون في مناقشاتهم معاني الألفاظ التي قالوا إنها داخلة في دائرة المتشابه والمجاز والاشتراك، قصد تأييد مذاهبهم العقدية، وكذلك تناولَت كتبٌ بنفحةٍ صوفيةٍ كثيرًا من المصطلحات القرآنية؛ كما في منازل السائرين للهروي، ومدارج السالكين لابن قيم الجوزية.

أمّا الدرس الأصولي فنظم طرائق النظر، ومنهج التعامل مع الألفاظ والنصوص، عن طريق مجموعةٍ من القواعد الدقيقة والمحكَمة، استمد بعضها من قواعد اللغة؛ كصيغة الأمر والنهي، المطلَق والمقيَّد، العام والخاص، الحقيقة والمجاز، المنطوق والمفهوم، المجمَل والمبيَّن، وبعضها قواعد عقلية تقارب النصّ من جهة لوازمه العقلية، وتنظيم العلاقات بين الأدلَّة والقواعد، وبعضها قواعدُ شرعية، مثل قاعدة: لا ضَرَرَ ولا ضِرار.

كما أنّ للمُحدَثِين جهودًا طيبة في دراسة دلالة الألفاظ والمفاهيم القرآنية، فمن الذين اعتنوا بالمصطلح القرآني العلّامة عبد الحميد الفراهي الهندي الذي خلف كتبًا قيّمة، منها: مفردات القرآن، وأساليب القرآن، والتكميل في أصول التأويل، وتاريخ القرآن، ودلائل النظام. هدفُه منها فهمُ كتاب الله -عز وجل- حقّ الفهم، وبيان أسراره ومقاصده. ومن كتب التفسير الحديثة تفسير المنار فله أثر بارز، وهناك أيضًا مشروع طموح لعبد اللطيف برّي في كتابه قاموس المفاهيم القرآنية، حيث سعى لرصد المفاهيم القرآنية برؤية علمية، وميَّز بين المفاهيم المحورية والثانوية.

ولا شك أن الناظر في الجهود التي ذكرنا يجدها لا تمثّل دراسة للمصطلح القرآني وفق المعنى والمفهوم الذي قرّرنا، ولكنها تنحو لبيان دلالات الألفاظ بصورة عامة سواء ما يمثل منها اصطلاحًا قرآنيًّا أم غير ذلك، وهي متفاوتة في مسالك عنايتها بالألفاظ القرآنية وطرائقها المنهجية في دراسة المعاني الخاصّة بهذه الألفاظ، وهو الأمر الذي حَدَا ببعض العلماء المعاصرين إلى القول بأن «تلك الجهود وغيرها -على وجاهتها وأهميتها- تظلّ مفتقرة إلى الشروط التي تجعل من نتائجها مفاتيح للفهم الكلي النسقي للقرآن الكريم؛ لغيبة الإحصاء في النسق العام. وذلك ما يترشح له منهج الدراسة المصطلحية بكفاءة بحكم اختصاصه»[19]؛ إذ «لو تتبع الباحث بالاستقراء الكامل مواطن ورود اللفظ الواحد لأمكنه الوقوف على معاني هذا اللفظ الجمة وعلى حقيقته والمراد منه في هذا الموطن أو ذاك؛ سواء اتحدت المعاني أو اختلفت، ولكان ذلك خير مُعِين لفهم المراد من كلام الله تعالى في كتابه»[20].

وفي ضوء حالة الركود الحضاري ورغبة الكثير من العلماء في إعادة إحياء الأمة من جديد والتي لا يمكن أن تتم إلا بالعودة بهذه الأمة لكتابها من جديد؛ فقد تضاعفت الجهود وتضافرت، وقويت الهمم واشْرَأبّت إلى دراسة مصطلحات القرآن الكريم؛ لكون الأمة تحتاج إلى ما في هذه المصطلحات من الهدى والعلم أكثر من أيّ وقت مضى لما تشهده الأمة من التراجع والتأخّر.

وحاول بعض العلماء الأجلّاء صياغة منهج يُعنى بدراسة المصطلح القرآني وفق نسق محكم، وهو الأمر الذي كان -برأينا- لمعهد الدراسات المصطلحية فضل كبير فيه، حيث اعتنى بهذه القضية اعتناء كبيرًا جدًّا، وأرسى المعالم المنهجية اللازمة لمواصلة تدبر مفردات القرآن المجيد ودراستها وتحرير مفاهيم اصطلاحات القرآن بمنهج علمي رصين.

ولهذا المنهج الذي وضعه هذا المعهد وشيخه المبارك (الدكتور الشاهد البوشيخي) تفاصيل كثيرة لا يسع استيعابها في هذه المقالة، ولكنه منهج يعتمد الإحصاء بصورة رئيسة لتحرير الدلالات ويسلك مسلكًا علميًّا منظمًا في التعامل مع المصطلح ودراسته ما يجعله يمثل مسلكًا علميًّا مدققًا في تحرير مفاهيم اصطلاحات القرآن.

ويعتبر كتابه: (القرآن الكريم والدراسة المصطلحية) مرجعًا في هذا الباب. ومن الكتب التي اهتمت بدراسة المصطلح القرآني بالاعتماد على منهج الدراسة المصطلحية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

- مفهوم الآية في القرآن الكريم والحديث الشريف؛ دراسة مصطلحية وتفسير موضوعي، محمد الينبعي.

- مفهوم التأويل في القرآن الكريم؛ دراسة مصطلحية، فريدة زمرد.

- مفهوم التقوى في القرآن والحديث؛ دراسة مصطلحية وتفسير موضوعي، محمد البوزي.

- مفهوم التدبر في القرآن الكريم؛ دراسة مصطلحية ورؤية معرفية، سمير فريدي.

وعن هذا المنهج لدراسة المصطلح وما يمثّله من فوائد في التعامل مع مفاهيم القرآن، تقول الدكتور فريدة زمرد مبينة أنه يمثِّل «مدخلًا للتفسير، ويمكن وصف هذا المدخل بالآمِن؛ أقصد الآمِن من أيّ شبهة للإسقاط المذهبي، الذي ظلّ التفسير يعاني من تبعاته قرونًا طويلة، والذي تتمثّل أساسًا في إسقاط الفهم الخاصّ بالمفسّر النابع من تصورات مذهبية وفكرية معينة، على الألفاظ القرآنية، فَتُحَمَّل من المعاني ما لم ينزل الله بها من سلطان، ثم في الخلط بين دلالة اللفظ في سياق معيَّن بدلالته في سياقات أخرى مختلفة»[21].

 إنّ الجهود المبذولة في هذا المضمار هي جهود معاصرة ولكنها أخذت في الازدياد والتوسّع والانتشار، وأضحى هناك العديد من الدراسات التي تهتم بتحرير مفاهيم اصطلاحات القرآن الكريم، وهو الأمر الذي لا يزال بحاجة لمزيد عناية ومتابعة وأن يتحول لمشروعات كبرى، وكذلك أن تنقل نتائجه في الساحات الدعوية والمعرفية الأخرى ليحصل النشر للمفاهيم الصحيحة للمصطلحات القرآنية، وهو ما يعين بقوة على استرداد ذاتنا الحضارية مرة أخرى.

 

 

 

[1] قال د. طه جابر العلواني في التفريق بين المصطلح والمفهوم: «إذا كان المفهوم مغايرًا للأسماء من حيث الدلالة والوظيفية المعرفية، وإن كان اسمًا من حيث الإعراب؛ فإنه مغاير للمصطلح كذلك، فالمصطلح بمثابة الاسم: يصطلح جماعة من الناس تجمعهم حِرفة أو مصلحة أو سواها على إطلاق لفظ بإزاء معنى أو ذات، لا يتنازعون فيما اصطلحوا عليه حيث لا مشاحة في الاصطلاح. أمّا المفهوم فهو شيء آخر يختلف عن الاسم، ويختلف عن المصطلح، إنه أشبه بوعاء معرفي جامع يحمل من خصائص الكائن الحي أنه ذو هوية كاملة قد تحمل تاريخ ولادته (ويغلب أن يكون تقريبًا) وسيرورته وتطوره الدلالي، وما قد يعترضه أثناء سيرورته من عوامل صحة أو مرض وعمليات شحن وتفريغ وتخلية وتحلية؛ ولذلك كانت دائرة المفاهيم أهم ميادين الصراع الفكري والثقافي بين الثقافات عبر التاريخ وستظلّ كذلك حتى ظهور الهدى ودين الحقّ على الدين كلّه». نحو منهجية قرآنية معرفية، دار الهادي، ط1، 1425هـ-2004م، ص124، وبناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، مجموعة من المؤلفين، إشراف د. علي جمعة ود. سيف الدين عبد الفتاح، تقديم طه العلواني، دار السلام، ط1، 1429هـ-2008م، (1/ 8).

[2] نحو معجم تاريخي للمصطلحات القرآنية المعرَّفة، د. الشاهد البوشيخي، ص130.

[3] القرآن والدراسة المصطلحية، دراسات مصطلحية، د. الشاهد البوشيخي، ط1، دار السلام، القاهرة، 2011م، ص20.

[4] أخرجه البخاري، في كتاب الحج، باب الخُطبة أيام منى، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، (1741) (2/ 176).

[5] أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلًا}[النساء: 125]، (3360)، (4/ 141).

[6] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط...}[البقرة: 187]، (4510) (6/ 26).

[7] المصطلحات والمفاهيم في الثقافة الإسلامية بين البناء الشرعي والتداول التاريخي، د. سعيد شبار، منشورات المجلس العلمي الأعلى، ط1: 1431هـ-2010م، صفحة غلاف الكتاب.

[8] الموافقات، الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، 1417هـ-1997م. (2/ 139-140).

[9] الموافقات (2/ 138).

[10] أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لا تسبوا الدهر (8/ 41) (6182).

[11] أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من كره أن يقال للمغرب العشاء، (1/ 117) (563).

[12] أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لا يقال: خبثت نفسي، (8/ 41) (6179).

[13] معنى الوجوه والنظائر أن تكون الكلمة واحدة، ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد، وحركة واحدة، وأريد بكلّ مكان معنى غير الآخر، فلفظ كلّ كلمة ذكرت في موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر، وتفسير كلّ كلمة بمعنى غير معنى الأخرى هو الوجوه. نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، ابن الجوزي، تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي، مؤسسة الرسالة - لبنان/ بيروت، ط1، 1404هـ-1984م، ص83.

[14] نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، ابن الجوزي، ص83.

[15] نفسه.

[16] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية - دمشق، بيروت، ط1، 1412هـ، ص55-56.

[17] النابغة الجعدي اسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيع بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. هكذا نسبه أبو عبيدة وابن الكلبي ومحمد بن سلا ولقيط وأكثر أهل العلم. وقال القحذمي: اسمه حيان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس بن ربيعة بن جعدة. يكنى أبا ليلى وكان شاعرًا مفلقًا طويل البقاء في الجاهلية والإسلام، وكان أكبر من النابغة الذبياني وبقي بعده بقاءً طويلًا وهو أحد المعمَّرين، يقال إنه عاش من العمر مائتي سنة وقيل أقل من ذلك، وكُفّ بصره بعد أن أسلم وحسن إسلامه وبلغ إلى فتنة ابن الزبير ومات بأصفهان. معجم الشعراء، المرزباني (ت384هـ) ص321.

[18] مسائل نافع بن الأزرق عن ابن عباس، تحقيق: د. محمد الرالي، الجفان والجابي، ط1، 1413هـ-1993م، ص36-37.

[19] القرآن الكريم والدراسة المصطلحية، ص103.

[20] المصطلحات والمفاهيم في الثقافة الإسلامية بين البناء الشرعي والتداول التاريخي، د. سعيد شبار، ص7.

[21] تفسير القرآن من التوجه المذهبي إلى المدخل المصطلحي، د. فريدة زمرد، مجلة الإحياء، عدد 27، ص92.

الكاتب

سمير فريدي

حاصل على الماجستير من جامعة السلطان مولاي سليمان بن ملال بالمغرب، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))