فانظر إلى آثار رحمة الله

الكاتب : محمد الخولي
أمرَنا الله -عزّ وجل- في كتابه العزيز بالنظر في الكون والتفكّر فيه، ووجَّه القرآنُ الكريم للنظر في آثار رحمة الله. وتُلْقِي هذه المقالة ضوءًا على بعض هذه الآثار التي نبَّه عليها القرآن، وتختم بذكر بعض الثمرات المترتبة على هذا النظر والتأمّل.

  لقد أمرَنا اللهُ -عزّ وجل- في غير آية من كتابه العزيز بالنظر في الكون والنَّفْس والتدبُّر في آياته المنظورة، كما أمرَنا بالتدبّر في آياته المسطورة، حيث إنّ هذا الكون بما فيه من الآيات لَخير شاهدٍ على قدرته -سبحانه- واتصافه بصفات الجلال والكمال، ومن هذه الصفات صفة الرحمة الإلهية وآثارها التي تفيض علينا وتغمرنا في ليلنا ونهارنا، وفي حركاتنا وسكوننا، وفي كلِّ ذرَّات الكون من حولنا.

ثبوت صفة الرحمة الإلهية:

فصفة الرحمة ثابتة بالكتاب والسُّنة؛ فلقد وصَف الله -سبحانه- نفسه في كثير من آيات القرآن بالرحمن، ووصف نفسه في بعض الآيات بالرحيم، وقرَن بينهما كذلك في آيات أخرى، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}[الإسراء: 110]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة: 104]، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 163].

يقول الشيخ السعدي: «الرحمن الرحيم: اسمان دالَّان على أنه -تعالى- ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كلّ شيء، وعمَّت كلّ مخلوق، وكتب الرحمة الكاملة للمتقين المتَّبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة المتصلة بالسعادة الأبدية، ومَن عَداهم محروم من هذه الرحمة الكاملة»[1].

وورد في السُّنة أنه -سبحانه- أرحم بعباده من الأُم بولدها؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قَدِم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سَبْيٌ، فَإِذْ بامرأة من السَّبْي وجدَتْ صبيًّا لها كانت تبحث عنه فأخذَتْه وألصقَتْه ببطنها وأرضعَتْه، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أترون هذه طارحةً ولدَها في النار؟ قلنا: لا، فقال: للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدِها)[2].

وورد عن عبد الله بن عمرو، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء»[3].

فالرحمة صفة من صفات الله يصيب بها من يشاء من عباده ويُمسكها عمَّن يشاء، كما قال سبحانه: {ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر: 2].

يقول ابن القيم: «وإذا أراد اللهُ بأهلِ الأرض خيرًا نشر عليهم أثرًا من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد وأحيا به العباد، وإذا أراد بهم شرًّا أمسك عنهم ذلك الأثر، فحلَّ بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن»[4].

آثار رحمة الله لا تُعَدُّ ولا تُحصَى:

فالعبد إذا نظر إلى آثار رحمة الله فإنه لا يستطيع أن يعدَّها أو يحصيها؛ لأنها تحيط بالعبد مع كلّ طرفة عين، وكلّ نَفَسٍ من أنفاسه، بل تحيط به مع كلّ نبضة من نبضاته، يقول صاحب الظلال: «ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العدُّ، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه، وفيما سخّر له مِن حوله، ومن فوقه ومن تحته، وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير»[5].

فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتأمل في بعض آثار رحمة الله لنعلم عظيمَ فضله علينا وعنايته ورحمته بنا:

فمن آثار رحمة الله أنه خلق الإنسان وكرَّمه وأرسل إليه الرسل، لم يتركه همَلًا:

فالله -عز وجل- خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض وكرَّمه على سائر المخلوقات، وبرحمته أرسل إليه الرسلَ لهدايته وإرشاده للطريق المستقيم؛ ليحيا حياة طيبة، ويَسعد في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70]، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر: 24].

 يقول ابن القيم -رحمه الله-: «فإنّ رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، فمَن أعطى اسم (الرحمن) حقَّه عرَف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحَبّ؛ فاقتضاء الرحمة لِمَا تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك»[6].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه سخّر الكون للإنسان وأسبغ عليه من النعم الظاهرة والباطنة:

فمن تكريم الله للإنسان أنْ سخّر له الكون بما فيه من المخلوقات، وأسبغ عليه من النّعم الظاهرة التي يشاهدها ببصره وحواسه، ومن النّعم الباطنة التي يدركها بقلبه وشعوره، فقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان: 20]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[فاطر: 3].

يقول الشيخ السعدي: «فالنعم كلّها من آثار رحمته...، فالله خلق الخَلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النّعم الظاهرة والباطنة برحمته، ودبَّرهم أنواع التدبير وصرَّفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته؛ فلا طابت الأمور، ولا تيّسرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته»[7].

ومن رحمته -سبحانه- أنه لا يُكلِّف العبد ما لا يطيق من التكاليف والأحكام:

فالله -عز وجل- لم يُكلِّف العباد إلا بما يستطيعون رحمةً بهم وفضلًا منه سبحانه، وإلَّا فلو أمَر عباده بما لا يطيقون ما استطاع أحدٌ منهم أن يعترض على أمره أو أن يخرج عن مشيئته، ولكنه -سبحانه- أرحم الراحمين بعباده حيث لم يكلفهم إلَّا بما يطيقون، فقد قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78].

يقول الشيخ السعدي: «فأَصْل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشقُّ على النفوس، بل هي غذاءٌ للأرواح ودواء للأبدان، وحِمْيَة عن الضّرر، فالله تعالى أمَر العباد بما أمَرهم به رحمةً وإحسانًا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنّة المشقّة حصل التخفيف والتسهيل؛ إما بإسقاطه عن المكلَّف، أو إسقاط بعضه، كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»[8].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه أنزل جزءًا من رحمته ليتراحم به الناس وسائر المخلوقات فيما بينهم:

فهذا التراحم الذي نشاهده بين الناس بعضهم بعضًا، وبين الحيوانات وسائر المخلوقات لَمِن آثار رحمة الله -عز وجل- التي أودعها في الكون، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)[9]، وفي روايةٍ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)[10].

يقول ابن القيم: «ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة، كلّ رحمة منها طِباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة؛ نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوام العالم ونظامه»[11]، ثم قال -رحمه الله-: «وأنت لو تأملتَ العالم بعين البصيرة لرأيتَه ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة، التي أنزلها إلى الأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، فسبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين»[12].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه سخّر النهار للكسب والمعاش وسخّر الليل للراحة والسّكن:

فتعاقُب الليل والنهار آية عظيمة من آيات الله -عزّ وجل- الدالّة على قدرته سبحانه، وهي من آثار رحمته -عزّ وجل- حيث يستعين الإنسانُ بالنهار على العمل وطلب الرزق وأسباب المعاش، ويستعين بالليل على النوم والراحة ليجدّد نشاطه ويستعيد قوَّته؛ لذلك فإن تسخير الليل والنهار من نِعَم الله التي توجب علينا الشكر له -سبحانه-، كما قال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص: 73].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه يرزق المؤمن والكافر والبَرّ والفاجر:

وهذا الأثر نُعاينه ونشاهده في كلّ يوم، فلولا رحمة الله العامة التي وسعت كلّ المخلوقات في الدنيا لَمَا سقى الكافر منها شربة ماء، ولولا رحمة الله لمنَع الرزق عن الظالم والفاجر، ولكنه -سبحانه- لم يمنع هذه الرحمة عن أحد في الدنيا برحمته، يقول الشيخ السعدي: «{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156] من العالم العُلْوي والسُّفْلي، البَرّ والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصَلَت إليه رحمة اللّه، وغمَره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصّة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكلّ أحد»[13].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه أحوجَ الخَلْقَ بعضهم إلى بعض حتى لا تتعطّل مسيرة الحياة:

فقد قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزُّخرف: 32].

يقول ابن القيم: «ومن رحمته أحوجَ الخَلْقَ بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضَهم عن بعض لتعطّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أنْ جعَل فيهم الغنيّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعِيّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته»[14].

ومن آثار رحمته -سبحانه- أنه يستحيي أن يَرُدَّ سؤال عبده إذا دعاه:

فقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186]، وقال -أيضًا سبحانه- ممتنًّا على عباده: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62].

يقول الشيخ السعدي: «أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب، وتعسّر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا اللهُ وحده؟! ومَن يكشف السوء -أي: البلاء والشر والنقمة- إلا الله وحده؟! ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمَكِّنكم منها ويمدُّ لكم بالرزق ويوصِل إليكم نعمه، وتكونون خلفاء مَن قَبلَكم، كما أنه سيُمِيتُكم ويأتي بقوم بعدَكم، أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟! لا أحد يفعل مع الله شيئًا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضرّ دعوا الله مخلصين له الدّين؛ لعِلْمهم أنه وحده المقتدر على دفعِه وإزالته»[15].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ ربكم -تبارك وتعالى- حيي كريم، يستحيي مِن عبده إذا رفع يديه إليه، أن يردَّهما صفرًا)[16].

أقرب الناس للرحمة وأبعدهم عنها:

بعدما توقَّفْنا مع بعض آثار رحمة الله -سبحانه- ينبغي أن نعرف أنه بقَدر قرب العبد من الله -تعالى- محبةً، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاءً، وإنابةً، والتزامًا بفرائضه يكون قربه من نَيْل رحمته وعفوه، وبقدر ابتعاده عن شريعته تبعد رحمة الله -تعالى- عنه، وأبعدُ الناس عن رحمة الله -تعالى- مَن عبدوا غيره، وخضعوا لسِواه، وقدَّموا أهواءهم على شريعته، وارتكبوا مناهيه، وخالفوا أوامره، حتى وإن نالوا حظًّا من رحمته في الدنيا، إلا أنهم في الآخرة ليس لهم منها نصيب.

يقول ابن القيم: «فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى، هي بحسب هداه، فكلّما كان نصيبه من الهدى أتمّ كان حظّه من الرحمة أوفر، وهذه هي الرحمة الخاصّة بعباده المؤمنين، وهي غير الرحمة العامة بالبَرّ والفاجر...، ولمَّا كان نصيب كلّ عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، كان أكمل المؤمنين إيمانًا أعظمهم رحمة»[17].

من الثمرات المترتبة على مشاهدة العبد آثار رحمة الله سبحانه:

وفي النهاية يَجْمُل بنا أن نقف على بعض الثمرات التي يجنيها العبد من مشاهدة آثار رحمة الله -عز وجل-؛ فأعظمُها امتلاءُ القلب بمحبته -سبحانه- وتعظيمه وإجلاله، وكذلك عدمُ القنوط من رحمته، والرجاءُ في عفوه ومغفرته، ومنها كذلك التعرّضُ لرحمته -سبحانه- بفعل الأسباب الجالبة لها والبُعد عن الأسباب المانعة عنها.

نسأل اللهَ -سبحانه- أن يتغمَّدَنا بواسع رحمته في الدنيا، وأن يشمَلَنا برحمته في الآخرة، وصلِّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] تفسير أسماء الله الحسنى للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص(200).

[2] صحيح البخاري: (8/ 8).

[3] سنن الترمذي: (4/ 323).

[4] مختصر الصواعق المرسلة: (370- 371).

[5] في ظلال القرآن: (5/ 2921).

[6] التفسير القيم، ص(12).

[7] تفسير أسماء الله الحسنى للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص(200، 203).

[8] تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص(120).

[9] صحيح البخاري: (8/ 8).

[10] صحيح البخاري: (8/ 99).

[11] مختصر الصواعق المرسلة: (369).

[12] المصدر السابق: (371).

[13] تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن، ص(305).

[14] مختصر الصواعق المرسلة، ص(369).

[15] المرجع السابق، ص(608).

[16] سنن أبي داود (2/ 78).

[17] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 172- 173).

الكاتب

محمد الخولي

باحث دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وكاتب ومحرر محتوى في عدد من المواقع الإسلامية والدعوية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))