من مظاهر الرحمة في تشريع الصيام

الكاتب : محمد الخولي
إنّ المتأمل في كتاب الله وما فيه من الأحكام يرى كثيرًا من مظاهر الرحمة في تشريعها، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على عبادة الصيام ومظاهر الرحمة في تشريعها من خلال آيات الصيام في سورة البقرة.

تمهيد:

  إنّ المتأمل في كتاب الله -عز وجل- وما فيه من الأحكام والعبادات يشهد صورًا من الرحمة في تشريع هذه الأحكام والعبادات؛ فتارة بالتدريج في فرضيتها، وتارة في التيسير في كيفيتها، وتارة برفع الحرج عن أصحاب الأعذار إلى غير ذلك من الصور؛ بحيث تكون متوافقة مع الفطرة البشرية وفي وُسع المكلَّف وطاقته، والآيات الدالّة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[المؤمنون: 62].

يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «أخبر تعالى أنه لا يكلِّف {نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: بقدر ما تسَعُه، ويفضل من قوّتها عنه، ليس مما يستوعب قوّتها، رحمةً منه وحكمة، لتيسير طريق الوصول إليه، ولتعمر جادّة السالكين في كلِّ وقت إليه»[1].

وتُعدُّ عبادة الصيام من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها أجرًا عنده، وقد امتدح سبحانه الصائمين في غير آية من كتابه العزيز ووعدهم بالمغفرة والأجر العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 35].

وورَد في السُّنة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلُّ عملِ ابنِ آدم له إلّا الصومَ، فإنه لي وأنا أَجزِي به، ولَـخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»[2].

يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «اللهُ اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال، وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سرٌّ بين العبد وربه لا يطّلع عليه إلّا الله...، وأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أمّا الصوم فإنّ الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، والعطية بقدر معطيها؛ فيكون أجر الصائم عظيمًا كثيرًا بلا حساب»[3].

والصيام من العبادات البدنية التي تبدو في ظاهرها شاقّة وثقيلة على النفس؛ لأنها تدعو إلى التغلّب على شهواتها والتحكم في رغائبها وإخضاعها للأمر والنهي، ولكن المتأمّل في حقيقة هذه العبادة والناظر إليها بعين الاعتبار يلمح مظاهر الرحمة التي تغمرها من كلِّ جوانبها.

ويحسن بنا أيها القارئ الكريم ونحن نستظلّ بظلال شهر رمضان المبارك، وتغمرنا سحائب طاعاته، ومَعين قرباته، وفيض رحماته أن نتوقّف مع بعض هذه المظاهر من خلال آيات الصيام التي وردت في سورة البقرة.

إن أول مظاهر الرحمة في تشريع الصيام: إخبار الله سبحانه بأنه كتَب الصيام على هذه الأمة كما كتَبه على الذين من قبلها، وهذا من باب التهوين والتسرية على هذه الأمة، لا سيما وقد جاء هذا الإخبار مسبوقًا بنداء الإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة: 183]؛ وذلك لجذب القلوب إليه سبحانه، ولإشعار هذه الأمة أن عبادة الصيام ليست من العبادات الشاقة التي اختصَّت بها.

يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تُنَافِسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصَّيتم بها»[4].

ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ تشريع الصيام قد مرَّ بمراحل متدرّجة، بداية بالأمر بصيام عاشوراء وثلاثة أيام من كلّ شهر، ثم الأمر بصيام رمضان لمن شاء من العشاء إلى المغرب من اليوم التالي، ثم فُرض صيام رمضان في المرحلة الثالثة على الكيفية التي نعرفها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإن كان هذا التدرّج لا نشعر بأثره في الوقت الحالي لارتباطه بزمان التشريع إلّا أنه يعكس لنا صورة من صور رحمته سبحانه بعباده، حيث اهتمَّ بتهيئة النفوس لاستقبال هذه العبادة حتى إذا ذاقت حلاوتها واطمأنَّت بها أكمل سبحانه جوانب تشريعها.

ومن مظاهر الرحمة كذلك في تشريع الصيام: أن الله سبحانه ذكر لعباده الحكمة أو الغاية من فرضيته، حيث بيَّن سبحانه ما يعود على المكلَّف من النفع من وراء هذه العبادة، ألَا وهو تحقيق التقوى التي هي مفتاح كلِّ خير ومطلب كلّ مؤمن وسبب الرفعة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ وذلك ليكون العبد أكثر إقبالًا على هذه العبادة وأكثر حرصًا على تحقيق مقاصدها، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].

يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فإنّ الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فممّا اشتمل عليه من التقوى: أنّ الصائم يترك ما حرّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيِّق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقلّ منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغنيّ إذا ذاق أَلَم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى»[5].

ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام كذلك: أن الله سبحانه أمَر عباده بصيام أيام معدودات ولم يأمرهم بصيام الدهر كلّه أو يأمرهم بصيام نصف الدهر، فقال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 184]، وذلك لعلمه سبحانه بضعفهم عن تحمّل صيام الدهر أو نصف الدهر، فرفع عنهم المشقة وكلَّفهم بما يطيقون برحمته وفضله.

يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ثم بيَّن مقدار الصوم، وأنه ليس في كلّ يوم، لئلّا يشقّ على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه»[6].

ومن رحمته سبحانه أنه لم يحجر على أصحاب الهمم العالية في منعهم عن الصيام بعد رمضان إنما فتح لهم باب التطوّع طوال العام لمن يريد الزيادة ويعلم من نفسه القدرة والاستطاعة.

ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أن الله سبحانه رفع الحرج عن المريض والمسافر بأن أباح لهما ترك الصيام خلال مدة المرض أو السفر رفعًا للمشقة عنهما، وأمَرهما بقضاء هذه الأيام في أيام أُخر لتتم عدّة الصيام ويحصِّل العبد مقاصده، فقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184]، وقال في الآية التي تليها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 185].

ويبيّن سبحانه الحكمة من ذلك فيقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185]، فهو سبحانه يريد بعباده اليُسر ولا يريد بهم العُسر؛ لذلك كان من الواجب على عباده أن يكبِّروه ويعظِّموه ويشكروه على هذه الرحمة والتيسير.

وأمّا كبار السنّ وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام، فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم أن يطعموا عن كلّ يوم مسكينًا، فقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]، وذلك جبرًا لخواطرهم ورفعًا للحرج والمشقّة عنهم برحمته وفضله سبحانه.

ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أنه سبحانه أحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم وقت الصيام من الطعام والشراب والجماع، وذلك من غروب الشمس إلى طلوع الفجر بخلاف ما كان عليه الأمر في أول تشريع الصيام، فقال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة: 187].

يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «هذه رخصةٌ من الله تعالى للمسلمين، ورفعٌ لِما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة»[7].

فوجد الصحابة -رضوان الله عليهم- بعض المشقة في ذلك فشَكَوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرفع الله عنهم وعن الأمة مِن بعدهم هذه المشقة، وأحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر برحمته وفضله سبحانه.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال في قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: «كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلَّوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني بالرفث: مجامعة النساء، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يعني: جامعوهنّ، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: الولد، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة»[8].

خاتمة:

وبعدُ أيها القارئ الكريم، فمن خلال ما مرّ معنا وما توقفنا معه من بعض مظاهر الرحمة في تشريع الصيام، ورأينا كيف أن الله سبحانه لا يكلِّف العبد إلّا بما فيه الرحمة واليسر ويرفع عنهم كلّ ما فيه مشقة وعسر، ينبغي أن يظهر أثر هذه الوقفات على نفس المؤمن؛ وذلك بأن يشعر بمنّة الله سبحانه وفضله، ويجتهد في شكره على تشريع هذه العبادة، وكذلك الإقبال عليها والقيام بها على الوجه الأمثل وعدم استثقالها، وكذلك ينبغي أن تنعكس آثار هذه الرحمة على نفس الصائم فتظهر في سلوكه وأخلاقه من خلال إطعامه للفقراء ومواساته للمساكين، كما كان هدي النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الطيبين الطاهرين، وصلِّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] تيسير الكريم الرحمن، (ص554).

[2] رواه البخاري.

[3] مجالس شهر رمضان، (ص15، 16).

[4] تيسير الكريم الرحمن، (ص86).

[5] تيسير الكريم الرحمن، (ص86).

[6] تفسير ابن كثير، (1/ 497).

[7] تفسير ابن كثير، (1/ 510).

[8] تفسير ابن كثير، (1/ 511).

الكاتب

محمد الخولي

باحث دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وكاتب ومحرر محتوى في عدد من المواقع الإسلامية والدعوية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))