مُساءلة بحثيَّة لكتاب: (التأليف المعاصر في قواعد التفسير)

صدرت عن مركز تفسير دراسة (التأليف المعاصر في قواعد التفسير)، وهي دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعدية في هذا التأليف أسفرت عن عدد من النتائج المهمّة، وهذه المقالة تطرح مُساءلة بحثيّة لهذه الدراسة، وتسجِّل بعض الملاحظات النقديّة، بعد التعريف بالدراسة وبيان أهم فوائدها.

  صدرت مؤخرًا دراسة مهمّة عن مركز تفسير تتناولُ التأليفَ المعاصر في قواعد التفسير بالنقد والتقويم، وحفلت هذه الدراسة بنتائج غاية في الأهمية، حيث شكّكت في القواعد التي حفل بها هذا التأليف، وأنها ليست مؤسّسة على منهجيّة علميّة سليمة؛ ومن هاهنا فإني أحببتُ في هذه المقالة أن أسلِّط الضوء على هذه الدراسة وأبرز مزاياها، وأتناول بالتعليق بعضَ ما بدَا لي عليها من ملحوظات.

وفيما يلي سأبدأ بوصفٍ موجزٍ لمادة الكتاب وغَرَضه وقيمته ونحو ذلك، ثم أضع بين يدي الباحثين (للتداول والحوار) ما بدَا لي من ملحوظات وأسئلة حول الكتاب والتقعيد العلمي.

أولًا: التعريف بالكتاب وأهميته:

بيانات الدراسة:

اسم الدراسة: التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعديَّة.

تأليف: د. محمد صالح محمد سليمان، أ. خليل محمود اليماني، أ. محمود حمد السيد.

تحكيم ومراجعة: أ.د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري، أ.د. مساعد بن سليمان الطيار، أ.د. عبد الحميد مدكور.

من إصدارات: مركز تفسير للدراسات القرآنية، الطبعة الأولى 1441هـ-2020م.

إشكالية الدراسة:

قالوا عنها: «علم التفسير -كما يثبته تاريخه- لم يحظَ بجهدٍ متتابعٍ مُمنهَج في ذلك؛ فلم تنتظم أصوله الكلية في سلكٍ يجمعها، ولم تتركّب قواعده الكلية الاستقرائية في مؤلفاتٍ تضبطها، ولم تتمايز قواعد كلّ مفسِّر عن غيره، ولم تُحصر أصول كلّ طبقة من طبقات المفسرين، ويُعرف مواطن اتفاقها وافتراقها، ولم تتحرّر العلاقة القائمة بأبعادها كافّة بين أصول التفسير وقواعده ومناهجه، بخلاف ما هو حاصل لبعض الفنون والعلوم من نُضجٍ في تلك المجالات؛ كعلمي الفقه والأصول مثلًا، إضافة إلى قِلّة التأليف المستقلّ في قواعد التفسير.

وظلّ هذا حال قواعد التفسير حتى جاء التأليف المعاصر، فكثرت عنايته بالقواعد، وتغازرت كتابته فيها، وصار لقواعد التفسير بعده شأن آخر؛ فقد ضبطَ مفهوم قواعد التفسير، وأرسى أصول الكتابة فيها، وخرج من رَحِمِه عددٌ كبير جدًّا من القواعد التي نسبها للتفسير وأدخلها ساحته؛ ولذا كان حريًّا بتسليط الضوء على حكمه بقاعدية القواعد التي أوردها ومسالكه في تقرير القاعدية؛ لأن خطو التأليف المعاصر لذلك الباب الجليل (إنِ استقامت مداخله في بناء الحكم بالقاعدية، وانضبطت مناهجه في تقريرها، وصحت نتائجه) =فقد سدّ فراغًا كبيرًا في ساحة علم التفسير، وضبط أركانه الكلية ومعاقده الكبرى، وأوجد للتفسير سياجًا تقعيديًّا مُحكمًا يضبط التعامل معه، ويمنع التلاعب به، وأوضحَ معالم التفسير وضبط كلياته وحصر جزئياته؛ وتلك قمة النضج المرجوّة لأيّ علم».

أهداف الدراسة:

تتمثل الأهداف الرئيسة للدراسة في:

أ. تبيّن المعالم المنهجية للتأليف المعاصر في الحكم بقاعدية قـواعد التفسير، وتسليط الضوء على تلك المنهجية بما يبرز ركائزها وأركانها التي تتشكّل منها.

ب. تقويم منهجية التأليف المعاصر في الحكم بقاعدية قواعد التفسير، بما يبرز مواطن قوّتها وضعفها.

ج. بيان الموقف المنهجي من قواعد التفسير التي وضعها التأليف المعاصر، وتحرير مدى صحة الحُكم بقاعديتها.

د. إذكاء الدراسات النقديّة في هذا الباب الجليل من العلم وتعبيد الطريق للمزيد منها.

هـ. استكشاف واقع الدراسات القرآنية في بابٍ من أجَلِّ أبوابها.

و. إثراء ساحة الدراسات الشرعية بأعمال منهجية تفيد الباحثين، بغضّ النظر عن تخصصاتهم والمجالات المعرفية التي ينتسبون إليها.

مباحث الدراسة:

المقدمة.

المدخل للدراسة.

الفصل الأول: التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ معالمه وجذوره:

المبحث الأول: العرض الوصفي لمؤلفات قواعد التفسير.

المبحث الثاني: منهجية التأليف المعاصر في الحكم بالقاعدية، عرض وبيان.

المبحث الثالث: التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ الجذور والعلاقات.

الفصل الثاني: منهجية التأليف المعاصر في الحكم بالقاعدية؛ نقد وتقويم:

المبحث الأول: دعوى تقرّر قواعد التفسير، نقدًا وتقويمًا.

المبحث الثاني: المؤلفات وتقرّر القواعد، نقدًا وتقويمًا.

الفصل الثالث: منطلقات التأليف المعاصر في الحكم بالقاعدية؛ النشأة والآثار:

المبحث الأول: تقرّر قواعد التفسير؛ النشأة والتشكّل.

المبحث الثاني: تقرّر قواعد التفسير؛ الآثار والانعكاسات.

الفصل الرابع: إشكالات منهجيّة في مؤلفات قواعد التفسير:

الإشكال الأول: غياب التأصيل ومحدداته لمنطلقات التأليف.

الإشكال الثاني: تناقض موقف المؤلفات في استمداد القواعد من كتب التفسير.

الإشكال الثالث: التعريفات بين الاجترار وعدم التحرير.

الإشكال الرابع: الخطأ في تركيب القاعدة أو تنزيلها.

فوائد الدراسة:

كما هو معلوم، لا يخلو كتاب من فائدة، وفي هذا البحث يظهر كثيرٌ من الجهد في إتمامه وعرضه، وفي هذا السياق أحبِّر على فائدة مهمّة في نظري، ثم أُلحقها بالبقية:

- الحاجة الماسّة لمثل هذا النوع من الدراسات في الميادين الشرعية:

العلوم الإسلامية لم تكن لتصل إلينا بهذا الإتقان والثراء دون متابعة نقدها وتصحيحها بعمق؛ فالمعارف أتت لمعالجة الأخطاء في الفكر والممارسة، وربطها بهذين الأمرين يجعلها خاضعة للتجديد والمراجعة دون توقّف؛ لأن الحياة تسير إلى أن يأذن الله، والعلوم منحة إلهية لعقل الإنسان في تسخير الكون لصالحه، فمن هنا أقول: نحن بحاجة ضرورية للمصالحة والتعايش مع النقد العلمي مهما كان غرضه؛ لأنه سيفيد في تحرير الصواب على كلّ حال، وأَحَقّ الجهات بدعم هذا الأمر: محافل العلم كافة، وخاصة أقسام الدراسات العليا في الجامعات، فإنّ ما يعيشه طلاب الدراسات اليوم من الشُّح في الموضوعات له أسباب متعدّدة، من أهمها: محاصرة النقد وعدم قَبوله؛ فكثيرًا ما يُلام الطلبة على ضعفهم (وهم كذلك بحاجة للتقريع)، ولكن أيضًا يتم تجاهل أنظمة هذه المؤسسات التي قد لا تُراعي بيئة البحث وأهميته وتطوّره، فمثلًا: هل ستُقبل مثل هذه الدراسة في الجامعات للماستر أو الدكتوراه؟ ألَا يحتاج العلم لنفض الغبار عن جملة من الأبحاث في الدراسات العليا وتقديم أطروحة حولها لتقييمها ثم إعادة بعض أفكارها للبحث؟ وغير ذلك من الأسئلة.. وكذلك من الواجب بثّ الوعي العامّ بأن هذا لا يُعَدّ تنقيصًا لأربابها والتقليل من شأنهم، ولكن ربما الظروف المعرفية والحياتية لم تكن في صالحهم.

- تنويع الأسلوب والطّرح:

كذلك هذه الدراسة تُسهم في تقديم أنموذج لما يُعرف اليوم بتحليل المحتوى؛ فعدد كبير من الطلبة والباحثين يعانون ويشتكون من عدم معرفتهم بمنهج عرض الكتب وتفكيك مادتها، فكثيرًا ما يكون من متطلبات البحث الجامعي: تلخيص المواد؛ لأن بناء المواقف والنقد لا يمكن إلّا بعد هذا التقريب.

فموجز القول: مهما كان الموقف السلبي شديدًا من هذا البحث، إلّا أنني أجزم أنه سيُفيد (حاضرًا ولاحقًا) في تحرير فكرة القواعد وتنميتها وإصلاحها، فهذا هو ما يبقى للعلم وأهله، وتذهب مع السنين كلّ الظنون والهواجس المتأزِّمة من النقد، وكذلك يجب على كُتَّاب البحث أن يكونوا على قدرٍ كبيرٍ من الهدوء في التعاطي مع نُقّادهم.

ومن محاسن الدراسة أيضًا:

- الجهد الكبير في التتبع ومحاولة الإحاطة بجوانب الموضوع كافة.

- أسلوبها في العرض والتحليل للمؤلفات اتسم بكثيرٍ من الدّقة في الفصل الأول.

- بيان الخلل الكبير لدى الباحثين في تصوّر القواعد وتطبيقاتها، وفوضى النقل عندهم دون تمحيص، كما في المبحث الثاني ضمن الفصل الثاني.

- التنبيه على التضارب الكبير في انتزاع قواعد متباينة من نصّ واحد دون تحرير، كما في المبحث الثاني ضمن الفصل الثالث.

- بيان الدراسة لقلّة استفادة الباحثين من جهد المؤلفات الأولى لقواعد التفسير في تشكيل رؤيتها وتحريرها.

- رصد مجموعة من التناقضات العلميّة التي كانت ظاهرة في بعض المؤلفات المعاصرة في قواعد التفسير.

- التنبيه الجيّد على إغراق الباحثين في الجمع دون التمحيص والتأصيل، وذلك في مجمل البحث، ولا سيما في الفصلين الأخيرين.

- ضعف التحرير في المؤلفات عمومًا وفي تحديد المفاهيم وتعريفها خصوصًا، كما في الفصل الرابع.

- تقديم فهرس جيد، والتعريف بأهم الكتب في الموضوع قديمًا وحديثًا.

ثانيًا: مُساءلةالمضامين:

أنبه هاهنا لأمرين:

الأول: أنَّ ما أذكره هو لمجرد الحوار وإثراء الموضوع، وهو ليس دِفاعًا عن أرباب تلك المؤلفات في القواعد، فلا تربطني أيّ علاقة بأحد منهم، بل إنَّ ما يأتي من الأفكار والتساؤلات كانت نتيجة الاهتمام بظاهرة التقعيد العلمي عمومًا وأسسه وتاريخه؛ ولذلك آمل أن تجد صدرًا رحبًا لدى الباحثين.

الثاني: سأبني بعض الأفكار في المناقشة على ورقة سابقة أعددتُها باسم: مقالة في التقعيد العلمي؛ مقاربات ورؤى حول صورة القواعد في الفقه والتفسير.

وسأعرض ما لديَّ في الفقرات الآتية:

الملاحظات العامة:

- مِن أبرز المآخذ على الدراسة أنها لم تضع ولو مقدمة موجزة حول الرؤية المُرْضية لدى مُعِدِّيها في التقعيد، وكونهم ذكروا بعض ذلك منثورًا في البحث لا يشفع لهم؛ لأن القارئ حتى يفهم النقد على وجهه بحاجة إلى شيء ظاهر من تلك الرؤية التي يَبني عليها الناقد قولَه.

- الكتاب فيه جهدٌ كبيرٌ في النقض، وهذا جعله أحيانًا يذكر أمورًا لا تلزم في سياق الردّ، وما قد يضر عند قوم بالتصحيح العلمي الذي يبتغيه، مثل: إيهامهم على أنّ مَن يجمع القواعد لا يرى ضرورة تأسيسها!

- عدم الاستفصال في النقد وتقديم الاحتمال الآخر، فذلك مهم في مثل هذه الردود، مع محاولة البُعد عن الجزم والقطع في المسائل المتنازع حولها؛ لأنها لو كانت بذلك الظهور لمَا خفيت.

- كنتُ أرجو وآملُ من الكُتّاب الباحثين أن يراسلوا بعض الذين انتقدوهم، حتى يروا كيف يتم تلقي ذلك النقد، ومناقشته لديهم (قبل الطباعة)، فهذا أقرب للموضوعية، وإذا لم يقبل منهم أحد، فيمكن عرضه على باحث مخالف لمنهجهم أو محايد، ثم يُدرج ذلك النقد كملحق في الكتاب.

الملاحظات التفصيلية:

فيما يأتي أسجِّل ملحوظات يسيرة على البحث، بعضها من عفو الخاطر، وهي للمدارسة وسؤال إخوتي الفضلاء الذين بذلوا وقتًا كبيرًا في تحرير الكتاب:

1- معيار القاعدة التفسيرية:

وقد يقال بصيغة السؤال: كيف نحكم بأن هذا النصّ أو ذاك يُمثِّل قاعدة ما؟ وهذه القضية تُمثِّل صلب البحث، وقد عبّروا عنها: بـ«منهجية الحكم بالقاعدية»، وخصصوا لمناقشتها: الفصل الثاني، ولكن بسبب محوريتها لديهم نصوا على نقضها في عدد من المواضع في الكتاب.

ونقدهم في الجملة سائغ، فلا شك أنَّ قدرًا وافرًا مما ذكروه عن اضطراب تلك المؤلفات في محلّه، ولكن ثمة ما يرد على تقريرهم في النقض.

فمثلًا إذا قلنا بأن علماء القواعد في التفسير ينطلقون في التقعيد من الحقل الفقهي، فلا بد أن نعرف (كما سبق في الورقة الأولى) أنَّ مِن مسالك الفقهاء في صياغة القاعدة وإبرازها: تعليلات المتقدّمين، ثم تأصيل تلك التعليلات لاحقًا وسبكها في المؤلفات، إضافة لاستقراء الجزئيات، والاستنباط المباشر، وهذا القدر في المنهجية يتسم بالعمومية في أنواع المعرفة كافة، بمعنى أنَّ توظيف الأدوات من الاشتراك العلمي الذي لا ضير فيه، فأرباب الدراسات القرآنية لا يخرجون عن ذلك النسق العام الذي رسمه الفقهاء سواء كانت محاولاتهم منضبطة أم لا، والمآخذ عليهم في تطبيق المنهج تَرِد عليهم وعلى غيرهم.

قالوا في عنوان أحد المباحث (ص100): دعوى تقرّر قواعد التفسير؛ نقدًا وتقويمًا. ومرادهم فيه أن أرباب المؤلفات اكتفوا بجهد السابقين في تقرير القواعد التفسيرية وتأصيلها، فلم يكن لديهم سوى الجمع والتصنيف لا غير، وشرحوا ذلك أكثر في (ص50).

والذي أريد التأكيد عليه: هو أنَّ فِعلهم ليس أجنبيًّا عن تقعيد العلوم كما يظنّ البحث في نصّه التالي: «لم نقف في التاريخ على مَن سبق التأليف المعاصر في قواعد التفسير إلى هذه الدعوى وفق مفهومه لقواعد التفسير».

ومحل النقد في نظري: أنَّ هؤلاء وإنِ اخترعوا أيَّ مفهوم لقواعد التفسير، ولكن نهجهم الذي سلكوه ليس خطأً في ذاته، وموجب قولي ما ثبت من تتابع العلماء في استخراج القواعد العلمية من نصوص أئمتهم والمتقدمين عمومًا في العلم كما سبق، وإن قيل: المراد التفسير وليس العلوم الأخرى، يقال: إنه ليس بمنأى عن غيره من العلوم في طريقة التقعيد العامة، والمعنى المتأخر للقواعد في التفسير وإن كان حادثًا كما هو الشأن في الصناعة العلمية ككلّ، لا يُرَدُّ بهذا السبب الذي ذكروه، والأخطاء في التطبيق لا تعود على الأصل بالإبطال متى كان ثابتًا وجرى عليه العمل من قبل، والنقد ضرورة في العلم ولا حرج فيه، لكنه يتجه للمتقدمين ابتداء في كافة الفنون.

وهنا لا أزكي فعل أرباب تلك الدراسات في القواعد، فلديهم بالتأكيد ثغرات جوهرية في استخراج القاعدة وفي التأصيل لها (كما أثبت البحث)، وإنما المهم هو إثبات قيمة الطريقة التي نصوا على اتباعها في التقعيد: مصدرية المادة التفسيرية، فتتبع كليات ونصوص الأئمة بدقة في بطون تفاسيرهم من أهم ما يُسهم في التأسيس، ومجمل النظريات المعرفية للفنون كانت بهذه الصورة من خلال التطبيقات.

وعندما كانت الدراسة جازمة، ولم تدَعْ أيّ احتمال يمسّ رأيها، وقعت في عدد من التقريرات القابلة للاختلاف أو التي ليس لها كبير أثر في النقد كتعريف القواعد، وعلمية التفسير وغير ذلك.

2- المفهوم المعاصر للقواعد:

الدراسة أكثرَتْ من إلقاء اللّوم على الباحثين بشأن مفهومهم للقواعد، وجزَم معدُّوها بأنه حادث، ولذلك جرَّدوهم من كلّ ما يحتمل الرأي، والغريب أن الدراسة عند تحليل التعريفات لقواعد التفسير عند الباحثين؛ ذكر مؤلفوها توصيفًا دقيقًا لها، فمثلًا قالوا بالنصّ (ص37): «جُلّ التعريفات تدور في فلَك واحد، ويجمعها في الجملة أن قواعد التفسير أحكام أو قضايا كلية يُتوصل بها إلى بيان معاني القرآن الكريم، فهذا القدر مشترك بين التعريفات ويُمثل جوهرها».

وفي مقام آخر قالوا ما لعلّه يُشكل على تقريرهم السابق (ص95): «الجهد الذي قام به التأليف المعاصر في قواعد التفسير من الانضواء التام تحت اصطلاح قواعد التفسير تحديدًا والصدور في الكتابة تحته وفق مفهوم محدد ينطلق من اعتبار القواعد أحكامًا كلية، وكذا التقصّد للإتيان بنصوص قاعدية مسبوكة وفق هذا المفهوم واعتبار قاعديتها انطلاقًا من تقررها في المصادر =ليس له جذور سابقة عليه».

فههنا أمور عدّة:

- بالنسبة للمفهوم الذي ذكروه لو عُدنا لمحددات القاعدة العامة والخاصة (في الورقة الأولى) سواء عند الفقهاء أم عند المفسرين، سنجد في كلامهم وكذلك فِعلهم ما يُسوِّغ فِعل هؤلاء بالمفهوم عينه؛ ففي التفسير، لماذا لا يقال: عملُ المتأخرين تطويرٌ لصنيع الكافيجي؟ كما أن الأخير كان تطويرًا للطوفيّ رغم الاختلاف بينهم في التقعيد.

- ولو نظرنا في الفقه الذي طبَّع هذا النوع من البحث، لوجدنا توافقهم معه في كليات المفهوم حتى مع المتقدمين، وسوء تعاملهم في جلب قواعد غير تفسيرية ليس راجعًا لخطأ المفهوم، بل لعدم تحرير مفهوم العلم وحدوده وصلته بغيره.

- وما ذكروه من تعريفات الباحثين متفاوتٌ، وليس على مرتبة واحدة في الجودة، ولكنه يُتعامل معه كغيره من المصطلحات الإجرائية التي تدخلها النسبية بين المستخدمين، والنقد الأهم في نظري هو للمضامين، وهي ليست متطابقة عند المتأخرين؛ فمنها الحسن الجيد، وما هو محتمل للأخذ والردّ.

- وكذلك قولهم (ص77) بتأخّر تعريف القواعد التفسيرية، فذلك من قبيل المصطلحات العلمية التي تأخر سبكها (وهذا قطعًا لا يخفى على الجميع)، ونقدهم في هذا التأخّر لا يلزم إلّا إذا نصوا على أن تعريفهم هذا بعينه للسابقين.

3- علميَّة التفسير:

أشاروا (ص: 101، و116) لنفي عدد من العلماء لتقنين التفسير، وعدم تتابع التنظير لقواعده، وغرضهم من ذلك نقض الكتب المعاصرة في قواعد التفسير، ولبّ قولهم: هو أن العلماء قديمًا نصّوا على عدم علمية التفسير، فكيف يأتي المتأخرون ويزعمون أن قواعدهم مقرّرة لدى المتقدّمين؟!

- ابتداء أقول: هذه إشكالية عميقة تلاحق علم التفسير، وهي بحاجة للتدقيق أكثر. ففي نظري، تكييفها ليس بالشكل المذكور في البحث، وتوظيفها في النقد لا يخلو من غرابة! وكلام العلماء الذي نقلوه في عدم علميَّة التفسير غير مسلَّم له، ويمكن توجيهه، وقد سبق في (الورقة الأولى) شيء من ذلك مع الكافيجي.

- نقلهم لنصوص نفي العلميَّة قد يكون عكسيًّا من جهة؛ لأن ذلك من المفروض به أن يكون داعيًا لملاحقة تلك القواعد من بطون الكتب وجمعها، للمساهمة في التنظير عبر كلام أهل الاستقراء من المفسرين كما هو شأن العلوم كافة، وأيضًا ربما يقال: استشهادهم خارج محل النزاع؛ لأن هذه القضية لها مقامان: الأول: في التفسير ذاته، هل هو علم أم لا؟ والثاني: في العلم المنهجي الذي يراد به ضبط التفسير كأصول الفقه للفقه، هل هذا العلم له وجود بخصوص التفسير أم لا؟ للعلماء كلام في المقامَين، وفي ظني العمل الذي قام به المتأخرون هو مساهمة سائغة في المقام الثاني، بل على فرض وجود هذا العلم النظري، فهو غير مانع عن مزيد التقعيد كما هو ديدن الفنون؛ كأصول الفقه والمصطلح اللذَيْن ما زالا متتابعين، ولا أظنّ أن قولهم بتقرّر قواعد التفسير من قبيل القطعي في نصوص الأئمة، ولكنه قرينة تستحقّ النظر في التقعيد من كلام إمام له اعتبار في العلم.

- ثم إنّ جَلْب القاعدة من علم إلى علم في نظري لا يشترط لها ما ذكروه (ص138) من كونها: قاعدة مسلَّمًا بها في تخصصها؛ لأن ذلك ليس من شأن العلم المجلوبة إليه، بل على هذا العلم أن يُشكِّل قاعدته من هويته، ويُمحِّص ويتصرَّف فيما يأتي به من العلوم على وفق طبيعته، وقد أشارت الدراسة لشيء من ذلك (ص139).

4- عدد القواعد:

قالوا (ص59): «المؤلفات حوَتْ عددًا كبيرًا من النصوص التي زعمتها قواعدَ للتفسير، جاوزت في بعض المؤلفات خمس مائة قاعدة، ومثل هذه الأعداد لا يمكن تهيؤها لمن يؤسّس القواعد».

- العدد ينظر فيه عبر الفلسفة التي تُحدِّد غرض القواعد، فإذا كان الغرض من التقعيد التأسيس الكلي للعلم كالنحو، فهذا يُنظر فيه للعدد باعتبار خاصّ، وأمّا لو كان التقعيد لرصد ما تناثر، فهذا للكَمِّ فيه اعتبار آخر، وقد يتكاثر بحسب كلّ علم ودقّة الباحث، ولكن مثل هذا العدد في التفسير غير مستغرب لطبيعته التي تتعامل مع آلاف الكلمات القرآنية، وقد سبق مثله لبعض كتب القواعد الفقهية (الورقة الأولى)، وكذلك ما ذكروه (ص60) من عدد الأمثلة على القواعد وقلتها أو عدمها =له أيضًا علاقة بالفلسفة عينها حول هدف التقعيد، والأمر نفسه يقال: فيما ذكروه (ص108) من أن التقعيد يكون بعد كمال العلم.

- وموضوع العدد له صلة أيضًا بالذوق والارتجال الذي انتقده الكتاب على الباحثين في مواطن عدّة (ص126، و133، و136، و183)، ونقدهم وجيه، مع مراعاة غرض التقعيد أيضًا، وقيم البحث كالذاتية والموضوعية، وضعف المنهجية للأسف أمر شائع في كثير من الدراسات المعاصرة.

- ونسبة العدد مع غرض التقعيد له صلة بما أشاروا له (ص134) من التعامل بتوسّع مع القرائن في البناء القاعدي، وتساهُل الباحثين في جمعِ ركامٍ من النصوص، ونقاشهم هذا مع أهميته، ولكن ذكروا عبارة مشكلة ربما الأَوْلَى تركُها، وهي اشتراطهم في التقعيد أن يكون المصدر الأُمّ نصَّ عليه، وهذا يندر عند المتقدمين، ولو أجريناه في تأسيس العلوم لمَا استقامت، فبعض الأئمة يشيرون للقواعد دون قصد في سياق الكلام تأصيلًا وردًّا، وهنا يأتي دور اللاحق في تتبع ذلك ونظمه.

5- قطع الصلة بالأوائل:

في أكثر من صفحة (مثل: 95، و105، و110، و116) اجتهد الكتاب في فكّ الارتباط بين عمل الباحثين وعمل السابقين من العلماء.. كما ذكروا غير ذلك من الأمور التي تتصل بتقعيد علم التفسير.

- يرد عليهم السؤال الآتي: هل الخلاف في تَحقُّقات الشكل القاعدي وتنزيله يُلغي التوافق مع المتقدمين؟! ليس الأمر كذلك، وإذا كان كتاب: (فصول في أصول التفسير) للدكتور/ مساعد الطيار هو الذي أحدث كلّ هذا الحراك في التقعيد، ثم تأثر به فتبعه الدكتور خالد السبت في (قواعد التفسير)؛ فهذه ثمرة كبيرة لهما وللتفسير، ودليل على الاحتياج، ولا يضرهما الانطلاق من تقرّر القواعد متى أجادوا ودققوا في انتزاعها من كلام الأئمة، وإن كان ثَمَّ تفاضل بين عمل الشيخين وخصوصيات كلّ منهما، كما تفاضل أتباعهما أيضًا، والجميع (بحسب فهمه وتعمُّقه) ينطلق من المفسرين بلا شك.

- ثمّ إنّ القالب البحثي الحديث لا يقال عنه: مَنْ سلفه؟ لأنه وسيلة وتنويع لا أكثر في طريقة الكتابة وتقريب المعرفة، وإذا ثبت نفعه للعلم دون تمحّل لا يهم محل ولادته في الشرق أو الغرب.

- وفي (ص76) ذكروا تأخّر التأصيل لعلم التفسير للقرن السادس، وقد يؤخذ عليهم ترك الإشارة لعمل المحاسبي (ت: 243هـ) في كتابه: فهم القرآن، فهو وإن لم يكن متكاملًا لكنه يُمثِّل محطة متقدّمة الزمن في تأسيس فهم المعنى القرآني كما نصَّ صراحة على غرضه، وكونه ناقصًا أو مزج عمله بمعارف أخرى، فهذا له مقام آخر، ومتى كانت المحاولات العلمية الأولى متكاملة؟! وفي السياق ذاته ما ذكروه (ص144) من أن كتب علوم القرآن ليس من شأنها التقعيد للتفسير! في نظري يحتاج لبيان أكثر؛ لأن بعضهم ينصّ على التقعيد؛ كالمحاسبي، وابن حبيب (ت: 406هـ)، وابن العربي (ت: 543هـ) وغيرهم، وهذا كما سبق أيضًا له علاقة بمفهوم التقعيد، ورؤية العلماء لحاجته في التفسير.

- وما أشاروا له (ص80) من الاضطراب في مضامين أسماء الكتب حول تأصيل التفسير بين القواعد، والأصول، والقانون ونحوها.. غير مؤثر في نقد عمل المتأخرين إذا اتفقت المقاصد -وإنْ تبَايَنَ أسلوب المعالجة- ثم هم لم يزعموا أن عملهم هو صنيع السابقين، ولكن دَبَّجوا ما يرونه مفيدًا لتقعيد التفسير، فجمعوه =وهذا فارق مهم؛ فالعلاقة بين هؤلاء جميعًا ضِمنية كقصد التأسيس، والتقعيد عندهم ليس نمطًا واحدًا.

- كذلك: ألَا يُعَدّ أخذهم للنموذج الفقهي في التقعيد ومحاولة تطبيقه على التفسير =سلفًا لهم؟! مع مراعاة خصوصيات كلّ علم كما أشرت مرارًا.

- وما ذكروه (ص95) من أنَّ الكافيجي يتفق معهم في المفهوم هو من تحصيل الحاصل؛ لاتفاق المجال، وقد عرَّف التفسير وغرضه، وذكر معالم التحديد للقواعد، ولكن ربما يقال: هناك خلل في تصوُّر الكافيجي للقواعد التفسيرية؛ وذلك حين حصر فائدتها على جمع المعاني دون إنتاجها! (كما أشرتُ في الورقة الأولى وهذه الجزئية بحاجة لبحث أدقّ) ولو ثبت ذلك عنده لتفوّق أرباب الدراسات من جهة على الكافيجي؛ لأن القاعدة عند بعضهم: وسيلة معيارية للبيان وليس لمجرد الرصد.

وبهذا أكتفي وأكرّر الاعتذار لأرباب البحث، وأسألُ اللهَ لي ولهم ولإخواني من الباحثين إصلاح القول والعمل، وأن يستخدمنا في طاعته، ويرزقنا العلم والرشاد، والحمد لله رب العالمين مِن قبلُ ومِن بعد.

الكاتب

محمد حسين الأنصاري

باحث في الدراسات الشرعية والفكرية، وله عدد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))