دلالات الألفاظ القرآنية
أنواعها، وقيمتها، وكيفية الوقوف عليها (3-3)
ثالثًا: الدلالة الصوتية

يحاول هذا المقالُ الثالث والأخير ضمن سلسلة دلالات الألفاظ القرآنية الكشفَ عن الدلالة الصوتية للّفظة القرآنية، وبيان قيمتها، ومدى التفات المفسرين إليها، مع تسليط الضوء على أثر الدلالة الصوتية في اتساع المعاني التفسيرية، وبيان مظانها ومصادرها.

تمهيد:

  بيَّنتُ في مقالين سابقين[1] أنّ ثمة دلالات كثيرة للألفاظ صار لها أثرٌ كبيرٌ في تصوّر المعاني الكلية للألفاظ والتراكيب، لا سيَّما مع بروز منهج الأسلوبية وبدء تطبيقه من قِبَل بعض الدارسين، وهذه سلسلة من المقالات تقوم بعرض هذه الدلالات وتتوسّع في إبرازها؛ بغية بيان أهميتها في ذاتها وفَتْح الباب لتأمّلها في الواقع التفسيري، وبيان تطبيقاتها لدى المفسّرين وبيان مقدار اعتنائهم بها، وكذلك أثرها في إثراء المعنى التفسيري.

ومن الملاحظ أن أغلب كتب التفسير قد غلَّبت الاهتمام بالدلالة المعجمية، في حين تفاوت اهتمام المفسرين قديمًا وحديثًا بباقي الدلالات.

فمن ذلك الدلالة الصوتية التي هي محلُّ بحثنا هذا، وهي ترجع إلى ما يوحي به الصوت من معنى يشارك به الدلالة المعجمية.

ومن ثم يهدف هذا المقال إلى محاولة الكشف عمّا توحي به الأصوات من إشارات ودلالات توحي بالمعنى وتومئ إليه؛ مما يعدُّ من الدلالات الخاصّة التي لا يقف عليها إلّا خواصّ الدارسين، ومن ثم يحاول هذا المقال أن يلفت الأنظار إليها ببيان قيمتها، ومدى التفات المفسّرين إليها على تفاوت اهتماماتهم ومعالجاتهم.

كما يهدف إلى بيان كيفية تحصيل تلك الدلالات والإيحاءات الصوتية، وبيان مظانّها ومصادرها التفسيرية.

المقصود بالدلالة الصوتية، وبيان طبيعتها:

الدلالة الصوتية دلالة غامضة خفيّة تحتاج لإدراكها إلى قوة الذوق ورهافة الحسّ؛ وذلك كدلالة (المدّ) على (طول الجدال) في قوله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام: 80].

وكالدلالة الصوتية لكلمة (ضِيزَى) في قوله تعالى:{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم: 22]، على النفور من تلك القسمة الجائرة.

أو الدلالة الصوتية لكلمة (اثّاقلتُم) في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}[التوبة: 38]، على التباطؤ والتكاسل.

وغير ذلك أمثلة كثيرة فطن إليها القدماء وأطال الوقوف عندها الدارسون المحدَثون خاصة ممن استخدموا المناهج الألسنية الحديثة في تحليل النصّ القرآني.

ومن ثم فالمقصود بتلك الدلالة الصوتية: ما توحي به أصوات الكلم ومخارجها وسماتها الصوتية من إيحاءات تشارك في التعبير عن المعنى في سياق من السياقات.

والدلالة الصوتية لا تأتي منفصلة عن بقية الدلالات الأخرى: المعجمية والصرفية والنحوية والبيانية؛ بل تأتي متراكبة معها، مشاركة إياها في صنع الدلالة؛ كما أنها لا تأتي منعزلة عن السياق؛ بل إن السياق هو الذي يعطيها معناها ودلالتها التي تتناسب معه.

ومن ثم نستطيع أن نجد للدالّ الصوتي قيمًا مختلفة باختلاف سياقاتها مع اتحاد ذلك الدالّ؛ وسوف يتبين ذلك من خلال الأمثلة الآتية.

قيمة الدلالة الصوتية:

أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن لهذه الدلالة أثرًا كبيرًا في التعبير عن المعاني والأفكار والمشاعر؛ كما أن لها أثرًا لا يُنكر في تشكيل الصورة الفنية التي يُستعان بها على تقريب المعاني وتصويرها في صورة بارزة ملموسة يسهل إدراكها وتصورها مما يقرّب المعنى ويوضحه.

ويحكم لهذه الدلالة بالجودة وعدمها بحسب مناسبتها للمعنى والسياق والمقام الذي وردت فيه، أو بحسب ما ذكره البلاغيون قديمًا نقول: يحكم لها بالجودة بحسب مطابقتها لمقتضى الحال، وإن كان البلاغيون القدامى لم يتكلموا في هذه الدلالة أو لم يعنوا بها العناية الكافية؛ لا سيّما من جهة التنظير البلاغي الذي اقتصر على تقعيدات الفصاحة التي انتُقدت على البلاغيين القدامى في الدرس البلاغي الحديث والمعاصر[2].

الحاجة إلى تعميق البحث في هذا المجال:

تظهر الحاجة إلى تعميق البحث في هذا المجال الدلالي إذا علمنا أن كثيرًا من الدراسات التي تمحّضت لدراسة الأصوات في القرآن قد اقتصرت في دراستها على الدراسة البحتة للأصوات، (سواء كان في إطار علم الأصوات، أو في إطار علم القراءات القرآنية وتجويد القرآن)، ولم يقم باستثمار تلك الدراسات أو تطويرها لبحث الأثر الجمالي أو الدلالة الفنية لتلك الأصوات إلّا النابهون من المفسّرين واللغويين قديمًا وحديثًا.

لذلك أرى أنه ينبغي علينا (خاصّة في ضوء تلك الطفرة البحثية الحديثة في الدراسات الجمالية للُّغة القائمة على الإفادة من الدراسات الأسلوبية) ضرورة استثمار الدرس اللغوي الأسلوبي المعاصر لا سيّما في هذا المجال الخصب؛ أقصد مجال الأصوات القرآنية.

وإذا كان «الكلام بالطبع يتركّب من ثلاثة: حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجُمَل هي من الكلام. وقد رأينا سِرّ الإعجاز في نَظْم القرآن يتناول هذه كلّها بحيث خرجَت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بُدٌّ في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعًا»[3].

وإذا كان المتكلّم في إعجاز القرآن ليس له بُدٌّ من الكلام في هذه المستويات الثلاثة:

1) المستوى الصوتي.

2) المستوى المعجمي والصرفي.

3) المستوى النحوي.

لا جرم ظهرت الحاجة ملحّة لدراسة هذا الجانب المهم من جوانب الإعجاز القرآني، خاصة مع كثرة الدراسات في الجانبين الآخرين نوعًا ما، أي: ما يتعلّق بألفاظه المعجمية، أو بتراكيبه النحوية، سواء من الناحية المعجمية، أو النحوية البحتة.

تأصيل الدلالة الصوتية وبيان جذورها عند اللغويين العرب:

الدلالة الصوتية دلالة عريقة وقف عليها أسلافنا القدامى من اللغويين الأوائل وأشاروا إليها في كثير من المواضع في مؤلفاتهم؛ وقد رأينا العناية بهذا النوع الدلالي في المدارس الغربية الألسنية الحديثة، ومن ثم رجع المخلصون من علماء الأمة إلى ذاكرتها في الوقوف على تلك الدلالة، وإن كان كثيرًا من الدراسات يعدُّ امتدادًا للدرس الغربي تابعًا له، وإن رجع الفضل في الوقوف على تلك الدلالات لأسلافنا بادئ ذي بدء.

ولتأصيل تلك الدلالة نستطيع أن نقف على معالم هادية ومحاولات جادة يمكننا عن طريقها الوقوف على التفات هؤلاء القدماء إلى دلالة الصوت ومناسبته لمعناه.

وهذه المحاولات الجادّة في هذا السبيل نجد بعضها عند الخليل بن أحمد، وكثيرًا منها لدى سيبويه في كتابه، كما نجدها أكثر نضجًا عند ابن جنّي في خصائصه، وفي كتابات ابن الأثير مِن بعده.

فمما جاء عن الخليل في ذلك قوله: «كأنهم توهّموا في صوت الجندب استطالةً ومدًّا فقالوا: (صرّ)، وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا، فقالوا: (صرصر)»[4].

نلمح هنا إشارة الخليل إلى ما بين الفعل الثلاثي المضعف العين (صرّ) وبين معناه من التناسب من حيث بنية الصيغة ودلالتها على المعنى الإفرادي لتلك الكلمة، فنحن نلاحظ أن تضعيف الراء الناشئ عن التشديد فيها ينتج عنه نوع من المطّ والاستطالة ينشأ عن سمة التكرارية التي تتسم بها الراء، وهذا في نهاية الكلمة يناسب ما في صوت الجندب مِن مدٍّ واستطالة.

فالمناسبة هنا ظاهرة بين أصوات هذه الكلمة ومعناها الذي تدلّ عليه.

فإذا انتقلنا إلى كلام سيبويه في هذا الموضع فإننا نجد أن سيبويه قد أصَّل سَبْق الخليل إلى هذا الباب، فهو يقول: «هذا (باب افعوعل وما هو على مثاله مما لم نذكره) قالوا: خشن، وقالوا: اخشوشن، وسألتُ الخليل فقال: كأنهم أرادوا المبالغة والتوكيد، كما أنه إذا قال: (اعشوشبت الأرض) فإنما يريد أن يجعل ذلك كثيرًا عامًّا، قد بالغ»[5].

لقد التفَتَ الخليل وسيبويه هنا إلى أثر زيادة المبنى في زيادة المعنى، كما قد التفَتَا كذلك إلى الغرض من تلك الزيادة، وهو هنا المبالغة والتوكيد. وقد عَقَد سيبويه لذلك بابًا في كتابه وسماه: «ما جاء على مثال واحد حين تقاربَت المعاني»[6].

وإذا كان سيبويه قد التفت إلى العلاقة بين الأصوات والمعاني التي تدلّ عليها في مثل تلك المصادر، دون محاولة منه في الكشف عن وجه المناسبة بين أصوات تلك المصادر ومعانيها، فإن ابن جنّي قد تلقف إشارات كلٍّ من الخليل وسيبويه في هذا المجال ثم أولى هذا الباب عناية فائقة، ولم يكتفِ فيه بالوقوف على الظاهرة كهؤلاء القدماء بل أخذ يعلّل أو يبيّن وجه التناسب بين تلك الأصوات وتلك المعاني، وقد علّل لمناسبة تلك المصادر لمعانيها تعليلًا جيّدًا بقوله: «فقابلوا بتوالي حركات المثال (أي: الصيغة) أو البنية، توالي حركات الأفعال»[7].

وقد اتجه البحث في دلالة الأصوات عند ابن جني إلى جهتين متكاملتين:

الأولى: النظر إلى صفة الحرف ومخرجه وحاله من حيث التفخيم والترقيق والشدّة والرخاوة والجهر والهمس والإطباق والانفتاح والاستعلاء والاستطالة والتفشي وغير ذلك، وبحث العلاقة بين هذه الأحوال والصفات وبين الدلالة الوضعية للكلمة.

الثانية: النظر إلى دلالة الكلمة كتركيب صوتي له بنية وهيئة بعينها، بحيث يبحث العلاقة بين طريقة تركيب أحرف تلك الكلمة ومناسبة ذلك التركيب وتلك الهيئة للمعنى الذي وُضعت له الكلمة.

وقد اهتم ابن جنّي (ت: 392هـ) بدراسة الدلالة الصوتية على هذين المستويين في (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني)، حيث يقول: «فأمّا مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهجٌ مُتْلَئِبٌّ (أي: ثابت) عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها، فيعدلونها ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره»[8].

وهو يشير إلى كثرة هذا النوع من دلالة الأصوات على المعاني في اللغة، ثم يعرض أمثلة له؛ فممّا مثَّل به للنوع الأول: تفريقهم بين الخضم والقضم، والنضج والنضح: يقول: من ذلك قولهم: «خَضَم وقَضَم، فالخَضْم لأكلِ الرَّطْب: كالبطيخ والقثّاء، وما كان نحوهما من المأكول الرطب. والقَضْم للصّلْب اليابس، نحو: قضَمَت الدابة شعيرها، ونحو ذلك، وفي الخبر: (قد يُدرَك الخَضْمُ بالقَضْم). أي: قد يُدرَك الرخاءُ بالشدة، واللينُ بالشظف. وعليه قول أبي الدرداء: (يخضمون ونقضم، والموعد الله)»[9].

 ويوضح سرّ اختلاف الدلالة بين صوتي الخاء والقاف، ويجعل ذلك راجعًا إلى رخاوة الخاء، أي أنها صوت احتكاكي؛ فهو يتناسب مع الشيء الرطب الذي يسهل أكله، وإلى صلابة القاف فهي صوت انفجاري؛ ومن ثم يتناسب مع أكل اليابس الذي يصعب قطعه، يقول: «فاختاروا الخاء لرخاوتها للرَّطْب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث»[10].

ولذلك فإن الشاعر عندما عبّر عن مرارة العيش عبر عنها بقَضْم الجَلْمَد وهو صخر يابس فقال:

والموتُ خيرٌ من حياةٍ مُرَّةٍ .. تُقضَى لياليها كقَضْمِ الجَلْمَدِ

ومن هذا الباب قولهم:

النَّضْح والنَّضْخ: والثاني أقوى من الأول. في التعبير عن حركة الماء يقول تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[سورة الرحمن: 66]. (أي: فوّارتان بالماء) عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء[11].

وإذا كان القدماء كالخليل وسيبويه قد أَوْلَوا الجهة الثانية عنايةً خاصةً -وهي جهة النظر إلى التراكيب الصوتية ومناسبتها للمعاني التي وُضعت لها- أقول: إذا كان هؤلاء القدماء قد برعوا في هذا الجانب، فإن ما أدْلَى به ابن جنّي في هذا المقام يجعل تلك المحاولات الأُولى من جانب القدماء مجرد إشارات وومضات مضيئة لا تقارن بما قدَّم ابن جني في هذا الباب إلّا من حيث سَبْقها الزمني وريادتها لهذا الطريق الوعر.

فابن جنّي يلمح المناسبة بين تلك الحركات المتوالية في صيغة (فَعَلان) التي جعلت تلك الصيغة -بذلك التركيب الصوتي، بتلك الهيئة- مناسِبة أتمّ المناسَبة لمعناها الدالّ على الحركة والاضطراب[12].

أمثلة تحليلية لبيان أثر الدلالة الصوتية في اتساع المعاني التفسيرية:

نحتاج أن نقف أمام بعض الأمثلة لتأملها وبيان مدى وقوف علماء اللغة القدامى على هذه الظاهرة، فلنتأمل على سبيل المثال كلمة: (الحَيَوان)، وهي مصدر على صيغة (فَعَلان) في قوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64].

إذا تأملنا البنية الصوتية للمصادر التي تأتي على صيغة (فَعَلان) وجدنا أن توالي الحركتين القصيرتين (الفتحتين) وإتباع هاتين الفتحتين بفتحة طويلة هي ألِف المدّ، ثم انتهاء الكلمة بالنون ذات الغنة المجهورة التي يمتد زمن النطق بها حينًا بما يشبه الزَّنَّة الطويلة... إذا تأملنا ذلك كلّه وجدنا تمام المناسبة بين السمات الصوتية لتلك المصادر والمعنى الذي تدلّ عليه وهو الحركة والاهتزاز والاضطراب الذي يزداد شيئًا فشيئًا، وهذا ما تعبِّر عنه الحركتان القصيرتان (الفتحتان المتواليتان) ثم تأتي الحركة الطويلة (ألِف المدّ) لتعبِّر عن طول تلك الحركة، ثم يأتي حرف النون ليعبر عن معنى آخر وهو أن هدوء تلك الحركة لا يكون فجأة بل يحتاج إلى زمن يسير تخفت فيه الحركة شيئًا فشيئًا حتى تهدأ، وهو ما تعبر عنه غنّة النون ذات الصوت المجهور.

إنه تمثيل صوتي لعملية الغلَيان والثوَران التي تنتهي بالاستقرار والخمود شيئًا فشيئًا. وهو تمثيل رائع لكلّ ما فيه حركة واضطراب وثُؤور وارتفاع وغلَيان وثوَران.

فإذا ما تأملنا الأثر الدلالي لاختيار صيغة (الفَعَلان) في هذه الآية الكريمة -في كلمة (الحيوان)- نجد أنّ لها أثرًا دلاليًّا لا يُنْكَر في التعبير عن الحياة في الدار الآخرة بما تشتمل عليه من حركة ونشاط وابتهاج وخِفّة النَّفْس واهتزازها مع دوام ذلك واستمراره وتجدُّد ألوانه، وذلك في مقابل الحياة الدنيا -حياة اللهو واللعب- بما تشتمل عليه من انكسارٍ وسأمٍ، من رتابةِ صور الحياة وتكرارها بلا تجدّد، مع سرعة انقطاع لذّاتها، وزوال نعيمها، وتحوُّل عافيتها.

ومما يدلّ على تأصُّل البحث الأسلوبي عند اللغويين العرب وقوفُ سيبويه على هذه الظاهرة؛ فلنتأمل على سبيل المثال قوله: «ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربَت المعاني، قولك: النَّزَوان والنَّقَزان والقفَزان، وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، ومثله العَسَلان والرَّتَكان... ومثل هذا الغلَيان؛ لأنه زعزعة وتحرُّك، ومثله الغثَيان؛ لأنه تجيش نفسه وتثور، ومثله الخطَران واللمَعان؛ لأن هذا اضطراب وتحرك، ومثل ذلك اللهَبان والصخَدان والوهَجان؛ لأنه تحرُّك الحرّ وثُؤوره، فإنما هو بمنزلة الغلَيان...»[13].

نلمح في هذا النصّ التفات سيبويه إلى الدلالة المركزية المشتركة التي توحي بها البنية الصوتية لتلك المصادر: (النزَوان والنقَزان والقفَزان والعسَلان والرَّتَكان والغلَيان والغثَيان والخطَران واللمَعان واللهَبان والوهَجان...إلخ).

فهذه المصادر قد اشتركت جميعًا في بنية صوتية واحدة هي صيغة (فَعَلان) بما لها من سمات صوتية خاصّة.

وإذا تأملنا الدلالة المعجمية لتلك المصادر وجدناها تشترك جميعها في معنى مشترك بينها هو الحركة والاهتزاز والاضطراب، وهي تعبّر عن الشيء الذي تزداد حركته واهتزازه واضطرابه شيئًا فشيئًا، ثم تطول حركته ويستمر اضطرابه حينًا ولا يكون هدوؤه فجأة بل يستمر زمنًا حتى يهدأ[14].

ولذا قال الزمخشري: «وفي بناء (الحيَوان) زيادة معنى ليس في بناء (الحياة وهي ما في بناء (فَعَلان) من معنى الحركة والاضطراب: كالنَّزَوان والنَّغَصان واللهَبان وما أشبه ذلك، والحياة حركة كما أن الموت سكون، فمجيئُه على بناءٍ دالٍّ على معنى الحركة مبالغةٌ في معنى الحياة؛ ولذلك اختيرت على (الحياة) في هذا الموضع المقتضي للمبالغة»[15].

ومن الأمثلة أيضًا دلالة غنّة النون، ولننظر على سبيل المثال إلى ذلك المقطع الصوتي (أنَّ) الذي يتميز بسمة صوتية لها دلالة خاصّة، هي سمة النبر الشديد بالنون المشددة ذات الغنة التي تغنّ في القراءة القرآنية بمقدار حركتين في جميع السياقات، لننظر إلى دلالة ذلك المقطع التي قد ترد في سياقات كثيرة متضافرة مع الدلالة المعجمية للكلمة (أنّ) في إفادة التوكيد، وهذا ما نستشعره في النطق بها في مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْييِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[سورة الحج: 6، 7].

حيث تتوالى الكلمة في هذا السياق بدلالة واحدة هي التوكيد المستفاد من دلالتها المعجمية، ودلالتها السياقية، ودلالتها الصوتية التي يُوحي بها تكرار النون فيها، فالتكرار من وسائل التوكيد.

كما توحي بها تلك الغنّة التي تغنّ بمقدار حركتين، يحدُث من خلال النطق بهما نوع من الضغط والارتكاز الذي يشبه الإصرار على تأكيد المعنى وتثبيته لدى السامع.

وهذا كلّه يتضافر مع الدلالة السياقية للكلمة في هذا المقام الذي تؤكد فيه قدرة الله تعالى على الإحياء والبعث.

فإذا انتقلنا من هذا السياق إلى سياق آخر؛ مثل قوله تعالى على لسان لوط -عليه السلام-:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}[هود: 80]، وذلك حينما بلغ به الضيق مَداه من شذوذِ قومه ورغبتهم الجامحة في فعل المعصية، ومراودتهم له عن أضيافه ذوي الوجوه الحِسان، ومن ثم لم يتمالك لوطٌ ولم يلبث أنْ ألمّ به الحنق والغيظ، بحيث توحي الدلالة الصوتية لكلمة (أنّ) في هذه الآية بصورة لوط -عليه السلام- وهو جاذّ على أسنانه، يطيل الضغط والارتكاز في النطق بغنة النون المشددة معبِّرًا عن انفعاله الشديد بالغيظ والحنق من طبيعة هؤلاء القوم الدنيئة؛ كما تأتي تلك الدلالة مختلطة بدلالة الأسى والحزن والتحسر على عدم تمكنه من الانتصار منهم أو ردِّهم عن طيشهم وضلالهم.

وهنا تتدخل دلالة السياق لترجيح هذا المعنى الصوتي الذي نستشفه من الآية، كما يتدخل توقُّع القارئ حدوث مثل هذا الصوت عادةً في مثل هذا الحال، مما يصرف ذهنه إلى الربط بين ذلك الصوت وبين المعنى الذي يدلّ عليه عادةً في مثل هذا السياق.

ومن الأمثلة كذلك قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم: 22]، نجد أن هذه الكلمة (ضِيزَى) ليس لها من انسيابية النطق وجمال الوقع على الأُذن ما للكلمة المرادفة لها (جائرة). لنا أن نزعم أنها -في موقعها من قول الله تعالى في سورة النجم يخاطب المشركين: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم: 21 ،22]- دالةٌ أبلغ دلالة على المراد: وهو فساد القسمة وحيفها، بشكل يولّد في النفس -عند نطق الكلمة- إحساسًا بثقلها وبُغضها والنفور منها، وهي دلالة لا تتفجر من الكلمة السابقة.

ونؤيّد ما ذكر ونتمّمه ببيان أوجه المناسبة بين السمات الصوتية لتلك الكلمة ودلالتها فنقول: إنّ الناظر في مناسبة تلك الكلمة لدلالتها لا يحتاج أكثر من أن يتأمل طريقة نطقه بها، وأن ينظر إلى هيئة الفم حال النطق لها، حيث نلاحظ أن النطق بحرف الضاد مصحوبًا بحركة ياء المدّ يجعل الفم منفتحًا بدرجة كبيرة؛ سبَبُها أن مخرج الضاد من حافة اللسان مما يلي الأضراس، فإذا جاءت الضاد مصحوبة بالمد بالياء فإن ذلك يؤدي إلى انفتاح الفم انفتاحًا أفقيًّا إلى هذه الدرجة التي هي أشبه بهيئة المشمئزّ من الشيء، ويزداد الاقتراب في الشبه بهذه الهيئة حينما ينتقل الفم فُجاءةً من نطق الضاد ذات الكسرة الطويلة (المدّ بالياء)، إلى نطق الزاي ذات الفتحة الطويلة (المدّ بالألِف)؛ مما يؤدي إلى انتقال الفم من الانفتاح الأفقي العرضي إلى الانفتاح الرأسي الطولي؛ ليوحي -بهذه الطريقة الإشارية المتولدة من نطق هذه الكلمة- بدلالة النفور والاشمئزاز من تلك القسمة الجائرة التي تبعث على الاشمئزاز والأنفة من تلك العقول الفاسدة التي سوَّغَت أن يكون الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، بينما هم لا يرضون بالإناث لأنفسهم فيتخلصون منهم بالقتل والوأد.

ويمكننا أن نقف كذلك عند الدلالة الصوتية لكلمة (اثّاقلتم) من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}[التوبة: 38]، فالمتأمل لتلك الكلمة يستشعر صولة واضحة في نطقها، وليست خفيفة الوقع كذلك على الأُذن، وذلك على خلاف ما نراه في كلمة بديلة وهي (تثاقلتم)، بَيْد أنّ الأُولى بتشكيلها الصوتي أقوى في تصوير المراد والإيحاء به؛ إذ ترسم صورة مجسّمة للتباطؤ الشديد، وتثير في خيال قارئها وسامعها صورة ذلك الجسم المتثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل، وحينما نوازن بين السمات الصوتية لهذه الكلمة وبين سياقها نجد أنها قد جاءت معبّرة تمام التعبير عن الفكرة التي سيقت لأجلها؛ حيث نلاحظ أن حرف (الثاء) قد جاء مكررًا، وهو حرف يخرج مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العُلَى فهو قريب المخرج، وتكرره بالتشديد يصور هيئة المتثاقل المتباطئ فهو لا يبرح مكانه يتردّد فيه، كما أن النطق لا يزال يتردّد في مخرج الثاء يكرره ولا يبرحه، ثم يأتي المد ليصور لك أن هذا المتثاقل لا يتحرك ولا يمتد إلّا في مكانه، فهو مَدّ خاصّ بهذا الحرف (الثاء) الذي لا يكاد النطق يبرحه: تارة بتشديده وتكريره وتارة بمده، ثم ها هو المدّ يبلغ أقصاه حيث مخرج القاف أقصى اللسان، وهنا يظنّ الظانّ أن المتثاقل قد تحرك شيئًا أو جاوز مكانه؛ فإذا به يرتد تارة أخرى إلى مكانه الذي قد قام منه وهو منطقة طرف اللسان؛ حيث الثاء واللام والتاء، بل إنه يتساقط ويتأخّر عن مكان ابتدائه حيث يرتد إلى مخرج الميم عند الشفتين، ولا شك أن المرء حينما ينطق بهذه الكلمة لا يكاد يصل إلى نطق تلك الميم الساكنة، وخاصّة مع إيحاء هذا المقطع الأخير (تُم) حتى يستشعر أن شيئًا قد سقط على الأرض فجأة محدثًا هذا الصوت.

وكأنّ النطق بهذه الكلمة يصوّر هيئة المتثاقل المتساقط وهو يتردّد في قيامه ويتلعثم فيه ويتمادى في تباطئه، وذلك في نطق الثاء المشدّدة الممدودة، ثم لا يلبث أن ينهض حتى يتساقط مرتدًّا إلى مكان قيامه أو متجاوزًا عنه إلى الخلف قليلًا، فهو لا يكاد يقوم حتى يسقط، وهنا نستشعر أن الكلمة بسماتها الصوتية موحية ومعبرة عن معنى التثاقل والتباطؤ بدرجة فنية عالية، لا تستطيع أن توحي بها دلالتها المعجمية وحدها.

على أن في الآية كلمة أخرى لا تقل دلالتها الصوتية عن دلالة تلك الكلمة في التعبير عن ذلك التثاقل والخلود إلى الأرض والركون إلى الدعة والراحة، ألَا وهي كلمة (الأرض)؛ وذلك أنك إذا تأملت وقوفك على الضاد الساكنة بما لها من صفات الاستطالة والانبساط والتفشي لاستشعرت فيها ما يوحي به نطق الضاد من استطالة الركود والانبساط فيه، وتفشي هؤلاء المتثاقلين واسترخائهم وتمددهم في التصاقهم بالأرض واستنامتهم إليها.

إنها دلالة لا تلوح بها الدلالة المعجمية للكلمة من قريب ولا من بعيد، وإنما تنفرد بها الدلالة الصوتية لهذا الحرف في ذلك النّسق والسياق الدلالي.

مظانّ البحث عن الدلالة الصوتية:

سبق أن ذكرنا أنّ الدلالة الصوتية دلالة غامضة خفية يحتاج الباحث لإدراكها إلى قوة الذوق ورهافة الحسّ؛ ولذا لا نكاد نجد إلّا إشارات يسيرة حولها عند بعض نابهي المفسرين: كالزمخشري في كشّافه كما رأينا في النقل السابق عنه، أو بعض إشارات متفرّقة عند اللغويين القدامى: كابن جنّي وسيبويه والخليل على اختلافٍ فيما بينهم في اهتمامهم بتلك الدلالة؛ حيث نجد لابن جنّي اهتمامًا كبيرًا بهذا الجانب في كتابه (الخصائص)؛ لا سيّما الفصل الذي خصصه لذلك بعنوان: (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني).

غير أن الاعتناء بتلك الدلالة قد بدَا واضحًا في العصر الحديث بتأثير الدراسات الأسلوبية التي أفادت من المنهج الأسلوبي الوافد في تحليل النصوص، وكان من أوائل تلك التحليلات -التي كُتبت حول النصّ القرآني مراعيةً لإيحاءات المستوى الصوتي- كتاب (التصوير الفني في القرآن الكريم) لسيّد قطب، وكذلك إشاراته العديدة لإيحاءات الأصوات في ألفاظ القرآن الكريم في كتابه (في ظلال القرآن).

ثم ظهرت دراسات تطبيقية عديدة متناثرة في العصر الحديث على العديد من سور القرآن الكريم[16].

الخاتمة:

حاول هذا المقال إلقاء الضوء على أن دلالات الألفاظ القرآنية تتعدّد وتتنوع بتعدّد مستويات اللغة بين الأصوات والمعجم والصرف والنحو والبيان، واهتم بمحاولة الكشف عن قيمة الدلالة الصوتية خاصّة وأثرها في إثراء المعاني التفسيرية،كما كشف عن التفات نابهي البلاغيين واللغويين إلى الدلالة الصوتية للألفاظ وأثرها في إثراء المعنى، مع بيان مظانّ البحث عن الدلالة الصوتية، مع عرضِ البحث لعددٍ من الأمثلة التحليلية لبيان قيمة الدلالة الصوتية في إثراء المعنى التفسيري.

 

[1] على الرابطين الآتيين:
- أولًا: الدلالة الصرفية: tafsir.net/article/5251.
- ثانيًا: الدلالة النحوية: tafsir.net/article/5253.

[2] الحقّ أن ما ذكره البلاغيون في هذا المقام لا يخلو من انتقادات عديدة وجّهها إليهم الدارسون المحدَثون. وللتوسّع في هذه النقطة؛ يراجع: الإعجاز الصوتي، د/ عبد الحميد هنداوي، ط. الدار الثقافية- القاهرة، (ص21).

[3] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، الرافعي، ط. المكتبة العصرية- بيروت، (ص171).

[4] الخصائص، ابن جنِّي، تحقيق: د. محمد علي النجار، ط. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، س1958م، (2/ 152).

[5] الكتاب، سيبويه، ط. المطبعة الكبرى الأميرية- ببولاق مصر المحمية، س1317، (2/ 241).

[6] المرجع السابق (2/ 219). وثمة مواضع أُخَر كثيرة في كتابه، انظر على سبيل المثال: الكتاب، (2/ 214-216).

[7] الخصائص، (2/ 152).

[8] الخصائص، (2/ 157).

[9] السابق نفسه.

[10] السابق، (ص158).

[11] السابق. وانظر: الجامع لأحكام القرآن الكريم، القرطبي، ط. دار الحديث، (17/ 179).

[12] الخصائص، (2/ 152).

[13] الكتاب، سيبويه، ط. المطبعة الكبرى الأميرية- ببولاق مصر المحمية، س1317هـ، القاهرة، (2/ 218).

[14] الإعجاز الصوتي، د/ عبد الحميد هنداوي، الدار الثقافية- القاهرة، (ص16).

[15] انظر: الكشاف، للزمخشري. دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثالثة: 1407هـ، (2/ 463).

[16] بيَّنتُ عددًا كبيرًا من تلك الدراسات في بحث سابق لي بعنوان: (التفسير الأسلوبي للقرآن الكريم؛ عرض وتقويم)، كما كان لكاتب هذا المقال شرف البدايات الأولى للتحليل الأسلوبي الذي يُعنى بدلالة الأصوات في القرآن الكريم؛ فقدَّم في أواخر التسعينيات: الإعجاز الصوتي- الدار الثقافية- القاهرة، كما أتبعه بعدد من الدراسات الأسلوبية حول عدد من سور القرآن الكريم منها: (سورة ق - النازعات - القمر - نوح...إلخ)، وقد عنيت ضمن ما عنيت به ببيان الدلالة الصوتية مع بقية الدلالات؛ كالدلالة الصرفية والدلالة المعجمية والدلالة النحوية والدلالة البيانية التصويرية.

الكاتب

الدكتور عبد الحميد هنداوي

أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وله عدد من المشاركات العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))