الإعجاز العلمي في القرآن

تُعَدّ مسألة الإعجاز العلمي في القرآن من المسائل العلمية الحادثة في هذا العصر، وهذه المقالة تسلّط الضوء على هذه المسألة، وتجيب عن سؤال العلاقة بين القرآن والعلم التجريبي، كما تَعرِض لعددٍ من المسائل المنهجية المتعلقة بالمصطلح وتطبيقاته.

الإعجاز العلمي في القرآن[1]

  تعتبر مسألة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر، والموضوع أكبر من أن يستوعب في مثل هذا الموضع، لكن أستعين بالله، وأذكر من ما يفتح الله به عليَّ.

1- إنَّ هذا الموضوع يدخل تحت التفسير بالرأي، فإن كان المفسِّر به ممن تأهّل وعَلِمَ، كان تفسيره محمودًا، وإن لم يكن من أهل العلم فإنّ تفسيره مذموم، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ.

2- إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمَّى بالإعجاز الغيبي، وهو فرع منه؛ إِذْ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن، ثمَّ علمه المعاصرون.

وإذا تحقَّق ذلك، فليعلم أنَّ هذا النوع من الإعجاز ليس مما يختصّ به القرآن وحده، بل هو موجود في كلّ كتب الله السابقة؛ لأنَّ الإخبار في هذه الكتب عن الحقائق الكونية لا يمكن أن يختلف البتة، وعدم وجود ما يطابق علم القرآن في كتبهم التي بين يديهم إنما هو لتحريفهم لها، فلينتبه لذلك.

 ومن باب إيضاح هذه المسألة بالذات؛ يقال: إنَّ كتب الله السابقة توافق القرآن في جميع ما يتعلّق بوجوه الإعجاز المذكورة عدا ما وقع به التحدِّي؛ إذ لم يَرِد نصٌّ صريح يدلّ على أنه قد تُحدِّي الأقوام الذين نزل عليهم كتب، كما هو الحال بالنسبة للقرآن.

3- إن قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلَّم بها الله، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المتكلِّم عن الحقيقية الكونية المخبر بها هو خالقها، فلا يمكن أن يختلفا البتة.

وكلّ ما في الأمر أنَّ هذه الحقيقة الكونية كانت غائبة من جهة تفاصيلها عن السابقين، فمنَّ اللهُ على اللاحقين بمعرفة هذه التفاصيل، فكشفوا عنها، وأثبتوا حقيقة ما جاء في القرآن من صدق، فكان اكتشاف ذلك من دلائل صدق القرآن الذي أخبر عنها بدقة بالغة، لم تظهر تفاصيلها إلا في هذا العصر الذي نبغ فيه سوق البحث التجريبي الذي صارت دولته إلى الكفار دون المسلمين، فصاروا إذا ما اكتشفوا أمرًا جديدًا عليهم سارع المعتنون بالإعجاز العلمي لإثبات وجوده في نصوص القرآن.

4- إنّ كثيرًا ممن كَتَبَ في الإعجاز العلمي ليس ممن له قَدَمٌ في العلم الشرعي فضلًا عن علم التفسير، وكان من أخطار ذلك أن جُعِلَت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلًا يُحكَم به القرآن، وتُؤَوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات.

وكلّ مَنْ دخل إلى التفسير وله أصل، فإنّ أصله هذا سيؤثِّر عليه، وسيقع في التحريف، كما وقع التحريف عند المعتزلة الذين جعلوا العقل المجرد أصلًا يحتكمون إليه، وكما وقع لغيرهم من الطوائف المنحرفة.

والذي يدلّ على وقوع الانحراف في هذا الاتجاه الحرص الزائد على إثبات حديث القرآن عن كثير من القضايا التي ناقشها الباحثون التجريبيون.

5- إنّ كتاب الله أعلى وأجلّ من أن يُجْعَل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصّل في علم التفسير، فأين هم من قول مسروق: «اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله».

6- إنَّ في نسبة الإعجاز، أو التفسير إلى العلمي فيها خللٌ كبيرٌ، وأثَر من آثار التغريب الفكري، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية، كما هو الحال في المدارس الثانوية سابقًا، وفي الجامعات حتى اليوم، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة.

وإذا كان هذا يسمَّى بالإعجاز العلمي، فماذا يسمى الإعجاز اللغوي، أليس إعجازًا علميًّا، أليست اللغة علمًا، وقُلْ غيرها في وجوه الإعجاز المحكيّة.

لا شكَّ أنها علوم، لكنها غير العلم الذي يريده الدنيويُّون الغربيون الذين أثَّروا في حياة الناس اليوم، وصارت السيادة لهم.

ومما يؤسَف له أن يتبعهم فضلاء من المسلمين في هذا المصطلح دون التنبُّه لما تحته من الخطر والخطأ.

7- ومما يلاحَظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن؛ ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكُر عرشًا وكرسيًّا وقمرًا وشمسًا وكواكبَ ونجومًا وسماواتٍ سبعًا، من الأرض مثلهن...إلخ. ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعْرَف في لغة القرآن ولا العرب، فحملوا ما جاء في القرآن عليها، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبيين المعاصرين.

فبعضهم جعل السماوات السبع هي الكواكب السبعة السيارة، وجعل الكرسي المجرّات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كلّ الكون.

وآخَر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها، وجعلها علامات؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم، وإلَّا فالنجوم قد ماتت منذ فترة. إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرّة باسم الإعجاز العلمي، ومرة باسم التفسير العلمي...إلخ من المسمَّيات.

وكلّ هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا وبين ما جاء في القرآن.

ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمُّونه حقيقة.

8- إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي، وضع قاعدة، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ؛ لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بُطلان فرضية فُسِّرت بها آية.

وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري، ولا يتوافق مع أصول التفسير، وهو قيد يلتزم به مقيِّده -وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع- ولا يُلْزَم به المفسِّر؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز.

ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكِّد على هذه القاعدة، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍّ للكفار، ويقول: «إن القرآن الذي أُنزل من قبل ألْف وأربعمائة سَنة على النبي الأُمّي -صلى الله عليه وسلم- في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين، يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين.

هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق، ولا يجوز أن توظّف فيه الفروض والنظريات إلَّا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء...؛ لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير، ويبقى للمسلم نور من كتاب ربّه أو من سُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يُعِينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف، وليس العكس». انتهى كلامه.

ولعلّك ترى كيف أن هذا القائل يَنقُض قاعدته في نفس كلامه عنها؛ إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل؛ إذ يمكن أن تكون كثيرٌ من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري، ثم نصححها لورود ما يدلّ عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية.

وهنا مسألة مهمّة، وهي: مَن الذي يُثبِتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية؟

أي: مَن هو المرجع في ذلك؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ؟ أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ؟ أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين؟

هذه المسألة من أولى ما يجب أن يَعتني به مَن يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر.

وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي، فإذا ثبت ذلك له، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون.

9- أما بالنسبة للمفسِّر، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحْكَمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يُثْبِت أو يُنْكِر، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين، وإنْ أخَذها منهم، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير.

وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها، أيْ أن عمله عمل تفسيري بحت وهو يمتلك أدواته، بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات، فتراهم يخبطون خبط عشواء.

فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كلّ ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها، فإنّ المفسرين لا يرضون لكلّ واحد من الباحثين التجريبيين أن يوفّق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن، وإن كنت أرى أن المفسّر أقدر في الربط من الباحث التجريبي.

10- إنّ الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يَرِد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر، كائنًا من كان هذا المفسِّر، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده، كبعض الآثار الضعيفة مثلًا. فلو أنّ مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر يكون بالحكم بأن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ، ولا علاقة للقرآن به، فالخطأ خطأ المفسِّر، وليس الخطأ في القرآن قطعًا.

وهذا يشبه ما لو فسَّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ، فهل ينال القرآن خطأ منه، وهل يقال: إن الخطأ من القرآن؟ لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك، لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يُلْزِموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها، فأَلْزَموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم، كما قلت.

11- إنّ موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلًا، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار، وأنَّى له ذلك؟‍!

لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر -ولا زالوا يُسلِمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم- ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحثُ التجريبي.

نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار، لكنهم أقل بكثير ممن يُسلِم عن سبيل الاقتناع بالإسلام، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة، وهو يحتاج إلى عناية.

12- إنَّ أيّ تفسير جاء بعد تفسير السلف، فإنه لا يُقبَل إلا بضوابط، وهذه الضوابط:

1- أن لا يُناقِض (أي: يُبطِل) ما جاء عن السلف (أعني: الصحابة والتابعين وأتباع التابعين).

ملاحظة: السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كلّ المفسرين السابقين، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث.

وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكَم إليه، ولا تجوز مناقضته البتة، فمن جاء بتفسير بعدهم، سواء أكان مصدره لغة، أو بحثًا تجريبيًّا، فإنه لا يُقبَل إن كان يُناقِض قولهم.

فإن قلت: إنه يَرِد عن السلف في تفسير الآية اختلاف، فكيف العمل؟

فالجواب: أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه.

والقاعدة في اختلاف التنوع:

- أن تُقْبَل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوّع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك.

- أن يُرَجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية؛ لأنه قد يُستفاد منه في موضع آخر.

والقاعدة في اختلاف التضادّ الوارد بينهم:

- أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوّع؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا، فلزم الترجيح، وهو هنا تصحيح لقولٍ، وترك للآخر.

- واطِّراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم، وعدم الاعتبار به، وهذا واقع كثيرٍ ممن تعرَّض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر.

2- أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا.

وهو على قسمَين:

الأول: أن يكون المعنى من جهة اللغة، وهذا لا بدَّ أن يثبت لغةً، وأي تفسير بمعنى لم يثبت من جهة اللغة، فإنه مردود، كمن يفسِّر الذَّرّة الواردة في القرآن بالذرة الفيزيائية، وهذا مصطلح حادث لا يثبت في اللغة.

الثاني: أن يكون المعنى جمليًّا لا من جهة اللغة، كمن يفسِّر خلق الأطوار بأنها الأطوار الداروينية.

وهذا مخالف لما جاء في الشريعة، وهو غير صحيح في نفسه؛ لذا لا يصحُّ التفسير به، ولا بما هو على منهجه البتة.

3- أن يتناسب مع سياق الآية، وتحتمله الآية.

وهذا قيد مهمٌّ، وفيه مجال للاختلاف، لكن لا يجب إلزام الآخر به، وكثيرٌ من التفسيرات بما وصل إليه البحث التجريبي تدخل في هذا الضابط؛ إذ قد يكون المعنى غير مناقض لما ورد عن السلف، وهو معنى صحيح، لكن يكون وجه ردِّه عدم احتمال الآية له، والحكم باحتمال الآية له من عدمه محلُّ اجتهادٍ، وإذا كان الاجتهاد في احتماله أو عدمه عن علم فلا تثريب على الفريقين، بل في الأمر سعة، كما هو الحال في الاجتهاد الكائن في علماء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

وسأضـرب مثلًا أرجو أن يـوضح هذا الأمـر، وهـو ما ورد في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 125].

تأمّـل السياق الذي وردت فيه هذه الآية، وانظر -تكرُّمًا- إلى ما قبلها، يقول تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ *فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}[الأنعام: 122 - 126].

إنّ الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن، ثم ضرب مثالًا بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام، ثمَّ بَيّن -سبحانه- مشيئته في الهداية والإضلال، وذكر أن مَن أراد هدايته، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له، ومن أراد له الضلال، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء.

قال الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}: وهذا مَثَلٌ من الله -تعالى ذِكره- ضربه لقلب هذا الكافر في شدّة تضييقه إيّاه عن وصوله إليه؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء، وعَجْزه عنه؛ لأن ذلك ليس في وُسعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل[2].

ثم ذكر الرواية عن عطاء الخراساني، قال: مثَله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. وعن ابن جريج: يجعل صدره ضيقًا حـرجًا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدّة ذلك عليه.

وعن السُّدِّي: كأنما يصعّد في السماء من ضيق صدره.

وتقدير المعنى عندهم: إنّ عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء.

وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه.

وانشراح النفس للإيمان سابقة له، فمَن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا، فلا يستطيع أن يؤمن بالله، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان.

وهذا التفسير من دقائق فهم السلف، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية، وهي جَعْل الضيق والحرج في صدر الكافر؛ إِذْ مِن لازمِه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء، فنبَّهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية.

وفي تفسيرهم إثبات القَدَر، وأن الله يفعل ما يشاء، فمن أراد الله هدايته شرح صدره، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير، وفي هذا ردٌّ على القدَريّة الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله.

أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان.

وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج، والمعنى عندهم: إنَّ حال ضيق صدر الكافر المُعرِض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء.

وذكر وجه الشبه، وهو الصفة المشتركة بينهما: ضيقًا وحرجًا، وجاء بأداة التشبيه (كأنّ) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة.

وإذا تأملْتَ هذين التفسيرَين وعرضتهما على سياق القرآن ومقاصده، فأيّ القولَين أولى وأقوى؟

لا شكَّ أن ما ذكره السلف أولى وأقوى، والثاني -وإن كان محتملًا- لا يرقى إلى قوّته، وإن قُبِلَ هذا القول المعاصر على سبيل التنوع فالأول هو المقدَّم بلا ريب.

ووجه قوّته كائن في أمور:

الأول: أنَّ ما قاله السلف مُدرَك في كلّ حين، منذ أن نزل الوحي بها إلى اليوم، أما ما ذكره المعاصرون، فكان خفيًّا على الناس حتى ظهر لهم أمر هذا المعنى هذا اليوم.

الثاني: أن التنبيه عن امتناع الإيمان عنهم بامتناع صعود الإنسان إلى السماء أقوى وأولى من التنبيه عن تشبيه الحرج والضيق الذي يجده الكافر في نفسه بما يجده مَن صَعِد طبقات السماء.

فالحرج والضيق مدرَك منه بخلاف امتناع الإيمان الذي يخفى سبيله، وهو الذي جاء التنبيه عليه في الآية، وذلك من دقيق مسلك قدَر الله سبحانه.

4- أن لا يُقْصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية.

وهذا الضابط كثيرًا ما يُنْتَقَضُ عند أصحاب الإعجاز العلمي، وقد وجدتُ حال بعضهم مع تفسير السلف على مراتب:

- فمنهم من لا يعرف تفسير السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم) أصلًا ولا يرجع إليه، وكأنه لا يعتدُّ به ولا يراه شيئًا. وهؤلاء صنفٌ يكثر فيهم الشطط، ولا يرتضيهم جمهورٌ ممن يتعاطى الإعجاز العلمي.

- ومنهم من يقرأ تفسير السلف، لكنه لا يفهمه، وإذا عرضه فإنه يعرضه عرضًا باهتًا، لا يدلّ على مقصودهم، ولا يُعْرَف به غور علمهم، ودقيق فهمهم.

- ومنهم من يخطئ في فهم كلام السّلف، ويحمل كلامهم على غير مرادهم، وقد يعترض عليه وينتقده، وهو في الحقيقة إنما ينتقد ما فَهِمَه هو، وليس ينتقد تفسيرهم؛ لأنه أخطأ في فهمه.

ومما يَظهر مِن طريقة عَرْض أصحاب هذا الاتجاه لِمَا توصلوا إليه من معانٍ جديدة أنهم يَقصِرون معنى الآية على ما فهموه، دون أن ينصُّوا على ذلك صراحة، وهذا مزلق خطير لا ينتبه إليه كثير من الفضلاء الذين دخلوا في هذا الميدان.

بل إنهم يتفوّهون بكلام يَلزم منه تجهيل الصحابة وتصغير عقولهم، وأنِّي لأجزم أن هؤلاء الفضلاء لو تنبهوا لهذا اللازم لعدَّلوا عباراتهم، لكن طريقة البحث التي سلكوها جعلتهم لا ينتبهون إلى هذا المزلق الخطير.

ومن ذلك أن بعضهم يقول: «وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدّم العلمي يكشف عن دقّة تلك المعاني والألفاظ القرآنية؛ مما يوحي إلى كلّ عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علمًا بكلّ شيء، وإن كان قد حدث جهلٌ بفهم بعض ألفاظه ومعانيه، فإنّ زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه».

ألَا يَلزم من هذا الكلام أنّ الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعْرَف حتى جاء (التقدم العلمي!) فكشف عن هذه المعاني.

ولو كان يعتقد هذا اللازم، فالأمر خطير جدًّا. لكني لا أشكُّ -محـسنًا الظنّ بقائله- أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته.

ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يُذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر، وتفسير الآية به، وهذا فيه قصرٌ لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث، وهذا خطأ محضٌ.

وقد سئل آخر: لماذا لم يبيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الوجوه للصحابة؟

فكانت إجابته: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها، وقد يقع منهم شكّ أو تكذيب.

وهذا الجواب من أعجب العجب، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممَّن فرح بما أوتي من العلم، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور.

ألم يؤمنوا بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أُسري به، ثم عُرج به في جزء من الليل، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون؟! وقُل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإني قد رأيتُ لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن كاملًا، وكان مما أجاب به، فقال:

«لضعف المستوى العلمي عند الصحابة، ولو فسَّره لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما حَوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها، وقد تكون محلّ استغراب بعضهم، والعلماء الذين جاؤوا بعد الصحابة قدَّموا بعض المضامين العلمية للآيات؛ ولذلك قيل: خير مفسِّر للقرآن هو الزمن».

وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب؛ إِذْ كيف يكون خِيرةُ الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ضعيفي المستوى العلمي، وما المراد بالعلم الذي ضعفوا فيه؟!

 أليسوا أعلم الأمة، والأمة عالَةٌ عليهم في هذا؟!

ألم يخبرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى يوم القيامة؟! حَفِظَه منهم مَن حفظه، ونَسِيَه مَن نسيه.

إنّ مثل هذا القول خطير، وإني لأُحسن الظنّ بأن قائله لم يتنبّه لِمَا يتبطّنه هذا الكلام من خطأ محضٍ، وأنّ الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات، والله المستعان.

وبعدُ، فإنّ هذين النقلَين اللذَين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلَّموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبّط في هذا المجال.

وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم، وما لهم من قدمٍ في الدعوة إلى الله، والحرص على هداية الناس، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ، فالأول يُشْكَر لهم ويُذكر ولا يُنكر، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ.

كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نَبْذَهم وعدم الاعتداد بهم، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطَت بكتاب الله، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار.

* * *

وأختم هذا المقال بمسائل متفرّقة في هذا الموضوع، وهي كالآتي:

أولًا: قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث:

- العلم بالسُّنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد، ولا بالأفكار؛ لأنها نتيجة البحث والتأمُّل، وهي من العلوم التي وكَلها اللهُ لعباده، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر -بإذن الله- إلى نتائجه المرجوَّة، ولمّا كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك.

- أنّ إشارة القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية لم يكن هو المقصد الأول، ولم ينْزِل القرآن من أجلها، وإذا وازنْتَ بين المعلومات العقدية والشرعية، ظهر لك أنَّ المعلومات العقدية والشرعية -أي: كيف يعرفون ربهم، وكيف يعبدونه- هي الأصل المراد بإنزال القرآن، وهي التي تكفَّل اللهُ ببيانها للناس، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما سبق، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي، فهي جاءت تبعًا وليس أصالةً؛ أيْ أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة، بل ليستدل بها مثلًا: على توحيد الله وأحقّيته بالعبادة، أو على حكم تشريعي، أو على إثبات اليوم الآخر.

- القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلَّا الخواص من الناس، ولا يوصل إليها إلا بالمراس.

الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية:

1- أن القرآن يقرّرها حقيقة حيث كانت وانتهت، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية.

2- القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصَّلة، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية.

- علم البشر قاصر غير شمولي، ونظره من زاوية معيَّنة؛ لذا قد يغفل عن جوانب في القضية، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث. وقد يكتشف ما لم يحتسب له عن طريق الصدفة لا الممارسة العملية.

- القرآن طرح القضايا العلمية بعيدًا عن الخيالات التي كانت إبّان نزوله، سواء أكانت هذه العلوم عند العرب أم عند غيرهم، وهذه الخيالات بَانَ خطؤها في القرون المتأخرةِ، ولا يزال هناك غيرها مما سيكشفه العلمُ التجريبي، وكلّ ذلك مما لا يمكن أن يخالف حقائق القرآن إن صحَّت تلك العلوم. 

- قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها، وتفسَّر بها.

ثانيًا: موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبية المذكورة في القرآن:

- الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا يحتاج إلى إدراك الحسِّ، بل يكفي ورودها في القرآن، بخلاف القضايا العلميّة التي يحتاج الإيمان بها إلى الحسِّ، سواء أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن مذكورة.

- المسلم مطالَب بالأخذ بظواهر القرآن، وأخذه بها يجعله يَسْلَم من التحريف أو التكذيب بها، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر.

فإذا عارضت النظريات العلمية، ولو سُمِّيت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن؛ لأن المؤمن مطالَب بالإيمان بنصوص القرآن لا غير.

- يجب الحذر مِن حملِ مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها.

- البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها، وهي درجات من حيث المصداقية؛ لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد.

وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأرجو أن يُبعِد عني وعنكم الشطط والتـحامل في هذه القـضية وفي غيرها، وإن هذه القضية بالذات حسَّاسة، وتدخلها العواطف، ويبرز في الردّ على من يعترض عليها الكتابة الخطابية، فتخرج عن كونها قضية علمية تحتاج إلى تجلية وإيضاح إلى قضية دفاع عن مواقف وشخصيات.

ثالثًا: هل نحن بحاجة إلى التفسير العلمي، أو الإعجاز العلمي؟

إنّ نتيجة ما يتوصل إليه الباحث في الإعجاز العلمي هي إثبات أنّ الحقيقة أو النظرية الكونية أو التجريبيّة قد وردَ ذِكرها في القرآن صراحة أو إشارة، وهذا فيه دليل على صدق القرآن وأنه من عند الله.

وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد البحث المجرد في الحقائق الكونية والمواد التجريبية، ولا شكَّ أنّ الباحث إذا كان ممّن يؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لن يأتي بشيء مخالف لِمَا في القرآن والسُّنة، أما إذا كان الباحث كافرًا فقد يقع منه مخالفات للشرع، ويكون ذلك دليلًا على خطئه في مسار بحثه.

ومِن ثَمَّ فإنَّ عندنا أمرين:

الأول: العناية بالبحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبّر فيه لننافس بذلك أعداء الله الذين تقدّموا علينا في هذا المجال.

الثاني: العناية بما يسمَّى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدّين لأولئك الذين لا يؤمنون إلا بالحقائق المادية، ودعوتهم إلى الإسلام، وذلك أنه لمّا كان هذا العصر عصر ثورة العلوم التجريبية الدنيوية، فإنَّ تقديم هذه التفسيرات الموافقة لِمَا ثبت في هذه العلوم للناس دعوة لهم لهذا الدين الحقِّ.

وهذا القول حقٌّ لكن الأمر يحتاج إلى توازن في طرح مدى الدعوة بهذه التفسيرات العلمية للقرآن، وهل أثبتت نجاحها وتميُّزها؟

إنَّ الذي يُخشى منه أن تكون الدعوة بهذه التفسيرات الموافقة للعلوم التجريبية قد أخذت أكبر من حجمها، وأنَّ عدد المتأثِّرين بها قليلٌ لا يكادون أن يوازوا بعددهم ما يقوم به داعية أو مركز إسلامي يبيِّن للناس هذا الدّين الحقَّ.

ومن المعلوم أنّ الأفواج الكثيرة التي دخلت في الإسلام أسلمت بأبسط من هذا الطرح العلمي، فأغلبهم أسلم لِمَا يجد في الإسلام من موافقته لفطرته التي فطره الله عليها دون أن يصل إلى الإيمان بالله بهذا العلم الذي لا يدركه إلَّا القليل من الناس.

ثمَّ إنَّ من سيُسْلِم من الباحثين في العلوم التجريبية من الكفار بسبب هذا الإعجاز العلمي يلاحَظ فيه ما يلي:

1- أنّه لا وقت عنده لدعوة غيره، بل لتفهُّم الدّين الجديد الذي دان به، بسبب كبر السنِّ -في الغالب- والانشغال بالأبحاث والتجارب التي تجعله بعيدًا عن تفهُّم هذا الدّين وطبيعته.

2- أنَّ بعض من يُسلِم منهم يكون إسلامه صوريًّا، ولم يتحقق فيه الاستسلام الحقُّ.

3- أنَّ تأثير هؤلاء يكـاد يكون معدومًا، بل لو ثبت إسـلامهم قد يُـحارَبون، ويسفَّهون، ولا يُحترَمون في مجتمعاتهم العلمية.

وأخيرًا، فإنّ بعض من يستسلم لهذه الحقائق المذكورة في القرآن أو السُّنة، يأخذها بنظره العلمي التجريبي، ولا يدرك حقيقة الوحي، وأنَّ هذا القرآن من عند الله، فبينه وبين ذلك حجاب مستور، والله أعلم.

ومِن ثمَّ، فإنّ العناية بالأمر الأول -وهو البحث التجريبي والنظر في هذا الكون والتدبّر فيه- يجب أن تكون أكبر وأكثر من العناية بالأمر الثاني -وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي- لوجهَين:

الوجه الأول: أنه هو المجال الوحيد الذي سبقَنا فيه أعداؤنا، ولا بد لنا من منافستهم في ذلك، والسعي للتقدّم عليهم فيه.

الوجه الثاني: أنه عندما يقوم الباحثون المسلمون بتلك البحوث نضمن أنهم لن يصلوا إلى نتائج خاطئة مخالفة للكتاب والسُّنة، بل إنهم سوف يُعيدون النظر في بعض النتائج المخالفة للكتاب والسّنة التي وصل إليها الباحث الغربي الكافر.

وإذا بقي همُّنا منصبًّا على العناية بما يسمى بالإعجاز العلمي لإثبات صحة هذا الدّين لأولئك الذين لا يؤمنون إلَّا بالحقائق المادية، فإننا سنبقى عالة على الغرب ننتظر منه كلّ جديد في العلوم، ثمَّ نبحث ما يوافقه في شرعنا، ولا يخفاك ما دخل علينا من هذه العلوم مما هو مخالف لشرعنا، وما ذاك إلَّا بسبب أنَّ موقفَنا نحن -المسلمين- موقف التلميذ الضعيف المتلقي الذي يشعر أنه لا شيء عنده يمكن أن يقدّمه.

 والبحث العلمي بلا قوة تحميه لا يمكن أن ينفعل في الواقع؛ لذا لا بدَّ من أن يواكب العلمَ قوةٌ تكون في الأمة كي تدعم هذا العلم وتحافظ عليه، وإلَّا صار ما تراه من هجرة العلماءِ عن ديار المسلمين إلى ديار الغرب الكافرة.

وأقول أخيرًا: إنَّ في الموضوع قضايا كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح، ولولا ضيق المقام لأشرتُ إليها، وإني أسأل اللهَ أن يوفقني ويُعينني على الكتابة فيه على منهجٍ عدل وسط لا شطط فيه.

 

[1] نشرت هذه المقالة في ملتقى أهل التفسير 10/ 3/ 1424هـ، وقد أجرينا تعديلًا طفيفًا على صدر المقالة ليُناسب النشر. (موقع تفسير).

[2] جامع البيان: (9: 549)، ط. التركي.

الكاتب

الدكتور مساعد بن سليمان الطيار

أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الملك سعود، له العديد من المؤلفات والمشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))