أسلوب (الفنقُلة) عند الزمخشري في تفسيره
وبيان خصائصه وفوائده
توطئة:
من الظواهر التي يلمحها الناظر في تفسير (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) الذي ألّفه جار الله الزمخشري (ت 538هـ)، والتي لا تفتأ تتكرّر من أول الكتاب إلى آخره، وتتجدد في تفسير كلّ سورة من سور القرآن: ظاهرة (افتراض الأسئلة والجواب عنها)، حيث يثير الزمخشري أسئلة افتراضية تتطرّق لجوانب عديدة وتسمح له بتوسيع المعنى وعَرْض قضايا مختلفة يرمي إلى مناقشتها، ثم يجيب عنها مُبديًا رأيه فيها، محللًا الأقوال ومرجحًا لأحدها، أو يبتكر قولًا جديدًا إذا لم يرتضِ أيًّا منها، ويصوغها بقوله: «فإن قلتَ: كذا وكذا... قلتُ: كذا وكذا...»، وقد اصطُلح على تسمية هذا الأسلوب (فنقُلة)، واشتهرت باسم: (فنقُلات الزمخشري).
وسنقف في هذه المقالة مع هذا الأسلوب عند الزمخشري، ونجيب على عدّة تساؤلات حوله، من أهمها: ما تعريف أسلوب (الفنقُلة)؟ وما فوائده؟ وهل الزمخشري أوّل من ابتكره؟ وما أثره في تفسير الكشّاف؟
تعريف أسلوب الفنقلة وتوظيفه في الكتابات العربية:
الفنقُلات: أسلوب تعليمي اشتهر وسط المحاضر الإسلامية، يقوم أساسًا على طرح استشكالات بافتراض سؤال ثم الجواب عنه، وذلك بتوظيف عدّة صيغ أشهرها: (فإن قلتَ: كذا... فالجواب:...، أو: فإن قيل: كذا... قلتُ:...، أو: فإن قال قائل: كذا... قيل:...)، وهي طريقة السؤال والجواب.
ولشهرة هذا الأسلوب نحَتَ له العلماء مصدرًا سمّوه بـ(الفنقُلة)، أي: اختصارًا لجملة: (فإن قلتَ..قلتُ)؛ كالحمدلة والبسملة وغيرهما، ولقد أكثر الزمخشري منها في تفسيره كثرةً بارزةً حتّى صارت طابعًا مميزًا لتفسيره[1]، يقول صبحي الصالح: «وخير مَن يمثِّل هذه النزعة العقلية في التفسير: الزمخشري -محمود بن عمر الملقب بجار الله، المتوفى سنة 538هـ- في كتابه (الكشّاف) الذي يمتاز بإيراد النكات البلاغية وتحقيق بعض وجوه الإعجاز، بطريق الفنقلة، أي: فإن قلتَ..قلتُ»[2]، وكذلك نصّ على هذه الظاهرة المميزة عند الزمخشري أحمد ياسوف بقوله: «ذلك المفسِّر الذي يكشف النقاب عن إيحاءات المفردة وظلالها النفسية... فيستخدم أسلوب الفنقلة على جاري عادته في تفسيره»[3].
والغرض من هذا الأسلوب التعليمي هو إثارة المتعلِّمين وتشويقهم إلى معرفة بعض النكات والفوائد، وتثبيتها في أذهانهم، فهي إجراءات عقلية مؤيدة بالأدّلة؛ ولذلك كثرت الافتراضاتُ العلميةُ خاصةً في الشروح، وقد انتشرت هذه الطريقة في كلّ المصنَّفات القديمة على تباين اتجاهاتها في العقيدة والفقه والنحو والتفسير وغيرها، وهي في كتب العربية بابٌ مهمّ من أبواب البحث، من لَدُن سيبويه (ت 180هـ)، الذي وظَّفها كثيرًا، من ذلك قوله: «فإِن قلتَ: ضربني زيدٌ وعمرًا مررت به. فالوجهُ النصبُ...، وإذا قلتَ: مررتُ بزيدٍ وعمرًا مررتُ به. نصبتَ وكان الوجهَ»[4].
وكما هو معلوم فقد شحن سيبويه (ت 180هـ) كتابه بأقوال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ)، وكان كثيرًا ما يصوغها بطريقة السؤال والجواب بينه وبين شيخه الخليل وفق نمط تعليمي، بقوله: «قلتُ: أرأيتَ قولهم: يا زيدُ الطويلَ. علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفة لمنصوب، وقال: وإن شئتَ كان نصبًا على أعني، فقلتُ: أرأيتَ الرفع على أيّ شيء هو إذا قال: يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفة لمرفوع، قلتُ: ألستَ قد زعمتَ أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلِمَ لا يكون كقوله: لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قِبَل أن كلّ اسم مفرد في النداء مرفوعٌ أبدًا»[5].
أهمية أسلوب الفنقلة عند الزمخشري:
لقد تكرّر توظيف الزمخشري لأسلوب الفنقلة في ألفين وخمسمائة (2500) موضع، من أوّل الكشاف إلى آخره، وفي تفسير كلّ سورة من سور القرآن، مما لا يدع مجالًا للشكّ في أهمية هذا الأسلوب عند الزمخشري، فقد كان لطريقة افتراض الأسئلة والأجوبة أعظم الأثر في إثارة القارئ وتشويقه إلى معرفة بعض النكات والفوائد، وتثبيتها في ذهنه؛ كما ظهرت أهميتها أيضًا في إتاحة الفرصة للزمخشري لولوج أبواب كثيرة وطرح قضايا متنوعة للنقاش، مما أسهم في إثراء تفسيره وجعل منه موسوعة تفسيرية حافلة بمواضيع شتى في اللغة والنحو والبلاغة والأدب والفقه والقراءات والاعتزال وغيرها.
كما تجلَّت أهمية أسلوب الفنقلة في خدمة الجدل العقلي الذي اشتهر به المعتزلة -والزمخشري من رؤوسهم- فقد كانوا أقوياء في الحجاج والمناظرة، ويُغلِقون على الخصم كلّ منافذ الردّ بتوقع أسئلته والجواب عنها قبل أن يطرحها، وبالتالي يقطعون حِجاجه قبل أن يمتد، ويئدونه قبل أن يولد، ولهذا كثر هذا الأسلوب في مؤلفات المعتزلة؛ (ككتُب القاضي عبد الجبار مثلًا).
تأصيل الزمخشري لأسلوب الفنقُلة:
إنّ الأهمية الكبيرة لأسلوب الفنقلة في عرض المسائل ومناقشتها سببٌ كافٍ لتفسير كثرتها في تفسير الزمخشري، غير أنّه ممّا يلفت الانتباه أنْ تجدَ الزمخشريَّ نفسَه يؤصِّل لأسلوب الفنقلة من القرآن الكريم، ويحتجّ له بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة: 142]، فالسؤال المفترض هو: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}، والجواب عليه: قل: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}.
وقد بيَّن الزمخشري وجه الاحتجاج بهذه الآية على طريقة الفنقلات بإيراد السؤال الآتي: «فإن قلتَ: أيّ فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ ثم أجاد في بيان النكتة قائلًا: قلتُ: فائدته أنّ مفاجأة المكروه أشدّ، والعلم به قبل وقوعه أبعدُ من الاضطراب إذا وقع لِمَا يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطعُ للخصم وأرَدُّ لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم»[6]. وهذا الجواب يؤكد ما ذكر آنفًا أنّ طريقة الفنقلة بتوقُّع سؤال الخصم والجواب عنه أقطع لحجته، وأدحض لشبهاته، ولقد استحسن ابن المنيّر (ت 683هـ) هذه النكتة من الزمخشري وقال بأنّها «نكتة بديعة وأحسن ما يستدل على صحتها بهذه الآية»[7].
أسلوب الفنقلة عند المفسرين قبل الزمخشري:
إنّ شهرة الزمخشري بأسلوب الفنقلة قد يوهم بأنّه أوّل من استعمل هذا الأسلوب، والواقع أنّ الزمخشري مسبوق إليه من كثير من المفسرين الذين وردَ هذا الأسلوب في كتبهم.
فإذا جئنا نتصفّح كتب التفسير، نجد أن ابن جرير الطبري (ت 310هـ) قد استعمل أسلوب (الفنقلة) كثيرًا في تفسيره، حيث يقول: «فإن قال قائل:... قيل له:...»، مثال ذلك: «فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمّى (قرآنًا) بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟ قيل: كما جاز أن يسمّى المكتوب (كتابًا)، بمعنى: كتاب الكاتب»[8].
فيكون بذلك أسبق من الزمخشري (ت 538هـ) في توظيف أسلوب (الفنقلة) في التفسير.
وكذلك أبو الحسن الرمّاني (ت 384هـ) الذي يعدُّ تفسيره من مصادر الكشاف، وهو مفقود ولم يوجد منه سوى تفسيره لجزء عمّ، إنْ صحّت نسبته إليه، وقد استعمل فيه طريقة (الفنقلة) في التفسير، ويظهر أنّ الزمخشري قد تأثّر كثيرًا به وباستخدامه لهذا الأسلوب في التفسير فنقل عنه الزمخشري فنقلات برمّتها؛ مثال ذلك ما أورده الرمّاني (ت 384هـ) في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]: «فإن قلتَ: فلِمَ قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، والقياس الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى؛ كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟ قلتُ: لما قال (الرحمن) فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه (الرحيم) كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف»[9].وهذا النصّ ذاته حرفيًّا في الكشاف[10].
ولقد ألمح ابن تغري بردي (ت 874هـ) إلى نقل الزمخشري عنه بقوله: «علىّ بن عيسى الرمّانيّ له كتاب التفسير الكبير، وهو كثير الفوائد إلا أنه صرّح فيه بالاعتزال؛ وسلَك الزمخشريّ سبيله وزاد عليه»[11].
فيحتمل أنّ الزمخشري قد استفاد من الرمّاني في المادة والمنهج وزاد عليه نكات كثيرة كما يستفاد ذلك من قول ابن تغري بردي المتقدّم، ولكنّ الزمخشري وسّع دائرة توظيف الفنقلات لتصير سمة مميزة لتفسيره.
وهناك احتمال قويّ أيضًا أرجِّحه على سائر الاحتمالات، وهو أنّ الزمخشري قد استفاد طريقة السؤال والجواب من القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت 415هـ)، حيث أكثر القاضي من استعمال أسلوب الافتراض أكثر من الزمخشري نفسه، ومع أنّي لم أقف على تفسيره، إلّا أنّ كتابَيه: (الأصول الخمسة - والمغني في أبواب العدل والتوحيد)، دليل واضح على سعة توظيف القاضي لهذا الأسلوب في كتاباته؛ فيعرض مسائل علم الكلام بقوله: فإن قيل:... قيل له:...[12].
وهنا يعرض سؤال مفاده: لماذا اشتهر الزمخشري بهذه الطريقة دون القاضي عبد الجبَّار؟
ولعلّ الجواب -والله أعلم- أنّ كتابي القاضي في علم الكلام على مذهب المعتزلة، أمّا في التفسير، فقد ضاعَت أكثر التفاسير الكاملة للمعتزلة[13]، ومن تفاسير المعتزلة الضائعة تفسير عبد الجبّار، كما أنّ شهرة الكشّاف البلاغية كَسَفَت جميع تفاسير المعتزلة التي قبله.
وكذلك سبَق الزمخشريَّ في توظيف أسلوب الفنقلات عبدُ القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، الذي كان يفترض أسئلة بقوله: «فإن قلتَ:...»، ويجيب عليها بقوله: «فإنّ... أو: فإنّه...».
وما دام احتمال استفادة الزمخشري من الجرجاني في التأصيل النظري لنظرية النظم قائمًا، فليس بعيدًا أن يستفيد هذه الطريقة منه أيضًا في مناقشة المسائل، غير أنّ الجرجاني لم يُكثر منها في كتبه إكثار الزمخشري في كشّافه، ممّا يجعل الزمخشري أشهر مَن استعملها بلا منازع.
ولهذا تأثَّر بالزمخشري مجموعةٌ من المفسّرين في توظيف هذه الطريقة التعليمية في إثارة المسائل العلمية ومناقشتها وعَرْض الأقوال والترجيح بينها، ومِن أشهرهم: الرازي (ت 606هـ)، والبيضاوي (ت 691هـ)، والنسفي (ت 710هـ)، وأبو حيان الأندلسي (ت 745هـ)، وابن جزيّ (ت 741هـ)، وكثيرًا ما ينقلون فنقلة الزمخشري بالسؤال والجواب حرفيًّا.
كما تأثّر أصحاب الحواشي على الكشاف بهذا الأسلوب، ولعلّ أشهر تلك الحواشي حاشية الطيبي (ت 743هـ)، الذي اتّبع في بحث القضايا ومناقشتها طريقة الزمخشري نفسه في افتراض الأسئلة والأجوبة، وهي طريقة شائقة، تحرِّك ذهن القارئ وتنشِّطه، وهو يعبّر عن ذلك بأنماط مختلفة؛ مثل: «فإن قلتَ: كذا...قلتُ: كذا...»، أو: «فإن قيل:... قلتُ:...»، أو: «فإن قيل:... يقال:...»، أو: «قيل: كذا... والجواب: كذا...»، أو: «فكأنّه لمّا قيل أو قالوا: كذا... فأجيب: كذا...»[14].
مجالات استخدام أسلوب الفنقلة عند الزمخشري:
لقد اعتمد الزمخشري على طريقة الفنقلات في طَرْق جوانب عديدة وعَرْض قضايا مختلفة يرمي إلى مناقشتها، كما سمحَت له بتوسيع معنى الآيات وإثراء تفسيره بمباحث مميزة في شتّى الفنون؛ من بلاغة ونحو وصرف ورسم وعقيدة وفقه وغيرها، ففي النحو، مثل: «فإن قلتَ: بِمَ تعلَّقَت الباء؟ قلتُ: بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ أو أتلو؛ لأن الذي يتلو التسمية مقروء»[15].
وفي الرسم مثل: «فإن قلتَ: فلِمَ حُذِفَت الألف في الخط وأُثبِـتَت في قوله: باسم ربك؟ قلتُ: قد اتّبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، وقالوا: طُوِّلَت الباء تعويضًا من طَرْحِ الألف»[16].
والصرف نحو: «فإن قلتَ: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلتُ: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدًا معنًى واحدٌ، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم: أله، إذا تحيَّر، ومن أخواته: دله وعله. ينتظمهما معنى التحيُّر والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذلك كثر الضلال، وفَشا الباطل، وقَلَّ النظر الصحيح»[17].
والأصوات نحو: «فإن قلتَ: هل تفخم لامه؟ قلتُ: نعم، قد ذكر الزجاج أن تفخيمها سُنّة، وعلى ذلك العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرًا عن كابر»[18].
والدلالة نحو: «فإن قلتَ: ما معنى المراءاة؟ قلتُ: هي مفاعلة من الإراءة؛ لأن المرائي يُرِي الناسَ عملَه، وهم يُرُونه الثناءَ عليه والإعجابَ به»[19].
وأمّا الافتراضات الخاصة بالبلاغة، فقد كانت الجانب البارز من الكشّاف، ولقد وظّف الزمخشري طريقة الفنقلات لتوسيع البحث في القضايا البلاغية الكاشفة عن سرّ النظم، يقول فضل حسن عباس: «طبّق الزمخشري نظرية عبد القاهر في الإعجاز، فليس معنى هذا أنّه مُزجى البضاعة، مكتسب الصناعة، بل كان تطبيق خبير ناقد، ليس كزًّا جاسيًا، ولا غليظًا جافيًا، وكانت له زيادات كثيرة يظهر فيها حذقه وبراعته، ويظهر كثير من هذا في أسلوب الفنقلة»[20].
اعتراض ابن المنيّر على استخدام الزمخشري لأسلوب الفنقلة:
لقد أثنى ابن المنيّر (ت 683هـ) في مواضع كثيرة على النكات الحسنة التي استنبطها الزمخشري، غير أنّه قد أنكر عليه في بعض المواطن كيفية صياغة الأسئلة، ورأى أنّ فيها أحيانًا قلّة أدب مع المولى -عزّ وجل-، من ذلك تفسير الزمخشري لقوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[آل عمران 117]، حيث أورد الزمخشري السؤال الآتي: «فإن قلتَ: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلَّة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضرَبته الصِّر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلًا بالريح؟»[21].
فردّ عليه ابن المنيّر مغلظًا عليه اللهجة ومشدّدًا عليه الوطأة ومصوِّبًا له في كيفية التساؤل بقوله: «أما إيراد السؤال فلا تُرتضى صيغته لِمَا فيها من حيف بالأدب؛ إذ جزم السائل المقدّر بأن كلام الله تعالى غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد عن كتاب الله تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة، لا بصيغة الاعتراض المحضة والعبارة الصحيحة أن يقال: فما وجه مطابقة الكلام للغرض؟ ولا ينبغي التساهل في ذلك، فإنّ أحدنا لو أورد سؤالًا على كلام إمامٍ معتبَرٍ بمرأى منه ومسمع، تحيّل في أنواع التلطف في إيراده وبَعُد عن أمثال هذه العبارة. ولعلّ الاعتراض على ذلك الإمام يكون واردًا لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب الله تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما يسأل عن كتاب الله تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد! وأن يتأدب في الإيراد!»[22].
وأحيانًا يصف ابن المنيّر أسئلة الزمخشري بالبرودة وقلَّة الجدوى، ومثال ذلك سؤال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة، ولم يكن كفرها متعجبًا منه وفجورها متعجب منه؟» قال أحمد بن المنيّر: «وما أورد عليه أبرد من هذا السؤال! كأنّ أحدًا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة، مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كلّ لبيب، والله الموفق»[23].
ومع هذه الاعتراضات اليسيرة من ابن المنيّر إلّا أنّه قد أثنى على ما استنبطته قريحة الزمخشري من نكات بلاغية مهّد لها بأسئلة تستفزّ ذهن القارئ لمعرفة أجوبتها، فيقع الجواب على نفس متشوِّفة عطشَى للمعرفة، فيرسخ ويقرّ في نفسه.
خاتمة:
مما سبق يتبيّن لنا كيف شكَّل أسلوب (الفنقلة) طابعًا ملحوظًا في الكشّاف مقارنةً بغيره من كتُب التفسير؛ فهذا الأسلوب، وإن كان معروفًا منذ القديم في الكتابات الشرعية واللغوية، إلّا أنّ الزمخشري توسّع في توظيفه بشكلٍ منقطعِ النظير، وجعله من الأسس التي أقام عليها الكشّاف. وقد رأينا أنّ فائدة أسلوب (الفنقلة) تتجلَّى في جانبين؛ جانب تعليمي: وذلك بافتراض أسئلة يحتاجها المتعلِّم بأسلوب مشوِّق لمعرفة الأجوبة، فتقع الفوائد على نفس متلهِّفة، ممّا يكون له عظيم الأثر في ترسيخ المعلومات في أذهان المتعلمين، وكذلك تظهر فائدة هذا الأسلوب التعليمية في توسيع دائرة التحليل ليشمل قضايا علمية متفرِّقة، وقد وظّف الزمخشري هذه الطريقة في إثراء معاني الآيات، واستطاع بفضلها أن يلج أبوابَ مختلفِ الفنون ويناقش مسائل هذا العلم تطبيقًا على الآيات القرآنية. وجانب جدلي حِجاجي: وذلك لأنّ المعتزلة -والزمخشري من رؤوسهم- كانوا مشهورين بقوَّتهم في الحِجَاج العقلي والمناظرة، وكانوا يُغلقون على الخصم كلّ منافذ الردّ بتوقُّع أسئلته والجواب عليها قبل أن يطرحها، وبالتالي يقطعون حِجاجه قبل أن يمتد، ويئدونه قبل أن يولد.
كما أنّ كثرة الفنقلات في الكشّاف (2500 فنقلة) يجعل منها ميدانًا خصبًا للدراسة، وقد دُرس ما تعلق منها بعلم المعاني، ويوصَى بدراسة النكات البلاغية الكامنة في فنقلات الزمخشري الخاصّة بعلم البيان في بحث أكاديمي، وهي كثيرة جدًّا وتضمُّ مادة بيانيَّة نافعة.
[1] أحصيتُ منها في (الكشّاف) ألفين وخمسمائة (2500) فنقلة، مما يجعل منها ميدانًا خصبًا للدّراسة، وقد جمعتُها وعرضتُ لبلاغتها بالشرح والتطبيق في أطروحتي للدكتوراه الموسومة بـ(افتراضات الزمخشري في الكشّاف - دراسة تطبيقية في علم المعاني)، بقسم اللغة العربية بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة - الجزائر.
[2] مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط24، 2000، ص294.
[3] جماليات المفردة القرآنية، أحمد ياسوف، دار المكتبي، دمشق، ط2، 1419هـ-1999م، ص260.
[4] الكتاب، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الملقب سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، ج1، ص92. وقد أحصيتُ منها أكثر من مائة موضع في الكتاب.
[5] الكتاب، مصدر سابق، ج2، ص183.
[6] الكشاف، مصدر سابق، ج1، ص198.
[7] حاشية ابن المنير الإسكندري المطبوعة على هامش الكشاف، مصدر سابق، ج1، ص198.
[8] يُنظر: جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 2000، ج1، ص97. وقد وردت في أكثر من ثلاثمائة موضع.
[9] تفسير جزء عمّ للرمّاني -مخطوط- ورقة 8 و9، نقلًا عن كتاب: منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه، مصطفى الصاوي الجويني، دار المعارف، مصر، ط2، ص86.
[10] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري جار الله، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407، ج1، ص286، ج1، ص8.
[11] يُنظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، دار الكتب، مصر، ج4، ص168.
[12] يُنظر: الأصول الخمسة، عبد الجبار بن أحمد الأسد أبادي، تحقيق: فيصل بدير عون، مطبوعات جامعة الكويت، 1998، ص66. المغني في أبواب العدل والتوحيد، عبد الجبار بن أحمد الأسد أبادي، تحقيق: محمود محمد سالم، د.ط.ت، ص13 ب.
[13] صدر حديثًا (موسوعة تفاسير المعتزلة)، جمعها الباحث: خضر محمد نبها، من كتب متفرقة، طبعتها دار الكتب العلمية، بيروت، ولم يتيسّر لي الاطلاع عليها.
[14] الإمام الطيبي وحاشيته على الكشاف -دراسة تحليلية-، جميل بني عطا، ص179، وهي رسالة علمية مطبوعة في مقدمة تحقيق الحاشية التي أشرفَت عليها جائزة دبي الدولية.
[15] الكشاف، مصدر سابق، ج1، ص2.
[16] المصدر نفسه، ج1، ص5.
[17] المصدر نفسه، ج1، ص6.
[18] المصدر نفسه، الصفحة ذاتها.
[19] المصدر نفسه، ج4، ص805.
[20] إعجاز القرآن المجيد، فضل حسن عبّاس، مراجعة وتعليق: سناء فضل عبّاس، دار النفائس، الأردن، ط1، 1437، 2016، ص277.
[21] الكشاف، مصدر سابق، ج1، ص405.
[22] المصدر نفسه، ج1، ص405.
[23] حاشية ابن المنير على الكشاف، مصدر سابق، ج3، ص220.
مواد تهمك
- ظاهرة الالتفات في كَشَّاف الزمخشري
- تعظيم القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ تأملات في لطائف كلام القرآن عن النبيّ وخطابه له
- التلقي النقدي لصناعة التفسير عند الفخر الرازي، مسوغات النقد ودوافعه
- نظرات في منهج الإمام الآلوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم
- رسالة في علوم القرآن لابن تيمية: عرض وتعريف
- مصادر الآلوسي في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم