القراءة المعاصرة للقرآن لمحمد شحرور (3-4)
في ماهية نصّ التنزيل الحكيم
تحديد وتصنيف

الكاتب : محمد كنفودي
يتناول هذا المقال الثالث ضمن سلسلة المقالات التعريفية التقويمية بالقراءة المعاصرة لمحمد شحرور: ماهية نصّ التنزيل الحكيم في منظور القراءة المعاصرة، والتي يؤسّسها شحرور عبر إعادة تعريف عدد من المفاهيم المركزية؛ مثل القرآن والنُّبُوة والرسالة والإمام المبين.

تسهيم:

  يقول محمد شحرور: «الكتاب بالنسبة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: هو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وحيًا على شكلِ آيات وسور، وهو ما بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وفيه النبوة والرسالة، وهو ما نُطْلِق عليه: التنزيل الحكيم»[1].

مقدمة:

  مدار الحديث في المقالة الثالثة من المقالات التي نتناول فيها القراءة المعاصرة لشحرور، النظر في ذاتية نصّ التنزيل الحكيم/ كتاب الله تعالى، من منظور القراءة المعاصرة. والسؤال الموضوع فيها هو: كيف يعرِّف محمد شحرور نصّ الوحي الخاتم المنزل على الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ وكيف يصنّف مساحاته؟ والإجابة عليه نسقيًّا تجيء وفق ما يأتي:

يطلق محمد شحرور على الوحي المنزل على الرسول -عليه الصلاة والسلام- والمدوَّن في المصحف الشريف اسم (كتاب الله تعالى)، أو (التنزيل الحكيم)، أو (الوحي المنزل)؛ بوصفه عبارة عن مجموعة من الكتب/ المواضيع المتلاحمة فيما بينها، والتي تشمل مختلف مجالات حياة الإنسان فرديًّا وجماعيًّا في مطلق الأزمان[2]. وبالتّبع، فقد قسّمه إلى موضوعين أو كتابين رئيسين هما: (كتاب الرسالة) و(كتاب النبوّة)، وهما ما سنعمل على بسط القول فيهما تعريفًا وتحديدًا.

يعدُّ كتابُ الله تعالى من منظور محمد شحرور مجموعة من المواضيع التي أُوحيت إلى محمد الرسول النبي -عليه السلام- على شكلِ آيات وسور، المجموعة ما بين دفتي المصحف الشريف. وقد جاء كتاب الله تعالى هدى للناس جميعًا[3]. وهذا التقسيم كما يؤكد محمد شحرور، هو ما نصّت عليه الآية السابعة من سورة آل عمران، حيث قسمت آيات التنزيل إلى (آيات أَحكام/ رسَالة)، و(آيَات نُبوّة/ قُرآن)[4].

القسم الأول: في مَاهية كتَاب/ آيات/ مَوضُوع الرسَالة:

1. تَعريف نُصُوص/ آيَات الرسَالة:

تعدُّ آيات (الرسالة/ الأحكام/ الألوهية/ التشريعات/ أُمّ الكتاب) مجموعة من الأوامر والنواهي التي ترسم للمؤمن طريق السلوك العملي إلى الله تعالى، لنَيل الاستقامة في الدنيا والفلاح والرضا الإلهي في الآخرة؛ بحيث إنها تبيِّن للإنسان ماذا يفعل وكيف يتّجه إلى فعل الخير، وماذا يجتنب وكيف يتقي فعل الشّر، باعتبار أنّ فعل الخير والشّر صفتان ذاتيّتان متضادتان مرتبطتان بفعل الإنساني الواعي، وإذا عُدّت من باب التشريعات التي هي مناط التكليف فإن التقيُّد بها على مستوى السلوك يعدُّ واجبًا دينيًّا تكليفيًّا اختياريًّا؛ لذا فإن (آيات الأحكام) هي رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام- التي جاءت مفرِّقة بين الحلال والحرام على مستوى قواعد السلوك الإنساني العملي الواعي، والتي من خلالها يتم تجسيد القضاء الإنساني الذاتي؛ بوصفه علاقة بين الإنسان والله تعالى، والإنسان وأخيه الإنسان في الوجود العيني، وهذا البُعد العلائقي أطلق عليه محمد شحرور «العقل الاتصالي»[5]. بناءً عليه؛ فإن كل أحكام الأفعال الواردة في نص التنزيل الحكيم، بقدر اندراجها ضمن مجال نصوص الرسالة، فهي مرتبطة أيضًا بالإنسان العاقل المختار بين الفعل وعدمه، حسب الشروط الموضوعية ووعيه الذاتي وإدراكه لشروطه الموضوعية، ومن الأمثلة الدالة على هذا الأمر قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة: 28]، ففعل القتل قضاء إنساني محض، ولا علاقة له بغيره أبدًا، كالقدر الإلهي المحتوم، أو القانون الكوني المُلزم، ونفس الأمر ينسحب على قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء: 23]، وقوله أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 130]، ونحو ذلك. والفهم الموضوعي والتنزيل الأسلم لنصوص الرسالة متوقف على حدٍّ أدنى كما يرى محمد شحرور، وهو تطوير البحث في مجال العلوم الشرعية والاجتماعية، وعموم ما يرتبط بالإنسان وأفعاله وعلاقاته[6].

2. خَصَائصُ آيَات الرسَالة:

ميّز متن محمد شحرور (آيات الرسالة) في مقابل (آيات النبوة) بعدّة خصائص محددة لماهيتها ومضامينها ومنهج دراستها، نذكر من بينها -على سبيل التمثيل لا الحصر- ما يأتي:

أ. الأمر بطاعة الرسول متعلق حصرًا بآيات الرسالة؛ بمعنى أنّ مفهومَيْ الطاعة والمعصية في علاقة المؤمن بما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الوحي المنزل منحصران في مشمولات آيات الرسالة لا غير، فهي وحدها التي تُطاع/ تُمتثَل، وتُعصَى/ تُخالَف. والطاعة في هذا السياق على نوعين: (طاعة متصلة)؛ عندما تلتحم طاعة الرسول بطاعة الله تعالى، كأنهما طاعة واحدة، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[النساء: 13]. وإمّا (طاعة منفصلة)؛ عندما تُفصَل طاعة الرسول عن طاعة الله تعالى، كأنهما طاعتان مختلفتان، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]، فطاعة الرسول في النوع الأول تكون مطلقة؛ سواء في حياته أو بعد مماته، أما طاعته في النوع الثاني فهي مقيّدة بحياته فقط[7].

ب. قابلية آيات الأحكام للتبديل والنسخ والزيادة والنقصان/ التحريف النصي والدلالي؛ بمعنى أنه بإمكان الإنسان المخاطب بها في مطلق الأزمنة أن يغيّر حقائقها ويحوّل مجراها، فيصير الحرام حلالًا والحلال حرامًا، فاحتاجت إلى حفظ ومراقبة وتصديق أيضًا، ولحفظها جاءت بين آيات القرآن/ النبوة، التي جاءت حاملة للوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فضلًا عن أن القرآن جاء مصدِّقًا لها، بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[المائدة: 48]، وقوله أيضًا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[آل عمران: 3][8]؛ ولكونها صالحة لكلّ زمكان فضلًا عن عالميتها، فقد جاءت حاملة لمبدأ الاجتهاد، والاجتهاد يقتضيه الأمر الآتي: إذا كانت آيات الأحكام المفرِّقة بين الحرام والحلال على مستوى السلوك محصورة مهما تعدَّدت كثرةً، فإنّ أفعال المكلَّفين ومستجداتهم متجددة دومًا لا تخضع لمبدأ الحصر، وهذا أمر مسلَّم به واقعًا؛ وكونها قابلة لمبدأ الاجتهاد فهو ليس على إطلاقه، بل إنّ الاجتهاد في آيات الرسالة يدور في فلَك ثلاث دوائر عامّة يقيد بها، وهي أن (آيات الرسالة حَدِّية/ حدودية)؛ وبوصفها كذلك، فبإمكان الاجتهاد الإنساني أن يستخلص منها ملايين الكتب في باب التشريع لمختلف مجالات الحياة في العالم كلّه، وهي أيضًا (حنيفية/ حركية المحتوى)؛ وبوصفها كذلك، فبإمكان الاجتهاد الإنساني أن يجد مختلف الأحكام لمختلف المستجدّات، وهي أيضًا (مستقيمَة/ ثبات النصّ)؛ وبوصفها كذلك، فهي تحدد للاجتهاد الإنساني إطارات للتحرك، ما دام أن الاجتهاد في هذا السياق رهين النصّ[9].

ج. لا إعجاز في آيات أُمّ الكتاب؛ بمعنى أنها ما دامت قابلة للتزوير والتغيير/ التحريف، والرفض/ المعصية، والامتثال/ الطاعة، فهي ليست معجزة؛ إِذِ النصّ المعجز هو الذي يتضمن ما لا يستطيع الإنسان التملُّص من تأثيراته القهرية، كمختلف قوانين آيات القرآن/ النبوة، مثل الموت كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]. أما الأمر بالوفاء بالعقود، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1]، والنهي عن أكل أموال الناس بالباطل، كما في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 188]، فهذه من آيات الأحكام، وعلاقة الإنسان بها ثُنائية لا أُحادية، وهو أمرٌ دالٌّ -كما يرى محمد شحرور- على عدم كونها معجزة، ليست بالنظر إلى إنّيتها؛ فهي لو تدبّرها العاقل لعلم أنها داعية إلى كلّ ما هو جميل/ مصلحة، مبعِدة عن كلّ ما هو قبيح/ مفسدة في مطلق الأزمنة، وهذا كما هو معروف يمثل إعجازًا بالتعالي والإطلاق، بل في علاقتها بالمكلَّف بها أمرًا ونهيًا، وتحليلًا وتحريمًا؛ إِذْ قانون التكليف أساسه ذلك[10].

3. مَشمُولات آيات الرسالة:

تضم آيات كتاب الرسالة -حسب تصنيف القراءة المعاصرة- مجموعة من المواضيع النصيّة، احتواها نصّ التنزيل الحكيم، وهي إجمالًا: (العبادات، الحدود، المحرّمات، الأخلاق، أحكام وتعليمات؛ إمّا ظرفية مرحلية، وإما خاصة بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، وإما عامة). وسيتم تفصيل بعضٍ منها على سبيل التمثيل وفق ما يأتي:

أ. آيات موضُوع الأخلَاق:

تمثل منظومة (القِيَم/ الصراط المستقيم/ الوصايا/ المواعظ/ الفرقان/ المثُل العليا)، الركن الأساس من أركان الإسلام، الذي سمّاه محمد شحرور بـ(الإحسان والعمل الصالح)[11] الذي تندرج تحته؛ ونظرًا لكون الإنسان مرتبطًا بالإنسان، فكذلك منظومة الأخلاق، فهي ذات ارتباط إنساني تجريدًا، وأيضًا ذات تراكم تاريخي تحديدًا، ابتدأَتْ بنوح -عليه السلام- واكتملَت بمحمد -عليه السلام-[12]. وكونها (إنسانية)فهي مما فطر الله -تعالى- عليه المخلوق الإنساني أزلًا وأبدًا، بغضّ النظر عن دينه أو مرحلته الزمكانية، فهي تعدُّ بالتبع قانونًا روحيًّا اجتماعيًّا يربط بين بني الإنسان؛ بالنظر إلى كونهم مجموعة متلاحمة، أو قل: متآخية، لا مجموعة حيوانية متنافرة، أو قل: متصارعة، بغضّ النظر عن البنية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية[13]، وبهذا الاعتبار فهي تحمل الصفة العالمية؛ نظرًا لارتباطها بالإنسان تجريدًا، وتحمل أيضًا صفة (الحاكمية الإلهية)؛ لكونها مرتبطة بالله تعالى وحده[14]. وما دام الإنسان ثُنائي النزوع، فإن منظومة الوصايا تمثل في الإنسان الجدلية القائمة بين نزعته الحيوانية (الحق الطبيعي)، ونزعته الإنسانية (القانون الطبيعي)، فيعمل بها المخلوق الإنساني قصد تحقيق إنسانيته قدر الإمكان الاجتهادي، في سُلَّم الارتقاء والوصول والخلاص معًا[15]. قسم محمد شحرور الفرقان/ الوصايا إلى قسمين:

القسم الأول: الفُرقان العامّ: وهو الذي يمثّل -حسب محمد شحرور- ما سمّاه بـ(التقوى الاجتماعية الإنسانية العامّة)[16]، أو قل: (العالمية المشتركة بين الأديان)، وخصوصًا المنزلة منها، فهي الصراط المستقيم بالنسبة لموسى، والحكمة بالنسبة لعيسى بن مريم -عليهما السلام-[17]. بناءً عليه؛ فهو الحدّ الأدنى من الأخلاق الملزِمة لمطلق الناس؛ لذا جاءت بصيغة النهي (لا) في سورة الأنعام [151-153]، وفي سورة الإسراء [29-37]، وقد جاء التأكيد عليها بعدة صيغ منها: صيغة التحريم: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}[الأنعام: 151]. وصيغة الوصية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}[الأنعام: 151]، فضلًا عن صيغة النهي. والتأكيد محمول على إبراز الأهمية، وعددها (عَشر)، ونورد وصية/ قيمة واحدة للحديث عنها بشكل تفصيلي، وهي: (وصية التوحيد وتحريم الشرك)، يقول تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[الأنعام: 151]، وفحواها: أشهد أن لا إله إلا الله، وتعدُّ رأس الإسلام، أو رأس العقيدة. وقد ورد التنصيص عليها تفصيلًا في العديد من نصوص التنزيل الحكيم؛ منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}[النساء: 116]، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر: 65]. والشِّركُ -حسب متن محمد شحرور- جَعْل شيءٍ ما نِدًّا لشيء آخر ومكافئًا له؛ سواء تعلق الأمر بدائرة الماديات أو الرمزيات، يقول تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 22]، وقوله أيضًا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام: 1]. والشرك المحرَّم على نوعين: (الشرك الظاهر/ الجلي)، أو (شرك الألوهية)، وهو تثبيت الأهواء والاعتقادات والتقاليد الجوفاء الباطلة، أو قل: الفاسدة؛ كعبادة الأصنام واتّباع الأهواء والاعتقاد بكون الأموات يصدر عنها ما ينفع ويضرّ، يقول تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر: 3]، وقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الجاثية: 23]، وقوله أيضًا: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف: 22]. والنوع الثاني: (الشرك الباطن/ الخفي)، أو (شرك الربوبية)، وهو تثبيت مظاهر الطبيعة وحركة التاريخ عند مرحلة معيّنة، والاعتقاد بثبات الأشياء والظواهر الطبيعية، يقول تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106]، وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي...}[الأنعام: 76-78]. وعليه؛ فإنّ عرب زمن النزول -حسب محمد شحرور- كانوا من المشركين ولم يكونوا من الكافرين، ما دام أن الشرك لسان حال وقناعة وطاعة، فقد أضْفَوا صفة الثبات على ما هو متحرك، أو قل: متغيّر دومًا، حسب أفق التفكير وقتئذ، ومرحلة التطور العقلي وصفته زمانئذ، ولم يأخذوا بعين الاعتبار ظاهرة التطوّر، أو كما نصّ محمد شحرور «التسبيح» أو «الجدل الداخلي»[18] الذي يعكس شكل الوجود المادي المتحرك، أو قل: المتطور دومًا؛ وكونهم كذلك، فقد تجلَّى النوع الأول من الشرك في الوثنية، والنوع الثاني في الثبات على الوضع القبلي والعشائري. وعليه؛ فإذا كان الشرك المحرَّم في علاقة الإنسان بما يحيط به قائم على إضفاء صفة الثبات على ما هو متحرك خِلقةً في الكون، فإنّ التوحيد قائم بدوره على التطوّر، ومراعاة قانون التغيُّر والصيرورة[19].

القسم الثاني: الفُرقان الخاصّ: فهو الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- وحده، وقد وردَ بصيغة خبرية في عدّة سور؛ كسورة الفرقان والحجرات وغيرهما، وعدَدُه ما يربو عن الخمسين، ويعدُّ -من منظور القراءة المعاصرة- تتميمًا وإضافة للفرقان العامّ، من باب الارتقاء والسمو بالإنسان في الرسالة الخاتمة إلى مرتبة (أئمة المتقين)، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الأنفال: 29]، وقوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان: 74][20]. ونورد وصية/ قيمة واحدة لبيانها بشكلٍ مفصَّلٍ، وهي المتضمنة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}[الفرقان: 73]؛ (النَّظرة الحَيّة في الآيات الكونية)، فهي قيمة تعكس حُسن منهج التعامل مع آيات الربوبية الرحمانية، المتجلِّية في مختلف الظواهر الطبيعية في الكون المنشور، ومن خلالها يتجلَّى ما سمّاه محمد شحرور بـ(جدل الأضداد)، المعبر عنه (بالآيات الرحمانية)؛ فسورة الجاثية -مثلًا- حدّد التنزيل الحكيم من خلالها ثلاثةَ مستويات: (مستوى عامًّا، ومستويَين خاصَّين) تعكس منهج تراتب التعامل مع الآيات الرحمانية، وهي: المستوى الأول العامّ: وهو عبارة عن الظواهر الطبيعية المبثوثة في الوجود المادي كلّه، المنظور وغير المنظور: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الجاثية: 3]، وتصديقها بعد النظر فيها، يعدّ من أركان الإيمان المعلل: {لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية: 3]. المستوى الثاني/ الخاص الأول: وهو عبارة عن ظواهر الحياة العضوية كالخلق والحياة والموت والبعث ونحوها: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}[الجاثية: 4]، وقد جعلها التنزيل الحكيم في مستوى يقيني؛ لكونها ألصق بالإنسان من غيرها: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية: 4]. المستوى الثالث/ الخاص الثاني: وهو عبارة عن ظواهر طبيعية غير عضوية، كالليل والنهار والأمطار والرياح ونحوها: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}[الجاثية: 5]، وقد جعلها الله تعالى في مستوى عقلي؛ لأنها قائمة على منطق المقدمات والنتائج، وبالإمكان تقليدها وإنْ على مستوى ضيِّق: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الجاثية: 5]، وكلّ ذلك من الظواهر الخِلقية، التي تعدّ من آيات الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية: 6]. فالويل لمن مرّ عليها مرور العميان، أو كذّب بها، أو جحدها، أو اتخذها هزؤًا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[الجاثية: 7-9][21]؛ لذا فإنّ الإيمان بالفرقان الخاصّ يسلِّم إلى الإيمان بالمادية والعلم والعقل، وإنّ فهم آيات الظواهر الطبيعية والاجتهاد المؤسسي المتواصل في ذلك يعدّ من أساسيات منهج التنزيل في الحياة، وهو لا يقل عن منهج: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان: 64]؛ ذلك أنّ التأكيد على الجانب المادي في النظرة إلى الكون وما يحتوي، جاء في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}[الفرقان: 63]. وعليه؛ فإن أئمة المتقين في الفرقان الخاصّ مؤمنون بالبينات المادية القائمة على العلم، بعيدًا عن كلّ ما له علاقة بالأوهام والخرافات ونحوها[22].

إذن؛ فكلّ مَنْ خالف بنود الفرقان بنوعيه، في أيّ قول أو فعل إنساني، عُدَّ -حسب تصوّر محمد شحرور- منسوخًا أو لا اعتبار له[23]، وإن مفهوم الكبيرة يتحدد بناءً على مخالفته، أو العمل بما يناقضه ولا يتجانس معه[24].

ب. آيات مَوضُوع التعليمات:

يندرج ضمن ما سمّاه محمد شحرور بـ«ما خوطب به محمد -عليه الصلاة والسلام- من تشريعات من مقام النبوة لا من مقام الرسالة»[25]، حسب ما ارتضاه من تقسيمات لنصّ التنزيل الحكيم -أضْرُب تشريعية عدّة، نذكر من بينها بندًا/ ضَربًا واحدًا، وهو:(الآيات التعليمية التي لا تشريع فيها)؛ إِذْ يتضمن التنزيل الحكيم العديد من الآيات التي تحتوي على ما هو تعليمي، لا علاقة له بما هو تشريعي، ونمثّل لذلك بالآية الآتية:

 يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب: 59]، فالآية بسياقها الخاصّ وفحواها العامّ تتناول (موضوع اللباس)، وهو سلوك تقتضيه (أنسنة الإنسان)، أو الحياة داخل النسيج الاجتماعي الإنساني، أو مستوى التطوّر الاقتصادي والتجاري والصناعي. واللباس كان مدار اهتمام الوجود الإنساني والوحي المنزل منذ آدم -عليه السلام-، وأصبح اليوم من أهم القضايا التي تعكس قيم المجتمعات الإنسانية وخُصُوصية الحضارات. ومحمد شحرور يرى -انطلاقًا من آية الأحزاب وآيات أخرى- وينصّ على أن أعراف شبه الجزيرة العربية زمن النزول قد كرّست على حساب أحكام التنزيل الحكيم؛ فآية الأحزاب ما دام أنها ابتدأت بـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، فهي بالتبع مجرد (تعليم لا تشريع فيها)، بناءً على التمييز الذي أقامه بين (مفهوم الرسول) و(مفهوم النبي)، في علاقتهما بمحمد -عليه الصلاة والسلام-؛ إِذْ من طبيعة التعليم أنه مرحليّ يعكس ما كان موجودًا زمن النزول، عكس طبيعة التشريع، وتبيّن آية الأحزاب -حسب (نظرية الحدود) لمحمد شحرور- (الحد الأعلى) للباس المرأة، وتعلِّم بالتبع المؤمنات اللباس الخارجي، وهو ما يسمى حسب الآية بـ(الجلباب)، وهو دالٌّ على ما يغطِّي الشيء ويغشاه ويُخمِّره. وبناءً عليه؛ فإنّ الواجب على المرأة أن تغطي من جسدها الأعضاء أو الأجزاء التي إنْ ظهرَت للغير تسببَت لها في (الأذى)، والأذى الذي شُرع اللباس من أجل تفاديه -حسب متن محمد شحرور- نوعان: أذًى طبيعي: مرَدُّه إلى المناخ الجغرافي العام وقتئذ، كدرجة الحرارة ونحوها. وأذًى اجتماعي: مردّه إلى ما هو سائد من أعراف وقِيَم اجتماعية؛ كالسخرية والهمز واللمز ونحو ذلك. والأذى الذي تتعرض له المرأة إنْ خالفت ما نصَّت عليه آية الأحزاب، من مراعاة الحدّ الأعلى للّباس (الجلباب)، هو عين عقوبتها لا أكثر. أما بيان (الحد الأدنى) للباس المرأة، فقد وردَ في سورة النور، يقول تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31]، فالآية إذًا تبين (الحد الأدنى) للباس المرأة، الذي يعد من الفرائض الملزِمة على المستوى العيني، ويتجلَّى في (حفظ الفرج) من نظر الغير، وبالأولى الزنى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، [المعارج: 29]؛ بحيث من الواجب إخفاؤه وستره، وهو الذي يعدّ من الزينة الخفية، المقصورة على (حفظ الجيوب). والجيوب تتحدّد -حسب محمد شحرور- بما بين الثديين وتحتهما وتحت الإبطين والإليتين. أمّا (الزينة الظاهرة) فهي ما أظهره الله تعالى بالخَلْق؛ كالرأس والوجه واليدين والرجلين، والتي لا حرمة ولا عيب في نظر الغير إليها. و(الزينة الخفية) المتمثلة في حفظ الفروج والجيوب إنْ نظر إليها مَن استثناهم الله في الآية عرضًا، لا يدرج ذلك ضمن دائرة الحلال والحرام، بل ضمن دائرة العيب والحياء[26].

القسم الثاني: في ماهيّة كتاب/موضوع النّبُوّة:

1. تعريف آيات/ نصوص النّبُوّة:

تُعدّ آيات النبوة/ الحقائق/ الأخبار/ العُلوم، الجزء الأكبر من نصّ الوحي، والتي بها سُمي محمد -عليه الصلاة والسلام- (نبيًّا)، وهي عبارة عن: «مجموعة من النصوص الحاملة لنواميس الكون وحقائقه وقوانينه»، ليس من باب البحث العلمي الإنساني، بل بما يوحي من «دلائل دالّة على وحدانية الخالق -سبحانه- في عالمي الخلق والأمر»: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف: 54]، وكذا بيان (قوانين التاريخ الإنساني) بما فيه من أحداث الرسالات والنبوات، ليس عن طريق السّرْد التاريخي، بل بالتركيز على مواطن العِبر والمعاني والقِيَم؛ بمعنى أنّ (آيات النبوة) تخبر عن مطلق قوانين الوجود الموضوعي في علاقته بما كان كيف كان، وبما سيكون كيف يكون، على مستوى التاريخ الإنساني، ونفس الأمر ينسحب على المستوى الكوني، كلّ ذلك في علاقته بمطلق الإنسان، بغضِّ النظر عن البُعد الزمكاني والبُعد الانتمائي الديني أو اللغوي أو الثقافي أو الحضاري ونحو ذلك[27].

تُعتبر (آيات النبوة) على العموم (نُصُوص عُلُوم)، تعكس ثلاثة مجالات: مجال علم نواميس الكون وقوانين الوجود الخِلقي، مجال علم غيب التاريخ الماضي والمستقبلي والقوانين الحاكمة له، مجال علم التوحيد الدّال على وحدانية الخالق سبحانه. ومن هذا المنظور فهي تعكس (قانون التطوّر)، أو القفزات النوعية باعتبار سير الزمن إلى الإمام، أو قل:(تراكُم المعلومات) من مستوى أَدْنى إلى مستوى أعلى منه؛ كالتعليم بالمشخص، أو بالملاحظة، أو بالمجرَّد ونحو ذلك[28].

تَرِدُ (آيات النبوة) في نصّ الوحي المنزل موصوفة بمحددات عامّة، نحو:(بصائر)، (حقّ). يقول تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية: 20]، وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الدخان: 38، 39]. وقوله أيضًا: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 203]، وأوصافها تلك جاءت في سياق بيان أنها خارجة عن الوعي الإنساني؛ بمعنى أنها وُجدت قبل المُهتدِّي بها؛ إِذْ إنّ قوانين الخَلق والوجود مستقلّة عن الإنسان وجودًا وتصرفًا، ولفقهها حقّ الفقه أكّد محمد شحرور على ضرورة إرساء وتطوير ما سماه بـ(العلوم الاجتماعية والتاريخية والأنثروبولوجية وعموم علوم الإنسان والاجتماع والكون)، وإلا بقيت معرفتنا، أو قل: عِلمنا، محتفًّا بالأوهام والخرافات، أو قل: بالأساطير[29].

يتضمن نصّ الوحي المنزّل العديد من الآيات الدّالة على موضوع النبوة، منها قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}[الحج: 45]، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء: 33]، وقوله أيضًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء: 22][30]؛ فالآية الأولى تبيِّن قانونًا من القوانين الربانية لإهلاك الأمم، وهو أن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران الإنساني: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[النمل: 52]، وهو قانون سارٍ على مطلق الأمم والحضارات والدول والشعوب، بغضّ النظر عن مطلق العَرَضيات. وأمّا الآية الثانية فتبيِّن قانونًا من قوانين الخَلق الإلهي، وهو أنّ كلّ مخلوق متحرِّك، أو قل: متغيِّر ومتحوِّل:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 37-40]. وأمّا الآية الثالثة فتبيِّن دليلًا يستلزم توحيد الله والإيمان به، وعدم الكفر أو الشرك به، وهو أنّ وحدة الخلق دليلٌ على وحدة الخالق سبحانه، والنظام دليلٌ على التقدير المحكم: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}[الصافات: 4، 5].

2. خَصائص آيات النّبُوّة:

 أ. نُصوص النّبُوة ومدْلُولاتُها قابلَة للتصديق والتكذيب في عَلاقتها بنَظر الإنسان، لا بالنظر إلى إنّيتها؛ ما دام أنها وردت في سياق التمييز بين (الحقّ والباطل في الوجود الموضوعي)، ولا يتحقق إدْراك التمييز وعقْلَنَتُهُ إلا بالارتقاء بوسائل البحث العلمي والنظر التأويلي[31]؛ ذلك أنّ أيّ نَصٍّ من نصوص (كتاب النّبُوة) المتعلّق بالخَلق الرباني أو التاريخ الإنساني، الذي يعكس الوجود ككينونات مستقلّة ذاتيًّا، إلا وتجده حاملًا لما لا يحصى من القِيَم والمعاني، أو قل: من الإشارات العلمية المبثوثة في الخلق/ كلمات الله تعالى. تأمل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات: 47]. وقوله سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل: 88]. وما لا يُعدّ أيضًا من العِبر والدلالات، أو قل: من السّنَن التاريخية المكتنزة في التاريخ الإنساني/ أيام الله، تأمل قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}[إبراهيم: 45]، وقوله سبحانه: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[النمل: 52]. وكلّ ذلك، سيق مساق الصالح الإنساني المستخلف ومملكته، ما استقام النظر، وتجرَّد التأويل، وتجسَّد المعتبر. وبناءً عليه؛ فإنّ التصديق الإنساني محمول على الاعتراف بصدق خبر النصّ استدلالًا، والسعي من ثمة إلى اكتشاف وبناء النظريات العلمية/ الخِلقية، والسّنن/ القوانين التاريخية، أمّا التكْذِيب فمحمولٌ على الإنكار والكفر بالفاعل الأول سبحانه، لا إنكار الخلق والحدث في حدّ ذاتهما، إِذْ ذلك وجودٌ وواقعٌ، وهما لا ينكران، وتجده ينسب كلّ ذلك إلى فواعل أخرى حسب هواه، وصدق الله تعالى حين قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص: 50]، وقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 23]. وعليه؛ فالمصدِّق مثبِتٌ، والمكذِّب نافٍ.

 ب. نُصُوص النبُوة ومَدلولاتها مُؤطَّرة بخصيصة (التشابُه)؛ والمقصود بها: أنّ مجمل الحقائق الغيبية خارجة عن الوعي الإنساني وقت نزول كتاب الله تعالى، القائمة على بيان الكونيات والإنسانيات كما هي[32]، يقول تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[آل عمران: 44]، وقوله سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ}[هود: 49]. وقوله أيضًا: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[يوسف: 102]؛ بمعنى: لولا إخبار الله تعالى بها الإنسان، لَما كان له علمٌ حقيقي موضوعي بها، وكونها من المتشابهات كما نصّ الله تعالى في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}[الزمر: 23]، فهي تدور في فلَك ما سمّاه محمد شحرور بـ(ثبات النصّ وحركة المحتوى)[33]؛ بمعنى: أنّ أيّ جيل من أجيال التلقِّي المتتالية، في مطلق أزمنة التأويل، بإمكانه أنْ يُعيد قراءتها وتأويلها، حسب الأرضية المعرفية والعلمية السائدة في عصره، فيتحرك، أو قل: يتجدد ويتكوثر المعنى باستمرار.

 ج. نُصُوص النّبُوة ودلالاتها سيقَت مَساق تَحقيق مَقصد الإيمان والهداية؛ بمعنى أن نصّ الوحي المنزل إذا كان (كينونة في ذاته ومكتفيًا بذاته)، فقد تضمن كلّ ما من شأنه الدلالة على تحقيق أمر الهداية والإيمان[34]، على النقيض من الكتب المنزلة السابقة، الذي كان مصدر أدلتها ما هو خارجي عنها، إنّ الناظر في (آيات كتاب النبوة) يلمس أنها سيقت من أجل ذلك بالمعنى الواسع. تأمّل النصوص الآتية: يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم: 20-24]. وقوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103]. وعليه؛ فإن وحي النّبُوة المنزل يطفح بكلّ ما من شأنه اتخاذه أمارة أو منارة للإيمان والعلم والهداية؛ سواء تعلق الأمر بالكونيات أو الإنسانيات أو التاريخيات.

3. مشمولات آيات كتاب النّبُوة:

تشمل (آيات كتاب النّبُوة) في نصّ التنزيل جملة مواضيع عامّة، يمكن إجمالها في المواضيع الآتية بالنظر إلى نوع وطبيعة الآيات: (الآيات المتشابهات) التي تضم (آيات السبع المثاني) و(آيات القرآن). والقرآن بدوره يحتوش (آيات القصص)، فضلًا عن (آيات الأمثال). و(الآيات اللّامُحْكَمات واللّامُتَشابهات) والتي تضم (آيات تفصيل الكتاب). ونفصل القول على سبيل التمثيل في النوع الآتي:

مَوضُوع الآيَات المُتَشابِهات: يضم هذا النوع:

أ. آيَات القُرآن:

يعدُّ (القرآن) مجموعة من نصوص الوحي المنزل، المتضمنة للقوانين الناظمة والصارمة المتحكمة في الوجود الموضوعي بنوعيه: الظواهر الطبيعية/ الكونية؛ كالنجوم والكواكب ونحو ذلك. والأحداث الإنسانية/ التاريخية؛ كنشوء الأمم وهلاكها وعموم أنباء الأمم الخالية. وكذا غيب المستقبل؛ كقيام الساعة والنفخ والجنة والنار ونحو ذلك؛ لذا فإنّ (آيات القرآن) من هذه الزاوية، تعدُّ منظومة حقائق مطلقة موضوعية خارجة عن الوعي الإنساني[35]؛ (فالموت) مثلًا يُعتبر حقًّا وجوديًّا مطلقًا حتميًّا موضوعيًّا، ولا يُعقَل أن يقال في شأنه حرامٌ أو حلالٌ، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}[آل عمران: 145]، فالنصّ من النصوص المتشابهة/ القرآن، لا من المحكَمات؛ لكونه لم يتضمن أيّ أمرٍ أو نهيٍ، ونَفْس الأمر يسري على قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء: 16]، عكس قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90]، فهو نصّ من النصوص المحكمة/ الرسالة؛ لكونه يتضمن أمرًا ونهيًا. وقِس على ذلك ما شابَه وناظَر[36].

سمي القرآن قرآنًا -حسب محمد شحرور-؛ لأنه قد قَرَنَ بين (قوانين اللوح المحفوظ)، و(قوانين الإمام المبين)، ما دام أنه يتضمنهما معًا. و(اللوح المحفوظ) عبارة عن برنامج القوانين الصارمة الناظمة والمتحكمة في الكون؛ حيث إنها لا تتغير أو تتحول من أجلِ أحدٍ؛ سواء عن طريق الدعاء أو غيره. أما (الإمام المبين)، فهو عبارة عن أرشيف الأحداث التاريخية والإنسانية، الفردية والجماعية، المحفوظة بعناية، وقد تمّت أرشفتها بعد حدوثها وتحوّلها إلى واقع موضوعي قائم، ومنه جاء الكتاب المبين، الذي يتجلى في (القصص القرآني)[37]. تأمل النصوص الآتية: يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْييِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس: 12]، وقوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 17-22]. وقوله أيضًا: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف: 1-3].

يضمّ القرآن بدوره نوعين من الآيات:

النوع الأول: الآيات المُغلَقة: وهي جملة نصوص سِيقت مَساق العلم والقراءة والتأويل، أو الإيمان والهداية، وليست مناط الدعاء أو التدخل والتصرف الإنساني؛ فتمثل بالتبع الجزء الثابت من القرآن، الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل من أجلِ أحدٍ؛ إِذْ هو قوانين عامّة مطّردة صارمة[38]. ومما يدلّ على ذلك: يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 30-34]، وقوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء: 58]، وقوله أيضًا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}[الحج: 48].

النوع الثاني: الآيات المفتوحة: وهي مجموعة آيات قابلة للتدخّل والتصرّف الإنساني؛ بوصفها مناط الدعاء والمعرفة الإنسانية، وتمثِّل الجزء المتغيِّر من القرآن، الذي تتحرك الإرادة الإلهية الظرفية/ الحادثة في إطاره، إلا أنه محكوم بالجزء الثابت المستقر[39]. ومما يدلّ على ذلك: يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}[فاطر: 9]، وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[فاطر: 11]، وقوله أيضًا: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 43-44].

يندرج ضمن (آيات القرآن) صنفان من الآيات هما: (آيات القصص)، وهي التي يتم الحديث عنها في المقالة الرابعة، و(آيات الأمثال).

وردت (آيات الأمثال) ضمن (آيات النبوة/ القرآن)، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء: 89]، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}[الكهف: 54]؛ وتُساق (آيات الأمثال) قَصْدَ أن يؤسِّس التأويل الإنساني من خلالها قوانين موضوعية مجرَّدة حاكمة للمجتمعات الإنسانية وعمرانها، بغضّ النظر عن زمكانها، أو نسبة التطوّر العلمي والمعرفي الحاصل لديها؛ بمعنى أنها صالحة للاستلهام دومًا، ما دام أنها في فَلَكِ القوانين المتعالية دائرة؛ سواء بالوجود الإنساني الفردي أو الجمعي[40]. وهذا ما يعزّز تصوّر محمد شحرور القائل بأن (الأمثال القرآنية) فضلًا عن (القصص القرآني)، جاءت لمطلق الناس هُدًى[41]، يقول تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}[النور: 35]، وقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43]، وقوله أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]، فمثلًا قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل: 112]؛ ينصّ (المثَل القرآني) على القانون الآتي: إنّ أيّ مجتمع إنساني مستقرّ -والكفر يستلزم الوعي والحرية لتأسيس موقف- استحقّ عقابًا ربانيًّا ملموسًا -لباس الجوع والخوف- كان ذلك بسبب صنع الإنسان. والصنع حسب محمد شحرور (نتاج العمل)[42].

ب. آيات السّبْع المثاني:

أوتي النبي -عليه الصلاة والسلام- (السبع المثاني)، يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر: 87]، والمقصود بها -حسب محمد شحرور- جملة مقاطع صوتية/ سبع آيات وردت في فواتح عدّة سور متألِّفة من أحد عشر، أو أربعة عشر مقطعًا/ حرفًا صوتيًّا، مثل: (ألم، طسم، حم عسق). وبالتبع، فهي صُلْب (الآيات المتشابهات)، التي تعدُّ القاسم المشترك في الكلام الإنساني؛ بمعنى أنها غير عربية، ولا تنطبق عليها أيّ صفة من صفات الكلام الإنساني[43]، وقد أشار إليها -عليه الصلاة والسلام- بقوله: «أُعطِيتُ جوامع الكلم». وقد وردَ وصفها في نصّ الوحي المنزل بكونها هي (أحسن الحديث)، كما في قوله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}[الزمر: 23]. و(آيات السبع المثاني) كما يؤكد محمد شحرور، بها وقَع وتحقَّق التحدي والإعجاز لمطلق الناس في مطلق الزمان، ما دام أنّ تأويلها والنظر فيها ليس وقفًا على زمن دون آخر، بل هو تابع لشتَّى الأرضيات المعرفية، أما القول بأنّ عِلمها وَقْفٌ على الله وحده دون سواه، فليس عند محمد شحرور بشيء[44].

خاتمة:

في هذه المقالة حاولنا بيان ماهية نصّ التنزيل الحكيم وكيفية تصنيف مساحاته في منظور القراءة المعاصرة لشحرور، وكيف قام شحرور -ورغبةً في هذا التحديد والتصنيف- بإعادة تعريف جملة المفاهيم المتصلة بالنصّ، مثل مفاهيم: الإمام المبين، الكتاب، القرآن، الفرقان، الرسالة، النبوة، المتشابه، المحكَم، أُمّ الكتاب، السّبع المثاني، تفصيل الكتاب، الإسلام، الإيمان، الإحسان، العمل الصالح، الفرقان، الإنزال، التنزيل، الجعل ونحو ذلك.

ومن المهمّ لفت النظر في هذه الخاتمة إلى أن شحرور في اشتغاله على هذا التحديد لماهية النصّ:

1. لم يتطرق إلى مسألة نصّ الوحي المنزل كتابةً وتدوينًا، تأصيلًا أو نقدًا، كما وقف غيره من الباحثين وأطالوا؛ لأنه ينطلق من أنّ الوحي المنزل على محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي أراد الله تعالى له أن يكون عالَميًّا إنسانيًّا خاتمًا ورحمةً، لا يكون إلا محفوظًا، بغضّ النظر عن كلية الاختلافات حول مشكلة تدوينه، وما قيل في شأنها قديمًا وحديثًا.

2. لم يتوقف عند التفريق الذي أضحى مسلَّمًا به في موضوع إعادة قراءة النصّ الديني/ التنزيل الحكيم، أقصد التفريق بين مفهوم (الخطاب) و(النصّ) كما وقف غيره وأطال؛ لأنه ينطلق من أنّ الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فرادته وخصوصيته تجعله ينماز عن كليّة ما كان سائدًا؛ سواء في زمن النزول، أو في أيّ زمن من أزمنة التأويل المتعاقبة.

3. يتعامل مع نصّ التنزيل الحكيم من باب أنه أُنزل الآن وما زال غضًّا طريًّا أو أرضًا بِكرًا، بغضّ النظر عن مسيرته وما قيل فيها من تفسيرات وتأصيلات وتقعيدات، وإنْ توقَّفَ عند بعضٍ منها فمِن أجلِ النقد والهدم، المفضِي إلى التجاوز والقطع ليس إلَّا، حتى ولو كان مصدرها ما قاله الرسول -عليه الصلاة والسلام- والصحابة -رضي الله عنهم-، أو ما كان محلّ إجماع في تاريخ اجتهاد الفكر الإسلامي.

 

[1] تجفيف منابع الإرهاب، ص45.

[2] الكتاب والقرآن، ص51-54.

[3] خصوصًا ما تعلق بـ(آيات النبوة/ القرآن). قابل بين آية [البقرة: 2] وأيضًا آية [البقرة: 185]، نفسه. تجفيف منابع الإرهاب، ص45.  

[4] تجفيف منابع الإرهاب، ص36، والقصص القرآني، ج1، ص21.

[5] الكتاب والقرآن، ص54، والسنة الرسولية والسنة النبوية، ص290، والدولة والمجتمع، ص183-185. والقصص القرآني، ج2، ص237. المقصود بـ(العقل الاتصالي)؛ كون آيات الرسالة من التنزيل الحكيم تضع أسس علاقة صلة الإنسان مع الله تعالى، وكذا صلة الإنسان مع أخيه الإنسان، فضلًا عن أسس التشريع في الحدود. الكتاب والقرآن، ص445.

[6] الكتاب والقرآن، ص412-433.

[7] الكتاب والقرآن، ص550-554. إن التمييز الذي بناه محمد شحرور قصد من خلاله أن العديد مما صدر عن الرسول يدرج ضمن ما هو تاريخاني مرحلي متحيز، غير مفارق متعالٍ؛ إِذْ كُلّ شيء قاله النبي -عليه السلام- في أمور لم يرد ذكرها في الكتاب بتاتًا، وقال فيها: هذا ممنوع وهذا مسموح؛ فمعناها أنها أحكام مرحلية وحدود مرحلية لا علاقة لها بحدود الله المطلقة؛ بمعنى أنها «اجتهادات ضمن السياق الموضوعي وقتئذ». نفسه، ص552، 553.

[8] الدولة والمجتمع، ص184.

[9] تجفيف منابع الإرهاب، ص37، 38. ينص محمد شحرور على ضرورة فقه العلاقة الجدليةبين بنية المجتمع أو الدولة والتشريعات الحنيفية. الدولة والمجتمع، ص179، 187 وما بعدها.

[10] الكتاب والقرآن، ص116.

[11] الإسلام والإيمان، ص60.

[12] نفسه، ص114.

[13] الإسلام والإيمان، ص68.

[14] نفسه. الدين والسلطة، ص256.

[15] الدين والسلطة، ص256.

[16] الكتاب والقرآن، ص492.

[17] الكتاب والقرآن، ص492.

[18] الكتاب والقرآن، ص493، 501. والإسلام والإيمان، ص61، 93.

[19] الكتاب والقرآن، ص494-496.

[20] الإسلام والإيمان، ص65 وما بعدها، والكتاب والقرآن، ص523.

[21] الكتاب والقرآن، ص337-339.

[22] الكتاب والقرآن، ص525، 526.

[23] الإسلام والإيمان، ص126. النسخ -من منظور محمد شحرور- لا يكون إلا بين التنزيل الحكيم، وما خالفه من الكتب المنزلة، في الأحكام والتصورات، ولا يكون ألبتة بين آيات نصّ التنزيل الحكيم. الدولة والمجتمع، ص271 وما بعدها.

[24] الإسلام والإيمان، ص126.

[25] الكتاب والقرآن، ص531.

[26] الكتاب والقرآن، ص604، 623. ونحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص47.

[27] الكتاب والقرآن، ص37، 54، 138، 191، 325، وتجفيف منابع الإرهاب، ص37، والدين والسلطة، ص290.

[28] القصص القرآني، ج2، ص79، 237، والدولة والمجتمع، ص285.

[29] الكتاب والقرآن، ص55، 90.

[30] الدولة والمجتمع، ص112، 213، 242.

[31] تجفيف منابع الإرهاب، ص37، 46، 262، والكتاب والقرآن، ص55، 90، 123.

[32] تجفيف منابع الإرهاب، ص45، والكتاب والقرآن، ص104.

[33] تجفيف منابع الإرهاب، ص37، والكتاب والقرآن، ص60.

[34] الدين والسلطة، ص291، والدولة والمجتمع، ص30، 35.

[35] الدولة والمجتمع، ص211، 242، وتجفيف منابع الإرهاب، ص45، 47، والكتاب والقرآن، ص103، 105، 131، 214.

[36] انظر: شفاء العليل، ابن القيم، ص389 وما بعدها.

[37] الدولة والمجتمع، ص211، 242، وتجفيف منابع الإرهاب، ص47، 48، والكتاب والقرآن، ص213، والدين والسلطة، ص290، 317.

[38] الكتاب والقرآن، ص81، والدين والسلطة، ص291.

[39] الدين والسلطة، ص291، والدولة والمجتمع، ص213، 242.

[40] الكتاب والقرآن، ص424.

[41] الكتاب والقرآن، ص38، 103. تأمل قوله تعالى [البقرة: 185].

[42] الكتاب والقرآن، ص423.

[43] تجفيف منابع الإرهاب، ص45.

[44] الكتاب والقرآن، ص213، 214. الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، حديث رقم (7273)، بصيغة: «بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصِرتُ بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتُني أُتِيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فوُضِعَت في يدي». وقد حمل محمد شحرور معنى (السبع المثاني) على السماوات السبع والأرضين السبع. الدين والسلطة، ص87.

الكاتب

محمد كنفودي

باحث مغربي حاصلٌ على إجازة في الدراسات الإسلامية، درجة الماجستير في فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وله عدد من المؤلفات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات ومراكز بحثية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))