دراسة لمخطوط مصحف مكتبة بلدية إستانبول رقم (04)

للقرآن الكريم عدد كبير من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرف بأحد المخطوطات المحفوظة بمكتبة بلدية إستانبول، مكتوب عام 1024هـ، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بالنسخة.

  لقد اعتنى النُّسّاخُ قديمًا بإخراج نُسخٍ كثيرةٍ للمصحفِ الشريفِ، وتناولَتْها أيديهم بجمال الفنِّ وذَوق الرُّوح، تَبُثُّ أقلامُهم فيها سيرة محبَّتهم، وتُجهِر دواتُهم بها آلاءَ معرفتهم، حتى فاضَت المكتبات بمخطوطاتهم تنشُر هذا العَبق في الأمصار والأقطار، فانتهَتْ إلينا محفوظةً بعناية الرحمن، وسنتعرَّض في هذه المقالة المختصرة إلى أحدها من جانبَين:

الجانب المادي:

1) بيانات الحفظ والكتابة.

2) التَّذهيب والزَّخرفة.

3) النَّاسخ وتاريخ النَّسخ.

4) حالة النُّسخة.

الجانب العلمي:

1) الفوائد والزوائد على النُّسخة.

2) أعداد آياتها وأسماء السّور المختلف فيها.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والكتابة:

من بين هذه النُّسخ المتوزّعة على مكتبات العالم نسخةٌ شريفةٌ محفوظةٌ بمكتبة بلديَّة إستانبول تحت رقم حفظ (04)، تقع في اثنتين وأربعمائة ورقة متسلسلة متَّصلة بتعقيبة أسفل كلِّ ورقة منها في أحدَ عشرَ سطرًا للصفحة الواحدة، بخطِّ نسخٍ مجوَّدٍ تامِّ الوضوح، استقرَّت فيه علامات الضّبط والإعجام، مُلتزَمٌ فيها بالرسم العثماني، مع علامات الوقف والابتداء.

2- التَّذهيب والزَّخرفة:

في الورقة الأولى كما في كلّ مصحفٍ، ابتدَأ بسورة الفاتحة وأوائل البقرة، كُتِب بأعلَى الآيات وأسفلها اسمُ السورة وعددُ آياتها بخطِّ ثُلثٍ جليٍّ واضح بلونٍ أبيض على أرضية ذهبيَّة يحيطها إطارٌ مُقَوْلَب، تتشكَّل بعدها أزهار حمراء وبيضاء على أرضية زرقاء مجنَّحة بإطارَين ذهبيَّين، داخل كتيبة مؤطَّرة بالحُمرة والذّهب، وقد زُيِّنت هذه الورقة بزخرفة منتشرة عليها، تتعانق الصَّنعة الهندسيَّة برسم القِباب المُنحنية مع الأشكال النباتيَّة البديعة برَسم الزَّهر داخلها وعلى أطرافها، بحدود خضراء، يُزركِش اللوحةَ اللونُ الأزرقُ والأحمرُ، متداخلًا بالذهبيّ المُضيء.

وأُطِّرَت جميعُ الأوراق بإطارات ذهبيَّة، ثم كُتِبَت فواتحُ السور داخل كَتيبات ذهبيَّة ملوَّنة بالزُّرقة والحُمرة والخُضرة مختلفة الشَّكل والصورة، بخطِّ ثلثٍ أبيض واحد، برسمات بديعيَّة متنوعة، وانتهَت رؤوسُ الآيات بدوائر مذهَّبة مضيئة.

 

وفي طُرَر أوراقها رُسِمَت الأجزاءُ والأحزابُ وأنصافُها والخُمُوسُ والعُشُورُ والسّجداتُ، بأشكالٍ مختلفة وألوان متعدِّدة، على هيئة شُموسٍ مُصغَّرة وأوراق نباتية مذهَّبة مُذيَّلة، كُتِب فيها البيانُ بالأبيض.

 

ثم اختُتِمَت بسورة الناس على شَكْلِ حَرد مَتنٍ من أعلَى الورقة المؤطَّرَة، يُحيطُه رسمٌ مُزيَّن بالورود المشجَّرة، ملوَّنٌ بالذهب ليُغَطِّي فراغَ بياض الورقة.

 

3- الناسخ وتاريخ النّسخ:

وكانت من حظِّ خطِّ محمد بن سليمان بن عبد الله، وكان تمامُها من يدِهِ ورفعُ القلم عنها أواسط شعبان بعد أربعة وعشرين عامًا من الألفية الثانية للهجرة المصطفوية.

 

4- حالة النُّسخة:

ولقد أُصيبَت بعضُ أوراق هذه النسخة الجليلة ببعض آثار الرُّطوبة والبَلل التي لم تُظْهِر ضَررًا على الحِبْر أو الورق، وأصيبت بنقصٍ من الورقة [219/أ] إلى الورقة [222/ب] من أواخر {طه} إلى الآية (26) من سورة {الأنبياء}.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- الفوائد والزَّوائد على النُّسخة:

في آخر أربع ورقاتٍ دعاءٌ بختم القرآن بنَفْس الخط والترتيب والرسم، ثم استأنف بالتُّركيَّة حديثَه عن كيفيَّة التفاؤل بالقرآن وكيفيَّة استخراج ذلك من المصحف الشريف في ثلاث أوراق. 

2- أعداد آياتها وأسماء السّور المختلف فيها:

اتَّفقت من أولها إلى سورة {التوبة} في أعداد آياتها مع قول الكوفيين، ثم في سورة {يونس} كتب في فاتحتها أنها تسعون، وعند العدِّ تبيَّن أنها مائة وتسع كما عند الكوفيّ وغيره، عدا الشاميّ فعنده وعشر، وفي سورة {هود} استفتحها بأنها مائة وعشرون آية وهي على خلاف بين الأقوال بين إحدى وعشرين واثنتين أو ثلاث وعشرين، ثم سورة {إبراهيم} كتبها خمسين، وهي -بعد العدّ- خمس وخمسون بما يتَّفق مع الشاميّ مخالفًا عادته في موافقة الكوفيّ، ثم في سورة {الحجر} كَتب في فاتحتها تسعين آية، ومجموع رؤوسها ستٌّ وتسعون، وهي تسع وتسعون بلا خلاف، وسبب هذا الفرق هو وَصْله لآيات هي رؤوس بالاتِّفاق، وهي:

- {ألا تكون مع الساجدين}.

- {في جنات وعيون}.

- {ولا تخزون}.

ثم سورة {النحل} كتب بأولها أنَّها مائة وثمانون، وهي مائة وثمان وعشرون ليس فيها خلاف، ثم سورة {الإسراء} وقد سمَّاها {بني إسرائيل}، وهي كما الكوفيّ مائة وإحدى عشرة آية، وكذا {الكهف} مائة وعشر آيات كما الكوفيّ، ثم ما زال يوافق الكوفيّ في العدد إلى سورة {الشعراء} فوافق المكيّ والبصريّ، ثم عاد إلى موافقة الكوفيّ على الحقيقة مع اختلاف المكتوب في أولها، مثل سورة الأحزاب فكتب أنَّها ثلاثون، وعددها الموجود ثلاث وسبعون كما هو المتَّفق عليه، واستأنف اتفاقه مع الكوفيّ وسمَّى سورة {غافر} بــ{المؤمن}، و{الشورى} بــ{عسق}، ثم إلى {الطلاق} كَتب اثنتين وعشرين، وهي اثنتا عشرة بعد عدِّها، وكذا الكوفيّ، إلى أن انتهى إلى سورة {لم يكن} فسمَّاها {الانفكاك}، ثم وافق المكيّ والمدنيَّيْن في سورة {قريش} فجعلها خمس آيات.

خاتمة:

هذا ما ظهر من هذه النُّسخة الشريفة، ولم نَقِف على نصٍّ أو خَتْمٍ يفيد التملُّك أو الوَقْف فيها إلَّا ما كان في آخر النسخة من خَتمٍ أزرق مطموس، على ما يبدو أنه يعود للمكتبة، وما وُجِد على هامش بعض أوراقه من كلمة: (وقف) بالخط الأسود بشكلٍ أفقيٍّ.

 

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))