دراسة لمخطوط مصحف (رئيس الكُتَّاب) برقم (1) - المكتبة السُّليمانية بإستانبول

للقرآن الكريم عدد كبير من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرف بأحد المخطوطات المحفوظة بمكتبة (رئيس الكُتَّاب) في المكتبة السُّليمانية بإستانبول، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والأدبية والعلمية المتعلقة بها.

  ما زال كتاب الله الخالد منذ أُنزل هو سيدُ ما خُطَّ بالقلم، وأشرفُ ما نُطِقَ باللسان؛ ولذلك اهتمَّ لأجله العلماء وطلبة العلم حتى بلغوا فيه الغاية النبيلة والأمر الرشيد.

وما زالت المصاحف المخطوطة باليد تُعَدُّ كلُّ واحدة منها وثيقةً فنِّيةً تؤرِّخ للمرحلة التي كانت فيها، من حيث اعتمادها لشكلِ الخطِّ وصيغة الإعجام، فإنّ لكلّ عصرٍ جهده، ولكلّ جيلٍ أثره في هذا الفنّ الذي تطوّر عَبْر الأيام والأزمان.

مثل نسخة ابن البوَّاب المحفوظة في مكتبة تشستربيتي برقم (16/ك) المكتوبة بخطِّه سنة 391هـ ذائعة الصيت، وقد كانت من أشهر النُّسخ التي لقيت اهتمام الباحثين والدارسين، وكذا نسخة المُخَلِّصي المحفوظة بمكتبة مجلس شورى إيران المتقدمة على نسخة ابن البوَّاب حيث نسخت في 353هـ، وكذا حظيت باهتمام المُختصِّين من حيث الرسم والشكل والتقسيم.

وبين أيدينا نسخة نتناولها بالدراسة في هذه المقالة المختصرة من خلال جوانبها المادية والأدبية والعلمية.

أولًا: الجانب المادي:

1) بيانات الحفظ والخطّ.

2) التجليد والتذهيب والزخرفة.

3) الناسخ وتاريخ النَّسخ.

4) حالة النُّسخة.

ثانيًا: الجانب الأدبي:

1) قيمة النُّسخة.

2) التَّملُّكات والوقوفات.

3) رحلة المخطوط.

ثالثًا: الجانب العلمي:

1) عدد الآيات وأسماء السور في هذه النُّسخة.

2) المكي والمدني المذكور في هذه النُّسخة.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والخط:
هذه النسخة الموجودة بين أيدينا هي نسخة المصحف الشريف المحفوظة بمكتبة (رئيس الكُتَّاب) برقم (1) في المكتبة السُّليمانية بإستانبول، المُنتهية بالرقم ثلاثمائة وثلاثة، إشارة لعدد الأوراق المرقومة، مع ذكر التعقيبة في نهاية كلّ صفحة بخطّ مُغاير، ومسطرتها خمسة عشر سطرًا بمتوسط تسع كلمات في السطر، مكتوبة بخطّ نسخٍ تامِّ الوضوح والجودة بمقاس (146×214مم) للورقة، و(155×92مم) للنَّص، ولم يَخرُج الناسخ في كتابته التي اعتمدها في مصحفه هذا عن الخطّ العثماني وقواعد رسمه، ووضع علامات الحركات كاملة على جميع الأحرف، واعتمد ما استقر عليه المشارقة من علامات الإعجام كالنُّقطة فوق الفاء والنُّقطتين فوق القاف، ولوَّن علامات الوقف والابتداء والوصل واللُّزوم والمَدَّة بالحُمرة.

2- التجليد والتذهيب والزخرفة:
جُلِّدَت النسخة بتجليد بُنيٍّ من الجلد القديم، عليه زخرفة نباتيَّة، مُذهَّبة حوافُّه، به أركان وصُرَّة بارزة في وسطه بالذهب ومحلَّاة بالزُّرقة، يظهر عليه أثر القِدَم.

  وزُخْرِفَتِ الورقة الأولى المكتوب فيها سورة الفاتحة، وأوائل البقرة بمزركشات بالشكلِ النباتي البديع المعشَّق بالزَّهر والمتداخل بالشكلِ الهندسيِّ في إطاراتها المرسومة بالذّهب والحُمرة والزُّرقة، كُتب في أعلاها اسم السورة، وفي أسفلها عدد الآيات.

ثمَّ أُطِّرت بالذّهب في جميع أوراقها، وجعل فواتح السّور بالمذهَّب إلى سورة الجمعة، ثم صار يلونها بالزُّرقة والحُمرة والذّهب إلى سورة الناس، يرسمها في إطار صغيرٍ، يذكر فيه اسم السّورة ونوعها من حيث كونها مكِّية أو مدنيَّة وعدد الآيات.

  وأشار في الحواشي إلى العُشور والخُموس والأحزاب وأنصافها، والأجزاء مع أرقامها، والسجدات، ملونًا الأحزاب وأنصافها والأجزاء والسجدات بالحُمرة، والخُموس بالزُّرقة، والعُشور بالذّهب، ووحَّد رؤوس الآيات حيث وضع لها علامة دائرة صغيرة مطموسة بالمُذهَّب.

3- الناسخ وتاريخ النسخ:
وتمَّت هذه النسخة بقلم الفقيه الحنفي الشيخ مُلّا علي بن سلطان بن محمد الهروي[1]، المُقرئ بالحرم المحترم المكِّي، بمكة المكرَّمة، في منتصف ذي القعدة من عام تسعة وتسعين وتسعمائة.

4- حالة النُّسخة:
ولقد أصابت أوراق هذه النسخة عدَّة آفات لم تؤثِّر على مادتها ولا على حِبْرها، وإن ظهرت كالرُّطوبة والبَلل وبعض البُقع التي تنوَّعت في أثنائها.

ثانيًا: الجانب الأدبي:

1- قيمة النُّسخة:
هذه النسخة حيزت لها مكانة يد الكاتب؛ حيث كتبها واحدٌ من أشهر العلماء والكُتَّاب الشَّيخ مُلَّا عليّ القاري، وكمال العناية بها من حيث التزيين والورق والخط، وفي ختامها انتهت بدعاء ختم القرآن في عشرة أسطر، داخل مربَّعين مؤطَّرين بالذّهب، ثمَّ انتهى ببيان نسخه، فارتقت لكونها نسخة قيمة من نسخ المصاحف الشريفة التي كان يكتبها الإمام القاري على مدار عامٍ كاملٍ في الحرم المكي.

2- التَّمَلُّكات والوقوفات:
كانت النُّسَخ المعتمدة كثيرًا ما تتنافس عليها أيدي المُتملِّكين من أصحاب المراتب والمناصب؛ ولذلك نرى هذه النسخة الشريفة قد ابتدأت على غلافها بنصٍّ لمصطفى عاشر يوقف هذه النسخة التي هي في حيازته إلى مكتبة أبيه مصطفى رئيس الكُتَّاب، وهذا نصُّ الوقف:

«هذا ممَّا وقفت وضمَمت إلى كتب حضرت الوالد عليه الرحمة بشروطه».

 ثم خَتْمُ تملُّك دائريّ مكتوب به:

«من كتب الفقير إلى ربه القادر مصطفى عاشر بن مصطفى الرئيس الفاضل الباهر سنة 1161».

3- رحلة المخطوط:
ولقد طافت هذه النسخة بين البلدان والوِحدان، حيث انتهى ناسخها من مَشْقِها قبل الأَلْف بعامٍ واحدٍ من الهجرة النبوية في أرضِ مكة المكرمة، ثمَّ انتهت إلى بلاد التُّرك في إستانبول بعد مائة واثنتين وستين سنة من رَقْمها، موقوفة في السُّليمانية بمكتبة رئيس الكُتَّاب المحفوظة بها إلى الآن.

ثالثًا: الجانب العلمي:

1- عدد الآيات وأسماء السّور في هذه النُّسخة:
انتهت الأقوال في أعداد آيات السّور إلى ستة أقوال: وهي عدد أهل المدينة الأوَّل وهو الذي رواه أهل الكوفة عنهم، وعدد أهل المدينة الأخير، وعدد أهل مكة، وعدد أهل الشام، وعدد أهل الكوفة، وعدد أهل البصرة، لكلّ واحد من هؤلاء سندٌ يتَّصل إلى صحابيٍّ أو أكثر أخذ عنه هذه الأعداد، ولأهل حمص عدد سابع كانوا يعدُّون به قديمًا وافقوا في بعضه أهل دمشق وخالفوهم في بعضه[2].

وبعد التتبُّع نرى أنَّ هذه النسخة قد اتبعت قول أهل الكوفة في العدد سواء اتَّفق مع غيره أم اختلف، فجعلت (البقرة) -مثلًا- مائتين وستًّا وثمانين آية كما الكوفي، و(النساء) جعلتها مائة وستًّا وسبعين، بخلاف الشامي الذي جعلها مائة وسبعًا وسبعين، والباقين الذين عدُّوها مائة وخمسًا وسبعين.

ثمَّ ما زال موافقًا للكوفيِّ من أولها إلى آخرها إلَّا سورة (التوبة) فعدَّها مائة وثلاثين مخالفًا الكوفي وموافقًا للباقين، وفي سورة (النجم) لعلّه سها فكتب في فاتحتها أنها اثنتان وسبعون وهي كما الكوفي اثنتان وستُّون وبعد العدِّ نجد أنَّها بمجموعها اثنتان وستُّون. وكذا (المزمل) كتب أنَّها ثمان وعشرون وهي عند الكوفي عشرون وبعد عدِّها نجد أنها عشرون[3].

أما أسماء السّور فقد سُميت بعض السور بغير الأسماء المشتهرة في المصاحف، فسميت (غافر) بـ(المؤمن)، و(فصلت) بـ(السجدة)، و(محمد) بـ(القتال)، و(التكوير) بـ(كورت)، و(الانشقاق) بــ(انشقت)، و(الزلزلة) بــ(الزلزال)، و(المسد) بـ(اللهب).

2- المكي والمدني المذكور في هذه النُّسخة:
من السور ما أُجمع على مكيَّته أو مدنيَّته، ومنها ما اختُلف فيه، وهذا بعض ما خالفت فيه هذه النسخة المشهور في المكي والمدني:

فقد عدَّت سورة الفاتحة مدنية، وهو خلاف قول الأكثرين، والقول بمدنيّتها مشتهر عن مجاهد، وقال الحسين بن الفضل: «هذه هفوة من مجاهد؛ لأن العلماء على خلاف قوله»[4].

وعدَّت سورة (النحل) مدنية، والمشهور أنها مكية، إلا أنه قد استُثنى منها بعض آياتها، على خلاف في تقدير المستثنى[5].

وعدَّت (الانشراح) مدنية، وقد نُقل الإجماع على مكيتها، قال ابن عطية في تفسيره: «وهي مكية بإجماعٍ من المفسرين، لا خلاف بينهم في ذلك»[6].

خاتمة:

وأخيرًا، فإنَّ هذه النسخة لَتعلو على كثيرٍ من النُّسخ بمكانة ناسخها، وجمال زخرفتها، واتفاقها -إلَّا ما ندر- مع الأقوال المعتمدة عند أرباب هذا الفنّ؛ مما يزيد في إضفاء نوع من الموثوقية فيها، والكلام في أسرارها لا ينتهي، ولله الحمد أولًا وآخرًا.

 


[1] علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملّا الهروي القاري (1014هـ) فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. وُلد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. قيل: كان يكتب في كلّ عام مصحفًا وعليه طرر من القراءات والتفسير، فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام. وصنف كتبًا كثيرة، منها: تفسير القرآن، الأثمار الجنية في أسماء الحنفية. انظر: (الأعلام) للزركلي (5/12).

[2] يُنظر: البيان في عدِّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة: الأولى، 1414هـ- 1994م. ص(67- 70).

[3] يُنظر المرجع السابق، ص: (140، 146، 160، 234، 257).

[4] يُنظر: الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1349هـ- 1974م. (1/30).

[5] يُنظر: المرجع السابق (1/41).

[6] يُنظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى - 1422هـ. (5/496).

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))