تألُّهٌ في محراب عظمة القرآن
تخيّل أننا الآن نسير سويًّا مع بني إسرائيل في ممشى بقلبِ بحرٍ عظيم ضربه موسى -عليه السلام- بعصاه فانفلق، فكان كلّ فِرْقٍ كالطود العظيم!
أو أننا نقف في ساحة شاسعةٍ لنرى رجلًا يُقذف في نارٍ عظيمة، ثم لا يلبث أن يخرج منها بسكينةٍ بالغة، ليُقبِل على قومه تارة أخرى يدعوهم ويأمرهم وينهاهم!
أو أننا نرى أوصال طير ممزقة مُفرّقة تهفو بعضها إلى بعض؛ لتلتئم وترفرف مقبلةً على إبراهيم -عليه السلام- لمَّا ناداها!
تخيّل أننا نطوف بين جبال ثمود فنرى ناقةً تخرج من صخر أحدها، أو نتجول في ضواحي بيت لحم فنرى عيسى -عليه السلام- يُبرئ الأكمه والأبرص، ويَستحيل الطينُ في يده طيرًا يسبح بحمد الله في جوِّ السماء!
تأمّل قدر العظمة التي يستشعرها مَن عاين هذه المعجزات! قدر الدهشة التي تسكن صدره، والإعظام الذي يملأ فؤاده، والعَجَب الذي يُذهب عقله!
أتدري شيئًا؟!
القرآن أعظم من كلّ هذا، وأعجب، وأكثر إدهاشًا!
القرآن أعظم المعجزات التي أُرسل بها خاتم الأنبياء وأفضلهم -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يدركه من صحّ عقله، وطَهُرَ قلبُه؛ لذلك لما أعرض المشركون عن القرآن ظُلمًا وعُلُوًّا، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بآيةٍ مادية كبعض آيات الأنبياء السابقين التي ذكرناها، قال لهم ربهم -جلّ وعلا-: {أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. هل هناك ما هو أعظم أو أجلّ أو أحكم أو أرحم أو أبْيَن من القرآن ليكون معجزة وآية؟!
تخيّل أن في غرفتك عصا موسى، أو في ساحة منزلك ناقة صالح -عليهما السلام-؛ مصحفك الذي أمام ناظريك هذا، والذي قد يكون علاه التراب، أعظم وأجَلّ وأشدّ إعجازًا.
ولو قلّبتَ الطرف في أمر القرآن لوجدتَ أن العظمة تكتنفه من كلّ جانب.
فانظر إلى عظمة مصدره ونقله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192- 195]، تأمل هذه السلسلة النورانية التي جاء منها القرآن إليك، ثم قل لنفسك: بَخٍ بَخٍ، أن شرّفها الله بسماع ِكتاب هذه حاله، والإيمانِ به.
تأمل في جلالة لغته وجمال بيانه؛ نَظْمه أحسن من الدُرِّ في النِّظام، ألفاظه الزُّلال أو أرقّ، يسبي السمع ويملك القلب، تحدّى بفصاحته ملوك البيان وأمراء البلاغة أن يأتوا بمثله حُسنًا وبهاءً، أو بعَشْر سور منه، بل سورة واحدة، بل أن يجتمعوا كلّهم على ذلك وأن يَدْعُوا إنسهم وجِنّهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، لكن لمَّا أدركوا حقيقة إعجازه عجزت ألْسُنُهم عن المجاراة، فهل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزًا؟!
أرادت قريشٌ من شيخها وفصيحها الوليد بن المغيرة أن يذُمّ القرآن وينكره، فقال: «وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم رجلٌ أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلَى عليه، وإنه ليَحْطِم ما تحته»[1].
وتأمل عِظَم تأثيره في النفوس، ولطف نفوذه إلى القلوب؛ جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليجادله في دينه، ويَدْعُوه إلى ترك ما هو عليه، فلما أنهى عَرْض صفقته، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَرغتَ يا أبا الوليد؟ اسمَعْ منِّي: ...)، فلم يزد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن تلا عليه صدر سورة فصلت؛ وإني لأرجو أن تقرأ صدر السورة وتتساءل ما الذي وقع في قلب الرجل؟!
أَنْصَتَ الرجل إلى تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يزد على أن قام من مجلسه متغيّر الوجه، متبدّل الحال، فلمّا كلّم قومه فيما وقع في قلبه، قالوا له: «سحرك واللهِ يا أبا الوليد بلسانه».
فالقوم قد رأوا تأثيرًا لا يعرفون له مرادفًا في معجم المعرفة البشرية سوى السحر أو نحو ذلك، تأثيرًا يبدّل الحال، ويغيّر الطبع، ويطهّر القلب، وقد كانوا يخافون من تطهير القرآن على سواد قلوبهم، وعمى أهوائهم، يسيرون على طريق إخوانهم الأقدمين ومَن شابههم في كلّ عصرٍ وحين: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، فكان رؤوس الكفر يتواصَون فيما بينهم: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فإنكم لو سمعتموه حق السمع وفتحتم له أبواب أفئدتكم، غزاها وأنار ظلماتها وأَلان قسوتها.
مَرَّ جُبَير بن مطعم -رضي الله عنه- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، وكان جُبَير يومئذ على الكفر، فسمع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة الطور، يقول: «فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35- 37]، قال: كاد قلبي أن يطير».
دعك من تأثيره على قلوب البشر، حتى الجن، حارت عقولهم وخُلبت أسماعهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1].
وكذلك الملائكة، ما تطيق انقطاعًا عن القرآن أو نأيًا عنه؛ قرأ أُسيد بن الحُضير -رضي الله عنه- القرآن ذات ليلة بصوته النديّ الشجيّ، فكان كلما قرأ رأى في السماء مثل الظُّلة فيها أمثال السُّرُج، فلما قصّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأْتَ لأصبحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم)[2].
بل حتى الجمادات: الصخر، الجبال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، فإذا علمتَ ذلك أيقنتَ أن هناك أقوامًا يصدق فيهم -حقًّا- قول ربنا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
وإن شئتَ تأمّل في عِظَم أثره في حياة الناس، في دنياهم وآخرتهم، وهو سراج الكون الذي أضاء به من بعد ظلمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: «يعني بالنور: القرآنَ».
انظر كيف بدّل وجه الأرض، وغزا ربوع الدنيا، كيف عمد إلى خَلْقٍ كانوا أذلّ قوم، يسجدون للحجارة ويَدْعُونها ويسألونها، يسفكون الدماء، فصيَّرهم خير الناس هديًا، وأحسنهم سمتًا، وأعقلهم قولًا، وأعدلهم حكمًا، وأعزّهم ذِكرًا، مَلّكهم رقاب الملوك، ومَكّنهم من قلوب العباد.
إِي واللهِ، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)[3].
انظر كيف يشفي الصدور ويداوي الهَمَّ ويبدد وحشة الحزن؛ ولأجْل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أصاب عبدًا هَمٌّ ولا حزنٌ، فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثَرْتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي. إلا أذهبَ اللهُ همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا)[4].
وإنْ شئتَ أَدِرْ بصرك في إحكام تشريعه، وجلال أحكامه، التي ما زالت الأمم يجتمع فلاسفتها وعقلاؤها قرنًا بعد قرنٍ على أن يأتوا بمثل ذلك، وما بلغوا معشاره، وانظر إلى شمول قوانينه واتساعها، تارة في أحكام الجهاد والدماء، وأخرى في الصلاة والزكاة والصدقة، ثم تجده يتكلم عن المواريث والحقوق المالية، ثم تسمعه يتكلم عن حقوق الزوجين، وأخلاقيات التعامل بينهما في الاجتماع والافتراق، وكلّ ذلك بلفظ بهيّ، وموعظة بالغة.
وإن شئت تأمل عظمة حفظ الله وتدبيره له، وقد قال -سبحانه-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، قامت أمم وسقطت أمم، مرت القرون تلو القرون، والقرآن باقٍ محفوظ، متلوٌّ مسموع، معمورة به المساجد، مضيئة به ظلمات الليالي، جاريةٌ به دموع المآقي، قد جمع الله على خدمته أشرف خلقه في كلّ زمان، وتأمل مئات الأسماء المرقومة على كتب التفسير وعلوم القرآن المطبوعة فقط، تجدهم أحدَّ الناس من كلّ زمنٍ ذهنًا، وأرفعهم قدرًا، وأعلمهم بالمعقول والمنقول.
وبعد كلّ ذلك، تأمل يُسْره على الألسنة والأسماع والقلوب، كما قال ربنا: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]، هذا القرآن الذي أعجز الفصحاء وأدهش الأدباء، واجتمع على بيانه وتفسيره واستخراج كنوزه العلماء من كلّ فنّ، هو هو الذي تراه في يد بائعة الفجل البسيطة التي تمر عليها صباحًا في طريقك إلى العمل، وتجدها تستمتع بتلاوته وتلتذ بحلاوته، يتهدّج صوتها حينًا، وتنهمل عينها أخرى، وما تشبع أبدًا! كيف تشبع وعثمان -رضي الله عنه- يقول: «لو طهرتْ قلوبُكم ما شبعَتْ من كلام ربكم»؟!
يا خالة، أتعرفين ما (غسّاق)؟ أم تدركين ما (مجذوذ)؟ هل انتبهتِ أن ههنا كناية؟ وأن (إنّ) ههنا لما اجتمعت مع اللام أفادت توكيدًا شديدًا؟
الخالة قد لا تعرف شيئًا من ذلك، لا تفقه كثيرًا من لسان العرب، لكنها تحسن لغة القلوب الصافية والفِطَر الطاهرة، فوقع بها في فؤادها ما قد لا يفهمه كثيرٌ من العالمين بفنون اللسان.
بل قد تجد مِنَ الأعاجم مَن لا يفهم أكثر لفظ القرآن، ثم إذا قرأه قراءة المؤمن بعظمته وجلال المتكلم به وجدتَ هيبة الخشوع تعلوه، ولمستَ فيه تأثرًا بالغًا يصل إلى شغاف قلبك، ورأيتَ سكينة نورانية لا تخطئها البصيرة.
وهذا كلّه غيض من فيض، ويسير من كثير، هذا شيء مما في القرآن المسطور بين دفتي مصحفك، أعلمتَ الآن شيئًا من أسباب كونه أجلَّ من طير إبراهيم، وأعظمَ من عصا موسى، وأعجبَ من ناقة صالح، على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم؟!
ها قد علمتَ، فماذا أنت بفاعل؟
فسَلْ نفسك، ما فعلتَ في هذه المعجزة التي بين يديك كلّ يوم؟ هل عظَّمتها بما تستحق أم هضمتَ حقها وهجرتَ حروفها؟
هل أعملتَ معاول الجد في تهيئة وادي الصدر ليجري القرآن ربيعًا لقلبك؟ أم سألتَ الله ذلك ثم بنيت سدودًا من الصدود، وحواجز من الهجران، حتى توشك زهرة قلبك أن تذبل إِذْ مُنعَتْ عنها الحياة، وحُجِبَتْ عن النور؟
لو تأمل العاقل ما ذكرناه وأكثر لمَا فرّط في القرآن أبدًا، لمَا انقطع عن رسالة ربه إليه، لمَا شبع من قراءته اليوم بعد اليوم، يطهّر بذلك قلبه، وينفي عنه به أدران الدنيا، ويُضيء به ظلمات الحياة.
لو استشعر المؤمن هذه العظمة وذلك الجلال، لانشغل بالقرآن تلاوة، وحفظًا، وتدبرًا، وتخلّقًا، وعملًا؛ وكلما فعل فُتحت له أبوابٌ من الأنوار والأسرار والفتوحات والهدايات لم يكن ليتصورها أبدًا، وقد سطر لنا التاريخ أخبار أقوامٍ من أهل العلم، اشتغلوا بالقرآن زمنًا حتى قد يظنّ الظانُّ أنهم قد بلغوا منتهى درره، وغاية كنوزه، ولُجَّة بحره، ثم لمَّا طالت خلوتهم بالقرآن في نهاية أعمارهم قال قائلهم -وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه-: «ندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»!