القرآن المجيد، وسؤالا المصدرية والتحريف
ثانيًا: مبررات الإيمان بسلامة النصّ القرآني

الكاتب : عمرو الشرقاوي
القرآن الكريم هو محور الرسالة الإسلامية، وقد اتجهت إليه سهام المفترين منذ قديم وتعددت شبهاتهم حوله، وكان من أهمها: ما يتعلق بقضيتي المصدرية والتحريف، وهذه المقالة تتناول القضية الثانية منهما: شبهة تحريف القرآن، ومبررات الإيمان بسلامة النص القرآني.

مقدمة:

توجَّهت سهام خصوم الإسلام منذ قديم تجاه القرآن الكريم، وأثاروا شبهاتهم حوله؛ لما يمثله من مركزية في الرسالة الإسلامية، وكما أثاروا شبهاتهم حول مصدرية القرآن، وكونه من كلام الله -عز وجل-، فقد تناولوا -أيضًا- سلامته من التغيير والتبديل بالطعن، وإثارة الشكوك حولها.

وكنا قد تناوَلْنا في مقالتنا السابقة الكلام عن مصدرية القرآن، والحجج على كونه من عند الله -عزّ وجلّ-، لا من عند النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا غيره[1]، ونتناول في هذه المقالة قضية التحريف، من خلال عرض الحجج على سلامة النصّ القرآني من التغيير والتبديل.

لقد اتفقت كلمة المسلمين جميعًا على أن القرآن كلام الله، وحجة من أعظم حججه على عباده، وأبلغها دلالة[2]، وتقرر بينهم «أنه كُليّة الشريعة، وعُمدة الملّة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه»[3]، وهذا كلّه لا يحتاج إلى مزيد تقرير واستدلال؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة، وركيزة أساسية من ركائز العقيدة الإسلامية عند كلّ مقرٍّ بهذا الدين ومُسلِّمٍ به.

كما أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أن القرآن نُقِلَ إلينا بتمامه وكماله كلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا، سالمًا من النقصان أو التحريف، ومحفوظًا من عبث العابثين.

وسائر الفِرَق الإسلامية على هذا الاعتقاد، فقد كان القرآن معظَّمًا كمرجعية عند عموم الطوائف المنتسبة للإسلام، وهذا من الأدلة المهمّة على عدم تحريف القرآن الكريم، وعدم طروء تحريف في نصّ القرآن الكريم، وقبول الكافّة لهذا النصّ، وأنه لا يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفِرق الإسلامية على تنازعها، وهذا من أكبر الحجج على صحة النص المنزّل الموجود معنا[4].

الحجج على سلامة النصّ القرآني من التحريف:

 نستعرض فيما يلي أهم الحجج على عدم تعرّض القرآن المجيد للتحريف، وأبرز المبررات للتسليم بسلامة النصّ القرآني؛ ليزداد المؤمن يقينًا بكتاب الله العزيز وحفظ الله -تبارك وتعالى- له، وليعلم ما المراحل التاريخية التي مرّ بها القرآن الكريم، والتي تمثّل أبرز الحجج العقلية على سلامة القرآن من وقوع التبديل والتحريف فيه.

أولًا: العناية بالقرآن الكريم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-[5]:

كان القرآن ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- طيلة بعثته المباركة، ولم يكن القرآن إنشاءً من قِبَله، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمًا بصفة التبليغ لما يوحَى إليه.

ولقد سبّب الله الأسباب لحفظ القرآن، فكان منها جهود تلك الثُّلَّة الـمباركة في حفظ القرآن في صدورهم، ثم كتابته، ثم جَمْع هذا الـمكتوب، ثم توحيده في مصحف جامع يظلّ بين أيدي الناس إلى أن يرفعه ربّ العالـمين آخر الزمان.

واعلمْ أن القرآن لـم يُجمع بين دفَّتين زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أنه كان يُكتب بين يديه؛ لأن الحاجة لم تدعُ إلى ذلك، ولأن القرآن ما زال ينزل ويضاف إليه، ويُنسخ منه.

لكن العناية القصوى بالقرآن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تمثلت في حفظ القرآن في قلوب الراسخين في العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتدوينهم له، وتلاوتهم له آناء الليل وأطراف النهار[6].

ولقد توافرت الدواعي للاهتمام بالقرآن الكريم من قِبَل المسلمين الأوائل، ومنها:

1- بلاغة القرآن:

فقد مثّل القرآن هزّة كبيرة في البلاغة العربية، وكانت العرب تتحفّظ الكلامَ البليغ، وتتناقله، فكيف إذا كان كلام الله الذي بلغ الغاية في البلاغة.

2- حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على حفظ القرآن والعناية به:

 لقد حفظ لنا التاريخ أن جعفر بن أبي طالب قرأ سورة مريم على النجاشي في أول الإسلام عند هجرتهم للحبشة، وذهب مصعب بن عمير مهاجرًا من مكة ليعلم الناس في المدينة القرآن، وكان الرجل يُسْلِم فيدفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض الصحابة يعلمه القرآن.

3- الأجر المترتب على حفظ القرآن، ورفعة صاحب القرآن في الدنيا والآخرة:

وقد وردت في ذلك أحاديث عدَّة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان الحرص على تحصيل هذه الأجور ونيل تلك المنازل دافعًا للعناية بالقرآن الكريم حفظًا وتلاوةً وتعلُّمًا وتعليمًا، ومِن ثمَّ كان حفظ القرآن شائعًا بين الرجال والنساء والأطفال.

ثانيًا: العناية بالقرآن الكريم في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-:

في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- دعت الحاجة لجَمْع القرآن بين دفّتين؛ فأشار عمر -رضي الله عنه- على أبي بكر بالجمع، وشرح الله صدر أبي بكر له، وتم الجمع في عهده -رضي الله عنه-[7].

وملخص عملية الجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- ما يلي:

1- أن سبب الجمع: كثرة قتل القُرَّاء في حروب الرِّدة.

2- أن الذي أشار بالجمع: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

3- أن الذي اختاره أبو بكر وعمر للجمع: زيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-، أحد كتَبة الوحي، وساعده في هذا الجمع: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

4- أن سبب اختيار زيد -رضي الله عنه-: كونه شابًّا، عاقلًا، غير متَّهم عند الصحابة، وأنه أحد كتَبة الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

5- وكان مقصد الجمع: جمع نسخة كاملة مكتوبة بين دفتين.

6- وأن الأساس الذي اتكأ عليه زيد في هذا الجمع: صدور الرجال، الصحف المفرقة المكتوبة في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-.

7- استغرق إنجاز ذلك العمل ما يقرب من سنة[8].

وقد نال هذا العمل إجماع الصحابة على صحته ودقته، وعلى سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقيهم له بالقبول والعناية.

وتم الجمع وتوثيق المجموع، وبقي هذا المصحف عند أبي بكر، ثم انتقل إلى عمر، وبعد قتْلهِ أخذَتْه حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-، وبقي عند حفصة -رضي الله عنها-، ثم أخذه عثمان -رضي الله عنه-، ونسخ منه المصاحف التي كُتبت في عصره، ثم ردّه إلى حفصة وبقي عندها إلى أن ماتت، فأخذه مروان بن الحكم فشققه وأحرقه[9].

يبقى أن ننبّه أنه لم يوجد داعٍ في عهد عمر -رضي الله عنه- يدعو لجمع القرآن مرة ثانية، فظلّ القرآن على ما كان عليه زمن أبي بكر -رضي الله عنه-، وكان المصحف يُكتب في زمان عمر[10]، وقد انصبّ الاهتمام بالقرآن في عهد عمر بن الخطاب على الإقراء والتفسير.

ثالثًا: العناية بالقرآن الكريم في عهد عثمان -رضي الله عنه-:

اتسعت الفتوحات في عهد عثمان -رضي الله عنه-، واتسعت معها حاجة الناس إلى المصاحف، وكان القرآن يُؤخذ بالتلقي، يأخذه الآخر عن الأول، فلما اتسعت الفتوحات أخذ الناس من المصاحف مباشرةً، فحصل بينهم اختلاف في القرآن، أدَّى إلى تجديد فكرة جَمْع القرآن مرة أخرى مع تغير في منهج الجمع[11].

وقد تم الجمع في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين[12]، وقام الجمع على خطوات محددة، وهي:

1- أن سبب الجمع: اختلاف الناس في القراءة.

2- أن الذي أشار به: حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-.

3- أن لجنة الجمع تكونت من: زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبيّ بن كعب.

4- وكان مقصد الجمع: نسخ مصحف أبي بكر -رضي الله عنه- في عدد من المصاحف عبر منهج معيّن، وإرسال قارئ مع كلّ نسخة ليُقرِئ أهل المِصْر الذين أُرسِل إليهم.

5- أن منهج الجمع: نَسْخ مصحف أبي بكر في عدد من المصاحف، وأن يُكتب بلسان قريش عند الاختلاف، وأن يُحرق ما عدا هذه المصاحف.

6- أن الكتَبة للمصحف العثماني لم يقصدوا دائمًا استيعاب مرسوم القراءات، ففي أحيان ينشرون اختلاف القراءات في المصاحف، كقراءة: (وصَّى، وأَوْصَى)، (تجري تحتَها، تجري مِن تحتِها)، وفي أحيان أخرى يكتفون برسم واحد فقط، كالأمثلة: (الصّراط، بضَنين، لِأَهَب).

فقد رُسم في جميع المصاحف لفظ (بضنين) بالضاد أخت الصاد، والقَرَأة على وجهين فيها بالضاد، وبالظاء التي لم يرد فيها رسم في المصاحف.

ورُسم في جميع المصاحف لفظ (الصراط) بالصاد، وقد قُرئ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، بالصاد، والسين، وإشمام الصَّاد زايًا.

ورُسم في جميع المصاحف (لِأَهَب لك)، وقد قرئ بالياء (ليَهَب).

كما يُلاحَظ أمر مهمّ للغاية، وهو أن رَسم الكلام في وقت الصحابة كان مجردًا من النَّقط والشكل والضبط، وهذه إنما حدثت بعدهم، فمن يمثل في مسألة كتابتهم بأنهم رسموا في مصحف (فتبينوا) وفي آخر (فتثبتوا) أو في مصحف (ننشرها)، وفي آخر (ننشزها)؛ فقد أوهم وغفل عن هذه الحقيقة، وهذا المثال لا يصلح لما ذهب إليه، والله أعلم[13].

وبعد أن تم نسخ الـمصاحف العثمانية بالكيفية التي أوضحناها سابقًا، أمَر أمير الـمؤمنين عثمان بن عفان بإرسالها إلى الأقطار الإسلامية الشهيرة، وأرسل مع كلّ مصحف مقرئًا من الذين توافق قراءته في أغلبها قراءة أهل ذلك القطر؛ وذلك لأن التلقي أساس في قراءة القرآن[14].

وأمَر أن يُحرَق كلُّ ما عداها من الصحف أو الـمصاحف الشخصية الـموجودة لدى الصحابة مما تخالفها؛ ليستأصل بذلك سبب الخلاف والنزاع بين الـمسلمين في قراءة كتاب الله، فاستجاب لذلك الصحابة -رضي الله عنهم-، فجمعت الـمصاحف والصحف وحُرقت أو غُسلت بالـماء.

وقد رضي الصحابة بهذا العمل؛ وعن علي -رضي الله عنه- قال: «رحم الله عثمان، لو وليته؛ لفعلت ما فعل في المصاحف»[15].

وعن مصعب بن أبي وقاص قال: «أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك»، أو قال: «لم يعب ذلك أحد»[16].

وما حدث من بعض الصحابة (عبد الله بن مسعود)[17]، كان تمسكًا منه بقراءته، والروايات الصحيحة التي تخبر بما قاله ابن مسعود هي الروايات التي لم يذكر فيها الأمر بِغَلّ المصاحف، وهي التي أخرجها الشيخان. والوجه الصحيح والمحفوظ عن ابن مسعود أنه أراد أن يستمسك بالقراءة؛ لأنه أخذها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ورد رجوع ابن مسعود إلى رأي الجماعة[18].

وبعد ذلك حصلت عمليات تطوير خط المصحف الشريف، وظلت هذه المحاولات وهذه الحياطة إلى زمان الطباعة وانتشار المصاحف عبر الأقطار الإسلامية، وانتقالها إلى المسلمين جيلًا بعد جيل.

وليس في القرآن -بحمد الله- خطأ استطاع أن يُثبته كائنٌ مَن كان من وقت تدوينه إلى زمان الناس، وما أثير من شبهات حول الرسم، أو ما ادُّعِيَ أنه مخالف للعربية، تصدى له علماء الإسلام بالبيان، والتمحيص، ومصنفاتهم حاضرة قريبة من طالب الحق والهدى[19].

رابعًا: تلقي القرآن الكريم بالمشافهة:

لقد كان القرآن محفوظًا في الصدور كما هو مكتوب في الصحف، وكان الناس -ولا يزالون- يتلقون هذا القرآن عن أشياخهم، إلى أن يتصل السند بكبار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء الصحابة أخذوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهذه الحجة مما يعرف تفصيلها من كتاب تاريخ القراءات، وبيان جهود العلماء المبذولة في ضبط الأوجه القرآنية التي يُقرأ بها القرآن[20].

إذًا: فقد كان الاعتماد في نقل القرآن على ما حُفظ -على نطاق واسع- في القلوب والصدور، لا على ما حُفظ في السطور.

فمَن الذي يتصور وقوع التحريف في سورة الحمد (الفاتحة)، وهي السورة التي تُقرأ في محاريب المسلمين كلّ يوم عدة مرات، وكذلك سائر القرآن كان يُقرأ في محاريب المسلمين مرة بعد مرة، أفَيتَواطأ كلّ هؤلاء على التحريف، ولا نجد إنكارًا عليهم؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!

خامسًا: عدم وجود فجوة تاريخية في مسار القرآن الكريم:

بخلاف التوراة التي انقطع سندها بعد موسى -عليه السلام- بستة قرون على الأقل، وتعددت نُسَخها، واختلفت فيما بينها، وبخلاف الإنجيل الذي ظلّ يُتَناقل شفهيًّا، ثم تم اختيار أربعة أناجيل عام (325م) مما يربو عدده على الأربعين أو الخمسين إنجيلًا، مع إحدى وعشرين رسالة من رسائل لا تعدّ ولا تحصى، ثم أضيف له بعد ذلك رسائل أخرى، وظلّ الخلاف بين تلك الأناجيل واضحًا لكلّ دارس =ظلّ القرآن بلغته الأصلية لم يترجم عن لغة أخرى، بخلاف التوراة والإنجيل.

لقد وصل القرآن إلينا بلغته الأصلية التي كان عليها، فلم يتعرض لما قد تتعرض له الترجمة من اختلاف، وكونها عُرضة للاشتباه في الفهم، ونحو ذلك.

وقد نُقِل إلينا بالمشافهة، وتداوله عددٌ كبيرٌ من الناس، ودُوِّن في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجُمِع بعده في دفّتين بعد مدة وجيزة جدًّا، كما سلف، وإن المطلع على المخطوطات الموجودة للمصحف الشريف[21]، والتي هي عتيقة، وترجع إلى العصور الأولى من نزول القرآن، يعلم كم أن الله -تعالى- قد أحاط القرآن بعناية خاصّة؛ لئلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيم حميد.

ومع كلّ العواصف التي عصفت بأمة الإسلام إلا أن أحدًا منهم لم تمتد يده للقرآن ليحرفه، بل ولم يستطع، وأنَّى له ذلك؟! بل إنهم على اختلافهم وتناحرهم كانوا معظِّمين للقرآن معتنين بشأنه، كما يعرف من تاريخ كتابة المصحف والعناية به.

مسألة: مصاحف الصحابة[22]:

وهي مسألة كثيرًا ما يدندن حولها مثيرو الشبهات، وبعد بحث طويل في دراسة مصاحف الصحابة، سجَّل الباحث[23] النتائج التالية:

1- إضافة المصحف إلى أشخاص أو أمصار أو مؤسسات أو غيرها، إضافة تعريفية.

2- ما تضمنته مصاحف الصحابة من رسوم، ظهر في مصنفات أئمة الرسم.

3- وجود الاختلاف بين المصاحف المنسوبة للصحابة هو داخل ضمن الاختلاف بين القراءات، وهو -بلا نزاع بين المسلمين- اختلاف تنوّع وتغاير، لا اختلاف تضاد.

4- انعقد إجماع الأمة مع عثمان -رضي الله عنه- في الجمع الذي قام به، وما روي عن الصحابي الجليل ابن مسعود؛ فإنما هو لشبهة عرضت له، والثابت عنه تمسكه بقراءته.

وبعدُ:

فإن أعظم دليل على عدم تحريف القرآن هو القرآن ذاته، فقد احتفظ القرآن بكلّ خصائصه التي كان عليها زمان النبوة، لقد ظلّ مؤثرًا في الأمة، ومعجزًا على مَرّ الدهور، لا يزال الناس يأخذون منه ويَرِدُون عليه، لا تنفد عجائبه، ولا يَخْلَق على كثرة الردّ.

لا يزال نوره هو النور، وهدايته هي الهداية، وحكمته هي الحكمة، وبصائره هي البصائر، ومواعظه هي المواعظ.

لا يزال هو الخير، والبركة، والصراط المستقيم.

لا يزال هو النبأ العظيم.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[العنكبوت: 47- 52].

خاتمة:

لقد أنزل الله القرآن الكريم، وتكفَّل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، وأقام الدلائل على صدقه وحفظه من الآيات المتلُوَّة، وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ومن الآيات المنظورة ودلائل الواقع، والتي تعرضنا لأهمها إجمالًا من خلال هاتين المقالتين حول سؤالي المصدرية والتحريف، والتي لا يملك منصفٌ بعد معرفتها والتفكّر فيها إلا أن يُقِرَّ بأن هذا القرآن تنزيل من ربّ العالمين، وأنه محفوظ بحفظ الله -تعالى- له: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 17- 19].

 

 

[1] للاطلاع على مقالة: "القرآن المجيد؛ وسؤالا المصدرية والتحريف (1) مصدرية القرآن": https://tafsir.net/article/5122.

[2] يمكن الرجوع لمزيد من المعرفة حول هذه المسألة:

1- الدليل النقلي، للدكتور أحمد قوشتي (44 - 104)، ط. فكر.

2- الصراع بين الأخباريين والأصوليين داخل المذهب الشيعي الاثنى عشري، للدكتور أحمد قوشتي (55 - 66)، ط. مركز تكوين.

3- العقائدية وتفسير النص القرآني، للدكتور ياسر المطرفي، ط. مركز نماء.

4- دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، د. محسن المطيري، ط. دار البشائر الإسلامية.

5- ثبوت القرآن بين أهل السنة والشيعة الإمامية، د. محمد الصياد، دار النور المبين.

6- تاريخ القرآن عند الشيعة الاثنى عشرية، عبد العزيز الضامر، ط. مركز تكوين.

7- تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، منقذ السقار، ط. مركز تكوين.

8- موثوقية نقل القرآن، عبد الله رمضان موسى، ط. مكتبة التوعية.

9- محطات في تاريخ القرآن، مرتضى فرج، ط. دار الانتشار العربي، وهو كتاب مهم جدًّا، لولا ما فيه من تشيُّع، وأحكام مسبقة، ومع ذلك فإن طالب العلم يستفيد منه فائدة كبيرة.

10- نصوص في علوم القرآن، الأجزاء (3، 4، 9)، تأليف السيد علي الموسوي الدارابي.

[3] الموافقات (3/ 200).

[4] انظر في هذا المعنى: المدخل إلى القرآن الكريم، د. دراز (42)، وانظر: مقدمة العناية بالنبأ العظيم، لعمرو الشرقاوي.

[5] انظر في قضية الجمع القرآني، كتاب: قضية الجمع القرآني في سؤال وجواب، لأحمد سالم، نشر: مركز تفكر.

[6] انظر: القرآن الكريم في حياة الصحب والآل، عمرو الشرقاوي، مبرة الآل والأصحاب، لتقف على بعض أوجه العناية بالقرآن المجيد.

[7] انظر، صحيح البخاري، الحديث رقم (4986).

[8] جمع القرآن، الدليمي (126).

[9] وعلل العلماء تحريقها بكونه «مخافة أن يكون فيها خلاف ما نسخ عثمان فيقع الاختلاف»، الإبانة، لمكي (61)، وجمال القراء (1/ 309).

[10] الاشتقاق، لابن دريد (89).

[11] انظر: صحيح البخاري، الحديث رقم (4987).

[12] فتح الباري (9/17).

[13] انظر: المحرر في علوم القرآن (161).

[14] قال ابن الـجزري: «فكتب منها عدة مصاحف: فوجّه بمصحف للبصـرة، ومصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى الشام، وترك مصحفًا بالـمدينة، وأمسك لنفسه مصحفًا الذي يقال له الإمام، ووجّه بمصحف إلى مكة، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين»، النشر (1/ 7).

[15] فضائل القرآن، لأبي عبيد (220).

[16] فضائل القرآن، لأبي عبيد (284)، تاريخ المدينة، لابن شبة (3/ 1004).

[17] أفرد الدكتور محمد الطاسان هذه المسألة بالبيان في كتابيه:

1- المصاحف المنسوبة للصحابة، من إصدارات مكتبة التدمرية.

2- تحقيق موقف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من الجمع العثماني، من إصدارات كرسي القرآن الكريم وعلومه.

[18] المقدمات الأساسية، للجديع (119 - 121).

[19] انظر: رسم المصحف، للدكتور غانم قدوري الحمد، ودعاوى الطاعنين، للدكتور عبد المحسن المطيري، فقد ذكر عددًا من مصنفات علماء الإسلام في الرد على الطاعنين في القرآن.

[20] انظر: مقدمات في علم القراءات، د. القضاة، ود. أحمد شكري، ط. دار عمار.

[21] انظر: المصاحف المطبوعة بعناية الدكتور طيار آلتي قولاج، والتي طبعت بإستانبول في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، بمنظمة التعاون الإسلامي.

[22] انظر: المصاحف المنسوبة للصحابة، د. محمد الطاسان، من إصدارات مكتبة التدمرية.

[23] الدكتور محمد الطاسان.

الكاتب

عمرو الشرقاوي

باحث في التفسير وعلوم القرآن، شارك في عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))