الهجرة النبوية ومركزيتها؛ قراءة في التناول القرآني ودلالاته
مدخل:
تعدّ السيرة النبوية وما كان فيها من أحداث ووقائع مَعينًا لا ينضب وزادًا لا ينفد لمختلف العلماء والدعاة على مرّ العصور وكرّ الدهور، ولا غَرْوَ فالسيرة النبوية تمثّل تجربة حية للاحتكاك العملي بالواقع ومعايشة مختلف تفاصيله وهمومه وما به من أتراح وأفراح وفق مراد الله تبارك وتعالى؛ ومن ثَمّ يجد فيها الفقهاءُ والدعاةُ والمربون مختلفَ غاياتهم وأغراضهم، ويتحصّلون من خلال تأملهم لها على بغيتهم ومراداتهم من استمداد الأحكام والتشريعات واستخراج العبر والدروس اللازمة لقيادِ الحياة بمبادئ الدّين وضبطها بتعاليم الشرع وحسن السّير فيها على هدى وبصيرة.
ولا شكّ أن أحداث السيرة النبوية برغم أهميتها جميعًا إلا أنها تتفاضل في درجات أهميتها، وتتفاوت في رتب أولوياتها، وتختلف في أوزانها القيميَّة، وهو أمرٌ لا تخفى أهمية الوقوف عليه؛ لإعطاء كلّ حدث ما يستحقه من العناية، والوقوف عنده تأملًا ودرسًا بما يجب تبعًا لرتبته، والعكوف عليه فحصًا وتحليلًا بما ينبغي وفقًا لأهميته، والحيلولة دون إخلال أو إغفال لأحداث عظام تكون لها أولوية على غيرها وتستدعي تعاملًا وتعاطيًا خاصًّا معها، وإن كانت العناية بسائر أحداث السيرة النبوية والوقوف معها غاية مطلوبة كما هو معلوم.
وإذا كانت المعايير التي يرتد إليها درك هذا التفاضل بين الأحداث في السيرة قد تختلف تبعًا لأمور عديدة تفرضها النقطة التي ننطلق منها في النظر وطبيعتها، إلا أن ثمة معيارًا يمكن الاستناد إليه في هذا الصدد وفي تبيّن تلك الأوزان القيمية لأحداث السيرة، ألا وهو القرآن الكريم وتناوله للأحداث؛ فالقرآن هو دستور الإسلام الخالد وآيته الكبرى، ومن ثَمَّ فإن انتخابه لحدثٍ معينٍ وعنايته بالتعليق عليه يظهر مدى الأهمية النوعية لهذا الحدث، حيث تقصّد القرآن إلى تخليد ذكرى هذا الحدث على مرّ الزمان، ورغب في تركيز الضوء عليه بصورة شديدة الكثافة على امتداد الأجيال؛ وذلك بجعله ماثلًا ضمن الآيات الكريمات التي لا ينقطع أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها عن ترديدها وتكرارها، ولا ينفكّون عن تلاوتها وقراءتها في ليلهم ونهارهم وفي صلواتهم ومحاريبهم، وهذا لا شكّ يبرز أن تلك الأحداث النبوية التي اعتنى القرآن الكريم بالإشارة إليها تحديدًا تمثّل أهمية كبيرة، وأنها تكتنز في طيّاتها العديد من الدلالات والكثير من الفوائد العظيمة بصورة أكبر بكثيرٍ مما لم يتناوله القرآن الكريم من الأحداث، وأن حاجة الناس للوقوف على هذه الأحداث التي سطّرها القرآن وإقبالهم على دراستها وفهمها له أهمية كبيرة في إفادتهم ونفعهم من وجوه عدة ومناحٍ شتى بصورة أكبر من غيرها مما لم يكن ميدانًا للمعالجة القرآنية.
ومن هاهنا يمكننا القول بأن الذِّكر القرآني للأحداث مما وقع في السيرة النبوية يبدو معيارًا وجيهًا في بيان رتب تلك الأحداث وأهميتها، وأن السيرة النبوية وإن كانت سائر أحداثها تتمتع بأهمية، ويجب أن تكون محطّ عناية ونظر من الأجيال على مرّ الليالي والأيام؛ إلا أن بعض وقائعها التي خصّها القرآن الكريم بالذكر والتنويه يكون لها من الأهمية ما ليس لسواها بلا شكّ.
وإذا كان للعديد من أحداث السيرة النبوية حضور وذكر في القرآن الكريم فإن لَحْظَ التفاضل بين تلك الأحداث بعينها يمكن استكشافه كذلك من داخل دائرة القرآن ذاته؛ فبرغم الأهمية العظيمة التي اكتسبتها تلكم الأحداث التي ذكرها القرآن بصورة عامة مقارنة بغيرها مما لم يذكره، إلا أن بعضها قد يخصّه القرآن ذاته بمزيد عناية، وهو ما يمكننا لحظه من خلال أمور عديدة؛ منها: مقدار معالجة القرآن لهذا الحدث والمساحة التي منحها إياه من الظهور والحضور في آياته، فهناك أحداث يشير إليها القرآن مرة وغيرها قد يكثر في الإشارة إليه، ويطيل في التعليق عليه ويعالجه بصورة أكثر توسعًا وبسطًا، وهذا النوع من الأحداث الذي أفاض القرآن في التعرض له وأسهب في الإشارة إليه يُعَدُّ -بلا شك- أكثر أولوية من غيره مما وردت الإشارة إليه بصورة أقلّ؛ إذ الإفاضة في التعليق القرآني على الحدث تبيّن عظم الخطر وجلالة العبر الكامنة في قلبه والثاوية خلفه، والتي استدعت ضرورة لفت الأنظار إليه في غير ما موضع والتذكير به في سياقات عديدة، بخلاف ما لم يأخذ ذات الحيز من العرض والمعالجة كما هو بيّن، وكذلك أيضًا تظهر عناية القرآن بالحدث من خلال تتبعنا لطبيعة هذا الحضور للحدث في الخطاب القرآني وكيفية استثماره وتوظيفه له.
ولما كنا في هذه الأيام الكريمات بصدد الهجرة النبوية -على صاحبها سلامٌ معطرٌ بندى الإسلام ومضمّخٌ بشذى الإيمان-، نحيا في ذكراها العطرة مع مقدم العام الهجري الجديد[1]، فإننا أحببنا أن نتأمل هذا الحدث في مقالتنا هذه من زاوية جديدة، حيث نعمل على استجلاء ما له من قيمة نوعية إزاء بقية الأحداث في السيرة النبوية؛ لكي نتبين ما لهذا الحدث من مركزية واستكشاف ما له من ثقل، وهو أمر له أهميته لبيان درجة الأولوية التي يجب أن يأخذها هذا الحدث والأهمية والحضور الذي يجب أن يحتله في فكرنا وأقلامنا ومشاغلنا البحثية، وفي مقولات الوعظ وحِلَقِ التوجيه والإرشاد[2].
ومن المعلوم أن القرآن الكريم أشار إلى حدث الهجرة النبوية كما سيأتي؛ ومن ثَمَّ فإن تحصيل غرضنا من استكشاف الثقل النوعي لحدث الهجرة مقارنة بغيره، وتحقيقنا لذلك الهدف = يوجب علينا أن نقوم بتتبع الإشارات القرآنية للهجرة ومواطن ورودها في الآيات، لا لنستخرج منها الدروس ونستنتج العبر والدلالات، وإنما للنظر في طريقة تعاطي القرآن ذاته مع هذا الحدث واستكشاف درجة اهتمامه بذكره وطبيعة تناوله واستثماره له؛ فذلك هو ما سيتيح لنا استجلاء النظر الكلي للقرآن وموقفه العام تجاه حدث الهجرة من حيث هو حدث، وبيان المقدار الذي يمنحه من الأهمية والأولوية مقارنة بغيره من الأحداث التي ذكرها وأشار إليها من أحداث السيرة النبوية، وبيان ذلك في السطور التالية.
الهجرة في الخطاب القرآني؛ الحضور ومستوياته:
إذا نظرنا للهجرة النبوية ومدى حضورها في القرآن الكريم فسنجد أن القرآن الكريم لم يكتفِ بالإشارة إليها مرة واحدة أو التنويه بأمرها تنويهًا عابرًا، وإنما سنلحظ أنه أبرزها وأعطاها ظهورًا متتابعًا في العديد من سُوَرِهِ؛ فتارة يذكر بعض تفاصيلها ووقائعها، وتارة أخرى يذكّر بمن قام بها وما كان منهم من أحوال.
فقد ذكر القرآن أمر الهجرة في مواضع كثيرة؛ من أبرزها: ذكره لها في سورة البقرة، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وكذا إشارته إليها في سورة آل عمران حيث قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، وأيضًا إلماحه لبعض تفاصيلها في سورة الأنفال، إذ قال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وكذا في سورة التوبة، إذ قال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، وغير ذلك من المواضع التي تعرّض فيها القرآن لهذا الحَدَث العظيم.
وغير خافٍ هاهنا أن تعدّد الإشارات لحدث الهجرة وتفاصيله في القرآن يَشِي بضخامة هذا الحدث ويبرز لنا فرط أهميته وأنه ليس كسواه من بقية الأحداث التي وقعت إبّان حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف أنه يمثل حدثًا محوريًّا؛ فقد علق القرآن على بعض تفاصيل هذا الحدث ووقائعه الجزئية كما يظهر في سورتي الأنفال والتوبة، حيث أشير في الأولى إلى موقف شهير -ربما لا يكون من مواقف الهجرة بصورة مباشرة وإنما من بعض دواعيها ومسبباتها- وهو ما كان من أمر التآمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحاولة قريش الخلاص منه ومنعه من تبليغ دعوته، وفي السورة الثانية أُشير لموقف الغار وما كان من وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- حين قامت قريش بمطاردتهما في الصحراء حتى وصلت إلى باب الغار الذي اختبآفيه، وكذلك أشار القرآن لمن قاموا بالهجرة وذكَرهم أكثر من مرة وبيَّن ما كان من معاناتهم وصبرهم، وهو ما يبين لنا أن لهذا الحدث حضورًا ظاهرًا ومتنوعًا في القرآن الكريم. وأما ما يتعلق بطبيعة هذا الحضور وسبل توظيفه فنبيّنه في السطور التالية.
الهجرة في الخطاب القرآني؛ كيفيات التوظيف وأطر الاستثمار:
إنّ الناظر في التناول القرآني للهجرة يستوقفه أمرٌ غريب، فالمعهود في أمرِ القرآن إزاء الأحداث التي يتناولها أنه كان يعلق عليها مباشرة ليوجه ويرشد ويصحح... إلخ، تبعًا لغايته من وراء ذلك التعليق.
يقول الشيخ الغزالي: «أَلِفَ الناسُ في القرآن الكريم أنه ينزل تعليقًا على ما يكون من أحداث، فيوجه التوجيه الذي تفتقر الأمة إليه، إن كان الذي حدث نصرًا ذكر أسبابه بحق، وكسر الغرور الذي قد يصاحب المنتصرين، وإن كان هزيمة ذكر الأسباب بصدق، ومسح التراب الذى عفّر جباه المنهزمين!! على هذا النحو نجد أن سورة الأنفال نزلت في أعقاب غزوة بدر، وأن سورة الأحزاب نزلت في أعقاب الخندق، وأن سورة الفتح نزلت في أعقاب الحديبية، وأن سورة آل عمران نزل نصفها الأخير في أعقاب هزيمة أحد»[3].
غير أن الناظر في شأن الهجرة وتناول القرآن لها لا يجد الأمر تم بهذه الصورة، فالهجرة وقعت أحداثها وانتهت بدون أن يعلق عليها القرآن بشكلٍ مباشر أو يذكر بشأنها شيئًا، وأما ما كان من ذكر القرآن وإشاراته المتعددة إليها وتعليقه على بعض أحداثها فإنما كان ذلك بعد مضيّ أحداثها بمدة من الزمن، وهذا التأخّر في التعليق القرآني على الهجرة يمكن لحظه بسهولة ويسر من خلال تتبع مناسبات نزول الآيات التي علقت على الهجرة وأشارت إليها.
فأمَّا ما ورد في سورة البقرة فقد نزل تعليقًا على سريّة نخلة (شهر رجب: 2هـ) وما كان من شأن سرية عبد الله بن جحش وقتالها في أحد الأشهر الحرم، وهو ظاهر في سياقات الآيات قبلها، حيث يقول القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 217، 218].
وما ورد في سورة آل عمران، فقد جاء تعليقًا على غزوة أحد وما كان فيها من أحداث؛ لأن النصف الثاني من هذه السورة نزل تعقيبًا على الغزوة ووقائعها.
وما ورد في سورة الأنفال، فكان تعليقًا على غزوة بدر؛ لنزول الأنفال تعقيبًا على تلك الغزوة كما هو معلوم.
وأما ما ورد في سور التوبة، وهو أشهر المواضع في الحديث عن الهجرة، فقد نزل بعد حدث الهجرة بتسع سنين، حيث كان نزوله تعقيبًا على غزوة تبوك التي علقت عليها سورة التوبة وأسهبت في الحديث عنها.
وتأخُّر تعليق القرآن وإشارته لحدث الهجرة بالغ الدلالة على عظيم هذا الحدث، وأن القرآن يعتبره حدثًا مركزيًّا يجب أن يوظّف في غايات عديدة ومناسبات مختلفة، وهو ما يبيّنه الأستاذ الغزالي قائلًا: «قد يسأل أحد الناس: فهل نزلت في حادثة الهجرة سورة ما كما حدث ذلك في أعقاب الغزوات التي وقعت؟ والجواب: لا، لم يقع هذا، ولكن وقع ما هو أخطر وأهم. كأن الله سبحانه وتعالى حكم بأن قصة الهجرة أكبر من أن يعلق عليها في سورة واحدة، وأن تمرّ مناسبتها بهذا التعقيب وينتهي الأمر، فحكم -جلّ شأنه- بأن تكون ذكرى الهجرة قصة تؤخذ العبر منها على امتداد الأيام، وتذكر في أمور كثيرة وفي مناسبات مختلفة»[4].
إنّ نظرة القرآن للهجرة واعتبارها حدثًا يجب التذكير به على الدوام واستدعاء ما وقع فيه من تفاصيل في مناسبات عديدة؛ يدلنا على مدى محورية هذا الحدث وعلى قدر ما له من أولوية وأهمية من بين سائر الأحداث الأخرى التي وقعت في السيرة النبوية، وأن هذا الحدث يجب أن يكون مركوزًا في الأذهان طوال العام، وحاضرًا في الوجدان على امتداد السنة، وأن يذكّر به الناس على الدوام في سياقات عديدة ومواقف شتى.
إننا من خلال تتبعنا السابق لحدث الهجرة في القرآن الكريم وتحليلنا لحضور هذا الحدث في ثنايا الخطاب القرآني وسبل توظيفه واستثماره ظهر لنا مدى أهمية هذا الحدث وما له من مركزية شديدة في نظر القرآن الكريم، وأنه ليس حدثًا عاديًّا يعلّق عليه مرة أو يذكر في مناسبة بعينها، وإنما هو حدث مركزي ذو محورية خاصة، وينبغي أن يرجع إليه وأن يذكّر به في مناسبات مختلفة.
ولا شكّ أن الناظر في حدث الهجرة يدرك ما له من محورية وما يتمتع به من مركزية بين بقية أحداث السيرة النبوية، وكيف أنه كان حدثًا فارقًا ومفصليًّا، فبعد الهجرة أضحى للمسلمين مجتمعٌ خاصٌّ بهم يعملون على تلوينه وصبغه بتعاليم دينهم ومبادئ رسالتهم، وصار لهم وطنٌ يمثلهم وبلدٌ يجمعهم، وهذه أمور كان لها انعكاسات شديدة الأهمية وآثار لا تخفى أهميتها في تاريخ الإسلام بعد هذا الحدث.
كما أن حدث الهجرة يعجّ بالدلالات والعبر التي لا يمكن أن ننقطع عنها؛ إذ يمثل في مُجْمَلِهِ كفاح أصحاب الرسالات وحمّال المبادئ وما يتعنّون في سبيل ذلك من ضرورة القيام بتضحيات عديدة وببذلٍ كبيرٍ من أجل نصرة رسالتهم وتبليغها للناس، وما يكون من توفيق الله لعباده المخلصين والمضحّين من أجل وحيه ونشر رسالته ورعايته لهم في أحلك الظروف وأشد الأوقات بعد استفراغهم لوسعهم وتدابيرهم، وهو درس عظيم متجدد لا تنقضي حاجة المجتمع المكلّف بحراسة تعاليم الوحي من الرجوع إليه وإدامة استذكاره وتأمل تفاصيله ووقائعه.
فما أحرانا ونحن في مستهلّ هذا العام الهجري الجديد أن نتأمل هذا الحدث، وأن نعطيه حظّه من الحضور في درسنا ونظرنا وتأملنا، وأن نذكر دومًا أن هذه المركزية وتلك المحورية لحدث الهجرة والحفاوة القرآنية بأمره على هذا النحو الذي بينّا تشي بكثرة الدلالات الذي يحملها وقوة الدروس التي يكتنزها، والتي يمكن أن يفيد منها الناس والمجتمع في مناحٍ متعددة من الحياة ووجوه مختلفة من الواقع وسبل التعامل معه، وهذه الوجوه يمكننا التعرف على بعضها من خلال تتبع السياقات التي جرى فيها التذكير القرآني بحدث الهجرة، والنظر في طبيعة الأسباب التي أوجبت استدعاء هذا الحدث أو بعض تفاصيله وطبيعة بعض التفاصيل دون سواها، والله الموفِّق.
[1] يجدر التنبيه هاهنا أن الهجرة كانت في شهر ربيع ولم تكن في شهر المحرم على الراجح من كلام العلماء.
[2] يلاحظ أننا سنعنى بتسليط الضوء فقط على الهجرة من حيث هي حدث قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضوان الله عليهم- في زمن محدد من التاريخ، وليس الهجرة بمفهومها الواسع.
[3] خطب الشيخ محمد الغزالي، (القرآن يتحدث عن الهجرة)، 4/ 196.
[4] خطب الشيخ محمد الغزالي، (القرآن يتحدث عن الهجرة)، 4/ 196.
مواد تهمك
- الهجرة في لغة القرآن الكريم
- غزوة بدر في القرآن؛ وقفات تربوية
- ثنائيات الوقاية الأُسريّة في ظلال الآية السادسة من سورة التحريم
- التفسير الفلسفي للقرآن (6)، تفسير آيتي سورة الإسراء، من منظور التفسير الفلسفي المعاصر لأبي يعرب المرزوقي
- الردّ على الشبهات ومواجهة ما يترتب عليها من أزمات
- سورة الفاتحة (صيغة الاسم - الدلالة - مشتقات الكلمة في القرآن)