الردّ على الشبهات ومواجهة ما يترتب عليها من أزمات
(نظرات في تعليق القرآن على سَرِيّةِ نَخْلَة)
بتأسيس دولة الإسلام في المدينة بعد الهجرة تحوّل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه من جماعة مضطهَدة من أعدائها ومطرودة من بلدها إلى قوةٍ كبيرةٍ لها دولة قوية، مسموعة الصوت، عزيزة الجانب، مرهوبة الجناح، صاحبة شوكة ومَنَعة، خاصّة بعدما جاء الإذن من الله تعالى للمسلمين بالقتال في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}[الحج: 39]، وأصبح من حقّ أصحاب تلك الدولة الناشئة أن يجاهدوا من أجل الدفاع عنها وعن مصالح شعبها. وهو الأمر الذي أثار حفيظة عدوّها الأول (القرشيين) وأجّج نار الغضب في قلوبهم فلم يتوانوا لحظة بعدها عن الطعن فيها ومحاربتها بشتى السبل وبكلّ ما أوتوا من قوة، فإن لم يكن ذلك بالسِّنان فليكن باللسان، عن طريق إثارة الشبهات ونشر الأكاذيب والدعايات المغرِضة عن الإسلام ورسوله ورجاله. وقد تجلَّت حرب المشركين الدعائية وبلَغَت أوجها ضدّ الإسلام وبَالغَت في إثارة الشبهات حوله في أعقاب (سَرِيَّة نَخْلَة)، التي وقعت قُبَيل غزوة بدرٍ الكبرى، حيث استغلّت قريش ما قام به الصحابة فيها من القتل والأَسْر لبعض رجالها في الأشهر الحُرُم، فأخذت تشنّع على النبيّ وأصحابه متهمة إياهم بالاستهانة بالمحرّمات والاستخفاف بالمقدّسات؛ مما سبّب أزمة كبيرة حتى في داخل المجتمع المسلم نفسه، وأوقع المسلمين في حرج كبير، مما استدعى نزول القرآن للتعليق على الحدث والردّ على شبهات المشركين وحربهم الدعائية الناتجة عنه.
وفي الحقيقة فإنّ تناوُل القرآن لسريّة نَخْلَة وردّه على شبهات المشركين التي تولّدت عنها يحتاج إلى وقفات وتأملات؛ حتى نستبين شيئًا من معالم التصرّف في كيفية التعامل مع الشبهات المثارة وما ينبغي أن نركّز عليه في خطاباتنا إبّان معالجة هذه الشبهات والتصدي لها، لا سيّما وأن إثارة الشبهات في المجتمعات المسلمة تشتدّ وطأتها في هذه الأوقات، الأمر الذي ما لم نحسن مواجهته فإنّه يمثّل خطرًا بلا شكّ؛ وذلك لِمَا لإثارة الشبهات من خطرٍ كبيرٍ على المجتمع المسلم؛ حيث قد يؤدي إلى نشوء اختلافات فكرية، وظهور تغيّرات نفسيّة، وانبثاق توجّهات متباينة في صفوف المسلمين تقود في النهاية إلى انقسامات تهدّد وحدتهم وتضعف قوّتهم، فلننظر ماذا حدث في (نخلة) ونقف وقفات متأمّلة للمعالجة القرآنية وما فيها من دروس وعبر.
أحداث سريّة نَخْلَة:
كانت سرية نخلة هي أول سرية حصل فيها قتال بين المسلمين والمشركين، وليس ذلك فقط؛ بل أثار القتالُ فيها لغطًا كبيرًا في أنحاء الجزيرة العربية؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- هاجموا أعداءهم في الشهر الحرام فأسروا وقتلوا وغنموا، وهو الأمر الذي كانت العرب تستهجنه حتى في جاهليتها، فالأشهر الحرم عندهم كان يحرم فيها القتال ويأمن الناس فيها على أنفسهم وأموالهم. وقد تأسّس هذا اللغط الذي أثارته هذه السرية على الدعايات السلبية التي نشرها أهلُ مكة في العرب ضدّ النبيّ وأصحابه، مستغلّين الحدث في تشويه صورة المسلمين، زاعمين أنهم لا يحترمون الأشهر الحرم ولا يقيمون لها وزنًا، وهو ما كان له أثر حتى بين المسلمين أنفسِهم تجلَّى في رفضِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لِما فعله أصحاب السرية، ومعاتبة بعض الصحابة لهم على ما فعلوه. فلما أثارت السريّة ذلك اللغط وفجّرت تلك الأزمة الكبيرة نَزَلَ القرآن -على عادته في تناول الأمور الكبيرة والأحداث الخطيرة- ليعلِّق عليها ويحسم الجدل الذي أهاجته، وقبل أن نسلّط الضوء على معالجة القرآن لِما أثاره المشركون من شبهات نبيّن شيئًا من تفاصيل سرية نخلة وما وقع فيها:
وقعت سرية نخلة في رجب من السنة الثانية للهجرة بعد ثلاث سرايا وأربع غزوات سبقت معركة بدرٍ الكبرى، التي هي أهم معركة في تاريخ الإسلام كلّه، وقد شهدت تلك السرية أول قتال حدث بين المسلمين والكفار في تاريخ الإسلام، وخلاصة ما وقع فيها -كما رواه ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
• بعث عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين، وكتب له كتابًا وأمره ألّا ينظر فيه إلّا بعد أن يسير مسيرة يومين ثم ينفذ ما فيه، ولا يستكره أحدًا من أصحابه على الذهاب معه.
• فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فوجد فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره أن يمضي حتى ينزل نخلة فيتحسّس أخبار قريش، ولم يأمره -صلى الله عليه وسلم- بقتال، فقال: سمعًا وطاعةً، وعرض الأمر على أصحابه الثمانية فمضوا معه، حتى إذا كانوا بـ(بحران) أضلّ سعدُ بنُ أبي وقاص وعتبةُ بنُ غزوان بعيرًا لهما كانَا يَعْتَقِبانِه فتخلَّفَا عليه يطلبانه، ومضى باقي القوم حتى نزلوا (نخلة).
• وفي نخلة مرَّت بهم عِيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا، فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله، فلما رآهم القومُ هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عُكّاشة بن محصن، وهو أحد أصحاب ابن جحش، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أَمِنُوا وقالوا: عُمَّارٌ، لا بأس عليكم منهم.
• ثم تشاور الصحابة -رضي الله عنهم- في أمر هؤلاء الأربعة، وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتم القوم (المشركين) هذه الليلة لَيَدخُلُنّ الحرم فلَيَمتنعُنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لَتقتُلُنَّهم في الشهر الحرام، فتردّدوا وهابوا الإقدام عليهم.
• ثم شجّع الصحابةُ أنفسَهم وأجمعوا على قَتْلِ مَن قدروا عليه منهم وأخْذِ ما معهم؛ فرمى واقدُ بنُ عبد الله التميمي عمرَو بنَ الحضرمي بسهمٍ فقتله، واستَأْسَرَ عثمانَ بنَ عبد الله والحكمَ بنَ كيسان، وأفلتَ القومَ نوفلُ بنُ عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدِموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة.
• فلمّا قَدِموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، قال: «ما أمرتُكم بقتالٍ في الشهر الحرام»، ووقَّف العيرَ والأسيرين وأبَى أن يأخذ من ذلك شيئًا؛ فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُقِطَ في أيدي القوم وظنّوا أنهم قد هَلكوا، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
• وعلى الجانب الآخر استغلّت قريش هجومَ الصحابة على رجالها في الشهر الحرام وقالَت -ومعها اليهود- في ذلك كلامًا كثيرًا يتغيّون به التشنيع على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
• فلمّا أكثرَ الناسُ في ذلك أنزَلَ الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217]...الآيات[1].
بين يدي الآيات:
قدَّم الله تعالى لحديثه عن سرية نخلة بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216]؛ لِـيُـثَـبِّت في قلوب المؤمنين مبدأً عظيمًا ويقرِّر في نفوسهم قاعدةً كبيرةً، وهو أنه تعالى قد يفرض بعض الفرائض التي قد يكرهها الناسُ بسبب مشقّتها وصعوبة مكابدتها، ولكن عند التدبّر فإن تلك الأشياء المكروهة هي خير لهم. وعلى العكس؛ فإنّ بعضًا من الأشياء المحبوبة لهم والمرغوبة منهم هي في الحقيقة شرّ كبير لهم ووبال عظيم عليهم. ولمّا كان بالمثال يتّضح المقال، فقد ضرب تعالى المثال الواضح على ذلك بالجهاد، فرغم مشقّته إلا أنّ فيه خيرًا عظيمًا ونفعًا كبيرًا وفوائد كثيرة؛ مثل الفتح، والغنيمة، والشهادة، وإظهار الإسلام على الشرك، وعلوّ الإيمان على الكفر. وفي تركه شر كبير؛ مثل تسلُّط العدو على المسلمين[2].
ويلاحظ هنا أن القرآن يحرص على أن يُزيل عن العقولِ الإلباسَ الحاصلَ من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}؛ لأن ذلك مظنة الاستغراب! إذ كيف يفرضه الله وهو مكروه، فقال بعدها مباشرة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ليدفع ذلك الاستغراب الناشئ؛ لأنه إذا كان مكروهًا فكان شأن رحمة الله بخلقه أن لا يكتبه عليهم، فذَيَّل بهذا لدفع ذلك[3].
وبهذا يعلّمنا القرآن أنّ ما يبدو للوهلة الأولى خيرًا قد يكون شرًّا، والعكس صحيح. كما يعلّمنا أن الله تعالى أرحم بعباده منهم بأنفسهم، فما يشرعه لهم من شرائع وإنْ لاح عَسِرًا فهو بلا شكٍّ ما يصلحهم، رغم مشقّته وعدم ظهور حكمته.
وجوب مقارعة الحُجّة بالحجة وأهمية بيان دأب الظالمين:
استهلّ القرآن معالجة الأزمة التي نشأت عن سرية نخلة -سواء عند المسلمين أو المشركين- بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، فقارع الحُجّة بالحُجّة وردّ بعقلانية على المشركين في تشنيعهم على النبيّ وأصحابه. فوفق منطق القرآن، إنْ كان الصحابة قد أخطؤوا فعلًا بقتالهم في الشهر الحرام، وهذا أمر طبيعي لأنهم بشر وكلّ بني آدم خطّاء، فإنّ خطأهم هذا لا يساوي شيئًا أمام أخطاء الكفار الذين فعلوا ما هو أعظم بكثير من هذا، مثل صدّهم الناس عن سبيل الله وكفرهم به، وإخراجهم للنبيّ وأصحابه من بلدهم ظلمًا وعدوانًا، ومحاولتهم فتنة الناس في دينهم وتعذيبهم حتى يتركوه، فكلّ ذلك أعظم بكثير من خطأ الصحابة -رضي الله عنهم-، وبالتالي لا داعي لمعايرة المسلمين بخطأ بسيط قد فعلتم أنتم -أيها المشركون- أعظم منه بكثير، وذلك كقوله تعالى لليهود: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[البقرة: 44].
ويمكن أن نستنبط من هذه الآية أيضًا: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} =أنّ دأب الظالمين والطغاة والفاسدين وعادتهم هي تسخير الحقّ لمصالحهم الخاصّة فقط، وادّعاء العدالة دائمًا رغم ظلمهم البيِّن وفسادهم الواضح، قدوتهم في ذلك فرعون -لعنه الله- الذي قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر: 26]. ومن عادتهم أيضًا، التناقض الواضح مع أنفسهم والكيل بمكيالين في تناولهم الأمور؛ فالذين عابوا القتال في الشهر الحرام هم الذين قال قائلهم (سيدُ بكرٍ: نوفل بن معاوية الديلي) يوم أن طاردوا خزاعة حتى أَلْجؤوهم إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: (لا إله اليوم)، يا بني بكرٍ أَصِيبوا ثأركم، فلَعَمْرِي إنكم لتَسْرِقون في الحرم، أفلا تُصِيبون ثأركم فيه؟![4]
وبهذا يتبيَّن لنا بوضوح أنّ القرآن في حجاجه المشركين يعتمد أسلوبًا عقليًّا ونمطًا منطقيًّا يدفع فيه الحجة بالحجة فلا يستطيع معه المجادل إلا التسليم والقبول، كما أنه يكشف تصيُّد الظالمين للأخطاء العابرة الواقعة في الصفّ المسلم -والتي لا يَسْلَم منها مجتمع- ويفضحه بصورة ظاهرة ويبيِّن أنّ الفريقين لا يستويان أبدًا، وذلك ما يحتاجه كثير من دعاتنا اليوم في الدعوة إلى الإسلام وتقرير عقائده والردّ على الشبهات المثارة حوله وحول الكثير من تصرفات أبنائه، وعدم الاكتفاء بالتنديد بالفعل الخاطئ من بعض المسلمين وإغضاء الطرف تمامًا عن المصائب التي يقوم بها غيرهم.
ضرورة تثبيت قلوب المؤمنين وقت الأزمات والتحذير من الانخداع بأساليب المناوئين:
ثم يمضي القرآن في تناوله لأحداث هذه السرية ليقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فيقرّر بعض العقائد الأساسية التي تثبِّت قلوب المسلمين على الحقّ، والتي لا يمكن لهم أبدًا أن يتغافلوا عنها، خاصّة في وقت الدواهي والملمّات؛ مثل حُرمة الركون إلى المشركين الذين يتربصون بهم الدوائر ولا يتوانون لحظة عن فتنتهم في دينهم وإخراجهم منه، وإلى هؤلاء الذين يستغِلُّون أيَّ فرصةٍ لتشويه الإسلام والتشنيع والتشويش على المسلمين بكلّ وسيلة، كما فعلت قريش في هذه الواقعة حيث قالت: قد استحلّ محمدٌ وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأَسَرُوا فيه الرجال.
ويبيِّن القرآن هنا أن هناك حربًا مستمرّة بين المسلمين والمشركين، وأن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردُّوهم عن دينهم {إِنِ اسْتَطَاعُوا}، أيْ: بكلِّ ما أوتوا من قوة؛ سواء كان ذلك باللسان أو بالسِّنان، وأن المشركين لن يرضوا أبدًا عن المسلمين إلّا أن يتركوا دينهم. ورغم تلك المحاولات فإنّ الكفار لن يستطيعوا أن يردُّوا المسلمين عن دينهم أبدًا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، قال الزمخشري -رحمه الله-: «وقوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا} استبعادٌ لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه: إنْ ظفرتَ بي فلا تُبْقِ عليَّ. وهو واثق بأنه لا يظفر به»[5].
ثم أخذ القرآن في تحذير المسلمين من الانخداع بأساليب الكفار التي تهدف إلى صرفهم عن دينهم بشتى السبل، مبينًا أن آثار ذلك ستكون وخيمة عليهم؛ لأنه إنْ كان من آثار العمل الصالح أن يحيا صاحبُه حياة طيبة وينال أجرًا عظيمًا في الآخرة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 97]، فإنّ من آثار الرِّدّة عن دين الله وعن طريقة رسوله التي قد تنشأ عن الانخداع بأساليب الكفار هذه =حبوطَ العمل والخلودَ في النار: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
وبهذا يظهر أن تقرير العقائد وتثبيتها في قلوب المؤمنين، خاصّة في وقت الأزمات والشدائد، من الأهمية بمكان؛ إِذْ إن ذلك هو ما يعصمهم من التأثّر بشبهات الكفار وعدم الانخداع بأساليبهم القبيحة ودعايتهم الكاذبة. ويكاد القرآن أن ينطق هنا بأنّ المؤمن كيّسٌ فَطِنٌ، قويّ العقل، مطمئن النفس، يسير على صراط مستقيم وسبيل مستبين لا يزحزحه عن إيمانه شيء من الشبهات والأغلوطات والأكاذيب، فلا ينبغي له أبدًا أن يتخلى عما هو فيه.
عدم نسيان المناقب والفضائل لمجرد الخطأ:
ورحمةً بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين قاموا بهذه السرية، ختمَ القرآن معالجته لأحداث سرية نخلة بالإشارة إلى فضل مَن قاموا بها، والذين أحزنهم رفضُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم في الشهر الحرام، كما أقَضَّ مضجعَهم كلامُ الناس عنهم -مسلمين ومشركين ويهود- حتى أُسْقِطَ في أيديهم، مبينًا أنّ لهم من المناقب والفضائل ما لا يجب أن يُنسى، وأنهم ممن يرجون رحمة الله؛ ولهذا فإن الله غفور لهم رحيم بهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 218]. وقوله: {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} فيه تربية للمسلمين -مهما كان صلاحهم وفلاحهم- على التواضع والتذلُّل لله -سبحانه وتعالى-، وأنه ينبغي لهم أن يكونوا على خوف دائم؛ لأنهم لا يعلمون حالهم في المستقبَل، فقد يحدث لهم من الأمور ما لا يستوجبون معه رحمة الله، وقد لا يؤدون كلّ ما أوجبه الله تعالى عليهم[6].
وهكذا يعطينا القرآن معيارًا للحكم على الناس؛ فلا ينبغي أن ننسى آلاف الحسنات لخطأ واحد، ولا عشرات الفضائل لعيب واحد، خاصّة عند من حَسُنَت نـيّـته وأراد الخير باجتهاده، ولن نجد في الدنيا الكمال متجسّدًا في أحد، وقد قيل:
مَن الذي ما سَاءَ قَط .. ومَن له الحُسنَى فَقَط
وقيل:
تريدُ مُبَـرّأً لا عيبَ فيه .. وهل نارٌ تفوحُ بلا رمادِ؟!
خاتمة:
بهذا يظهر أنّ (سريّة نخلة) كانت ذات أهمية كبيرة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولأنها أثارت لغطًا شديدًا وشبهةً كبيرةً نتجت عن وقوعها في الشهر الحرام الذي كانت العرب تمنع فيه القتال؛ استدعَى ذلك نزول القرآن ليواجه الأزمة التي فجّرتها واللغط الذي أثارته. وفي تناوله لسرية نخلة قارَعَ القرآن حجج الكافرين بمثلها، وبيّن عاداتهم في إثارة المغالطات العقلية والتناقض مع أنفسهم والكيل بمكيالين في تناولهم للأمور وحكمهم على الأشياء، كما قرّر القرآن بعض العقائد المهمّة في تعامل المسلمين مع المشركين؛ حيث حذّر المسلمين من الانخداع بأساليب الكفار التي تهدف دائمًا إلى فتنتهم في دينهم وإثارة الشبهات حوله. وختمَ القرآنُ حديثَه عن سرية نخلة بالثناء على المجاهدين الذين جاهدوا في تلك السّرية؛ مبينًا أنّ لهم من الفضائل ما لا يُنسَى، ومعطيًا المسلمين معيارًا للحكم على الناس ينصّ على عدم نسيان فضائلهم لمجرد خطئهم في أمرٍ ما.
ومما لا شك فيه أنّ اهتمام القرآن بالردّ على الشبهات وتفنيد الأباطيل وفضح الأكاذيب بالحجج العقلية والبراهين المنطقية إنما كان للخطورة الكبيرة التي قد تطال كافة المجتمعات بسببها؛ ولهذا نزل ليقدِّم للمسلمين دروسًا رائعات في فنون الردّ عليها وتفنيد ما يرتبط بها من أكاذيب، وإظهار ما تدعو إليه من أهداف وغايات.
فما أحوجنا إلى استدعاء طريقة القرآن واستجلاء ملامحها في خطابنا المعاصر، خاصةً في الردّ على الشبهات العقلية والدعايات السلبية المثارة ضد الإسلام، وما أكثرها اليوم!
[1] انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، 1375هـ -1955 م، ج 1، ص 602.
[2] بحر العلوم، أبو الليث السمرقندي، ج 1، ص 141.
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984هـ، ج 2، ص321.
[4] عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ابن سيد الناس، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى، 1414/ 1993، ج 2، ص 212.
[5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407هـ، ج 1، ص 259.
[6] النكت والعيون، الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت ج 1، ص 275.