التدبُّر، والتحرُّر من أَسْر اللطائف القرآنية!
فما هو تدبُّر القرآن الكريم المأمورُ به، واللازمُ لكلِّ أحد؟ وهل لا يُعَدُّ المرء متدبرًا إلا إذا تمكَّن من الوقوف على اللطائف والمعاني الدقيقة للآيات؟..
أسئلة تُعنى بمناقشتها هذه المقالة.
لقد أنعم اللهُ -عز وجلَّ- علينا في هذا الزمان بهذه الصحوة المباركة في تدبُّر القرآن الكريم، وهذه النهضة في ميادينه على مستوى التأليف والتدريس والتطبيق، بل قد نشأت بعض المؤسسات العلمية والتربوية أصالةً للعناية بهذا الغرض الشريف، وصار موضوع تدبُّر القرآن حاضرًا في الحلقات القرآنية بعد أن غاب عنها طويلًا.
تدبُّر القرآن.. تلك الكلمة الجميلة التي حجبتها سُحُب الغفلة، وانصرف الناسُ عنها حتى كادت آثارُها تنمحي في نفوسهم، بينما كانت علاقةُ بعضهم بالقرآن مقتصرةً على حفظ ألفاظه، وإتقان أحكام تجويده، وعلاقة آخرين مقتصرةً على قراءة حروفه هذًّا كهذِّ الشعر، لا يَتجاوزُ الحروفَ إلى ما وراءها من الهُدى والنور الذي وصف اللهُ -عز وجلَّ- به كتابَه الكريم.
ثم كانت هذه العودة لتنفضَ الترابَ عن هذا الكنز المغفول عنه، ولتنقشعَ تلك السحب، ولتَرفعَ الغشاوةَ عن أعينٍ طالما حُرمتْ مِن الاهتداء بآيات القرآن والانفعال والتأثّر بها، وكثُرت المحاضرات والدورات والمؤلفات في مجال تدبُّر القرآن، ثمَّ خرجت مِن ضيق صالات الدرس ومدرجات الجامعات إلى رحابة الأمة الواسعة؛ متخصِّصيها وغير متخصِّصيها، كبيرها وصغيرها، عالمها وجاهلها.
وإنَّ عودة الأمة وانبعاثها إلى مجدها من جديد لن يكون إلا من خلال ذلك الحَبْل الذي جعل اللهُ -عز وجلَّ- طرفَه بيده وطرفَه بأيدينا، وهو هذا القرآن العظيم؛ لذا فما زلنا في حاجة إلى مزيدِ توعيةٍ ونشرٍ لثقافة تدبُّر القرآن؛ فإن الصحوة وإن كانت ملحوظةً للمتابع بصورة واضحة، إلا أنها ما زالت في أولى خطواتها، وإنما أينعت ثمارُ خطواتِها الأولى ببركة هذا الكتاب المجيد الذي جعله الله ُمباركًا، ولعلَّ في هذه الثمار العاجلة مزيدَ ترغيبٍ وحثٍّ للانطلاق إلى مزيدٍ مِن بثِّ الوعي بشأن تدبر القرآن الكريم.
إشكالية الانحصار في اللطائف القرآنية:
والانبعاثُ مِن تحت الركام قد يعتريه بعضُ الزلل، ويعتَوِرُه بعضُ النقص، وقد تَعرِض له أعراضٌ تحتاج إلى تقويمٍ وتوجيهٍ وتصحيحٍ، فينبغي إعادةُ النظر والتقويم لما يُطرَح في هذا الباب دوريًّا لتصحيح مسارِه، وتوجيهه التوجيه الأمثل.
وإن مما عَرَض لمسيرة التدبُّر: الانحصار في اللطائف القرآنية كثمرة من ثمرات التدبر، ولا يلزم أن يكون ذلك تصريحًا؛ بل إنّ الممارسات التنفيذية والأمثلة المضروبة والتطبيقات العلمية تكشف وجهَ هذا الانحصار، والذي تتجلَّى مظاهرُه في عدة أمور، منها:
- أن إطلاق كلمة التدبُّر صارت تنصرف عند كثيرٍ من الناس إلى ذكر هذه اللطائف القرآنية دون غيرها.
- وكذلك فإنَّ كثيرًا من الكتب المؤلفة في تدبُّر القرآن ركَّزت على أن يكون ناتجها لدى القارئ استنباطَ المعاني الخفية، واستخراجَ اللطائف الدقيقة.
- ثم إنّ كثيرًا مِن الدورات التدريبية التي تُعقد في المؤسسات العلمية والتربوية في العالم الإسلامي تكاد تنحصر مجالات تطبيقها في الورش العملية على هذا الأمر.
- وصار المريدُ لتدبُّر القرآن لا يَعُدُّ نفسَه متدبرًا إلا إذا أخرج مثل هذه اللطائف والفوائد، فإذا عجز عن ذلك ولم يُحسِنه -ولا يُحْسِنُ هذا كلُّ أحد- عدَّ نفسه غيرَ متدبِّرٍ، واتَّهم نفسه بكلِّ ما يُذكر من آفاتٍ في عوائق التدبُّر.
ولا شكَّ أنّ استنباط اللطائف والفوائد داخلٌ إجمالًا في التدبُّر، وإنما الإشكال في حصر التصوُّر عن التدبُّر في هذا الأمر؛ لذلك نريد أن نقف وقفةً مع هذه القضية لنُجيب عن هذه الأسئلة: هل هذا هو تدبُّر القرآن الكريم؟ وهل هذا هو المأمورُ به، اللازمُ لكلِّ أحد؟ وهل لا يُعَدُّ المرء متدبرًا إلا إذا تمكَّن من الوقوف على هذه المعاني الدقيقة؟
ولكن قبل أن نُدْلف إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، فإننا في حاجة إلى وقفة مع توصيفٍ لهذه اللطائف القرآنية، وإنزالٍ لها في منزلِها العلميِّ من علوم القرآن الكريم.
توصيف اللطائف القرآنية الشائعة في ممارسات التدبر:
الناظرُ في نماذج اللطائف القرآنية التي تُنشر في الكتب تحت هذا العنوان، وفي تطبيقات دورات تدبُّر القرآن، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي= يجد أن الغالبَ عليها ذكرُ المعاني الخفية في الآيات، وتتنوَّع هذه المعاني في علاقاتها بمعنى الآية، إلا أنّ الجامعَ لها هو الخفاء، لا المعنى الظاهر للآية، ولنضرب مثالًا لذلك:
في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].
- إن قال قائل: (يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقَّق براءةَ يوسف -عليه السلام- ونزاهةَ عِرضه مما نُسب إليه، قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله من أخصَّائي وأهل مشورتي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي: خاطبه الملكُ وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خُلُق وخَلْق وكمال= قال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}، أي: إنك عندنا قد بَقِيتَ ذا مكانة وأمانة)[1].
فهذا لا يُعدُّ تدبُّرًا على المعنى الشائع للتدبر؛ بل هو بيانٌ للمعنى الظاهر للآيات، فهو خارج عن المراد من ممارسات تدبُّر القرآن الكريم، وإن كان هو الأساس الذي يُبنى عليه.
- أما إن قال قائل: (لما أراد اللهُ -عز وجلَّ- إظهارَ فضل يوسف -عليه السلام- وشرفه على أهل زمانه كلِّهم؛ أظهر للمَلِك وأهلِ مصر مِن علمِه بتأويل رؤياه ما عجز عنه علماءُ التعبير، فحينئذٍ قدَّمه ومكَّنه وَسلَّم إليه خزائنَ الأرض، وكان قبل ذلك قد حبسه على ما رآه من حُسن وجهه وجمال صورته، ولمَّا ظهر لَهُ حُسنُ صورة علمه وجمالُ معرفته أطلقه من الحبس ومكَّنه فِي الأرض؛ فَدلَّ على أن صورةَ العلمِ عند بني آدم أبهى وأحسن مِن الصورة الحسيّة، ولو كانت أجملَ صورة)[2].
فمعنى تفضيل صورة العلم عند بني آدم على الصورة الحسيَّة= داخلٌ في التدبُّر على المعنى الشائع، حيث أنّ فيه تجاوزًا للمعنى الظاهر للآية إلى معنى خفيٍّ مِن ورائه.
ثمَّ إنَّ كثيرًا ممَّن كتب في تدبر القرآن يجعله قسيمًا للتفسير، وربما صَنَّف في ضوء ذلك ما يُذكر من الفوائد القرآنية إلى تفسير وتدبُّر، وهذا أبين في التوضيح عن المراد، وإن اختلفت بعض التطبيقات العملية عن ذلك، وأدرجت ما هو بيان لمعنى الآية تحت عنوان التدبر.
وهذا المعنى الخفيُّ ينزل عليه اصطلاحُ (الاستنباط) عند جملةٍ من أهل العلم، كما نسبه النووي -رحمه الله- (ت 676هـ) إلى العلماء في قوله: «قال العلماء: الاستنباط استخراج ما خَفِي المراد به من اللفظ»[3]، وبقريب مِن هذا عرَّفه الجرجاني (ت 816هـ) في التعريفات بقوله: «استخراج المعاني من النصوص، بفَرْطِ الذِّهن وقُوَّة القريحة»[4].
وكان معنَيَا الخفاء وإعمال الذهن حاضرَينِ في كثيرٍ من تعريفات أهل العلم ممَّن قصد إلى تعريف الاستنباط مِن المفسرين وغيرهم، ويُمكن مراجعة مبحث: تعريف الاستنباط من القرآن وعلاقته بالتفسير، من كتاب: (منهج الاستنباط من القرآن الكريم)؛ فقد استعرض عددًا من التعريفات للاستنباط، وقام بتحليلها وذِكر الملاحظات عليها[5].
إذن؛ فالتوصيف الأقرب لأكثر هذه اللطائف القرآنية التي تتوجَّه إليها أنظار المعتنين بالتدبر هو الاستنباط، ويُمكن القول من خلال ذلك أن طريق الوصول إلى المعنى المستنبط هو التدبُّر، أي أن المعاني المستنبطة هي ثمرة من ثمراته.
ولا شكَّ أنّ هذا العمل من أشرف الأعمال وأجلِّ القربات، وقد قال ابن القيم -رحمه الله- (ت 751هـ): «قد مدح اللهُ تعالى أهلَ الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم»[6]، إلا أنَّ له ضوابطَ وشروطًا ينبغي التنبُّه لها، وإلا فقد كان الاستنباط الخاطئ بذرةَ ضلال كثير من أهل البدع والأهواء؛ إما جهلًا بتفسير الآية ابتداءً، أو قلّة العلم بلغة العرب وأساليبها في الخطاب، أو غفلة عن طرق الاستنباط الصحيح، أو غير ذلك من الأسباب، فلا بدَّ من التنبُّه للضوابط العاصمة من الزلل في الاستنباط، والتأكيد عليها عند تناول هذا الباب.
التدبُّر في القرآن الكريم:
ونعود على بدءٍ، فنسأل: هل تقتصر ثمرات التدبر على استنباط المعاني الخفية واللطائف القرآنية؟!
سنحتاجُ هنا إلى أن نرجع إلى التوجيه الإلهي إلى التدبُّر، والنظر في سياقاته التي ورد فيها في القرآن الكريم، والتي ينبغي أن تُمثِّل المنطلقَ الأولَ في فهم مراد الله تعالى من ذلك، ومن خلالها تُدرَك الثمرات المرجوَّة مِن المتدبِّر الممتثِل لهذا التوجيه الإلهي.
ورد التدبُّر في القرآن الكريم بصيغتي: (يتدبرون) و(يَدَّبَرُوا)، وكلاهما ورد في موضعين[7]، وقُرئت الثانية في أحد موضعيها: (تَدَبَّروا)، فلنقف مع سياق المواضع الأربعة، مع تسليط الضوء على بعض المراد منها مما له تعلُّق بموضوعنا:
1. الموضع الأول: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
الناظرُ في سياق الآيات قبلها يجد أنه في المنافقين، والآية قبلها: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء :81]، وهي في المنافقين باتفاق المفسرين، كما ذكر ذلك ابن عطية -رحمه الله- (ت 542هـ)[8].
وفي هذه الآية الكريمة توقيفٌ وتوبيخٌ للمنافقين على عدم تدبر القرآن، وأنهم لو تدبروه لتبيَّن لهم أنه من عند الله -عزَّ وجل-.
2. الموضع الثاني: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
والناظر في سياق الآيات قبلها يجد أنها في المنافقين أيضًا؛ قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 20-23].
قال ابن عطية -رحمه الله- (ت 542هـ) في أول تفسير هذه الآيات: «هذا ابتداءُ وصفِ حالِ المؤمنين في جِدّهم في دين الله وحرصهم على ظهوره، وحالِ المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله»[9].
وفي هذه الآية الكريمة توقيفٌ وتوبيخٌ للمنافقين على عدم تدبرهم القرآن كسابقتها، وبيانُ أنَّ الحالَ المقابلة لحال مَن تدبَّر القرآن حالُ مَن أُوصد قلبُه بالأقفال.
3. الموضع الثالث: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68].
وسياق الآيات قبلها وبعدها في ذكر الكفار، فقبلها: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66-67]، وبعدها: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69-70].
ففي هذه الآية توقيف وتوبيخ للكفار على عدم تدبرهم القول الذي هو القرآن الكريم الذي يتلوه عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسـلم-.
4. الموضع الرابع: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، هكذا قرأ الجمهور، وقرأ أبو جعفر (ت 130هـ): (لِتَدَبَّرُوا) بالخطاب مع تخفيف الدال[10].
وهذه الآية عامة لجميع الخلق، والآية قبلها: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
قال ابن عطية (ت 542هـ): «وظاهرُ هذه الآية يُعطي أنّ التدبّر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذن أفضل من الهذِّ؛ إذ التدبّر لا يكون إلا مع الترتيل»[11]، وفي الآية أيضًا بيانُ مَن ينتفع ويتذكَّر بالقرآن، وهم أولو الألباب.
ما هو التدبُّر الذي أمر اللهُ -عز وجل- به عبادَه؟
ونحتاج هنا أن نقف وقفة مع مادة التدبر في سياقها القرآني، ونتساءل: ما هو التدبر الذي أمر الله -عز وجل- الناس به؟ وما هو التدبر الذي عاب على الكفار والمنافقين عدمَ فعلِه والإعراضَ عنه؟
لا يُعقَل أن يكون الجواب هو ما يتبادر إلى الذهن إذا ما أطلق التدبُّر من استنباط الفوائد، والوقوف على اللطائف القرآنية، فمثل هذا لا يُخاطَب به الكفار والمنافقون! ومثل هذا لا يُذَمُّ فاعلُه هذا الذَّم، ولا يُتوعَّد عليه هذا الوعيد!
لقد جعل اللهُ -عز وجل- التدبُّرَ داعيًا لهم إلى معرفة أنَّ القرآن من عند الله واليقين بذلك: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. لقد جعل اللهُ -عز وجلَّ- التدبُّرَ سببًا من أسباب إنزال القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. لقد جعل اللهُ -عز وجلَّ- قسيمَ المتدبرين مَن أغلقت قلوبهم بالأقفال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
إنَّ الأمر بالتدبر أوسع من فكرة استنباط الفوائد واللطائف، وإن كانت من ثمراته، إلا أنها ليست ثمرته الوحيدة، بل ليست الأصل في المراد من الخلق بتدبر القرآن، كما هو ظاهر هذه الآيات الكريمة.
وربما أخذَنا هذا إلى الكلام في تحرير معنى التدبر ومدلولاته، وهذه المسألة وإن كانت ذات أهمية في بحث المسائل المتعلقة بالتدبر، والاجتهاد في وضع منهجيات عملية له؛ إلا أنها يجب أن يكون لها أثرٌ ظاهرٌ في المضامين المختارة تحت عنوان التدبر، وأثرٌ ظاهرٌ في المنهجيات المقترحة والجوانب التطبيقية، وهذا ما غاب عن العديد مما وقفتُ عليه في كتب التدبر.
كثيرٌ من كتب التدبر تبدأ أولًا ببيان أهمية تدبر القرآن بذكر الآيات التي تعرضنا لها قبلُ، وذِكر الأحاديث النبوية الدالة على فضل التدبر ومكانته، وأقوال السلف في ذلك، ثم إذا انتقلت إلى الجواب عن سؤال: (كيف؟)، وصاغت الخطوات العملية للتدبر= فإنَّ المنتج النهائي لهذه الخطوات غالبًا ما يقتصر على كيفية استنباط الفوائد بأدوات الاستنباط وعن طريق معرفة الدلالات المختلفة، وهذا المنتَج غير المقصود ابتداءً من النصوص التي ذكرها المؤلفون في بادئ الأمر.
وكثيرٌ من كتب التدبر تستعرض التعريفات للتدبُّر لغةً بالنظر إلى أصل مادته ودلالة تصريفه، وشرعًا بحسب وروده في القرآن الكريم وذِكر أقوال المفسرين في معنى التدبر في الآيات الأربعة المذكورة، ثم لا يكون هذا التعريفُ منطَلَقًا بعد ذلك في الإجراءات العملية والمقترحات التنفيذية لتحقيق التدبُّر؛ مما يدلُّ على أن الإشكالية لا تقتصر فقط على تحرير المراد بالتدبُّر، بل تنسحب إلى تأثير هذا المراد فيما يُعرض بعد ذلك من ذكر أدواته وخطواته العملية في الكتب المؤلفة في هذا الباب، والتي تحتاج إلى دراسة جامعة تستقصي ما أُلّف في هذا الباب -خاصة في جانب التنظير-، وتقوم بتحليل هذه الكتب وعقد الموازنات بينها[12]؛ تصحيحًا لمسار التنظير في هذا الباب، وضبطًا له.
والذي نخلُص إليه في هذا المقام: أنَّ التدبر الذي تعبَّد الله -عز وجل- به عباده، وأمر به جميعَ الخلق مؤمنهم وكافرهم ليس هو استنباط الفوائد والمعاني الخفية من الآيات! بل الشأن أعظم من ذلك وأوسع، وما قصرُ دلالةِ التدبر على هذا المعنى إلا تضييقٌ لهذا الأفق الواسع من ثمرات التدبر الغنَّاء وعطاءاته التي لا تنقطع.
ثمرات أُخرى للتدبُّر سوى اللطائف القرآنية:
خلصنا فيما سبق إلى أنَّ استنباط الفوائد واللطائف القرآنية هو ثمرة من ثمرات التدبر، وليس هو التدبر، وليس الثمرة الوحيدة له، وأن المتدبِّر قد يتدبر القرآن، ثم لا يُخرج مثل هذه الفوائد، بل ربما لا يُحسن إخراجها، ولكنه قد أصاب غيرها من ثمرات التدبر، وكم من رجلٍ لا يُحسن أن يقول مثلما يقول الناس من اللطائف والفوائد، ولكنَّه أكثر تدبرًا من غيره ممَّن قد يتكلَّف في ذكر الفوائد، ويقع في أخطاء علمية في استنباطه من القرآن الكريم.
- إن الإنسان قد يتدبَّر القرآن فيثمر عنده مزيدَ علم ولو بالمعنى الظاهر دون استنباط معانٍ خفية، وهل كانت دعوة المنافقين لتدبر القرآن إلا لذلك؟! {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فإذا تدبروه ولم يقفوا عند ألفاظه فقط علموا أنه لا اختلاف فيه، وأنه من عند الله -عز وجل-.
- وقد يتدبَّر القرآن فيُثمر عنده اليقينَ بما علم قبل ذلك، وترسيخَ ما سبق له علمه، ولعلَّ هذا من أغراض تكرار الحديث عن صفات الله -عز وجل- وأفعاله في القرآن، وعن اليوم الآخر والجنة والنار، فالقارئ وإن علم كلّ ذلك؛ إلا أنه متى تدبَّر ازداد يقينه، واليقين من الإيمان يزيد وينقص.
- وقد يتدبَّر القرآن فيُثمر عنده تأثرًا وانفعالًا بآياته، كما أخبر الله -عز وجل- عن حال المؤمنين: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، فهؤلاء قرأوا القرآن أو قُرئ عليهم، ففهموا معانيه وتدبَّروها، فأثمر عندهم هذا التأثر والانفعال بالآيات، فهؤلاء متدبرون ولو لم يزيدوا على معنى الآيات الظاهر بشيء، ولو لم يستنبطوا معانيَ خفيةً من الآيات.
- وقد يتدبر القرآن فيثمر عنده عملًا، فمن قرأ قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157]، ففهم معناه وتدبَّره، واتصف بنعت الصابرين في الآية، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إذا نزلت به مصيبة، مدركًا لمعناها، مؤمنًا بها= فقد تدبَّر القرآن وإن لم يُدلِ بدلوه في ذكر اللطائف القرآنية الخفية.
إنَّ حصر مفهوم التدبر في استخراج الفوائد القرآنية واللطائف الخفية هو في الحقيقة أسرٌ يحرم المتدبِّر من آفاقٍ واسعة من ثمرات جنةِ التدبُّر الغنَّاء، فينبغي للمتدبر أن يُحرِّر تصوُّره من هذا الأسر، وأن يحيا تدبُّر القرآن في معناه الصافي النقي الذي يراه في صفات مَن أثنى الله عليهم في كتابه، ويقرؤه في أخبار النبي -صلى الله عليـه وسلم- وصحابته الكرام والصالحين من هذه الأمة.
وليس هذا تقليلًا من شأن الاستنباط من القرآن الكريم، أو العناية باللطائف القرآنية كما هو بيِّن في الكلام من أوله إلى آخره؛ إنما هو تصحيح لمفهوم وسَّعه الله -عز وجل- على خلقه، ثم ضيَّقته بعض الممارسات الخاطئة، فحَرَمَتْ وحُرِمَت!
[1] من كلام ابن كثير في تفسيره (8 /51) ط. عالم الكتب.
[2] بتصرُّف، من كلام ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1 /229-230)، ط. دار ابن عفَّان.
[3] تهذيب الأسماء واللغات (4 /158)، ط. دار الكتب العلمية.
[4] التعريفات (ص: 22)، ط. دار الكتب العلمية.
[5] يُنظر: منهج الاستنباط من القرآن الكريم، د. فهد بن مبارك الوهبي (ص: 29-60)، ط. مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي.
[6] إعلام الموقعين (2 /397)، ط. دار ابن الجوزي، ت. مشهور آل سلمان.
[7] يُنظر: معجم ألفاظ القرآن الكريم، الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر (1 /392) مادة (دبر).
[8] يُنظر: المحرر الوجيز، ابن عطية (2 /610)، ط. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - قطر.
[9] المحرر الوجيز، ابن عطية (7 /650).
[10] يُنظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (2 /361) ط. المطبعة التجارية الكبرى.
[11] المحرر الوجيز، ابن عطية (7 /343).
[12] والمراد بذلك ما يشبه دراسة (أصول التفسير في المؤلفات)، الصادرة عن مركز تفسير للدراسات القرآنية، وهي دراسة جامعة اعتنت برصد الكتب المؤلفة بأصول التفسير، والتي احتوى عنوانها على هذا المصطلح، وقامت بدراستها وصفيًّا، والموازنة بينها.